الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتصوره، كقوله:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} (1)، {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (2) وقد يستعمل فيما ينكر باللسان، وسبب الإنكار باللسان هو الإنكار بالقلب لكن ربما ينكر اللسان الشيء وصورته في القلب حاصلة، ويكون في ذلك كاذبا كقوله:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (3) وقوله: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} (4).
وفي الاصطلاح: المنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم الشريعة بقبحه، وإلى ذلك قصد بقوله:{الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5)، {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (6)(7)
(1) سورة هود الآية 70
(2)
سورة يوسف الآية 58
(3)
سورة النحل الآية 83
(4)
سورة غافر الآية 81
(5)
سورة التوبة الآية 112
(6)
سورة المائدة الآية 79
(7)
المفردات ص 505
المطلب الثاني: مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يرد في القرآن الكريم أحيانا وعد من الله للآمرين بالمعروف
والناهين عن المنكر بالفوز والنجاة كما في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1).
ومادة الفلاح في اللغة بمعنى: البقاء والظفر وإدراك المنية، وذلك ضربان: ديني ودنيوي؛ فالدنيوي الظفر بالسعادة التي تطيب بها حياة الأمة. والديني الظفر بعمل الطاعات. ومنها قول المؤذن: (حي على الفلاح) أي: الظفر الذي جعله الله لنا بالصلاة (2).
فالذي يقوم بتنفيذ أمر الله بالقيام بالواجب الذي كلف الله به أولياءه ابتغاء مرضاة الله فإنه يدرك مناه، ويظفر بموعود مولاه بالفوز الذي لا نظير له، وهو الجنة التي وعدها الله المتقين الأبرار؛ ذلك لأنهم اشتغلوا بدلالة الناس إلى الخير والمعروف، يقومون برسالات الله متأسين في ذلك بخير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه سبيله كما في قوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) فختم الله الآية التي فيها الدعوة إلى الخير بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4)
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك؛ لأن هذه الجملة حال من (أمة).
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2)
بصائر ذوي التمييز 4/ 213.
(3)
سورة يوسف الآية 108
(4)
سورة آل عمران الآية 104
فأمة الإسلام حالها يهتم بالدعوة إلى الخير وأفرادها كذلك، فكل عضو في هذه الأمة همه الدعوة إلى الخير، والقيام به آناء الليل وأطراف النهار؛ فلذا كتب الله لهم الفلاح وبشرهم به، فتجد في حياتهم الراحة والأنس مع أنهم يجهدون أنفسهم ويبذلون أوقاتهم وأموالهم ويسخرون كل ما آتاهم الله من فضله في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك بسبب ما حباهم الله به من هذه البشارة.
وأما في الآخرة فهم وفد الرحمن؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (1) تتقدمهم الملائكة وتبشرهم، ويؤمنهم الله من الفزع الأكبر؛ لقوله:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} (2) فالرحمن سبحانه وعدهم بأنه سيجعل لهم ودا؛ لقوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (3).
ومما يدل على مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (4)
(1) سورة مريم الآية 85
(2)
سورة النمل الآية 89
(3)
سورة مريم الآية 96
(4)
سورة آل عمران الآية 110
قال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام.
وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية.
وقال عمر: من فعل فعلهم كان مثلهم (1).
نالت هذه الأمة الخيرية والتفضيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذا فقد بشر الله بهذه الأمة في الكتب السابقة وبين بأنها خير أمة؛ لأن المنقادين إلى الله منهم أكثر؛ ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، ومتى ما قل فيهم الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: بمعنى يتركون الأمر ويرون المنكر ولا يغيرونه فإن ما ميزهم الله به من التفضيل يزول ويحل محله ما يكون سببا في دمارهم وهلاكهم.
وختم الله الآية بقوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) لأن ذلك التفضيل قد كان لأهل الكتاب؛ لقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3)، يذكرهم نعمه التي أنعم بها على آبائهم: اصطفاؤه منهم الرسل وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض وتفجير عيون الماء من الحجر وإطعام
(1) تفسير القرطبي 4/ 170.
(2)
سورة آل عمران الآية 110
(3)
سورة البقرة الآية 47
المن والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكونوا على ذكر من هذا التفضيل والتكريم، وألا ينسوا نعم الله إلى آبائهم فيحل بهم من النقم ما حل بمن نسي نعمه وكفرها.
على العالمين أي. عالمي زمانهم وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى وبعده قبل أن يغيروا. وتفضيل الآباء شرف الأبناء، فقد غمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى هذا التفضيل، فنبههم الله بقوله:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (1) وفي هذا إشارة إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل والشرف مع ما فيه من التعريف بهم؛ لأنهم مترددون في اتباع الإسلام، وعلى سبيل المثال: وفد نجران ترددوا في أمر الإسلام، فقد ذكر المفسرون أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة، قال لهم العاقب: لا نلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقبنا من بعدنا، فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة.
وفائدة التذييل في هذه الآية: كون الحق عز وجل نوه في أول الآية باليهود والنصارى؛ لأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، والإيمان خير لهم، فقال:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (2) من أجل أن يعلمهم بما يبعث في نفوسهم الخير (3).
خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ثم بين الله فقال:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (4)
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2)
سورة آل عمران الآية 110
(3)
تفسير القاسمي 2/ 114، 120.
(4)
سورة آل عمران الآية 110
وهذا ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان فهو خير لهم في هذه الدنيا يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية والاجتماعية، وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير، ثم هو بيان كذلك لحالهم لا يبخس الصالحون منهم حقهم فقال:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وقد آمن من أهل الكتاب جماعة، وحسن إسلامهم منهم عبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية، وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال وفي آية تالية بالتفصيل، أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين وفسقوا عن دين الله (2).
ومما يدل على مكانة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إسلامنا أن جعله الله أشرف صفة يتصف بها هذا المؤمن فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (3).
المؤمنون الباذلون أنفسهم لله بثمن ألا وهو جنة عرضها السماوات والأرض وصفهم الله بأوصاف جليلة، أول هذه الأوصاف إخلاصهم في جهادهم وإكثارهم لذكر الله والأوب والإنابة إليه وحده، مع خضوعهم لله وحمدهم له على كل حال
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2)
التحرير والتنوير 3/ 264، الآية 52 من سورة آل عمران.
(3)
سورة التوبة الآية 112
من أحوالهم، في حال صيامهم وقيامهم وجهادهم ودعوتهم وحفاظهم على الدين.
فالحكمة من تذييل هذه الآية بقوله: وبشر المؤمنين من وجوه:
1 -
أي: زف إليهم يا محمد الخبر السار الذي يشرح صدورهم ويظهر البشر على وجوههم بأن الله وليهم وسوف يعطيهم عطاء غير مقطوع.
2 -
وبشرهم بأن الله حافظهم ومؤيدهم وموفقهم إلى سواء السبيل؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (1){لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) 3 - بشارة المجاهدين في سبيل الله بالرضا عنهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (3){يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (4){خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (5) أهل الفضل جازاهم الله بالفضل، فالمؤمن الذي هاجر في سبيل الله وبذل نفسه ووقته وحياته من أجل إعلاء كلمة الله.
وختم الله هذه الآية بمنحهم الفوز وبيانه بأنهم هم
(1) سورة يونس الآية 63
(2)
سورة يونس الآية 64
(3)
سورة التوبة الآية 20
(4)
سورة التوبة الآية 21
(5)
سورة التوبة الآية 22
الفائزون، وهذه البشارة رحمة من الله وكرم لأوليائه؛ بل ومحبة لهم ثم كتب الله لهم الرحمة والرضوان، الذي هو أكبر لذة يجدها المؤمن الصادق في جنات عدن التي فيها النعيم المقيم من كل ما تتخيره نفسه وتستلذه عينه مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا الله، ولذلك ورد في الحديث زف هذه البشارة لهؤلاء المؤمنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «. . . إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض. . . (1)» .
4 -
وبشر المؤمنين أي: الراجعين إلى الله بقلوب ملؤها محبة الله والإيمان به والرغبة فيما عنده؛ ولذلك فإنهم يسارعون في الخيرات، ويتضرعون إلى الله رغبة فيما عنده، قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (2) وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه (3)، ولذلك بشرهم الله بقوله:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (4) استحقوا البشارة من الله؛ لأنهم اجتنبوا الطاغوت من عبادة الأوثان والأصنام وغير ذلك من الأهواء والشهوات، وأقبلوا
(1) الحديث من صحيح البخاري، كتاب الجهاد والبر، باب درجات المجاهدين 3/ 202.
(2)
سورة المطففين الآية 26
(3)
تفسير المراغي 10/ 82
(4)
سورة الزمر الآية 17