الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقالات باكون
باكون أشهر مشاهير فلاسفة الانكليز ، كان له تأثير كبير في عصره ، وهو يُعدُّ مؤسس الفلسفة الحديثة المبنية على الاختبار والاستقراء. وقد شاءَ صديقنا محمد لطفي جمعه الكاتب الألمعي والأصولي الضليع أن يتحف قرَّاء الزهور بمختارات من مقالات الفيلسوف. وإليك النبذة الأولى منها:
1 -
أصحاب السلطة وأهل المكانة العالية:
وإنا أُناسٌ لا توسُّطَ بيننا
…
لنا الصدر دون العالمين أوِ القبرُ
إن من ولي أمراً كبيراً يكون عبداً ذليلاً لثلاث: أمته وصنعته وسمعته. فيطيع وليَّ أمره طاعةً عمياء ، ويردعه صيتهُ عما تميل إليهِ نفسهُ ، وتستغرق أعماله كل أوقاتهِ. وأيُّ رجل يشتري بحريته قوةً ، ويسعى لنيل الحول على غيره فيفقد سلطانه على نفسه؟ وإن أحد الناس يجهد نفسهُ لينال سمعةً. وما السمعة إلَاّ أم المتاعب؛ فقد يدفع حبُّها الرجل إلى اقتراف الذنوب ، فيصل إلى المكانة السامية بعد أن ينال شرفه الأذى. والسبيل إلى العلى غير ميسر ، والدرب إلى الصيت زلِق لا تؤمن عاقبة السير عليهِ. وإن تزلُّ قدمهُ فقد هوى ، أو عاد ذليلاً محسوراً. وأذكر قول شيشرون إذا أفل نجمُ سعدك ، ووضعك سواد حظك وأمسيت وضيعاً بعد أن كنت رفيعاً ، فخليقٌ بك أن لا تعيش. وإذا شاءَ من حصل على السلطة والسطوة أن يتخلى عنهما لا يستطيع
إلى ذلك سبيلا. فإذا استطاع ذلك قلَّت رغبته في التخلي ولو أشابه كرّ الغداة ومرّ العشيّ. ومثله كمثل العجوز من النساء ، فإنها تفتأ تتبرّج وتتزين كأنها بالدهر منها هازئ. وإذا تاقت نفوس ذوي الصيت والسمعة إلى السعادة يوماً ، فيكفيهم أن يسمعوا بها ممن يتطلب مكانتهم ويسعى في الحصول على ما لهم من السطوة والسلطان. لأنهُ لا يحبّب الصيت للإنسان سوى أن مئين من الناس يتمنون ولو بجدع الأنف أن ينالوا مناله. ولو علم الناس بما يلاقيه أصحاب المكانة السامية من المتاعب ، لا كتفوا بما لديهم. ولكن:
لا يعرف الشوق إلَاّ من يكابده
…
ولا الصبابة إلَاّ من يعانيها
وأحدنا أول من يشعر بهمومه ومتاعبه وآخر من يحس بعيوبه ومثالبه وقد لا يستطيع من يقوم بشأن الناس أن يقوم بشأن نفسه ، فيكون أجهل الناس بحاله ويكون الناس أرف بهِ منهُ. وأن المكانة السامية تمكن صاحبها من صنع الخير وعمل الشر. وخير ما ينحني من
عمل الشر هو النية الصالحة وعدم القدرة على اتيانهِ. وأما صنع الخير فهو أسمى المقاصد وخير ما تطمح له النفس الفاضلة ومن كانت نيته صالحة فإن له عند الله ثواباً وأجراً. أما الناس فلا يؤمنون إلَاّ بما يرونهُ أمامهم من الأعمال الصالحة. وليس في طاقة أحد الناس أن يصنع ما ينويهِ من خير ، إلَاّ إذا كان قادراً ذا سطوة ونفوذ. ولم يكن لله في خلق الإنسان من غرض سوى أن يكون الإنسان مخلوقاً خيراً ،
يعمل الخير ويقابل الخير بالخير. وليس يهدأ قلب الرجل في صدره ، إلَاّ إذا صنع الخير أو نواه. وكن إذا وليت منصباً مقتدياً بمن سبقك إليهِ ممن كانوا مفلحين. ولا تنسَ أمر من أفسد قبلك لأن لك في أمره عبرة. وإذا رأيت خللاً في ما بين يديك من العمل فأجهد نفسك في إصلاحه ، ولا تعجب بنفسك ولا ترمِ من سبقك بالعجز والتقصير. ولا تعمل عملاً إلَاّ إذا كان النظام رائدك؛ ولا تكن متشبثاً في أمورك. ولا تخف أمراً لا يخشى على عملك من إفشائهِ. ولا تمكّن أحداً من سلب حقوقك. ولا تدع غيرك ينال مما لك من النفوذ منالاً. وكن عليماً بشؤون من وليت أمورهم ، وكن منهم بمثابة العقل المدبر من الجسم المطيع. ولا تحجب نفسك عمن له شكوى يبثها. واسمع ما يبلغك من النصح والإرشاد واعلم أن كل كلمة تطرق إذنك لها نفع في الحال أو في المال. وقد يجيز صاحب المنصب الرفيع على ذنوبك يأتيها رغم أنفه. منها المهلة في إنجاز الأعمال ، والتدني إلى الرشوة ، والشدة واللين. ولئلا يتمكن منك حب المهلة في أداءِ ما يجب ، لا تحجب عنك من له شكوى بينها ، ولا تخلف ميعاداً ، ولا تبدأ بعمل قبل أن تفرغ مما قبله ، ولا تمزج أمرين لا علاقة للواحد بالآخر إن استطعت ذلك سبيلاً. ولأجل أن تكون ذاعفة أربط يديك وأيدي غيرك ممن يأتمرون
بأمرك برباط القناعة. ومر نفسك ومرهم بأن لا يقللوا من مقدار نفوسهم ليكثروا من قدر ثروتهم. وكن غليظاً شديداً على من يهبك هبة لتعمل له عملاً. وإذا كنت كاملاً عفوفاً فقد أمنت نفسك ومن يلوذ بك. ولا يرتدع من يحاول أن يرشوك إلَاّ إذا أظهرت له الكمال والعفة ، وأبيت عليهِ التمليق والإكرام. ولا تجعل لأحد سبيلاً يمكنهُ من إساءة الظن بك. فإن الشك أول مراتب اليقين. ومن شك في أمانتك لا يلبث أن يؤمن بخيانتك. واعلم أن من تناءَى عن مشربه قد يحرّك نفوس أهل الشر والعدوان فيرتابون من أمره. فإذا شئت أن تتحول عن مبدأ منت بهِ شيئاً. ولا تخفِ عليهم من أمرك شيئاً. ولا تقرّب إليك من هو أقل في
المقدار فقد يظن أهل الشر أنه واسطة في الشر وأن المال يأتيك على يديه. واعلم أن الحدة والخشونة تولدان الكراهية والبغضاء. أما الصرامة والجفاء فتولدان الخوف والتبجيل. وكن إذا شئت أن تلوم من يستحق اللوم مهاباً وقوراً ولا تكن قادحاً مهيناً. ولا تكن ليناً فتعصر فإن اللين يورث الذل والهوان. ومن يسرف في تبجيل الناس فقد أودع نفسه في أيديهم أسيراً. وللشهرة تأثيرٌ في خلق الرجل. وكان أحد الحكماء يقول: إن أكابر الرجال صناديق مقفلة مفاتيحها الارتقاء إلى ذروة المجد. فإذا بلغ أحدهم غايته ، فتح وبان ما فيهِ أن خيراً وأن شرًّا فشرٌّ.
وبلوغ ذروة المجد يصلح النفوس الخيّرة ويفسد نفوس أهل الشرّ. وأنتَ ترى شبيه الشيء منجذباً إليهِ. فإن كانت نفس الرجل كريمة جذبها الخير ، وإن كانت شريرة جذبت إليها الشرّ. وليس للفضيلة الكامنة في النفوس مكان سوى المجد والشرف. ولذا ترى النفوس الكريمة وهي قبل أن تصل إلى ما تعلل بهِ نفسها متقدة مشتعلة ، فإذا بلغتهُ اطمأنت وسكنت إليهِ كما يسكن الطفل إلى صدر أمهِ. واعلم أن سبيل المجد وعرٌ. فارتكن فيهِ إلى يعضدك حتى تصل إلى غايتك ، فتستطيع أن تقف آمناً شرَّ السقوط. وإذا جاء ذكر من سبقك فاذكره بالخير فإن في ذك خيراً لك ولهُ. وإذا كان لك رفاق في عملك ، فكن معهم رقيق الجانب ، ليّن الخلق حسن العشرة. ولا تأنف من أن تشاورهم في الأمور ، ولا تكن في كل حال مستقلاً برأيك. وإذا كنتَ مع قوم في حديث لا دخل له بعملك فاطرح العظمة جانباً وأبدُ لهم كما يبدو الرجل الكريم.
2 -
جمال الوجوه
جمال الوجهِ مع قبحِ النفوسِ
…
كقنديلٍ على قبرِ المجوسِ
إنَّ النفوس الجميلة كالجواهر الكريمة ، لا يبدو بهاؤها إلَاّ إذا رُصِّعت في قالب خلوٍ من التزيين والتحسين. وإن طلعةً ترى فيها الهيبة والجلال خيرٌ من محيا ترى فيهِ البهاء والجمال.
ولقد يندر أن ترى رجلاً ذا جمال فائق قد نال المكرمات وحاز الفضائل. وكأن الطبيعة شاءَت أن يكون ذو الجمال خلواً من العيوب الظاهرة ، ولكنها لم تشأ أن يكون جميلاً كاملاً. ولذا أنتَ لا ترى بين أهل الجمال رجلاً ذا نفس كبيرة أو عقل عظيم. وأنهم يفضلون التأدّب والاحتشام على السموّ والعظمة. ويتمنى أحدهم أن يكون مكان الإجلال والإكرام. ولا يرجو أن يكون قابضاً على صولجان دولة الأقلام. ولقد حفظ لنا التاريخ ذكر
كثيرين ممن جمعوا بين جمال الوجوه وكرم النفوس. فقد كان القيصر أوغسطس قيصر الرومان أجمل أهل زمانه. وكان اليونان يفاخرون الأمم بجمال السيباديس. وكانت أمة الفرس تضرب بجمال سلطانها إسماعيل الأمثال. وليس لون الوجه وحسن تقاطيعه ورقة الإنسان ورشاقته تكفي لأن يكون جميلا؛ لأن الجمال معنى لا يستطاع التعبير عنهُ ، وليس في قدرة المصوّر البارع أن يظهره في صورته. وقد لا يبدو ذلك المعنى إلَاّ بطول المشاهدة. وليس الأحكام في الخلق جمالا. وإنك لا نجد الجمال النادر المثال إلَاّ في شيء لم يبلغ فيهِ الإتقان حدَّه. ولقد زعم أبُلس المصوّر أنهُ يصوّر أبدعَ الوجوه إذا ما أضاف إلى عيون المهى أنفاً كالسيف أو أدقّ وثغراً كادرّ والمرجان. وخطر ببال ألبرت دورو أن يخلق إنساناً كامل الجمال إذا اعتمد في خلقهِ على التناسب في قياس الأعضاء.
على أن مثل تلك الصورة لا تنال رضى غير مبدعها. وليس من المحال أن يصوّر مصوّرٌ وجهاً فيهِ من الجمال ما لم نرَه من قبل على أن مثل ذلك الوجه لا تكون للفن أو للصنعة فيهِ يد ، إنما يكون خالقه قد أُلهم إلهاماً إلا هيّاً كما يوحى إلى الشاعر بالمعاني وإلى المغني بالأنغام وإنك ترى وجوهاً ليس للإِحكام فيها أثرٌ وإذا نظرتَ إليها وجدتَ بها من الجمال ما لا تجده في سواها. وليس للشباب يد في الجمال. وإن صدق قول القائلين بأن رشاقة الحركات أصل كل جمال لكانت المرأة البالغة من العمر عتيّاً أجمل من الفتاة اليافعة لأنها نالت من الرقة والرشاقة حظاً أوفر. وقد جاء في المثل السائر أن الشباب جمال وقد يحق ذلك القول على الشباب إذا عُدَّ جمالاً ، لأنهُ ستار للعيوب والجمال كثمر الغيظ لا يلبث أن ينضج حتى يبلغهُ الفساد. وقد يكون الجمال والشباب مفسدة للمرء أي مفسدة. ولو كان الجميل فاضلاً بانت فضائله كالشمس التي تكامل ضوؤها. ولو كان ناقصاً بدا نقصه كالغيم في السماء الصفية.
نقله عن الانجليزية
محمد لطفي جمعة المحامي