الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقمان الدويبات
قال أرسطو طاليس يُرى على نهر هيبانيس دويبات لا تعيش إلَاّ يوماً واحداً ، فالتي تقضي نحبها في الساعة الثامنة من الصباح تُحتضر ، والتي تطوي أيامها في الساعة الخامسة من المساء تموت هرماً. وقف أحد كتَّاب الإفرنج على هذا القول الذي نقله شيشرون ، فكتب فصلاً يتدفق زلاله حكمةً رائعة ، فجاريناه فيهِ فوضعنا هذه الأسطر التالية: لنفرض أنَّ ذكراً من ذكور هذه الدويبات الهيبانية عمَّر نهاراً واحداً لمتانة بنيهِ ، واندماج خلقهِ ، وتوثيق آرابه ، أي أنهُ وُلد مع انبثاق الفجر؛ ثم قضى عمره عاملاً بنشاطً وهمة وكدٍّ وجدٍّ مدة الثواني العديدة
التي تنشأ منها الساعات العشر أو الإثنتا عشرة وهي مدة عمره الطويل. ما عاش هذه الساعات الطوال إلَاّ وقد حنكته التجارب ، وعجم عود الزمان ، وغمز قناته ، فقام بين أخوته وأخواته خطيباً مصقعاً ، ذرب اللسان ، بليل الريق ، جزل الخطاب ، قوي العارضة ، تخلب أقواله كل سامع. كيف لا يكون كذلك وقد ركِبَ من الأمور أكتافها ، واقتعد ظهور المكاره ، وحلب الدهر أشطره فأصبح طويل الفكرة ، دائم التدُّبر ، ولذا لا تعجب إذا قلتُ لك أنهُ غدا لقمان أوانهِ ، وسبحان زمانهِ ، وسليمان عصره ، وقسَّ دهره أجل أنهُ لكذلك لاسيما وقد رأى أنداده ولدَاتهِ ، قد اخترمتهم المنية عند الظهر ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت ، كأنهم خلائق نجت نجاة سعيدة من مساوئ الشيخوخة ، التي كانت تحلُّ بهم لو كانوا بلغوا مداها. ولهذا يحقّ لهذا الشيخ الجليل ، لقمان هذه الدويبات أن يقصّ على أحفاده الأخبار المتواترة التي تروي أموراً كلها عجائب وغرائب لم تدر في خلد أصحاب التواريخ المدوَّنة. وعليهِ ، جمعهم ذات يوم ، وهم كلهم أقوام من جنسهِ ، في مقتبل الشباب ، وغض الأهاب ، عمرهم ساعة. ثم قال لهم: هلمَّ أيها الشبان اسمعوا وعُوا. . . وما قال هذه الكليمات إلَاّ ورأيتهم جميعهم آذاناً صاغية ، وقلوباً واعية. ثم أخذ يتكلم وهو يتحدَّر السيل ، ويتدفق تدفق اليعبوب ، كأنَّ الله فجَّر ينابيع الحكمة على لسانهِ ، وأراه الغيب من وراء ستر رقيق شفاف. أما الجلَاّس فكانوا يطربون بغُرَر تلك الأقوال ،
ويثملون بارتشاف سلَاف الحِكم التي تزري بالدرر الغوال. وكل ما كان يرويهِ عليهم كانوا يقضون منهُ
العجب العجَاب ، ويطيبون لهُ نفساً ، ويودّون أن يسمعوه مدى الأحقاب على أن سماعهم إياه إلى المساء ليس بقليل؛ فهو عندهم بمنزلة أعوامٍ ، بل قرون. إذ الغروب عندهم من قَبيل عصر من أعظم عصور الخلق إذا بلغوه. ولنفرض الآن ، إن هذه الدويبة الذكر - لقمان ذاك الأوان على نهر هيبانيس - أزمع على الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الدنية ، لأنهُ أحسّ بدنو أجله لميل شمس النهار إلى المغيب. فجمع جميع أولاده وأحفاده من صلبهِ ولفيف أصدقائهِ ومعارفهِ ليودّعهم وداع الفراق ، ويوصيهم وصايا الأخيرة. فاحتشد جميعهم تحت ظل فُطرَةٍ ظليل. فأخذ الشيخ الجليل المحتضر يقول: يا أصدقائي ووطنييَّ ، إني أشعر بأن لا بدَّ من نهاية هذه الحياة ، لأنهُ كان لها بداءَة. ولقد حان أجلي ، وقربت ساعة وفاتي ، ولست متأسّفاً على زوال أيامي ، وتصرُّم حبل حياتي. فلقد أصبح طول عمري عبئاً ثقيلاً على كاهلي ، ولم يبقَ لي في هذه الدنيا ما يُطيّب لي فيها مرارة سُؤر رمقي. هذه الفتن والمحن وضروب النكبات أتلفت دياري ، وكثرة البلايا والرزايا أمالت قناتي ، وتتالي الأمراض والأدواء التي تحلّ بقومنا استفرغت قواي ، وتعاقب المصائب والنوائب التي ألمَّت بأهل بيتي استنفد الدماء الباقي من حياتي. كل هذا ، إذا ضُمَّ إلى ما رأيتهُ واختبرتهُ بنفسي
في حياتي هذه الطويلة ، تتحققون أن الزمان علمني هذه الحقيقة الثابتة الأركان وهي: ليس قارَّة دائمة على هذه الأرض ولا بإرادتنا ، ولاسيما إذا كانت تلك السعادة منوطة بأمور ليست بأيدينا ولا بإرادتنا ، بل بمشيئة عنايةٍ غامضة. فلقد رأيتُ طائفة من أقوامنا ماتوا عند هبوب ريح صرصر؛ وشاهدت جماعةً من شبيبتنا المتهوّرة قد غرقت في طحمة سيل جارف؛ وكنت يوماً ممن حضر فرأى مطراً مدراراً أحث طوفاناً عرمرماً اكتسح زرافات زرافت من أبناء وطننا العزيز؛ ولقد تحطمت ديارنا ذات يومٍ كل محطَّم بعد أن سقط بَرَد هائل القدر أمات ربواتٍ وربواتٍ من أخوتنا المظلومين. وزيدوا على ذلك أن قوماً منَّا إذا رأوا سحابةً سوداء قالوا في أنفسهم: إن هذه إلَاّ سحابة قوم عاد إني لقد عشَت في عصور الخلق الأولى ، في زمان الفطحل؛ وحادثتُ جماعةً عظيمة من الدويبات كنَّ أطول مني قامة؛ بل كنتُ بجانبهنَّ كأحد بني ياجوج وماجوج ، بجنب واحدٍ من بني عُوْج كنَّ ذوات بنيةٍ أقوى من بنيتي ، وذوات حكمةٍ تزري بحكمة سليمان. ولهذا اعلموا ، يا سادتي ، إن كل ما أنطق وأتفوَّه بهِ ، لا يشوبهُ ريب ، ولا يخامره شك. وليس
في نيتي أن أخدع واحداً منكم يا قومي ، صدّقوا كل ما أقوله لكم ، وتأكَّدوا أن الشمس التي ترونها الآن متسترة وراء المياه ، ويخيَّل إلينا أنها غير بعيدة عن الأرض ، رأيتها سابقاً قد تكبّدت السماء ، قاذفةً سهام أشعتها مصوّبةً إياها علينا؛ وكانت الأرض في ذلك العهد العهيد سابحةً في سبحات وجه الله ، أكثر
مما هي عليهِ في هذه العصور المتأخرة؛ وكان الهواء أجف من هذا السكاك ، وأحرَّ منهُ؛ وكان أجدادنا الفضلاء أصحاب جدٍّ وكدٍّ وجلَد وقناعة سامية يا قومي ، إن حواسّي وإن كان قد فلَّ غربها ، وكلَّت شباة ذاكرتي ، إلَاّ أني أؤكد لكم أن هذا النجم المتلألئ المجيد ، يتحرَّك ويسير. ولقد رأيتُ بزوغهُ الأول من ورآه قمة هذا الطود الباذخ ، ونشأتُ في الوقت الذي أخذ يرتفع رويداً رويداً على الأفق ، ويخطو بعد ذلك في السماء خطوات جبَّارٍ عنيد من أعظم الجبابرة قوةً وحولاً وطولاً وهولاً. ولقد تقدَّم في السماء تقدُّماً حثيثاً مدة إعصار متطاولة متتالية ، وهو يقذف حرارةً غريبة ، وأنواراً عجيبة ، لا يمكنكم أبداً أن تتصورها ، إن لم تروها بعيونكم؛ بل ما كان يمكنكم أن تحتملوا أمريهِ الأمرين أما الآن ، وقد قارب الأُفول ، وإن يوارى في قبور المياه ، أرى أن أفراد هذه الأمة كلها سائرة ، بل صائرة إلى الزوال والاضمحلال الوشيك ، وتسجَّى هذه الدنيا الغرور بأكفان الظلمات ، في أقلّ من مائة من الدقائق واحرَباه! يا أصدقائي ، واحرباه! ما أعظم ما كان غروري في سابق العهد ، في عنفوان شبابي ، وغضاضة إهابي! كنتُ إخالني من الخالدين المقيمين في هذه الأرض! وإن ليس من شيءٍ في هذه الدنيا يستطيع أن يتغلّب عليَّ ، ويُفنى جواهر بدني ، وعناصره المتركب منها! وكنت إذا نظرت إلى مساكني التي كنت قد نحتّها في الصلصال