الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدر الله تعالى بجميع مراتبه، وإثبات العلم السابق والكتابة والمشيئة الشاملة والخلق لجميع الكائنات، وأفعال العباد كلها مخلوقة وهو لا يرى الصلاة خلف القدرية.
عقيدته في الإيمان:
جرى الإمام الشافعي رحمه الله على ما سبقه عليه غيره من علماء السلف وأئمتهم في إثبات أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وجعلوا ذلك من أصولهم التي يذكرونها ويجيبون بها أهل البدع، فمن ذلك: الإيمان قول وعمل واعتقاد القلب:
(1)
ما أخرج ابن عبد البر عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: " الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب، ألا ترى قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس فسمى الصلاة إيمانا وهي قول وعمل وعقد "(2).
الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص:
(2)
وأخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان قال: " سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص "(3).
(1) سورة البقرة الآية 143
(2)
الانتقاء ص 81.
(3)
مناقب الشافعي 1/ 387.
(3)
وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبيري قال: " قال رجل للشافعي: أي الأعمال عند الله أفضل؟ قال الشافعي: ما لا يقبل عملا إلا به قال: وما ذاك؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة وأسناها حظا. قال الرجل: ألا تخبرني عن الإيمان: قول وعمل، أو قول بلا عمل؟ قال الشافعي. الإيمان عمل لله والقول بعض ذلك. قال الرجل: صف لي ذلك حتى أفهمه. قال الشافعي: للإيمان حالات ودرجات وطبقات فمنها التام المنتهي تمامه، والناقص البين نقصانه، والراجح الزائد رجحانه. قال الرجل: وإن الإيمان لا يتم وينقص ويزيد؟ قال الشافعي: نعم. قال: وما الدليل على ذلك؟ قال الشافعي: إن الله جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسمه فيها، وفرقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى ".
فمنها: قلبه الذي يعقل به، ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره.
ومنها: عيناه اللتان ينظر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه.
فرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.
فأما فرض الله على القلب من الإيمان، فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله، نبي أو كتاب فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على القلب وهو عمله: قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (1) الآية. وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) وقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) الآية. وقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (4) الآية. فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو رأس الإيمان.
وفرض (الله) على اللسان: القول والتعبير عن القلب بما عقد وأقر به، فقال في ذلك:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (5) الآية. وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (6) الآية. فذلك ما فرض الله على اللسان من القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
وفرض الله على (السمع): أن يتنزه عن الاستماع إلى ما
(1) سورة النحل الآية 106
(2)
سورة الرعد الآية 28
(3)
سورة المائدة الآية 41
(4)
سورة البقرة الآية 284
(5)
سورة البقرة الآية 136
(6)
سورة البقرة الآية 83
حرم الله، وأن يغض عما نهى الله عنه، فقال في ذلك:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1)، ثم استثنى موضع النسيان، فقال جل وعز:{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} (2) أي: فقعدت معهم: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3)، وقال:{فَبَشِّرْ عِبَادِ} (4){الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5). وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (6){الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (7) إلى قوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (8). وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (9) الآية. وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (10) فذلك ما فرض الله جل ذكره، على السمع من التنزيه عما لا يحل له، وهو عمله، وهو من الإيمان.
وفرض على العينين: ألا ينظر بهما إلى ما حرم الله، وأن يغضهما عما نهاه عنه، فقال تبارك وتعالى في ذلك:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (11) الآية: أن ينظر أحدهم إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه.
(1) سورة النساء الآية 140
(2)
سورة الأنعام الآية 68
(3)
سورة الأنعام الآية 68
(4)
سورة الزمر الآية 17
(5)
سورة الزمر الآية 18
(6)
سورة المؤمنون الآية 1
(7)
سورة المؤمنون الآية 2
(8)
سورة المؤمنون الآية 4
(9)
سورة القصص الآية 55
(10)
سورة الفرقان الآية 72
(11)
سورة النور الآية 30
وقال: كل شيء من حفظ الفرج، في كتاب الله، فهو من الزنا إلا هذه الآية، فإنها من النظر.
فذلك ما فرض الله على العينين من غض البصر، وهو عملها، وهو من الإيمان.
ثم أخبر عما فرض على القلب والسمع والبصر، في آية واحدة، فقال سبحانه وتعالى، في ذلك:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1)، قال: يعني وفرض على الفرج: أن لا يهتكه بما حرم الله عليه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) وقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (3) الآية. يعني بالجلود: الفروج والأفخاذ، فذلك ما فرض الله على الفروج من حفظها عما لا يحل له، وهو عملها.
وفرض على اليدين: ألا يبطش بهما إلى ما حرم الله تعالى، وأن يبطش بهما إلى أمر الله من الصدقة وصلة الرحم، والجهاد في سبيل الله، والطهور للصلوات، فقال في ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (4) إلى آخره الآية. وقال: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (5)
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2)
سورة المؤمنون الآية 5
(3)
سورة فصلت الآية 22
(4)
سورة المائدة الآية 6
(5)
سورة محمد الآية 4
لأن الضرب، والحرب، وصلة الرحم، والصدقة من علاجها.
وفرض على الرجلين: ألا يمشي بهما إلى ما حرم الله جل ذكره، فقال في ذلك:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (1).
وفرض على الوجه: السجود لله بالليل والنهار، ومواقيت الصلاة، فقال في ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)، وقال:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3)، يعني بالمساجد: ما يسجد عليه ابن آدم في صلاته، من الجبهة وغيرها.
قال: فذلك ما فرض الله على هذه الجوارح.
وسمى الطهور والصلوات إيمانا في كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه صلى الله عليه وسلم، من الصلاة إلى المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة، وكان المسلمون قد صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت صلاتنا التي كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وحالنا؟ فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4)
(1) سورة الإسراء الآية 37
(2)
سورة الحج الآية 77
(3)
سورة الجن الآية 18
(4)
سورة البقرة الآية 143
فسمى الصلاة إيمانا، فمن لقي الله حافظا لصلواته، حافظا لجوارحه، مؤديا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها لقي الله مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء منها تاركا متعمدا مما أمر الله به، لقي الله ناقص الإيمان. قال: وقد عرفت نقصانه وإتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟ قال الشافعي: قال الله جل ذكره: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (1){وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (2) وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (3). قال الشافعي: ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة لم يكن لأحد فيه فضل، واستوى الناس، وبطل التفضيل. ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله في " الجنة " وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار.
قال الشافعي: إن الله جل وعز، سابق بين عباده، كما سوبق بين الخيل يوم الرهان. ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه، فجعل كل امرئ على درجة سبقه، لا ينقصه فيها حقه،
(1) سورة التوبة الآية 124
(2)
سورة التوبة الآية 125
(3)
سورة الكهف الآية 13