الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دمعة الروح
على المغرد الصامت
كان لي كنار صغير أحببته بكل ما في فؤادي من الحب. دنوت من قفصه في صباح ذات يوم فوجدته ميتاً فبكيته وندبته
مي
ما أسرع ما تتمزق أثواب الورود ، وما أتعس القلوب الشديدة التأثر! يمرّ النسيم العليل على الأزهار النضرة فتتمزق بوطئه اللطيف أثوابها وتنتثر وريقاتها. هكذا يكفي لاستمطار العبرات أن يلامس الألم بأطراف بنانه أثير الروح الموحدة. وما الدموع الهاطلة من الأجفان إلاّض حصرات قديمة كامنة في طيات الفؤاد ، أوقدت شعلتها يد سوداء - يد الكذب ولافتراء ، زاد الانفراد والتأمل في اشتعالها. من الرجال من يكتفون بالوهاجة والمجد والفخر ، ومن النساء من لا يفهمنَ الحياة إلا بالزينة والغنى وارتفاع القدر. أما أنا فلا هذه العطايا تغرّني ، ولا تلك المواهب تستهويني شي واحد في نظري وهو ما يشترك في نظري وهو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر وقسم أكبر من القلب. شيء واحد يبنه إعجابي ، وهو ما كان مترفعاً عن الصغائر والدنايا - هو زهرة نادرة المثال غرستها يد الوفاء في حدائق الإخلاص الصافي ، شمس الذكاء والمعرفة تحييها ، ومياه العواطف السامية العذبة تسقيها. ما أتعس القلب الحساس وما ألينه لاستحكام الجروح في ثنياته!!
طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه ، وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه. ثم سطت عليه يد الإنسان فضيّقت دائرة فضائه وسجنته في قفص كان بيته في حياته ونعشه في مماته. طائر صغير أحببته شهوراً طوالاً. غرّد لكآبتي فأطربها. ناجى وحشتي فآنسها. جاور روحي فآخاها. غنّى لقلبي فأرقصه ، ونادم وحدتي فملأها ألحاناً. امتزج ذكره في دقائق حياتي فأصبح عندي بمنزلة صديق لا تصلني به اللغة ولا يقربني منه التفاهم الروحي؛ بل يعززه إليَّ حضوره الدائم وإن لم يبالِ هو بحضوري ، وصوته الرخيم وإن لم يغرد إلاّ لأن التغريد من طبعه ، وسوره الذي لا يعرف الكآبة ، واصطباره على ضيق الفضاء وإقناعه بما قدّر له من النور والهواء. عندما كانت تبكيني الآلام كنت أريه منديلي مبللاً بالدموع فيعرض عني. إن الدموع تعقب ظلمة الأحزان كما يعقب الندى
ظلام الليل ، وروح الطيور نور مغرّد فكيف يفهم النور الظلام؟ كنت أنظر إليهِ مشيرة بأصبعي إلى الأثير البعيد لعلي أرى منهُ زفرة تنبئني عن لوعة في قلبه غير أنهُ كان يقمز على قضبان عشه الصغير غير مبالٍ بي كأنهُ يقول: النور لا ينظر إلى الشمس والقلب لا يحدق بالروح لأن كليهما واحد. أنا لا أنظر إلى الأثير لأني نقطة منهُ. إني أسكنهُ وإن بعدت عنهُ ، كالشاعر الذي يظل جوهر نفسه سابحاً في سماء الجمال وإن خاله الناس جالساً بينهم مصغياً إلى أحاديثهم
وإذ كنت آتيةِ بالأزهار نازعة عنها وريقاتها فارشة بها أرض القفص لعلي أرضيه كان يدوسها بإهمال متابعاً تغريده ، كأنهُ فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن كانت جميلة المظاهر ، ولا يعمل في حياته إلا بما يشغل أفكاره وينبه قوى البحث وتسكره في آن واحد. كنت أجلس للدرس والتحبير فتشمئزّ نفسي أحياناً من عبوسة الكتب ، ويقل قلمي في يدي كأنهُ صولجان تنازل عن ملكه ، فيأخذ كناري في الزقزقة والتغريد وتأتي جماعة طير من الخارج وتضم تغريدها إلى تغريده كما تمتزج الألحان في طيات الأمواج. فتبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري ، ويترنح اليراع بين أناملي ، ويمايل تمايل الصفصاف بقرب الغدير ، وتنجلي الغيوم عن فؤادي وتطرب روحي. وفي المساء كان يصمت الكنار إجلالاً لقداسة الظلام فيخفي رأسه بين جناحيه ويحمد جمود المفكّر. إذ ذاك تأتي بنات خيالي محلولة الشعر وورد الابتسام مزهر على شفتيها ، ومصباح الشعر متقد في يمينها. فتعقد حلقة وتدور راقصة حول أحلامي ، وتغني أناشيد على ألحان سرية كأعماق اللجج ، أاشيد غريبة لم يسمعها الأخيال روحي المتموج بين تلك العذارى الراقصات ، ولم أفهمها إلا بحاسةٍ سادسة تولد في قلب الشاعر في ساعات الوحدة والكآبة. بينا ملوك الجوازاء تطل من أعالي علاها ناظرة إليَّ من نافذتيّ ، والكنار يرقبني بعينيه المخفقيتين تحت جناحيه الذهبيين
والآن انظر إلى القفص!
لقد صمت الطائر المغرد ، والشماع المحيي تجمد ، فلا ترى في القفص إلاّ قليلاً من الشمس المائتة!
مات الصغير المغرد ، مات صغير حشاشتي! مات قبل غروب الشمس وقبل انقضاء الربيع ، ولا يبقى في نفسي إلاّ أثر من ذلك اللحن البديع!
شعاع ذهبي أطل حيناً واختفى في كبد الآفاق
ابتسامة نور أشرقت نور وما لبثت أن تبددت
نور فكر ضاء ثم اضمحل في لجج العدم
وردة أُثير تنفست فعطرت وأسكرت ثم ذبلت
نغمة حب تموجت ساعة ثم تلاشت في هاوية السكينة
صديق صغير غرد فأطربني وسكن بجوار روحي فأنسني ولما آلم قلبي العالم بدناءته وكذبه غنى طائري فأنساني قباحة البشر وغشّهم وجعلني أفكر في كل حسن بهي
هذه قيثارتي فقدت أحد أوتارها فناحت بلابل أنغامها
فما أتعس القلوب الشديدة التأثر! وما أكثر مرارة الجرح الصغير الذي يفتح جراحات كبيرة!!
مي