الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسنة، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذه جيش أسامة
بن زيد رضي الله عنهما (ت: 54 هـ):
إن من أهم الأوصاف الإيمانية التي يجب أن يتحلى بها الداعي قوة اليقين بأن وعد الله تعالى حق وقول رسوله صلى الله عليه وسلم صدق، وهذه القوة في اليقين هي التي جعلت الصديق رضي الله عنه يقول من غير تردد: إن كان قال فقد صدق. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءت قريش إلى أبي بكر يحدثونه عن الإسراء والمعراج وهم لا يشكون بأن ذلك سيفتنه (1).
إن على الداعي أن يكون متيقنا كامل اليقين بأن الله ناصر دينه، ومعل كلمته، ومعز أولياءه، وخاذل أعداءه، وبهذا يكون قد أوصد الباب أمام اليأس والقنوط من أن يتسلل إلى قلبه.
لقد عاش الصحابة الكرام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصدر خلافة الصديق رضي الله عنه في شدة عظيمة؛ لأن كثيرا من الأمة قد
(1) انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج3، مصدر سابق، ص 172.
انقلبت على أعقابها؛ فمنهم من ارتد بالكلية، ومنهم من منع الزكاة، فاشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق، إلا أن ذلك لم يثن الدعاة المخلصين ولم يفت في عضدهم، بل عرفوا كيف يتعاملون مع هذه الفتنة، وأدركوا بيقين تام أن الله تعالى ناصر الدعوة ومطفئ نار الفتنة، فعملوا جاهدين وضاعفوا الجهود بدلا من الاستسلام، واستطاعوا بفضل الله أولا ثم باجتهادهم ثانيا أن يقضوا على الفتنة، ثم بعد ذلك نشروا الدعوة في البلاد المجاورة وقضوا على القوى العظمى الكافرة في زمانهم.
وإن احتياج الدعاة المعاصرين إلى هذه الصفة احتياج ملح، بل هو ضرورة ماسة؛ لأن الداعية يواجه الناس بما يخالف معتقداتهم ومفهوماتهم في الحياة وأنواع سلوكهم بغية إقناعهم للتحول عن اتجاهاتهم التي هم فيها، والسلوك في صراط الله المستقيم عقيدة وعملا.
ومعلوم أن مفهومات الإنسان وعقائده وأنواع سلوكه جزء من ذاتيته التي يمتلكها وحده، فهو لا يتنازل عنها ما لم يقتنع بالبدائل الأفضل له لينبذها ويأخذ الأفضل ويستمسك به.
ومن طبيعة الناس أنهم حينما يجدون من يعلن خلاف معتقداتهم ومفهوماتهم في الحياة وأنواع سلوكهم، يقفون منه موقف الحذر، ما لم يجدوا الداعي يتحلى بقوة اليقين من دعوته وقوة الإرادة والوثوق من نفسه بما يدعو إليه مع الثبات ورباطة الجأش في إطار الحكمة عند العرض والبيان، فإنهم يشعرون عندئذ بأنه ناصح لهم،
وحريص على خيرهم وسعادتهم.
بهذه الصفة العالية تميز الصديق رضي الله عنه في تنفيذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما. قالت عائشة رضي الله عنها (ت: 57 أو 58 هـ): لما بويع أبو بكر، وجمع الله الأنصار عليه ارتدت العرب قاطبة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم.
فقال أبو بكر: ليتم بعث أسامة، ولينفذ جيش أسامة.
فقال له من حوله: إن جيش أسامة هو معظم المسلمين، عندك، وقد ارتدت العرب، ولا ينبغي لك أن تفرق جماعة المسلمين. فلا بد أن يكونوا عندك.
فقال أبو بكر: والله لا أحل لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في المدينة أحد غيري لأنفذته.
وقال أيضا: أنا أوقف وأحبس جيشا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أكون إذا اجترأت على أمر عظيم. والذي نفسي بيده لأن تميل علي العرب أحب إلى من أن أحبس وأوقف جيشا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. امض يا أسامة في جيشك الذي أمرت به، ثم اغز من حيث أمرك
رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، واعلم أن الله سيكفينا من وراءك وفي رواية أنه قال: والله الذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب أرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
بهذا الحرص التام على تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف الصديق رضي الله عنه أمام من أشار عليه ببقاء الجيش في المدينة خوفا على الدعوة في معقلها الأساس، وأمر أسامة بتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وقال لعمر رضي الله عنه بعدما طلب منه تغيير أسامة لصغر سنه: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة، وأوصاهم وأمرهم بالمسير.
وبدأ المسير، والصديق رضي الله عنه معهم يسير ماشيا وأسامة راكبا، ولما يبلغ العشرين، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: والله لست بنازل ولست براكب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
(1) المصدر السابق 17.
ولما كان عمر رضي الله عنه جنديا في جيش أسامة، وكان أبو بكر بحاجة إليه في تسيير أمور المسلمين، فقد استأذن أبو بكر أسامة في أن يبقي عنده عمر، فقال له: إن رأيت أن تبقي عمر عندي في المدينة. فوافق أسامة على ذلك، ولهذا كان عمر لا يلقى أسامة بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير.
وسار أسامة رضي الله عنه في جيشه حتى وصل تخوم البلقاء، فأغار على العرب هناك وهم أعوان الروم، فقتل منهم وسبى آخرين ورجع إلى المدينة، ولم يفقد أحدا من المسلمين بعد أن حقق ما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم منه، واستغرق ذلك أربعين يوما.
وقد أثمر هذا الموقف الذي وقفه الصديق رضي الله عنه للدعوة ثمرة عظيمة؛ لأن أسامة رضي الله عنه لما سار بجيشه صاروا كلما مروا بقبيلة من العرب قال أفرادها: لولا أن المؤمنين أقوياء في المدينة لما بخرج من عندهم هذا الجيش، فخافت تلك القبائل، وتخلت عن مواجهة المسلمين في المدينة.
ومن هنا يظهر لنا جليا أن التمسك بالأثر من أهم ضوابط العمل الدعوي التي بمراعاتها يكون العمل صالحا مقبولا.
ولم يكن الصديق وحده المتمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يعتنون غاية العناية بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه، فصاروا موازين يرجع الناس إليهم عند الاختلاف، فبهم تعرف السنة والبدعة؛ لأنهم حفظة الكتاب والسنة، وحملة الإسلام ممتثلين قول الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
وإن هذا ليعطينا دلالة على أن من أطاع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعض على سنته بالنواجذ، فإن الله جل وعلا ينصره ويمنحه العز والشرف؛ إذ إن الصديق رضي الله عنه عندما أصر على تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم رغم تدهور الأحوال وتغيرها، وانقاد الصحابة الكرام لرأيه، وتمسكوا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلوا المستطاع لتحقيقه نصرهم الله تعالى، ورزقهم الغنائم، وألقى في قلوب الناس هيبتهم، وكف عنهم كيد الأعداء وشرهم. وإن هذا الموقف لصورة تطبيقية لقول الله عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (2).
(1) سورة الحشر الآية 7
(2)
سورة الأحزاب الآية 36