الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أزهار وأشواك
حول الرتب والنياشين
عيّن بوالو الشاعر الفرنسوي الشهير في القرن السابع عشر مؤرخاً للملك الكبير لويس الرابع عشر يدوّتن أهم أخبار البلاط وحوادث المملكة على عهده. ولما عاد الملك إلى باريس من إحدى حروبه ، وقد أحرز النصر تلو النصر ، رفع إليه الشاعر قصيدة اشتهرت بمطلعها حيث قال ما معناه: أيها الملك العظيم كفَّ عن الانتصار أو أكفَّ أنا عن الكتابة يعني بذلك أن الملك ينتصر في كل حرب بأسرع مما يقدر المؤرخ على تدوين خبر الانتصار. . . وأنا ، وليس لي مقدرة بوالو في الكتابة ، أكاد أقول لسموّ أفندينا العباس: يا أميري كفَّ عن الإنعام على الأدباء ، أو أكفّ أنا عاجزاً عن تهنئتهم وشكر آلائك إذ أنني ما كدت أفرغ من تهنئة حافظ برتبه ، وتهنئة خليل بنيشانه ، حتى وافتني الجريدة الرسمية زاهيةً بخير الإنعام على جرجي زيدان بالرتبة المتمايزة. ومع ذلك فقد قابلتُ هذا الخبر كما قابله جميع قرّاء العربية بالارتياح التام ، لأن جميع قرّاء العربية يعرفون ما لصاحب الهلال من الفضل الجمّ والأدب الغزير فكانت هذه الرتبة مكافأة عن ربع قرن قضاه في التأليف والتصنيف: وإذا سعى البعض إلى الرتب والنياشين بمأثرةٍ باهرة أو بثروة طائلة ، فإن الرتبة سعت إلى زيدان بك اعترافاً بأنهُ لم يعش إلا ليتب ولم يكتب إلا ليفيد. وليس مثل هؤلاء الأدباء بالعدد العديد.
أقتطف من الرسائل الواردة باسمي إلى إدارة مجلة الزهور شيئاً عن الرتب والنياشين ، لأن هذا الموضوع حديث الناس في هذه الأيام. كتب لي أحد القراء من مصر يقول ما كان أصدقك يا حاصد في تعليقك على رتبة حافظ حيث كتبت: فإذا نحن قلنا الشاعر حافظ إبراهيم عرفهُ كل ناطق بالضاد. ولكننا إذا قلنا عزتلو الوجيه بك إبراهيم لا يعرفهُ إلَاّ بواب منزله وفرَّاش الكتبخانة. وقولك هذا يصح في كل أديب كبير ، فقد حدث منذ أيام في نظارة المعارف ما أُبت ذلك: كان صاحب الهلال ، بعد الإنعام عليهِ بالرتبة ، في النظارة ، وكان هناك أحد كبار علماء الهند. فعرَّف الناظر الواحد إلى الثاني ، قائلاً زيدان بك فلم يُعره العالم الهندي كبير التفات لظنهِ أنهُ أحد البكوات - والبكوات في مصر أكثر من الهمّ على القلب - فأدرك الناظر الأمر ، وأراد أن يستدرك ما فات فما لبث أن ذكر جرجي زيدان منشئ الهلال فقام الهندي إليهِ وصحافهُ مصافحة
الاعتبار والإجلال مثنياً على تآليفهِ وأعماله الأدبية. . . فما أجمل مغزى هذه الحادثة وما أبلغ. . . وكتب إليَّ قارئ من الأرياف يقول: كثرت المؤامرات في هذا الصيف وإنني لأكاد أرى في رتب أدبائنا واحدة منها ، وما المتآمرون إلَاّ عصبة من الباشاوات والبكوات. فإن حافظاً وخليلاً وزيدان كانوا بصفتهم الأدبية يُعدّون في طليعة أهل البلاد قبل هؤلاء الباشاوات والبكوات. فدبَّر لهم المتآمرون هذه المكيدة ، وقد انطلقت عليهم الحيلة فأصبح حافظ برتبتهِ الثانية ، وخليل بنيشانهِ الثالث ، وزيدان برتبتهِ
المتمايزة بعد فلان باشا ، ودون هذا يحمل العثماني أو المجيدي الأول ، وذاك الذي يرفل في كسوة الميرميران أو الأولى صنف أول. وبهذه المناسبة اقترح على الحكومة - وهي مهتمة الآن لإعداد ميزانية مصالحها وإيجاد المال اللازم لإنفاذ المشروعات النافعة للبلاد - أن تضع رسماً على حاملي الرتب والنياشين. ومهما كان هذا الرسم زهيداً فإنه يعود على الحكومة بإيراد وافر يسد شيئاً كثيراً من حاجاتها بسبب كثرة الذين ستتناولهم هذه الضريبة. ولكان هذا الإيراد يزيد أضعاف الأضعاف ، لو ضوعف الرسم على البهوات التقليد. ف نك لو مررت حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً في ميدان باب الحديد أو في ميدان الأوبرا ، لتمزقت أذناك من ترديد حمار يا بك؟ أجي يا بك؟ ولو كان بينك وبين البكوية مراحل. . . وفي الختام أورد لقرأئي الآتية وقد روتها الجرائد الفرنسوية في الشهر الفائت قالت: لقي بوليس باريس قرب الشانزليزه شاباً متقلداً شارة اللجيون دونور ، فرابه أمره لاعتقاده أن مثل هذا الوسام لا يحمله إلا الشيوخ الذين أتوا في حياتهم أعمالاً جليلة. فأخذه إلى أقرب مخفرٍ هناك. فسئل الشاب عن اسمه ولقبه وسبب تقلده شارة هذا النيشان العظيم الشأن ، فأجاب بكل بساطة أنا عما نوئيل ملك البرتغاال السابق فانحنى سائله أمامه باحترام ، واعتذر له بما حضره من الكلام.
حاصد