الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جريمة الرجل
وجريمة المرأة
فتاةٌ في ربيع حياتها ، تلوح على وجهها إمارات الطهر والعفاف ، أطلّت ذات ليلة من نافذة منزلها ، وكانت الطبيعة هادئة ، والناس نياماً والسكون باسطاً جناحيه تكاد لا تسمع سوى حفيف الأشجار وتغريد الطيور وخرير المياه. . . نظرت إلى ما فوقها فرأت النجوم تنير القبة الزرقاء ، والقمر يتهادى كالعروس مبدّداً جيوش الظلام باسطاً ضوءَه على العالم فيزيد الطبيعة بهاءً وجمالاً ، ثم حانت منها التفاتة إلى ما تحتها فرأت منظراً رائعاً مهيباً رأت منحدراً تغطيه أشجار الصنوبر والأعشاب الجبلية ينتهي إلى وادٍ جميل تكسوه المروج الخضراء. . . راقتها تلك المناظر البديعة التي طالما سمت بالشعراء إلى عالم الخيال وانتعش فؤادها من نسيم الليل العليل ، فغادرت منزلها في سكون الليل وسحر القمر ، وجعلت تسير بين الكروم بخفة الغزال ، وهي تمتع نظرها بمحاسن الطبيعة وجمالها حتى وصلت إلى مكان تظلله شجرة فتقدمت إليها وجلست على غصن من أغصانها لتستسلم إلى سرورها وهنائها. . . ما كادت الفتاة تجلس حتى مال بها الغصن فوق هوة عميقة تنتهي إلى ذلك الواد ، فتماسكت به وصاحت بأعلى صوتها: أدركوني! ولكن ما من مجيب.
رأت الهوة الفاغرة فاها تحاول أن تبتلعها ، وفوقها سماء وتحتها فضاء فأيقنت بالهلاك. . ظلت معلقة في الفضاء حتى ضعفت قواها ، وكلت يداها ، فهوت إلى الحضيض ، فتهشمت أعضاؤها ، وذهبت ضحية غواية الجمال. . كانت سعيدة بحياتها هنيئة بما حولها فماتت أشنع ميتة ، وذهبت طعاماً للوحوش. فوا أسفي على شبابها الزائل! أما الغصن الذي كان سبباً في هلاكها فعاد إلى ما كان عليه قبلاً ، وقد يورد غيرها مورد الهلاك. . . تلك هي حال المرأة الساقطة. تولد الفتاة طاهرة عفيفة ، وتشبّ ساذجة وديعة ، ترى الحياة لذيذة وتبني لنفسها قصوراً من الآمال ، حتى يعترض هناءها رجل تحسبه نجم حياتها وقبلة رجائها ، فتركن إليه وهو يخادعها حتى إذا ما نال بغية منها تخلي عنها ، فترى هول سقطتها ، فتضيق بها الدنيا على رحبها فتتمسك به مستغيثة بالعدل وما من سميع ، وبناصر الضعفاء وما من مجيب ، إلى أن يستولي عليها اليأس فتسقط في وادي الشقاء مستنجدة بالإنسانية فلا تجد إلَاّ وحوشاً يأنون إليها منتهزين فرصة ضعفها القضاء
الأخير على كل وسيلة لها إلى العيش إلى أن تصير عالة على الإنسانية. . أما الرجل الذي كان سبباً في وقوع هذا البلاء فيتجاوزون عن هفوته ولا يناله شيء من الضرّ كأنه لم يأتِ أمراً فرياً ، ويظل رائعاً في بحبوحة الصفو والهناء ، وقد يوقع غيرها في شرك خداعه. ولا يتحمل عاقبة تلك الجنايات سوى الفتيات الضعيفات. إني إذا بكيت حزناً على شباب الأولى فإني هنا أصيح نادباً تلك
الأنفس التي تفسد بعد يوم وأقول ، إن العالم يفسد شيئاً فشيئاً وسيأتي يوم لا نرى فيه للشرف والعفاف أثراً. وما ذلك إلا لأن الرجل لا يجد رادعاً إذ لا عقوبة تحلُّ بهِ من جرَّاء عمله فتراه مندفعاً في سبيل خداع المرأة. إلا أن ذلك ظلم وعدوان وتلك حال لا تدعو إلى الطمأنينة والأمن. . . أنا احترم القانون ولكني أقول إن جاء به من محللات تلك الجريمة جريمة إفساد الفتيات كالرضا مثلاً الذي يعتبر مسوغاً لما يقدم عليه الشبان والفتيات. أقول إن هذا الرضا لا يصح الأخذ به فإنه محاط بوعود طويلة عريضة من جهة الشاب واعتقاد راسخ من جهة الفتاة بصحة ما يقوله مغويها. ولست أظن هذا الرضا يخرج عن حدود الضعف المسبب عن الحيلة للوصول إلى غرض مقصود فهي شبيهة من كل الوجوه بجريمة النصب والاحتيال من أجل المال التي جعل لها القانون بين بنوده عقاباً للمحتال على العرض أثمن قيمة من المال ، فلم لا يفرض القانون عقاباً للمحتال على العرض كما فرضه للمحتال على المال ، فلم لا يفرض القانون إن هذا الأمر جريمة تستحق العقاب ، والرأي العام يطلب ذلك والقانون الذي لا يسير مع الرأي العام في مستوي واحد ، من جهة ما يعتبر جريمة وما لا يعتبر جريمة ، قانونٌ ناقصٌ أو متجاوز ، وأعيذ قانوناً أن يلحق به النقص أو التجاوز. ولقد يرى البعض أني أبالغ في وصف جريمة الرجل دون الفتاة؛ على أن قليلاً من الإمعان يكفي المتأمل في الحوادث التي تمرّ أمامه من هذا
القبيل أن يرى أن مصيبة الفتاة بسقوطها هائلة تودي بنفسها إلى الهلاك فتصير طريدة شريدة تتحمل أنواع البؤس والشقاء ، فضلاً عن أنها تصير سمّاً زعافاً يسري في عروق الهيئة الاجتماعية. أما الرجل فإنه كما ذكرنا لا يناله شيء من الضر مع أنهُ جانٍ على المرأة والمجتمع الإنساني في وقت معاً. ليست الحالة تتوقف على خداع شاب لفتاة بل هنالك قطيع من سفلة الأغنياء يساعدهم على تحقيق أمانيهم قومٌ هم وتجار الرقيق سواء. . . أن الفضيلة تتعذَّب لضياع العفاف ، والإنسانية تتألم لأن الكمال يفر مدبراً أمام جيوش
الفساد التي تزداد انتشاراً. فيا ليت السماء تمطر صواعقها على هؤلاء الناس الذين يقوّضون دعائم الفضيلة ويهدمون أركان العمران والرقي الأدبي. ولكن مضى زمن الصواعق والمعجزات. فيا أصحاب الشرائع ويا أيها الحكماء تعالوا واندبوا هذا العصر الذي يدعونهُ بعصر الماديات فإن حالتنا تستدعي الندب والبكاء. ولعلّ تلك الدموع تغسل شرورنا وتطهّر آثامنا. . . لقد تعب فلاسفة الأخلاق فكتبوا المقالات ، وألَّفوا الكتب وألفوا الخُطَبَ ضمنوها نصحاً خالصاً وحضّاً على الكمال ، ولكني أرى أنها لا تؤثر إلَاّ في من كانت نفسه في استعداد لقبولها. فإن من فسدت أخلاقه ومات ضميره تعذَّر علينا إرجاعه إلى السبيل المستقيم بكلمات عذبة رقيقة. ولله در سليمان الحكيم حيث قال إن من يوبخ مستهزئاً يكسب لنفسه هواناً؛ ومن ينذر شريراً يكسب عيباً. ومثل هؤلاء قد اجتمعت فيهمم الصفتان وانبعثت فيهم روح الاستهزاء ، وامتزجت في