الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دون الشرك يغفره الله أيضا للتائبين، فلا تعلق بالمشيئة؛ ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1). فمنها عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففي آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة " (2).
وبالجملة، فمعتقد أهل السنة والجماعة في إثبات الشفاعة الذي تؤيده الأدلة في الكتاب والسنة، وعلى ذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، بل والإجماع منعقد عليه قبل ظهور المبتدعة، والعقل الصريح لا يحيل إثباتها
(1) سورة الزمر الآية 53
(2)
مجموع الفتاوى (11/ 184، 185).
المطلب الثاني: القبوريون ومن وافقهم في المعتقد:
أولا: مذهبهم في الشفاعة: إذا كانت الخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم قد أنكر الشفاعة الثابتة في الكتاب والسنة وخصوصا الشفاعة في أهل الكبائر، كما تقدم في المطلب السابق؟ فإنه قد وجد من أثبت
الشفاعة ولكن على غير الوجه الشرعي.
وغالب من يسلك هذا المنهج من يعرفون بالقبوريين، وهم الذين يتعلقون بالقبور وبأصحابها الأموات ويعظمونهم، ومن نحا نحوهم، موافقين في ذلك المشركين والنصارى، الذين نفى الله تعالى شفاعتهم في القرآن الكريم وأبطلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند بيان افتراق الناس في مسألة الشفاعة: " وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان ووسط، فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب، كالنصارى، ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن. . "(1).
وقد أخبرنا الله تعالى عن المشركين الذين زعموا أن أصنامهم وتماثيلهم تشفع عند الله بقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) وقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3).
ولقد تقدم لنا أن الشفاعة الثابتة في الآخرة لا بد لها من شروط، وهي إذن الله تعالى للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له، وأن الله لا يرضى إلا عن المؤمنين الموحدين،
(1) اقتضاء الصراط المستقيم المخالفة لأصحاب الجحيم (2/ 821) وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص (235).
(2)
سورة الزمر الآية 3
(3)
سورة يونس الآية 18
فالأمر كله لله تبارك وتعالى، ولكن القبوريين وأشباههم خالفوا ذلك، فأثبتوا الشفاعة لأوليائهم الأموات، وطلبوها منهم في الحياة الدنيا، كما طلبها المشركون من أصنامهم، والنصارى من رهبانهم.
ومن الشبه التي استدل بها القبوريون اعتقادهم أن أولياءهم أو أصنامهم ونحوها ستشفع لهم عند الله حتما إذا استشفعوا بها، وقاسوا هذه على الشفاعات الدنيوية المعروفة بين الناس، وذلك من حيث لزوم الشفاعة وتحقق وقوعها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا ذلك: " المشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم، فيستشفعون بها ويقولون: هؤلاء خواص الله فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل الملوك بخواصهم، لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره، فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة ".
وقال العلامة ابن القيم مصورا كيفية حصول الشفاعة في نظر هؤلاء بعد عرضه زيارة الموحدين للقبور، ثم زيارة المشركين لها.
قال رحمه الله تعالى: " وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد، وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه. فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكأنه صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله تعالى، قالوا: " فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه؟ صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه من نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان، من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه، وذمهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم " (1).
ونرد على هذه الشبهة بأن نقول: إن الشفاعة عند الله ليست
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم (1/ 219).
كالشفاعة عند البشر، فالشفاعة عند البشر قد تحصل بدون إذن المشفوع إليه، أو بدون رضاه عن المشفوع له لسبب من الأسباب، بخلاف الشفاعة عند الله تعالى: فلا تحصل إلا بعد إذنه عز وجل للشافع ورضاه عن المشفوع له، فليس حصول الشفاعة عند الله تعالى: أمر مطلق لازم، وإنما هو مقيد بشروط لا تتحقق عند هؤلاء، وأن الله سبحانه وتعالى: قد نفى الشفاعة الشركية التي يتعلق بها أولئك المشركون ومن وافقهم، وأبطل هذه الشفاعة في مواضع كثيرة من كتابه، ومن ذلك قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (2) وقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ساق الآيات وأمثالها: " فهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين، حتى صوروا تماثيلهم وقالوا: استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا: نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله
(1) سورة الأنعام الآية 51
(2)
سورة الأنعام الآية 94
(3)
سورة البقرة الآية 255
ورسوله، وذم المشركين عليها وكفرهم بها " (1).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى موضحا وجه كون الشفاعة المنفية في القرآن الكريم هي الشفاعة الشركية: " الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه هو الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله: فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه "(2).
أما ظنهم وزعمهم أن من يعظمون تحصل لهم الشفاعة عند الله تعالى فهو لا دليل عليه، بل هو مخالف للشرع والعقل. وعلى أي حال فإن شفعاءهم المزعومين إما أن تكون أصناما أو تماثيل لا نفع فيها ولا ضر، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} (3).
(1) مجموع الفتاوى (1/ 151).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 222).
(3)
سورة الفرقان الآية 55