الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 27
- بتاريخ: 1 - 10 - 1912
القنصل الروماني والوالي العثماني
أتيليوس ريجلوس وصبحي بك
لما احتلَّ الإيطاليون جزيرة رودس منذ بضعة أشهر أسروا وإليها صبحي بك ، وظل عندهم معتقلاً مدة من الزمن ، حتى واقتنا الصحف في الشهر الغابر بخبر الإفراج عنه. وذلك أن الإيطاليين أطلقوا سراحه ليعود إلى الاستنانة فيفاوض حكومته العثمانية بأمر تبادل الأسرى الذين وقعوا في أدي كلتا الدولتين المتحاربتين. وأعطت حكومة رومة صبحي بك مهلة شهر ليقوم بهذه المهمة ، فإذا لم تفضِ المفاوضة إلى نتيجة ترضي الفريقين عاد إلى الأسر. قرأنا هذا الخبر في جرائدنا اليومية فذكّرنا حادثة من هذا القبيل جرت منذ اثنين وعشرين قرناً تقريباً في حرب التحمت مواقعها ، كحرب اليوم ، على سواحل أفريقيا ، وكان بطلها ، القائد الروماني ماركوس انيليوس ريجلوس وهو أحد أبناء رومة
القديمة الذين لا يزال التاريخ يردد أعمالهم العظيمة وأقوالهم المأثورة. وقد بلغ حب الوطن عندهم مبلغاً لم يبلغ إليهِ سواهم حتى أنهم جعلوا هذه الفضيلة في مقدمة الفضائل التي يتحلى بها المرء وبها يفاخر. وما هذه الحادثة التي نرويها اليوم إلا واحدة من تلك الحوادث المدهشة التي يتألف منها تاريخ رومة الجمهورية ورومة القياصرة.
كان ريجلوس هذا قنصلاً لرومة سنة 253 ق م. وكان زمام الجمهورية الرومانية في ذلك العهد في يد قنصلين يديران شؤونها. وكانت رومة على أيام قنصلية ريجلوس في حربها الأولى مع قرطجنة. فتولَّى ريجلوس قيادة الجيوش. وبعد أن انتصر على الأعداء في موقعة إكنوم البحرية تمكن من النزول بجنوده إلى ساحل أفريقيا حيث ظلَّ النصر محالفه حتى افتتح مدن الشاطئ ووصل إلى مدينة تونس فشدَّد عليها الحصار. ولما أنس من الأعداء ميلاً إلى عقد الصلح وضع لهم من الشروط القياسية ما لم يسمعهم معهُ قبول السلم. وكان أن أتتهم من بلاد اليونان نجدة بقيادة القائد كسانتيبوس. فخرجوا على الرومانيين واشتبك القتال بين الفريقين فوقع ريجلوس أسيراً بين أيديهم. وظل في الأسر سنتين كاملتين. ثمَّ إن القرطجنيين أفرجوا عنهُ ، وأرسلوه إلى رومة ليفاوض حكومتها بشروط الصلح وبأمر تبادل الأسرى ، بعد أن أخذوا عليهِ الأيمان المحرّجة أنهُ يعود إلى أسره إذا هو لم ينجح في ما هو مطلق لأجله.
وهذا ما فعله الإيطاليون اليوم مع صبحي بك فوصل
ريجلوس إلى رومة ، وبلّغ مجلس الشيوخ السناتو المهمة الموكولة إليهِ. فتضاربت الآراء واختلف القوم في الأمر. فُسئل حينئذٍ ريجلوس عن رأيهِ. فتكلم بجنان ثابت عن وجوب رفض الصلح ، لأن في استمرار الحرب دمار قرطجنة ، وارتفاع شأن رومة على مناوئيها. أما بشأن تبادل الأسرى فأشار أيضاً بعدم القبول. لأن أُطلق سراحهم لا يجني الوطن منهم فائدة في القتال. أما القرطجنيون المأسورون في رومة فمعظمهم في مقتبل العمر فإذا أفرج عنهم عادوا إلى بلادهم وكانوا عوناً كبيراً لها رومة. أعرب ريجلوس عن هذا الرأي وهو عارف أنهُ بهذا الكلام يقضي بنفسه على حريتهِ. لكن منفعة الوطن كانت فوق كل منفعةٍ سواها. فوافق المجلس على رأيهِ ورفضت رومة مطالب قرطجنة. وللحال أخذ ريجولوس أهبتهُ للسفر ليقفل راجعاً إلى محل أسره فأحاط بهِ الشعب الروماني - وقد أعجب ببسالته وتفانيه - وطلب إليهِ بإلحاح أن لا يعود إلى الأسر والعذاب المنتظر له ، فأبى. وأقبلت أمهُ وزوجتهُ تذوقان الدموع السخينة وتستحلفانهِ بالبقاء في وطنه لأن الموت الأكيد ينتظره عند الأعداء ، فأبى وقال: حلفتُ أن أعود إلى قرطجنة إذا لم تقبل رومة بمطالبها ، فلن أحنث بيمني مهما أصابني ثم ودَّع ذويه وسافر لا يلوي على شيء.
فلما وصل إلى القرطجنيين - وكان قد اتصل بهم حضُّه لمواطنيه
على مواصلة القتال - حنقوا عليهِ حنقاً شديداً وأذاقوه العذاب ألواناً. فكانوا يضعونهُ في برميل محشوٍّ بالمسامير ويدحرجونهُ من أعلى الجبل حتى يتخدَّش جسمه ، ثم يطلونهُ بالعسل ويعرضونهُ في أشعة الشمس فتحوم حوله الزنانير والحشرات فتذيقهُ من لسعاتها أشد الآلام. وظلوا بهِ على هذه الحالة حتى مات. هذه حكاية مثال الوفاء والبرِّ باليمين عند قدماء الرومانيين. وقد تغنى بها الشعراء في قصائدهم وسبكها الكتَّاب في روايات تمثيلية ، وخلَّد المصوّرون والنحاتون ذكرها في صوَرٍ وتماثيل بديعة. وهي تذكرنا السموأل المعروفة ، وحكاية الطائي وقراد مع النعمان.
رأى القارئ شدة المشابهة بين إرسال القرطجنيين القائد ريجولوس إلى رومه وإرسال الإيطاليين الوالي صبحي بك إلى الأستانة. فعسى أن يكتب الوالي العثماني في تاريخ قومه صفحةً مجيدة كما فعل القائد الروماني ، وإن كان لا ينتظر صبحي ما انتظر ريجولوس من العذاب في الأسر.