الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجل الدم والحديد
نابوليون بونابرت
ذلك الجبار الطاغية! رأيته مضطجعاً ضجعتهُ الأخيرة وقد أخرس الموتُ لسانه وأبطل القبر صوته. جرَّد سيفه فأقلق الكون ، وتمادى في جبرؤته فأزعج السموات. وضع قدمه اليمنى على إهرام مصر ، واليسرى على كرملين القيصر ، ثم صاح بأوربّا صيحة مرعبة ، فكان لزئيره دويٌّ ضجَّت له الأرض ، وهلعت له الكائنات.
رجل الدم والحديد!
كان يرى العالم كما يرى النسرُ النملة من علوّهِ الشاهق. هدم الباستيل؛ ليطلق منه الأسرى؛ ثم بنى على أنقاضه باستيلاً آخر ، سجن في العالم أجمع. وكان السعد يخدمه ، فنصره في أوسترلتز ، وعقد له الظفر في مارنجو ، وحالفه في الأهرام. فلما رأى الله طغيانه ، قال: ليس حسناً أن يبني هذا النسر عشَّهُ في الجوّ لئلا يقلق السماء؛ هلمَّ ننزل ونضربه فلا يُزعج الكائنات! وكان ظلّ ذلك الجبار يُلقي رعباً على المسكونة؛ وكلما رفع يده ، تتلَّمس أوربا رأسها ، لترى هل هو بعد على عنقها! لو ولدت فرنسا بونابرتاً آخر لاضطرّ الله أن يتجسَّد مرة أخرى لإنقاذ العالم من شرّه وطغيانه. ألم يحفر جهنما أخرى في الأرض ، ليدفن فيها
أوربّا؟ ألم يستو على عرش مصنوع من عظام القتلى ، ومصبوغ بدمائهم. وكان الفضاء مملوءاً بدويّ مزعج: أنين الأرامل وبكاء الثواكل ، وعويل النادبات؛ من ساحة أوسترلتز إلى براري موسكو. ثم حدث بعد ذلك سكوتٌ طويل ، لأنَّ الكائنات حبست أنفاسها لتنظر إلى مشبح ذلك الطاغية. ونادي المرّيخ ابنه فقال تقلدّ سيفك ، أيها الجبار ، ولا يغرّك نجم سعدك؛ فإن بعد أوسترلتز ، موسكو؛ وبعد مارنجو ، واترلو! وكانت ألبا تتثاءب ، والقديسة هيلانة تفتح ذراعيها؛ وقد بدأ الشهاب المذنّب بالسقوط من علوّه الشاهق ، فترك وراءه خيطاً ضئيلاً كان يضعف كلما اقترب من الأفق. ولاحت في ذلك الأفق غمامة سوداء بقدر كف اليد؛ ثم أخذت تكبر وتعلو ، إلى صارت تتهدد ذلك النجم اللامع. ولمح نابوليون تلك الغمامة ، فأراد أن يموت كما تموت الجبابرة. فصاح بالكائنات صيحة مرعبة من على قمة الأهرام وقال أيها الجنود ، أن أربعين قرناً ننظر إليكم من قمم هذه الأهرام ثم مرّت الأيامُ ، وذلك النسر يبسط جناحيه على المسكونة؛ وكان خفوقهما يقلق
العمالقة في قبورها ، ويلقي هلعاً في قلوب البشر. إلاّ إنّ لكل جليات داوداً في ذلك اليوم سخر نابوليون من ولنتون. فأجابه ولنتن: غداً نلتقي في واترلو!.
وكان نبتون إله البحر ، يٌعدّ سفينة لنقل جليات إلى جزيرة القديسة هيلانة. وتنفّست أرامل أوربا ، لأن الله نهض لينتقم لدماء أزواجهنّ ، ويلجم ذلك التنّين! ، أما نابوليون فظلَّ يحلم. رأى كل شيء ، ما عدا ألبا وواترلو وضاع عليه في الخارطة موقع القديسة هيلانة. لو درى بها يومئذٍ ، لأخسفها في قعر البحر ، وجعل من عليها أكلاً للتنانين العظام. ولكن لويائان كان يحرسها ويدفع عنها صدمات الجبار. ولما سقط ذلك النسر ، أقلته السفينة إلى الباستيل المعدّ له واعتقله بين أزرقين - ماءٍ وسماء. وتنفست أوربّا ، لأن حملاً ثقيلاً أُزيح عن صدرها؛ وأصبحت صروح اللوفر والويلري تصفر فيها الريح.
هوذا اليوم يرقد زقدته الأبدية - عظيماً في موته كما في حياته - والنفس تتهيّب الأسد ولو كان جثة هامدة. ألا نمْ يا صاحب الجبروت! لقد أحسنت بموتك إلى العالم ، فهل كفّرت عن ذنوبك إلى الله؟ أنت تطلب المجد حتى في القبر؛ لذلك تنام في حفرةٍ عميقة حتى يكون كل من ينظر إليك حاني الرأس:
أنت في حفرةٍ ترى القوم حولي
…
ها خشوعاً فكيف لو كنت حيَّا
ليت شعري وقد نزلت برمسٍ
…
من لُملك الدنيا تركتَ وصيَّا
فسلم عليك يوم طواك ال
…
قبر ميتاً ويوم تُبْعَث حيَّا
سليم عبد الأحد