الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نجيب وأمين الحداد
قد كان لي جسمٌ رسمتُ خيالهُ
…
حرصاً عليهِ قبل يوم زوالهِ
واليوم أوشك أن يزولَ من الضنى
…
فأنا لكم أهدي خيالَ خيالهِ
في التاسع من شهر فبراير شباط سنة 1899 ، أصيب الأدب العربي بركن من أركانه ، وبكى الشعر العصريّ أميراً من أكبر أمراءِ ديوانه ، بوفاة الشيخ نجيب الحدَّاد من لا يزال الأدباء حتى اليوم يلقبونهُ بفقيد النظم والنثر ، لأنهُ أحيا موات كلتا الصناعتين وترك لنا من آثار منظومة ومنثورة ما يخلّد له أكبر ذكر. لم تتجاوز سنو حياة النجيب الاثنتي والثلاثين ، لكنهُ وضع فيها من
الروايات والمقالات والقصائد ما لا نعرف ما يوازيه قدراً ومقداراً من مؤلفات كتّاب العصر. لم يمض على وفاتهِ إلَاّ ثلاثة عشر عاماً وبضعة أشهر ، حتى راشت المنية سهماً جديداً ورشفته إلى تلك الأسرة فأصابت كبد شقيقه الشيخ أمين ، وقد اغتالت في هذه الفترة ، بين موت الشقيقين ، خالهما أديب العصر الأكبر ، الشيخ إبراهيم اليازجي ، آخر أنجال الشيخ ناصيف ، فكانت خسارة الأدب بالثلاثة فادحة ، وكانت صفقة الموت بهم رابحة. شعر الشيخ أمين في السنة الغابرة باشتداد التعب عليهِ ، فسافر في أوائل هذا الصيف إلى جبل لبنان للراحة والاستشفاء ، فما ردَّ وطنه عنه مقدوراً ، ولا أَكسبهُ راحة ، ولا جاد عليهِ بالشفاء من الداء ، فمات في عين قني من قضاء الشوف ، بعد أن ارتوت نفسه من مرأى وطنه ، وشبعت عيناه عن مناظر جباله ووهاده. الشيء الذي مات أخوه نجيب متشوفاً إليهِ ، متحسراً عليهِ ، فقال وهو محتضَر:
مات النجيب فأرخوا قبراً له
…
قد مات مشتاقاً إلى لبنان
ولد الشيخ أمين في بيروت سنة 1870 بعد ميلاد شقيقه الشيخ نجيب بثلاثة أعوام ، ومات وهو في الثانية والأربعين من عمره ، فكان نصيبه من هذه الحياة عشر سنوات أكثر من نصيب أخيهِ. وقد تلقى دروسه الأولية في مدارس سوريا ، وأخذ العربية كشقيقهِ عن خاليهِ المشهورين إبراهيم وخليل اليازجي:
تمتّعتُ من دهري بما هو حاصلٌ
…
لواءٌ لديَّ الغرمُ فيهِ أو الغنمُ
وما كنتُ من أهل اليسار وإنما
…
لقد كان همي أنني ليس لي همُّ
أتيت ولا تدري وها أنتَ سائرٌ
…
إلى حيث لا تدري فحسبك تهتمُّ
وخذْ فرَص اللذاتِ قبل فواتها
…
ألم ترَ أن الجسم يخلفهُ رسمُ
نظم طانيوس عبده
وكان أول عهده بالصحافة في جريدة الأهرام التي ظلّ أخوه يحرّر فيها عشر سنوات على أيام المغفور لهما سليم بك وبشارة باشا تقلا. ثم انفصل الأخوان عن الجريدة المذكورة ، واشتركا في إنشاء جريدة
لسان العرب الشهيرة سنة 1894. فأصبحت حياتهما الأدبية مشتركة. وهما في ذلك العهد ، يذكر أننا بمعيشة الأخوين الشاعرين بطرس وتوما كورنيل ، إذ كانا ينظمان وهما في منزل واحد ، فينادي الواحد الثاني عندما تعصاه القافية. يا أخي أعرني قافية. وقد كتب الشيخ أمين فصولاً شائقة على صفحات الجامعة العثمانية وجريدة السلام ومجلة أنيس الجليس. ثمَّ دخل في جريدة البصير لصاحبها رشيد بك شميّل؛ وظلَّ ثلاثة عشر عاماً يدبّج فيها من المقالات الرنانة ، والملح الأدبية المستظرفة ، ما حمل البعيد والقريب على الشهادة له بسرعة الخاطر ، والرشاقة في التعبير ، والسهولة في التفنن بأساليب الإنشاء والشاعرية الحقيقية ، ومضاء القريحة. وقد اتفق كلّ من عرف الأمين على وصفهِ بكرم الأخلاق ، ولطف العشرة ، وخفة الروح ، ورعاية الذمام ، والقناعة والتواضع والبعد عن كل تظاهر. وقد سألنا حضرة الشاعر طانيوس أفندي عبده - وقد كان رفيق الأخوين الشاعرين وثالث هذين القمرين - عن رأيه في الشيخ أمين ، فأجابنا بالأبيات الأربعة التي تراها تحت صورة الفقيد ، وقال: هذا هو الشيخ أمين وهذه حياته وليس لي من الأبيات إلا نظمها. ولئن بكى فيهِ الأدب كاتباً بليغاً وشاعراً رقيقاً ، فإن أصدقاءَه يبكون فيهِ فوق ذلك ، خلاًّ وفيّاً وصديقاً صدوقاً.
مطلع العام الجديد ، فكتب المرحوم الشيخ أمين الحداد نبذةً في هذا الموضوع أحببنا نشرها للقراء لأنها تنمُّ ، من وراء ستار الهزل ، عن مللٍ من الحياة وتعبٍ من العمل ، كأن صاحبها كان يشعر بدنو أجله ، وقد تحققت أمنيته لسوء الحظ ،، وقد رقد رقاده الأخير مستريحاً راحة أبدية ، قال رحمات الله عليهِ: أنت تعلم أنني منذ عشرين سنة وأنا خادم في دولتين عظيمتين خدمة لم تنقطع يوماً واحداً ، وهما دولتا الصحافة والكأس. بل إذا سامحتني دولة منهما يوماً واحداً ، وهما دولتا الصحافة والكأس. بل إذا سامحتني دولة منهما يوماً أو بعض يوم ، كان ذلك مخصصاً لخدمة الدولة الأخرى. ولقد ترى حصان المركبة يُحلُّ لجامه ، ويُطلق إلى المراتع ليستأنف حياته ونشاطه ، بل لقد ترى أمواس الحلَاّق ، وهي جماد ، تُراح من
العمل لتستعيد حدتها ورهفها. أما خادم هاتين الدولتين فلا يُسمح له بشيءٍ من ذلك ، بل لقد أكون أنا المخصوص دون سائر الزملاء بهذه المهنة التي تَبِعَتها عليَّ وليس منفعتها. فلطيور السماء أوكار ، ولثعالب الأرض أوجار ، وأما هذا الخادم فليس له مكان يضع فيهِ رأسه ليستريح إلا أن يكون ذلك الموضع الأخير ، وربما يكون في إحدى زوايا البصير لذلك تراني لا أتمنى في سنة 1911 إلا أن أُحال على المعاش في إحدى هاتين الدولتين ، ولكنني أتمنى معاش الصحافة ، فقد خدمت دولتها أكثر جداً من دولة الكأس التي لا يزال لها عليَّ ديون وحقوق. فهل للاكسبريس أن يسرع في تحقيق هذه الأمنية لهذا المتأخر الذي طال انحباسه ، وضاقت أنفاسه ، وملّت من الانتظار كأسه.
أمين الحداد