الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في بلاد الأندلس
الرحلة الثانية
قصدت عاصمة الأسبان هذه المرة عن طريق غير الطريق التي انّبعتها السنة الماضية. فبعد أن زرنا نابولي قامت بنا الباخرة إلى جنوى ، فوجدناها أكثر جمالاً ونظافة من نابولي ، وهي تمتاز عنها بمحاسن شواطئها ، وكثرة متنزهاتها ، وجمال حدائقها الغناء ، وأهمها حديقة المركيز دي بلافتشيني وفيها كل أصناف الزهور والأشجار الموجودة في العالم ، وكثير من التماثيل البديعة والرموز التاريخية. وقد شاهدنا فيها أشجاراً كبيرة من أرز لبنان الجميل. وهذه هي المرة الثانية التي أشاهد فيها أرز لبنان العزيز بعد أن شاهدته للمرة الأولى في حديقة القصر الملكي في بلدة الجرانخا في إسبانيا كما سيجيء الكلام عن ذلك. وأنهُ ليعزّ عليَّ أنه لم يتيسر لي حتى الآن مشاهدة أشجارنا التاريخية نفسها في أعلى تلك القمم الجميلة التي يفتخر لبنان بمحاسنها. وبالقرب من هذه الحديقة التي يقولون عنها أنها أكبر وأجمل حديقة في أوربا يوجد قصر جميل وروضة غناء للشاعر الكبير ادمون روستان ولكنهما أقل جمالاً وعظمة من قصره الشهير وغياضهِ ورياضهِ الفسيحة الكائنة في مسقط رأسهِ كامبو التي أتينا على ذكرها في الصيف الماضي.
ومما تفاخر بهِ جنوى أيضاً جميع مدن أوربا مقبرتها الشهيرة التي تستحق الزيارة لكونها آية في الترتيب والعظمة والجلال وفيها تماثيل وصور بغاية الإتقان والجمال. وهذه المقبرة هي لأهل البلد من جميع الطوائف والملل. ولكل فئة ترتيب خاص بغاية الإتقان والكمال. ومما يجعل لجنوى أهمية كبرى حسن موقعها الجغرافي وجمال شواطئها البحرية التي خصتها بهِ الطبيعة. وهي بلدة عامرة آهلة بالسكان كثيرة المصانع والمعامل أخص منها بالذكر معمل أنسلدو الشهير بصنع السفن الحربية. والطريق بين نابولي وجنوى من أجمل الطرق التي يقطعها الإنسان في البحار لأن الجزر الآهلة بالسكان ، والجبال الكثيرة الأحراج والغياض تتخللها عن قرب على طول المسافة تقريباً. وبعد أن قضينا نحو 36 ساعة في جنوى زرنا في أثنائها بالأوتوموبيل شواطئها الجميلة التي يقصدها السائحون والسائحات من كل جهات العالم للتمتع بجمال مواقعها الطبيعية وطيب هوائها وصفاء سمائها ، قامت بنا الباخرة إلى مدينة الجزائر حيث شاهدنا بمزيد الإعجاب والسرور آثار العمران الحديث وآيات المديبنة
الفرنسية التي جعلت هذه المدينة الإفريقية من أجمل المدن منازلها ومبانيها على علوّ متتابع. ولكن أنَّى لبيروت تلك الشوارع الجميلة التي تسير فيها العربات والسيّارات دون أن يشعر الإنسان بأقل ارتجاج أو انزعاج. ولكل منزل في هذه المدينة تقريباً حديقة لطيفة بهِ وتحتوي على أجمل الإزهار وأحسن
الأشجار. أما الفنادق الفاخرة التي فيها ، فهي ، وإن تكن أقل عظمةً وغنىً من لو كندات شبرد وسافواي وهليوبوليس في مصر ، أكثر جمالاً ورونقاً لحسن مواقعها العالية التي تطل على أحسن المناظر برًّا وبحراً ولاتساع الحدائق النضرة التي تحيط بها وتساعد كثيراً على انشراح الزائرين الذين يقضون بين أشجارها الكثيفة وأزاهرها الفائحة العبير أطيب الأوقات وألذّ الساعات. وبعد أن تمتعنا بمحاسن ما في هذه المدينة من ىثار المدينة والعمران التي قامت بفضل واجتهاد الأمة الفرنساوية قصدت بنا الباخرة رأساً إلى جبل طارق ، ذلك المضيق المنيع الذي لا يعرف أهميته ومناعة تحصينه إلَاّ مَن يُسعدُهُ الحظ بزيارته. وقد اتفق أننا وصلنا إلى جبل طارق في آن واحد تقريباً مع الباخرة كرباثيا وهي التي أنقذت بعض ركاب الباخرة تيتانيك في تلك الفاجعة المؤلمة المعروفة. وعند تقابلنا حيّتها باخرتنا بأنغام الموسيقى. وفي سفح ذلك الجبل يوجد بلدة آهلة بالسكان يقطنها أكثر من 25 ألف نفس. ولولا ممانعة الحكومة الإِنكليزية وعدم تصريحها لكل أجنبي بالإقامة أكثر من أسبوع واحد فقط تلك البلدة ، لكان عدد سكانها ازداد كثيراً. أما البلدة فهي بغاية النظافة والترتيب. والعادات الإنكليزية متأصلة فيها تماماً بحيث أن الإنسان يحسب نفسه في انكلترا. ومعظم الدكاكين والمخازن يقفل يوم الأحد ، وبعضها يقفل يومي الجمعة والسبت أيضاً. والعربات لا تقدران تسير إلَاّ خطوة خطوة أمام الكنائس ، خصوصاً
عند إقامة الصلاة. والرقص ممنوع في الملاهي والقهوات ، بحيث أنهُ لا يوجد في البلدة إلَاّ محلات للسينماتوغراف فقط. أما القلاع والطوابي والاستحكامات التي تحيط بذلك الجبل ، وخصوصاً المدافع العديدة المحكمة الوضع من داخل تلك الصخور الهائلة ، فحدث عنها ولا حرج. ولا يدلُّ على وجود تلك المدافع في داخل الجبل إلاّ الثقوب العديدة المحفورة في تلك الصخور وأغلب تلك الثقوب مغطى ببعض الأشجار والأزهار ، ولكن عندما تعكس الشمس أشعتها عليها في بعض ساعات النهار يتلألأ فولاذ تلك المدافع من فوهات تلك الخروق ومن تحت ظلال الأشجار
والأزهار. وهناك مرقاة حربية تصل بين البلد وأعلى قمة ذلك الجبل وتلك الحصون المنيعة لسهولة التواصل وسرعة مناولة الأشياء عند لزومها. وبعد أن زرنا ما أمكننا زيارته من جبل طارق ، وتمتعنا بمحاسن حديقتها الغناء التي تعزف فيها الموسيقى العسكرية كل يوم مساءً ، ركبنا باخرة صغيرة أوصلتنا إلى الجزيرة البيضاء الشهيرة بمؤتمرها الدولي المغربي الأخير؛ وهي أول الحدود الإسبانية ، بعد أن تنازلت اسبانيا لانكلترا عن حقوقها في جبل طارق سنة 1882. ولهذا الحادث التاريخي تذكارٌ في منتصف بلدة جبل طارق ، وهو عبارة عن بابين كبيرين بشكل قنطرتين ، يمثل أحدهما الحكم الإسباني القديم ، وعليهِ الرموز الملكية الإسبانية ، ويمثل الثاني الحكم الإنكليزي مع رموزه وشعاره المعروف فليخسأ من يسيء الظن ولم تطل مدة إقامتنا في الجزيرة لأنها بلدة صغيرة ليس فيها من
الملاهي والآثار المهمة ما يستوقف المسافر ، لا سيما إننا كنا في شوق عظيم إلى مشاهدة الأندلس الجميلة التي يتحدث بجمالها الركبان ، ويتوق للتمتع بمحاسن آثارها العربية كل شرقي. والأندلس أجمل وأخصب جهات إسبانيا ، وأكثرها آثاراً وأجلّها تذكاراً ، وهي بلاد كثيرة السهول والروابي ، قليلة الصخور والجبال. والسير في أرجائها الفسيحة يشرح الخاطر ويسرّ النواظر ، لكثرة ما يشاهد الإنسان من المروج الخضراء ، وجنائن الفاكهة المتنوّعة الأصناف ، وسهول الزيتون المترامية الأطراف ، وهي تشبه كثيراً بتنسيق مزروعاتها وألوان خضرتها سهول البقاع في سوريا. ولآهل الأندلس عادات خاصة بهم ، ومزايا وأخلاق قومية يمتازون بها عن سواهم. فرجالهم من أشد الرجال ، وأكثرهم نشاطاً وإقداماً؛ ولذلك يكثر بينهم عدد مصارعي الثيران الذين يمتازون على أقرانهم في ساحة المصارعة. أما نساؤهم فمن أجمل نساء إسبانيا ، وللجمال الأندلسي شهرة عظيمة في العالم. فهنّ على الغالب طوال القامة ، يقرب لونهنّ إلى السمرة أكثر منهُ إلى البياض. ومع ذلك فقد شاهدت منهمّ من يُخجل بياض وجوههنّ نورَ الصباح. وللنساء ولعٌ شديد في حب التزين بالزهور ورصفها على الصدور والرؤوس. وللفلّ الأندلسي الجميل الحظّ الأكبر في ذلك مما جعلني أتذكر عفواً حين مشاهدة بعضهنّ قول خليلنا العزيز شاعر بعلبك:
زانت الرأس بفلٍّ
…
هو بالرأس تحلّى
ما رأت قبلكِ عيني
…
وردة تحمل فُلاّ
أما تلك العيون التي أن رَمت قتلت ، فبسوادهنّ تفاخر الأندلسيات كلّ حسان العالم ، وقد خطر على بالي بعض أبيات للمرحوم الشيخ خليل اليازجي بعد أن كنت قد هجرت ونسيت الشعر وأهله. أما الأبيات فهي:
بيض الصوارم تفدي الأعين السودا
…
فتلك لا تبتغي للضرب تجريدا
وأسمرُ الرمح يفدي العطف منثياً
…
فذاك لا يبتغي للطعن تسديدا
وأما ذلك الفمُ الصغير الجميل الذي يفترُّ عن دور ، ويبسمُ عن أقحوان ، فقد نطقت جوارحي عند رؤيته ، قبل أن ينطق فمي بقول بعضهم:
وفم كصدري ضيّق لكنَّ ذا
…
يحوي اللهيب وذاك يحوي الكوثرا
وأما تلك الأيدي والزنود الجميلة فلا أجد في وصفها قولاً أوفق وأتم مما قال الشاعر:
وزندين لو لم يمسكا بدمالج
…
لسالا من الأكمام سيل الجداول
والأندلسيون أهل كرم وأنس. وقد اقتبسوا من العرب الأنفة والمرؤة وإكرام الغرباء. ولم تزل إلى الآن ملآكلهم تشبه كثيراً المآكل العربية ، ودورهم حافظة أيضاً شكلها الشرقي الجميل القديم فكل دار لا تخلو من فسحتين عند مدخل الباب الكبير ، تفصل بينهما قنطرة شرقية الشكل ، وفي وسط الساحة الثانية بركة مياه ، والأزهار مرصوفة من حولها ، مما يجعل للبيت رونقاً جميلاً ويزيد أهله استعداداً حسناً للانشراح وتعاطي كؤوس الراح. والنساء مثل رجالهنّ أهل طرب وأنس. ويمتزن عن باقي النساء