الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 25
- بتاريخ: 1 - 6 - 1912
النذل
في قاموس اللغة وفي قاموس العالم
النذل في القاموس الخسيس الساقط. فهل تعلم معنى هاتين اللفظتين؟ هما في القاموس أيضاً تجمعان في طيّهما معاني الحقارة ، والسفالة والرذيلة والنقص والجبن ، وما سوى هذا من المترادفات. ولكنني لا أخالك قد فهمتَ المعنى الحقيقي. إنَّ قواميس اللغة تنتقل بك من لفظةٍ إلى لفظة ، وتفسّر لك كلمةً بكلمة. دعها إلى جانب ، وهلمَّ بنا إلى هذا القاموس العظيم ، قاموس العالم ، وإليك منهُ الرواية التالية فقد حدثت وقائعها في مصر ، في مثل هذه الأيام من السنة الماضية ، كلفَ فتىً بفتاة. جارانِ تجاور بيتاهما ، كما تحابَّ قلباهما. والحبُّ
نظرة فابتسامةٌ فسلامٌ
…
فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
وتشاكيا ما بهما. الوجد في نفسها ، والنار في كبده. والقلوبُ
أرقُّ ما تكون ، في صدورٍ لم تنفتح للحب ، ولم تدر معنى الغرام. فهي حينئذ كذلك الغشاء الرقيق من الجلاتين تُلصق على الزجاج في الآلة المُصوّرة؛ فإذا تناوله النور لمحةً أثر فيهِ ، فانطبعت عليهِ صُوَر ما يمرُّ حياله في خلال تلك اللمحة وعفَّت فتأدب. ووقف لهما غرورُ الشباب وقفةَ العدوّ الغادر. يهزُّ الفتاة ويدفعها فتردّهُ بعفَّة البكر ، ويهيجُ الفتى ويغالبهُ فيتّقيهِ بأدب الحبّ وأعانت الأيام على الجوى والهيام. فتلاقيا على ضفاف النيل ، وتفيئاً ظلال الأهرام ، وتسامرا من نافذَتي بيتيهما تحت بريق النجوم في سكون الظلام ، فما زادتها الليالي إلَاّ جوًى ووجداً ، وما زادته إلَاّ صبابة وهياماً ولما فاض القلبان بالحبّ ، ولم يبق في قوس الصبر منزع ، حدَّث الفتى أهلهُ بأمره ، وقصَّت الفتاة حكايتها على ذويها. قال بأبي هذه التي أحبُّ ، وقالت يا أمِّ هذا الذي أريد. أنا الأمُّ فرضيت ، وأما الأب فأبى. ولكنَّ الإِباء أجَّج نار الغضا بين ضلوع الفتى ، فالتظى قلبهُ بالشوق والتهب لوعةً وجوى؛ وشجَّع الفتاة من أُمها الرضي ، فتمادت في الوجد وتطوَّحت في الهوى. ولم يكن للعاشقين سبيل إلى السلوى ، فانقطع هو إلى القنوط ، وتعلَّلت هي بالمنى. حتى إذا غلب اليأس على الرجا ، وفتَّ في ساعد الفتى وقد سامهُ الشوق صبراً ، اندفع مع غرور الصبي ، وحببَّ اليأس إلى نفسه الردى ، فهوى بهِ الغرور إلى ذلة الانتحار فهوى وما ارعوى
قال: أما الحياة فقد
مرَّرها أبي ونغَّصها عليَّ فلأجعلنَّ حياته مرَّةً منغَّصة ، ولأنتقمنَّ لنفسي منهُ شرَّ انتقام. إني أموت فأشقُّ قلبه حزناً عليَّ ، وأفتّت كبده تفجعاً وغماًّ ، فلا يعيش بعدي ، ولئن عاش فلِيستنفدَ دموع عينيهِ ، ولتعذّبهُ الشيخوخة حتى يجرَّه العذاب إلى القبر. . . ولكن هبني قدمتُّ ، وانتقمت بموتي من أبي ، فكيف أطيق أن تحيا الحبيبة بعدي؟ أأرضي لها الحياة لكي يتلاشي الحبّ في نفسها فتنساني وقد لا تلبث أن تعلق بغيري فتلقم قبري حجراً؟ إنما قلوب النساء كالعصافير تتنقَّل من غصنٍ إلى غصن ، فإذا استقرَّت فريثما يقف اهتزاز الفنن الذي استقرَّت عليهِ!. . وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ، فمن الظلمِ أن يموتَ الحبيب وحده ، وتعيش الحبيبة بعده!!. . ثم كاشف فاتنتهُ بهذا الرأي ، وبسط أمامها أفكاره وأمانيّه ، فزجرتهُ فما ارعوى وإنما أثار تأنيبها في نفسهِ نزقَ الشباب فتصلَّب وأبى إلَاّ أن يموتا معاً. وخافت الفتاة أن تتَّهم في حبّها ووفائها فقالت له: أنت لست بأشدَّ حباًّ لك ، ولست بأشجع قلباً ، وأشدّ بأساً. الحبُّ ساواني بك وما آثرك عليَّ في شيء. إن كنت رجلاً فأنا امرأة. إنما المرأة أرقّ شعوراً من الرجل ، وأكثر تمادياً في الحبّ ، واندفاعاً مع الشهوات. ولقد شئتَ لي أن أموت معك فلتكن مشيئتك فيَّ يا ربّ فمدَّ الفتى يده وشدَّ على يد الفتاة فتعاهدا على الردى. ثم افترقا على هذا العزم بغيةَ أن يضمّهما القبر ، ولم يضمّهما القصر ، وإرادةَ أن يجمعهما الموت ولم تجمعهما الحياة
الانتحار جبن والمنتحر جبان قد ييأس امرئٌ فيرى الفرج في الموت ، وقد يدفع صاحبه إلى مهواة الرَّدى تخلصاً من متاعب الحياة ، وفراراً من نائبات الدهر. ولكنَّ الانتحار ، مهما تنوَّعت أسبابه ، واختلفت دواعيه ، ليس إلَاّ دليل الخوَر والجبن ، والذلَّة والصغار ، فالمنتحر جباز وإن استبسل في طلب الموت. لولا الجبن لم يكن الانتحار!
شلَّت يده! صبَّ لنفسه. فالسُمُّ في كأسها ، والسمُّ في كأسهِ ودنا الموت من شفتيها ،
ودنا الموت من شفتيهِ. يا ويح لحظّهما! كلاهما غضُّ الصبي ، رطب الأهاب ، وكلاهما والهٌ تيَّمهُ الحب ، وبرَّح به الجوى!
حمل الكأس إلى شفتيهِ ، فاهتزَّت بها يمناه ، وارتجف لها قلبه. وأُدنت الكأس من شفتيها فما اهتزَّت يمينها ، ولا خفق فؤادها
وتلاقى الناظران من النافذتين ، ففي مقلتها دمعة ، وفي عينهِ جمرة!!
هي فتاة وهو فتى! هي امرأة وهو رجل! هي شربت ، وهو. . لم يشرب!
الفتاة شربت كأسها حتى الثمالة ، والتي صبَّ كأسه على الأرض!
هل عرفت الآن معنى النذالة ، ومعنى قولهم: فلان نذل؟!!