الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حياة الأخوين
1 -
سعيد الشرتوني
ويراعة فُجعت بفقد وحيدها
…
كالأُم قد فُجعت بفقد وحيدِ
كلُّ المصائب هيّناتٌ عندها
…
إلَاّ المصيبةُ بالإِمام سعيدِ
في التاسع عشر من شهر آب الفائت فجعت اللغة العربية بعلَمٍ من أعلامها العالية ، الإمام الكبير المغفور له الشيخ سعيد الخوري الشرتوني ، رافع لواء الفصاحة والبيان في الربوع السورية ، ومعزّز فن التأليف بما أنشأه من الكتب الجمة الغزيرة الفوائد على المدارس العلمية.
وهو أحد الأفراد الذين تجود بهم فلتات الزمان حيناً بعد حين ، فيحدثون انقلاباً في ما تركه الأولون للآخرين.
حياته - وُلد صاحب الترجمة في بلدة شرتون نحو سنة 1847؛ وأبوه عبد الله بن ميخائيل بن إلياس ابن الخوري شاهين الرامي. كان وهو صبي كثير الزيغان فسافهُ زيغانهُ إلى قتل إحدى قريباتي. وحديث الأمر أنهُ كان لنا بين بيتنا وبيت عبد الله بلوطة جاءتها مرَّة الصغيرة ياسمين ابنة عمّ أبي ، وصعدت إليها تقطف البلوط؛ فبصر بها سعيد فانتهرها ، فأبت النزول بحجة أن البلوطة مُلك عمها ، فكان أنهُ أسرع إلى البيت وأتى بالبندقية المحشوَّة وأطلقها على الابنة فسقطت من علُ لا حراك بها. . . تراوحتُ متردّداً في إيراد هذه الحكاية ، فرأيت أنَّ من الوفاء بالتاريخ إيرادها على حين أنها ليست غباراً على حياة الفقيد لصغر سنّة حينذاك. فأرسله أبوه إلى مدرسة عبَيه ، حيث تلقَن مبادئ العربية فقط ، ثم شرع بالمطالعة لنفسهِ بما فيهِ من الميل إلى العلم. ودرّس برهة في مدرسة عين تراز للروم الكاثوليك ، ثم عقد وأبي العزيمة على غشيان بغداد للتدريس فيها ، فجاءَت الأنباء بانتشار الوباء فيها فانثنيا ، وارتحل سعيد إلى الشام حيث درّس زماناً ، ثم هبط بيروت واشتغل عند اليسوعيين في العلوم العربية ، ونبغ وأجاد. فألَّف عندهم ونقّح وصحّح طائفة من الكتب المفيدة. ولبث عندهم زماناً طويلاً ثم بعد ذلك درّس بعض السنين الصف الأول العربي في مدرسة الحكمة المارونية فأتاح لي. الحظ أن أكون من بعض تلاميذه. ثم استسلم إلى الراحة متنكباً منابر
التدريس دون التأليف ، فأنشأ وهو منزوٍ في بيتهِ عدة تأليف ناضجة سيأتي الكلام عليها. وقد اشترى منذ عام بيتاً في فرن الشباك تحوطه قطعة من الرزق كان يدير زراعتها بيده. وما هي إلَاّ أيام حتى ألعّتب هِ حمى في المعدة انجلت تاركة
وراءَها ألماً شديداً في رقبيتهِ من جهة الكتفين ، فأضعف الألم المستديم جسمه وهدّ سلامة بنيانه.
من صفاتهِ وأحاديثهِ - من صفاتهِ الرزانة والتروّي واعتزال ضوضاء العالمين والتواضع والأنس ولطف الحديث ، ومن صفاتهِ الاقتصاد ولهُ أحاديث مأثورةٌ يضيق المجال عن سردها ولا بأس بحديث منها. حدثني مرة قال: زارني المغفور له الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وكان الانكليز قد احتلوا مصر جديداً ، فسألتهُ عن الخطة التي ينوي انتهاجها مع المحتلين؛ فأجاب بالرغبة في معاكستهم فأشرتُ عليهِ بموالاتهم لما هم عليهِ من بسطة البأس والسلطان فتستفيد مصر من الموالاة ولا تستفيد من المعاكسة: قال فأجابني الشيخ: أصبت وأني فاعل كذلك.
علومه - يمتاز صاحب الترجمة بعلوم الصرف والنحو وعلوم المعاني والبيان والبديع وبعلم اللغة وأساليب الإنشاء ، وهو في كل ذلك صاحب الإِمامة يؤخذ بقوله ويُركن إليهِ وله في ذلك التأليف الجملة الجليلة التي طافت المدارس وتصدَّرت في مكاتب الأدباء ، ولم يكن يعرف من اللغات أولاً سوى العربية وقد لجَّ بهِ الشوق إلى تفهُّم الافرنسية وهو أبيض الناصية ، فأكبَّ عليها ودرساً يصل بهِ إلى الترجمة منها ، فوصل ، وترجم قوانين يوستينيانوس ونشرها في مجلة المقتطف. وقد نظم
الشعر رغماً عن عدم انطباعه عليهِ فأجاد في بعضهِ من ذلك أبيات كتبها تحت صورته مع عائلتهِ امرأته وبناته الثلاث قال:
رسمٌ يمثّلنا والشملُ مجتمعٌ
…
والعيش صافٍ وظلُّ الخير ممدودُ
وهذه الحالُ أقصى ما يؤمّلهُ
…
حيٌّ من الخلق بالآفات مقصودُ
لكنَّ فرقتنا لا بدَّ واقعةٌ
…
يوماً فيُفصلُ عن أثمارهِ العودُ
فنسأل الله جمعاً بعد تفرقةٍ
…
في جنّةٍ وجميلُ العَود محمودُ
وقد ازدادت هذه الأبيات اليوم مسحة من الجمال لانفراط الشمل بموت اثنتين من بناتهِ الصبيَّات وبلحاقه بهما: ومن نظمهِ قوله من قصيدة وداعِ:
وداع لذيذاتِ الحياة وداعكم
…
فليسَ على شاكي التفرّق من عتْب
يجرّعنا هذا البعاد مرارة
…
على قدر ما ذقنا الحلاوة في القربِ
مؤلفاته والحكم عليها - إن الدهر الآتي حكمٌ عدل في كتابات المنشئين ، يطرح الغث
ويبقي فيهِ أو لمال كثير عنده ، لا لبلاغةٍ في كلامه؛ حتى إذا مات ومات جيله ، أنصف الدهر في كتاباته العارية من سياج الجاه والمال ، فتناولها ومحاها. وقد يموت كاتب فقير فتبقى كتاباته على هام الدهر لبلاغتها وعلوّ طبقتها. أما سعيدٌ رحمه الله فأرى أن كتاباته من الخالدات. ومؤلفاته عديدة منها كتاب الشهاب الثاقب في صناعة الكاتب وهو عبارة عن رسائل في جميع أبواب المراسلة ، أنشأها والنفوس إلى مثلها ظمأى ، ولم يتحدَّ فيها طريقة التصنّع
والتكلّف والسجع والكلام الكثير في المعنى القليل ، بل تحدّى الإنشاء المرسل من السهل الممتنع. وله رسالة انتقد بها كتاب النحو الذي وضعهُ يومذاك المرحوم أحمد فارس الشدياق. وهو المصحح ديوان المطران جرمانوس فرحات وشارحه. ولم أرَ الشيخ مجيداً في تصحيح هذا الديوان لما فيهِ من المغالط الشعرية المتعددة والجوازات القبيحة. ومن مؤلفاتهِ كتاب المعين للتلميذ وللمعلم وقد أحسن في وضع هذا الكتاب لما فيهِ من الطرق الرحيبة الموصلة إلى مواطن الإنشاء؛ وقد أردف المعين بكتاب نجدة اليراع وهو كتاب جمع فيهِ الجمل المترادفة في وصف أمر أو شيء. وله كتاب حدائق المنثور والمنظوم وهو مجموعة من أطايب الشعر والنثر على نحو ما هو عليهِ مجاني الأدب وهو جزءان. ومن قلمهِ تصحيح أغلاط كتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني ، وتصحيح ديوان ابن معتوق ، وترجمة قوانين يوستينيانوس ، ومقالات جمة من أحاسن الكتابات في المقتطف خصوصاً وسواه من المجلَاّت والجرائد. وفي آخر المدة وضع كتاب مطالع الأضواء في مناهج الكتَّاب والشعراء وهو كتاب مدرسيّ في علوم المعاني والبيان والبديع ، وقد تبّسط في هذه العلوم تبسُّطاً يكاد يكون مملاًّ. غير أنهُ فاق على سواه من المؤلفين في هذا الفن بأنهُ أردف هذه العلوم الثلاثة بقوانين الإنشاء من مثل الذوق وانتقاء اللفظ والمعنى والمطالعة والتمرين إلى غير ذلك من الأبواب الجميلة التي لم يطرقها مؤلف عربي سواه فجاء
كتاباً جليلاً للتعليم في المدارس ، وأردفه بكتاب في علم الخطاب ولم أقرأ بع هذا الكتاب. يتضح مما تقدّم أن جميع الكتب التي ألَّفها صاحب الترجمة وصححها مدرسية يستغني عنها المترسّلون في العلوم العربية إلَاّ معجمه المشهور واسمه أقرب الموارد وهو حتى الآن أكمل معجمٍ يصل بناشد الألفاظ إلى ضالتهِ عن أقرب سبيل وفي أسرع آن ، على حين أننا في عصر أصبحت السعادة عبد الله باشا فكري وزير المعارف في مصر سابقاً والمغفور له العلامة
الشيخ محمد عبده. هذه حياة الشرتوني. فهي حافلة بالآثار العلمية الطيبة دالَّة على أن الرجل استعمل الزمن الذي جازه بالعمل المتواصل ، ولم يكن لسعيدٍ من نظير في ذلك إلَاّ المثلث الرحمات المطران يوسف الدبس الذي كان يعمل كل يوم سبع ساعات رغماً عن شيخوختهِ ومرَض بصره. وإن حياة كتلك الحياة القمينة بأن تكون مثالاً وضَّاحاً لشبيبة هذا العصر ، فتعلم أن العم لا يعطينا بعضه حتى نعطيه كلنا. والآن ألقي عليك أيها الراحل الكريم كلمات الوداع الممزوجة بعواطف الاحترام؛ وثق أن لك من سلامة بيانك ، ونصاعة برهانك ، ونقاء فصاحتك ، ومضاء بلاغتك حارساً أميناً على كتاباتك من نقد النافدين ، وكفيلاً ضميناً على بقائها زاهية إلى انقضاء العالمين.
2 -
رشيد الشرنوني
أن رشيداً أخو سعيدٍ لأبيه؛ وُلد في بلدنا شرتون سنة 1864 ، وأفضى إلى ربهِ سنة 1907 أي في روعة العمر ومعمان النشاط إذ لم يكن له من العمر سوى ثلاث وأربعين سنة. تلقَّن مبادئ العربية والافرنسية في مدرسة مار عبده هرهريَّا ، ودرَّس حيناً في مدرسة عين تراز ومدرسة عينطوره ، ثم انقطع لخدمة العلم عند اليسوعيين في بيروت ، فكان يدرّس صف الخطابة في كليتهم ، ويحرّر جريدة البشير وكان في خلال ذلك يؤلف ويترجم ويصحح الكتب المفيدة ، حتى كانت أواخر سنة 1905 ، فهبط مصر لخدمة العلم
فقضى فيها سنة جاء بعدها للاصطياف في لبنان ، فأدركه المرض في منتصف الليل ، وفي صباح اليوم أجري له الدكتور هاش عملية جراحية فلم تنجح ، وقضى بين قلوب تتفطَّر ودموع تتقطَّر. وكان جميل الصورة غضّ الإِهاب كثير اللطف جميل العشرة وفير المحبة لمسقط رأسهِ وأوطانهِ ، وكان كأخيه نشيطاً ، يصرف أوقاته بالعمل. فإنهً مع انصرافهِ إلى التدريس والصحافة طول حياته ، تمكَّن من تأليف بعض الكتب ، ولو أمدَّ الله بحياته ، لكان من أكبر خدمة العربية ومن أقطاب العلم والأدب ، وله فضل كبير على فئة كبرى من الناشئة التي أخذت عنهُ ونهجت منهجه في طلاوة العبارة وتحدّي الذوق فيها. وكان ضليعاً في اللغة ، علَاّماً في علوم الصرف والنحو والمعاني والبديع والبيان والخطابة. وكان شديد النفرة من الكتب القديمة لهذه العلوم لما فيها من التفاصيل الفارغة التي تذهب بوقت التلميذ فتنحت من جلَدِهِ وعزمه ، فشنَّ على ذلك غارةً شعواء وشمَّر عن
ساعد الكدّ لتأليف سلسلة كتبٍ في العلوم المذكورة على السياق الافرنسي. فوضع للصرف وللنحو سلاسل هي اليوم عمدة التدريس في المدارس الكبرى والصغرى في سوريا ، ولعلها في مصر أيضاً ، ولو استطالت حياته لأتى بالكتب المنوية لعلوم البيان على الطراز المُعلَم ، وهذه السلاسل المذكورة خير ما ألف ويؤلف النحَّاة للتدريس. ومن تأليفه كتاب المراسلات نحا فيهِ نحو أخيهِ سعيد في إنشاء الرسائل المتنوّعة ، ولكنهُ دون كتاب أخيهِ حجماً وجمالاً. أما الكتب
التي ترجمها عن الافرنسية فكثيرة جداً منها تاريخ لبنان القديم ، ورواية بحيرة قدس. وهو الذي صحح ونشر الكتب التاريخية التي وضعها مؤرخ عصره المغفور له البطريرك اسطفان الدويهي؛ وله كتاب تمرين الطلَاّب وهو مجموع تمارين لأبناء التحصيل في الصرف والنحو وقد شاع استعمال هذا الكتاب لكثرة فوائده ، وله كتاب في المنطق لم ينشره. وقد أفاضت صحف البلاد في الكلام عنهُ بعد وفاهِ ، وقد رثاه الصديق الأديب الشاعر أحمد أفندي تقي الدين بقصيدة منها:
أبنات الهديل لا تَذري
…
ببكاء الرشيد منسكبا
واندبي حظَّه فتى
…
عشق الكتب واصطفى الأربا
شاحذاً للرقيّ عزمته
…
في بلادٍ لا تُكرِمُ الأدبا
ورثاه هذا العاجز بأبيات منها:
صُحفُ البلاد وكان مهيع هديها
…
صدعت بطاحن خطبهِ تبيينا
نبأٌ تطاير في البلاد فهزَّها
…
حسبتهُ ملبوساً وكان يقينا
أخذتهُ أعلامُ الجبال بصيحةٍ
…
سمعت لها في الهابطات رنينا. . .
لم تزدحم من حولِ نعشك ألسنٌ
…
ألفت بغير مماتك التأبينا
وتراجع الأدباء عنك لأنهم
…
رهبوك يا أسد العرين طعينا
خافوا سماعك ضعف قولهم وقد
…
كان الكلام إذا نطقت سمينا
مسكين القلم الذي ايتمتهُ
…
مَن سوف يرحم ذلك المسكينا
أفاض الله عليهِ سجال رحمتهِ وأحصاه بين أصحاب اليمين
لبنان محبوب الخوري الشرنوني