الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسائل غرام
بين شهيرات ورجال عظام
الرسالة التاسعة
من جوزيفين إلى نابوليون بونابرت
(لا نخال أحداً من القراء يجهل اسمَي جوزيفين وبونابرت وما وقع بينهما من النفور الذي أفضى إلى الطلاق. وكان ذلك في أواخر سنة 1809. إلَاّ أن جوزيفين ظلت تراسل نابوليون حتى أيامها الأخيرة. ولو سمحت لها الدول المتحالفة لرافقتهُ إلى منفاه. وكان موتها في سنة 1814 أي بعيد سقوط نابوليون. وقد وصفها جميع المؤرخين بالصفات الطبية وأجمعوا على أن نابوليون كان مديناً لها بأمور كثيرة لا يسعنا الإسهاب فيها الآن. قيل أنها كانت تتشاءَم من ارتقائهِ إلى العرش وتخشى أن يحمله ذلك على طلاقها الاقتران بأميرة من أميرات الأسر المالكة. وقد تم ذلك أما الرسالة الآتية فقد بعثت بها إليهِ على أثر ولادة وليّ عهده من ماري لويز): صحوت اليوم وقرْع النواقيس يملأ الجوّ وهزيم المدافع يرنّ في الفضاء. فسألت عن السبب فقيل لي أن جلالة الإمبراطورة قد وضعت مولوداً سيرث عرش فرنسا ويضيف صفحة مجدٍ جديدة إلى تاريخ آبائهِ. وقد كنت أودّ لو بلغتني هذه البشارة منك قبل أن أسمعها من أفواه الناس فكنت أفرح لفرحك وتقرّ عيناي بأن ترى لك من يخلّد لك ذكرك ويورثه للأجيال المقبلة ، فإن ساءك أنني تمنيت سماع هذه البشارة من فمك فإن ما كان بيننا من العهد السابق شجَّعني على تعليل نفسي بهذه
الأمنيَّة. لعل ذكرى أيامنا الماضية تشفع بي لديكَ وتبدد عن محياك غمامة الكدر والاستياء لست أقصد يا صاحب الجلالة أن أراضيك بهذه الرسالة أو أكفّر عن سيأتي الماضية إليك. فإن تلك السيآت أعظم من أن يشفع بها ما أعانيه من مضض هذا الفراق واحتمله من أراجيف الوشاة. لاسيما وأنني لا أعرف لنفسي حسنة سوى أنني أحببتك حباً يقرب من العبادة فكان جزاء حبي لك أنك فصمت عرى مواثيقنا المقدسة بحجة أنني لم ألدْ لك من يرث عرشك من بعدك. وبلغتْ منك القسوة أن اتهمتني بأمور ما أنزل الله بها من سلطان ولست بلائمتك على تصرّفك هذا يا صاحب الصولجان. ولكن راعني ما رأيت نفسي فيه من اليأس. فرأيت أن أبسط إليك كتابي هذا واهني شعبك يولي عهدك ووارث عرشك. مع أنني
أحسبك في غنى عمن يخلد لك ذكرك لأن الذكر الذي قد خلفته ستتوارثه الأجيال المقبلة خلفاً عن سلف. ولسوف يأتي يوم يرى فيهِ العالم أن الآلهة أساءَت إليَّ أكثر مما أسأتُ أنا إليك إذ لم تقدّر لي أن أهبك من يخلد لك ذكرك من بعدك. لذلك حاولت أن تنتزع حبي من قلبك. فلجأت إلى غيري لتبلغ بها ما كانت نفسك تطمح إليه. فهنيئاً لها من إمبراطورة سعيدة وهنيئاً لفرنسا بوارثها المقبل ولقد رضيت بنصيبي هذا بعد أن احتملت منهُ في أول الأمر ما تنوء من ثقله راسيات الجبال. وكنت أقول يومئذ أن الزمان هو الطبيب
الأكبر فلن يمرّ العام حتى أنسى ما بيننا من وعودٍ وعهود. وهو ذا الآن قد مرّ ذلك العام وأنا لا أزال أعاني ما كنت أعانيه يومئذٍ من غصص وحسرات والذي يحزنني أكثر من كل شيء هو أنني محرومة رؤيتك إذ تمرّ بي أيام طويلة مملّة ولا أرى لك حتى شبه خيال إلَاّ في الحلم. ولو تعلم شدة هذا العقاب لكان لي من دموعي شافع لديك. ولكنك قد أغمضت عينيك فلست ترى ما أعانيه من غصص مبرّحة. وإذا كان في العالم قوة تمنعني عن إخماد أنفاسي بيدي فذلك لأنني واقفة على عتبة الأبدية وقد غطستْ فيها ركبتاي. فلماذا أضيف إلى آثامي العديدة إنما آخر بوضع حدٍ لأنفاسي بيدي؟ وفضلاً عن ذلك فإن موتي يورثك من تأنيب الضمير مالا أطيق أن أراك معذباً به. ولأشهى على قلبي أن أراك سعيداً ولو على بعد منك ، من أن تعيش معذباً وأنا قريبة إليك كان ينبغي أن أفرح لفرحك اليوم. ولكنَّ ذكرى عهودنا السالفة لم تُبقِ في قلبي مجالاً للسرور إذ كيفما ألتفتُّ أرى ما يروعني من الفرق بين الأمس واليوم. ويزيد روعي كلما تأملت في ما عسى أن يجيء به الغد وقد يتمثل لي شبح الغد بصورة تنين هائل. فيزيد بي انقباضي ولا أرى من خلال ظلمته الحالكة إلا شعاع أملٍ ضعيف هو أن أنام اليوم ولا استيقظ في الغد. ترى هل يحزنك غداً موت امرأة كنت تعبدها بالأمس؟ أم يصدق فيك المثل القائل أن البعيد عن العين بعيد أيضاً عن القلب
لا يسوءُك عتابي هذا فإن اليأس الذي أنا فيهِ هو الدافع لي على النطق بكلامٍ ربما لا ترضاه. وأنني ليدهشني فرط الشجاعة التي بدت مني في خلال العام الغابر إذ لم أكن أصدّق قبلاً أن امرأةً مثلي تستطيع أن تحتمل ما احتملته من عذاب وشقاء. والذي شجعني على احتماله هو أملي أن يكون لي من ورائه كفَّارة عن هفواتي تشفع بي لديك وتنسيك كل شيء ما عدا حسنتي الوحيدة وهي أنني أحببتك حبًّا مخلصاً على رغم ما كان يبلغك عني
من الأراجيف. وليست غايتي الآن أن أدافع عن نفسي بين يديك ، فإِن ما كان بيننا قد انطوت صفحته ، وقضاءَك لا مرد له. وإنما أردت أن أنبهك إلى أمرٍ قد يسهو عنهُ الملوك والعظماء. وهو أن واضع الشرائع يجب أن يكون نموذجاً للعدل. وأما أنت فقد وضعت نفسك موضع الخصم والحكم ، وسددت أذنيك عن سماع صوت الرحمة والرأفة لما كنت أسمع بانتصاراتك الباهرة كنت أفرح وأشعر كأنني حاملة راية النصر. لا أزال حتى الآن أتوق إلى سماع أخبار انتصاراتك وأتمنى أن تزيد منها كل يوم صفحةً جديدة إلى تاريخك المجيد وفي الختام أقبل تهنئاتي لك بوارث عرشك وأطال الله بقاءَك حتى ترى أولاد أولاده. . .
بقلم سليم عبد الأحد)
جوزفين