الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشيد نهر الصفا
عين زحلتا قرية لطيفة يعرفها أكثر الذين اعتادوا الاصطياف في جبال لبنان؛ وألطف من القرية نفسها غابات الصنوبر التي تحيطها وأجمل من هذه وتلك منظر نهر الصفا المتدفّق عند قدم الجبل ، وعلى بعد أمتار قليلة منهُ يركض نهر القاعة. كلٌّ من النهرين يسرد حكايته الأبدية على الأشجار المصغية إليهما بحللها السندسية. ويظلُّ النهران في اندفاع وشكوى ، وروح الوادي تئن في أثرهما إلى أن تائم مياههما مياه البحر العظيم في الصيف المنصرم زرت عين زحلتا لأول مرة.
هنا سالت صور الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير؛
هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير؛ هنا تنهدت العطور تنهداتها الغرامية ، وتحولت الورود إلى أشعة سحرية؛
هنا اغتسل قوس القزح ، فترك في الماء من ألوانه ألحاناً فضية؛
ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية؛
هنا بعث الأفق بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية؛
هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه ، فامتزج النور بالظلام وتلاشت اليقظة بالمنام؛
هنا ناحت حمائم الشعر ، وغنَّت أطيار الأنغام؛
هنا لثمات النسيم شوقٌ وهيام؛
ومداعبة الموجة تبادلُ نظرةٍ وابتسام؛ وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام؛
هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مُقل الكواكب وسلام؛
وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإِلهام؛
هنا ليلةُ أنوارٍ وفجرُ ظلام. وألغاز ملامسٍ وألوان وأنغام؛
حينما يمرُّ الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية ، يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من جماهير الآمال النضرة كالأزهار ، والأميال المتنقلة كالأطيار. ثم يأتي الغروب ساكباً في أعماقها كلَّ ما في أحزانه من المرارة مع ما يرافقها من النظرات المتحوّلة والابتسامات المتغيبة والجباه الكئيبة والشفاه المتحركة بالصلوات ، الساكنة بالتأملات.
هنا عيدان الأشجان تبكي - تبكي بقلبٍ جريح. وفي كلّ لحظةٍ يخيل أنها تُسَلِّم نَفَسَها الأخير بشهيقٍ فيهِ من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيهِ من المجد والعظمة ، من البسالة وعزة النفس الأبية. لكنّ المياه لا تموت ولا تحيا ، بل تردد ذكرى الماضي ، وتهمس خفية نبؤتها في المستقبل ، وتُرادف أصوات الأفراح وتُعدد آهات الانراح.
هنا لغزٌ من ألغاز الحياة وليلة من ليالي الزمان. وأنا لغز أمام هذا اللغز ، وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدةً على الشاطئ الحزين ، أنظر ولا أرى ، أسمعُ ولا أفهم ، أفكّر ولا أجد ، أستعلم ولا أعلم. . .
فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي ، ونفسي قيثارة الأحلام والألحان. لكني لغزٌ حيٌّ تائه في ظلّ الغصون ، ينظر مستفسراً إلى لغز آخر ، فلا يجد فيهِ إلَاّ صورته ، فيودّ تمزيقها وسحقها وإن أحبها!
عند احتضار النهار ذهبتُ إلى رأس النبع وجلست على صخرةٍ قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تستنشق الأريج العطري المعانق لشعور بنات المياه. وآلهة الأهوية الأربعة يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام ، وحول أشباحهم تلتفّ أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين ، وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم ، بينا أبكار الشعر تسرّ لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر ، وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد باخوس خمراً تسكر بهِ ألباب الآلهة ، ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء. على هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملةً بما شرَبتهُ مشاعري من رحيق الخيال العلوي ، كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون من بعده ومن قبلي جلسوا هنا وفؤاد كلٍّ منهم منقبض تهيباً وخشوعاً أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود. ما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم لأن الأفكار تتشابه في المصدر وفي النتيجة على رغم تعدّد شُعبها وفروعها ، والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي في كل آن ومكان. جميعنا طرح على النهر السؤال الذي انثر تموجاته الآن على الأمواج
المتراكضة: هو سرّ الأسرار الغاضة الذي يردّده صدى الهياكل العميقة التي تشيدها المدارك في أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟؟
من أين تأتين أيتها المياه وإلى أين تذهبين؟
من أين أتينا وإلى أين نذهب؟. . .
المياه تتدفق في أثر المياه مهللةً مكبرة؛ وقد أفاضت أصواتها في الغناء والنحيب ، ودمدمت العناصر فيها أسرار الوارد الإلهي ، ورفرفت على جوانبها أجنحة الخلود. . .
من أين وإلى أين. . .؟
ثقل دماغي بأفكار لا أدركها ، وضاق مني الصدر لهموم لا أعرف ماهيتها فنزعت عن ساعدي ساعة وُضعت في أسورة ذهبية ونظرت إليها قائلة: - أيتها الساعة! أنتِ رمز الوقت الجاري في نهر الزمان فيسير قاصداً بحر الأبدية. ها أنا أغطسك في هذه المياه. . . عسى أن تحفظي في حياتك المعدنية أثراً لرموز معنوية. ثم جمعت بعض الحصى الجميلة الكثيرة الألوان الراكدة في أعماق النهر ، قائلة: أيتها الجواهر! سأحملك معي إلى وادي النيل لتذكريني بالعواطف الكثيرة التي تلاطمت في فؤادي أمام نهر الصفا. . . أنتِ ذكر الأبدية التي حييت فيها لحظة وإذ رفعت عيني إلى الأفق رأيت مقلة الزهر ترقب يد ملك الظلام الراسمة على رداء الليل صوَر الهيئات السماوية.
فغادرت رأس النبع مرددة: أنهر الصفا! من أين وإلى أين؟
أنهرَ الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معاً.
قرأت خلاصة الأحوال الحاضرة فدوت في جوانب مخيلتي أصوات المدافع ، وتمثلت لناظري صوَر الحرب المريعة. ثم قصدت الاجتماعات فملأ أذني ضجيجها التافه. وضجرت نفسي من معانيها السطحية - إن لم تكن خبيثة. عجبت من بلاهة الإنسان ومن ركاكة أمياله وفتور همته. إذ ذاك سمعت اسمك الموسيقي فأحببته لأن فيهِ جمالاً وعذوبةً وسلاماً. لقد أحرقت قدميَّ الرمال الحارة ، ومزَّقت يدي أشواك الحياة ، فجئت إليك لاستخلص من أعشابك بلسمّاً لجروحي. تعلَّقَ بأهدابي غبارُ المادة محاولاً إخفاء الجمال المعنوي عن عينيَّ ، فأتيت لأغسل أهدابي بمياهك المقدسة.
جئت لأرطب يديَّ وعينيَّ برضا بك العذب
ثقل فؤادي عليَّ ، فأسرعتُ لأبعث به معك إلى روح البحر العظيم الذي يناديك إليهِ من عمق أعماق زرقتهِ البعيدة
أنت ابن الغيوم ، وألعوبة الحرارة الهوائية ، وضحكة المادة الدائمة ، وقهقهة الجوّ بين
الهضاب والأدوية. أنت قبلة الشمس للبحر. أنت أنشودة الجبل في الوادي. أنت الروح الصغيرة المسرعة إلى أحضان الروح الكبيرة
أنت جميل كأسرار الجنان. عذب كنظرات الولهان
وفي اسمك ألوان وألحان