الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرفة الأدب
للشيخ أبي السامي مصطفى صادق الرافعي
لا أريد من معنى هذه الحرفة ما يتجوز به المتكلمون من إملاق أهل الأدب وسوء أثر الزمان عليهم كسوء أثره على بعض الكتب القديمة. . . ولا ما يترسلون به من جفاء الأديب واطرحه دون منزلته وتقديره بما ليس من كفايته ، وذهابهم إلى أن الأقدار ما برحت تنصرف بسعادته إلى غيره ، وبشقاء غيره إليه ، كأنه في لغة الأقدار باب من الطرد والعكس. . . ولا ما يتمثلونه من قبح مكافأة كل أديب لنفسه ، وجنايته عليها وابتغائه بها المراميَ في كل ما أجرى إليه من قصد ، واستهدف له من غرض ، كأنها غير نفسه أو نفس غيره ، فما إن يزال ينصب ويتهالك فيما يعاني من أمر الأدب لا يرفق بها ولا يستجمّ لها ، حتى تسترخيَ جوانبها ، وتتناثر بما فيها من قوة ، فيحتف عليها كل بلاء ، ويمكّن منها لكل قضاء ، وهو يرى أن لا بأس على نفسه من شيء ولو كان الموت ما دام قد استيقن أن لا بأس في لبه. لا أريد ذلك وما إليه مما عسى أن تبلغ به بلاغة القوم في تفضيل هذه الحرفة إذا هم جمعوا أطراف لبيان وأخذوا في متاحي القول؛ وإنما أشير إلى معنى الحرفة على الحقيقة ، وأريد أن أصف شيئاً من أخلاق جماعة يحترفون من الأدب صناعة كسائر المهن؛ والصناعات التي بها قِوام
العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة لا على جهة ما تحتاج إليه الحرفة من نفاق السوق ، وتحرّك اصناعة ، وتوفير الغلّة مما تزكوه به الثروة ويستطيل النَّماء ، وتتصل أسباب الفائدة ، وكن على جهة الحاجة اللازمة في كل حرفة إلى الأدوات والآلات ، وإلى التمرّس بالأسباب والوجوه ثم إلى نزعه اللؤم التي البدّ منها في كثير من أهل الحرف والصناعات عندما يعرض من اهتضام الحق وبخس المماكسة؛ وعند تقليب النظر في أحوال الحرفاء وما أفاء الله عليهم من خير وبسط لهم من سعة؛ وعند اهتمام القلب بكساد إن وقع في الحرفة ، وقوتٍ عن فات من الربح ، وضعف إن أخذ في أطراف العمل ، وصداع إن ضرب في رأس المال؛ وعند نصب البدن واستفراغ الدَّرع وترميق الصبر؛ فهذا كله وما يكون من بابه ويتصل بأسبابه رأيناه بكثير من أهل الأدب الذين اتخذوا من الأدب حرفة يُعرفون بها دون أن تعرف بهم ، وذهبوا يتجرون في أخلاقهم على الناس ، ولعل أحدهم أن يكون اسبوا من
الحمق ، واذمّ من الحسد ، وأقبح من الجهل؛ ثم لعله أن يكون مع ذلك أضعف مَن أنت واجد ممن يدَّعي الفهم ، ويتنبل بالعلم ويتنفق بالأدب ، ولكنه يمضي ممدوداً لع في غيّه ، وينطلق منفّساً له في باطله ، ولا يزال قد ملكه السرف ونزت به الضراوة ، وبعث منه التسلط ، حتى يأخذ في كل فنّ من الحمق ، ويضرب في كل ناحية من السخف ، زرايةً على هذا ونفاسة على ذلك وتربصاً بغيرهما. ثم هو في جماع ينزع إلى لؤم الحرفة ويتسكع في كل وجه من السفه منتحلاً ما شاء أن يتنحل
من الأسماء يصنع منها المعاذير ، ويستر بها على نفسه فضيحة من الأخلاق كان الرأي أن يتوقاها قبل أن تظهر ، لا أن يحاول سترها وقد ظهرت؛ فربما زعم أنه منتقد أو متصفح أو هو يصلح عيباً أو يبغي مرمة ولابدَّ في هذا ومثل هذا بزعمه من سورة حمق ونزوة غضب ومن كلمة كزجرة المؤدب ، وأخرى كغمزة المثقف ، ونحوها مما يكون انتقاماً ويسمى في الرجل من الحملقة وفساد الأخلاق بحيث يرى سوء الأدب أدباً ، والجنف عن الحق الواضح قصداً ، والتنطع فيما يجهل علماً ، وبحيث لا يرى له حجة ظاهرة على أحد إلاّ في العناد وركوب الهوى والمخاطرة ، لا يرى أن أحداً يقوم له في الحجاج أو يثبت معهُ في الخصام ، أو يرجح بالحق عليه وعلى باطله وهو ما هو؟ غبي فَدْمٌ إلى الجفاء والغلطة وإلى السجف والغسولة وتراه على ذلك يجمع إلى ضعف الرأي قوة العجب وإلى قلة الصواب كثرة التخطئة وإلى بطء الفهم سرعة الحكم ويرى كأن الله لم يخلق لأحد من الناس عقلاً إلَاّ على قياس من رأسه. . . فإن أنت جئته بما يعلو عن فهمه ويخرج عن طاقته بادر فقطع فيهِ برأيه وجزم عليهِ بالركاكة والإِحالة والإِفساد وسوء التعبير. ولِمَهْ؟ لأنه هو لا يفهمه فلا يوجد من يفهمه البتة إذ كان ما زاد عن قياس رأسه لم يكن إلى العقل بل إلى الجنون. . . وإن أراد أن يبتَّ الرأي في كلام من الكلام ويتعسف في الجزم عليهِ بأنهُ مال لا يستقيم ، فسد لا يضح ، مضطرب لا يتماسك ، زعم
لك بلا حياء أنهُ لا يفهم. عليك أن كون ذكيّاً بالوراثة منطقياً بالفطرة لتنتهي من هذه المقدمة المسلمة. . . إلى النتيجة الطبيعية. . . فتقطع بأن ما لا يفهمهُ هو بتةً إذ لا يوجد من يستبطن حقيقته في الجيل كله ما دام علم الهستولوجيا الأنسجة لا يقيم عليهِ البرهان بأن رأسه غير ذلك الرأس الذي نصبهُ الله في أرضهِ مقياساً للعقول. . .! وبعد فإن من لؤم هذه الحرمة أن ترى صاحبه ساقط الحرمة ذمر المرؤة ، زريَّ
النفس بذيئاً متعهراً فحَّاشاً في هجائه أستغفر لله بل في انتقاده. . . يضع لسانه حيث شاءَ من عرض أو خلُق أو صيغة لا يبالي في كل ذلك أن يكون صدق وبرَّ أو كذب وفجرَ ، بل همهُ أن يكون قد أوجع وأمضَّ ، وطبَّق المفصل الذي يحزُّ فيهِ لا ينكر من ذلك على نفسهِ نكيراً ولا يغير منهُ تغييراً. ولا بدع فإني رأيت أن أحداً من الناس لا يخلو من الفضيلة إلَاّ كان فيهِ ما يعتدُّه في رأي نفسهِ فضيلة وأن فضيلة اللئيم التي يراها أن لا يخله لؤمه دون الاستطالة والتمكن؛ فلو كذب وعقَّ وكفر النعمة ، وغمط الحق ، وجاءَ بكل مخزية ومندية ، ثم كان له أن يستطيل ويغلب ، لقام ذلك عنده مقام الصدق والمبرة والشكر والإِقرار والإحسان ، لكان عند نفسهِ أفضل أهل الفضائل جميعاً؛ فهو لذلك لا يتورَّع عن قول بذيء ولا يتنزه عن فعل دنيء ولا يأبى أن يكون أسخف الناس عند الناس إذا كان من نفسهِ ما عرفت. والغرور نعوذ بالله فهو ألأم اللؤم في محترفي الأدب خاصة قلما يؤتى أحدهم إلَاّ من جهته ، ولا يعرض له لشيطان إلاّ من قبله؛ وأنه
لجنون هؤلاء العقلاء إذا كان لكل امرئ شعبة من الجنون. فلو رأيت ذلك المغرور ، وَرِم أنفه ، أن يكون أحد أولى منه بالحق أو أحق بالصوت فلجّ في العناد ، وجنح إلى الباطل ، وأصرّ واستكبر استكباراً! ولو رأيته قد زيَّن له الغرور وسوّلت له نفسه الخبيثة أن يهتف بأحد هتفه مشؤمة أو يقوم فيه مقاماً مشهوداً فجعل يفتري الكذب ويصنع الباطل وينقض الحق ويحيل الصدق حتى يصف لك أفضل خلق الله فلا تراه في ألفاظه إلاّ غثاً بارداً سمجاً ، وأكرم خلق الله فلا تعرفه إلَاّ كزّاً لئيماً متوقحاً ، وأعلم خلق اله فلا تصيبه إلاّ جاهلاً غبياً فدْماً ، وأفصح خلق الله فلا تجده إلاّ عيّاً بكيئاً حصِراً؛ وهذا لا يزال يجترئ على الله ، ويمثل بخلقه هذا التمثيل ، ويمسخ منهم هذا المسخ حتى لكأن الله إله المخلوقين وهذا المغرور إله الأخلاق ، وكأن لله جلَّ شأنه قوة الخلق ولهذا الأحمق في معارضتها قوة الاختلاف. ولو قيل لي إن في أديب من الأدباء مائة فضيلة وفيه لغرور ، لما صدّقت أن تكون فيه مع هذه الرذيلة فضيلة؛ فإن الغرور لا يكون إلاّ من سوء تقدير المرء لنفسه وتقدير نفسه للناس ، وهما خصلتان لا غاية لهما إلاّ تجاّور غاية المدح وغاية الذم؛ وما أسرف امرء في مدح إلاّ كاذباً ولا أفرط في ذمّ إلَاّ كاذباً ومتى كانت مع الكذب فضيلة؟ ولولا هذا الغرور ما استنكف المخطئ أن يفيء إلى الصواب ، والضال أن يثوب إلى الحق والجاهل أن ينزل إلى حيث يتعلم ،
والناقص أن يخرج إلى طلب الكمال من غيره وهذا كله تراه على أهوانه وأقله في عوام الناس وطغامهم
وحثالهم من لا يثبتون على الباطل إلَاّ بمقدار ما يفهمون الحق؛ ولكنه على أعظمه وأتمه في هؤلاء الذين يحترفون الأدب لأنهم أهل زلاقة ولَسَن وصنعة من الكلام ، وإنما قلوبهم عند النضال في حصون من وراء أفواهم فلا تزال تصرع دون قلوبهم كل حجة ، أو ترد على أعقابها مهزومة أو كالمهزومة وهيهات أن تصل إليها مطلقة ، أو تنزل فيها إن نزلت إلَاّ موثقة. وصفة المغرور أن يكون لسانه فوق عقله ، وتكون نفسه تحت لسانه ، فكيف تراه يكون لو تمت له مع هذه الصفة قوة اللسان وشرعة البديهة وشدّة العارضة واستجابة المعاني وهي أخصّ أدوات حرفة الأدب؟ على أني يعلم الله ما رأيت كالغرور من هؤلاء الأدباء يذم لك الغرور وينتفي منه ويعتده السيئة المجترحة التي لا تكفّر عنها الحسنة بالغةً ما بلغت ، ثم لا تجده إلا أشدّ الناس كلفاً بأن يكون كل ما يؤثر عن المغرورين مسند إليه ، متظاهراً عنه وأن تفشوَ له بذلك فاشية في الألسنة وتذهب عنه القالة في المجالس ليكون مرهوب الجانب ، متقى اللسان ، مخشيَّ المعرَّة مستعاذاً بالله منه ، وليُعرف أنه لا يضع جانبه لخصم ، ولا يغتمز فيهِ عدوّ غميزة ، وليس أحد معه أبداً إلا على خطأ ، وليس هو مع أحد أبداً إلا على الصواب؛ وأنه على ذلك سريع الباردة قبيح الإزراء موجع القذع حاصد اللسان؛ وأن من حمل نفسه عليه فقد حملها على التهلكة وأخطرها لما لا يملك له دفعاً دفعاً ، وطلب بها ما إنَّ المعجزة كلها في أيسره؛ وأن من أخلد إليهِ وشدَّ بهِ يده والتمس مناصرته ، فذلك