الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدلة الدالة على عدم النجاسة، مع أن الأصل في المياه هو الطهارة ما لم يطرأ عليها ما ينجسها، وما ذكروه من التعليل بأن الحدث نجاسة حكمية هذا لا يصح؛ لأن المسلم لا ينجس. والله أعلم.
المسألة الثانية: هل الماء المستعمل طهور أم أن الاستعمال يسلبه الطهورية
فيكون طاهرا غير مطهر؟
وهذه المسألة قد وقع فيها خلاف كبير ومشهور على قولين:
القول الأول: أنه طاهر مطهر: وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وسفيان الثوري، وأبي ثور والزهري، والأوزاعي ومالك في أشهر الروايتين عنهما، وروي عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة رضي الله عنهم.
وهو أيضا إحدى الروايات عن أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد اختارها ابن عقيل وأبو البقاء، وإليه مال صاحب الشرح الكبير وقواه صاحب الإنصاف، وهو مذهب الظاهرية، وقول ابن المنذر واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الأدلة:
1 -
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) قال ابن المنذر - يرحمه الله - فلا يجوز لأحد أن يتيمم وماء طاهر موجود.
2 -
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (2) قال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: " وطهور على مثال شكور وصبور، إنما يستعمل فيما يكثر منه الفعل وهذا يقتضي تكرار الطهارة بالماء ".
3 -
حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء في يده فبدأ بمؤخر رأسه إلى مقدمه ثم جره إلى مؤخره (3)» .
4 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب (4)» . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وجه الدلالة: أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي ميمونة قد اغتسلت في الجفنة من الجنابة، والنبي صلى الله عليه وسلم توضأ منها وأنكر على زوجه لما قالت: إنها اغتسلت فيها من الجنابة فقال: «إن الماء لا يجنب (5)» فدل على طهوريته.
5 -
من جهة القياس: أن رفع الحدث بالماء مرة لا يمنع من رفعه به ثانية كرفعه من آخر العضو بعد تطهير أوله.
(1) سورة النساء الآية 43
(2)
سورة الفرقان الآية 48
(3)
سنن النسائي كتاب الطهارة (95)، سنن أبو داود الطهارة (117)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 122).
(4)
سنن الترمذي الطهارة (65)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (370).
(5)
سنن الترمذي الطهارة (65)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (370).
قال ابن حزم: " وأما من الإجماع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن كل متوضئ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه وهكذا كل عضو في الوضوء وفي غسل الجنابة، وبالضرورة والحس يدري كل مشاهد لذلك أن ذلك الماء قد وضئت به الكف وغسلت ثم غسل به أول الذراع ثم آخره، وهذا ماء مستعمل بيقين ".
6 -
ما ذكره ابن حزم أيضا حيث يقول: " ثم إنه يرد يده إلى الإناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو، فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر ".
7 -
أنه ماء طاهر لاقى بدنا طاهرا فلم يسلبه الطهورية.
قال ابن المنذر رحمه الله: " فأجمع أهل العلم على أن الرجل المحدث الذي لا نجاسة على أعضائه لو صب ماء على وجهه أو ذراعيه فسال ذلك عليه وعلى ثيابه أنه طاهر لاقى بدنا طاهرا، وإذا ثبت أن الماء المتوضأ به طاهر وجب أن يتطهر به من لا يجد السبيل إلى ماء غيره ولا يتيمم وماء طاهر موجود؛ لأن في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك (1)». فأوجب الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الوضوء بالماء والاغتسال به على كل من كان واجدا له ليس بمريض ". اهـ.
(1) سنن الترمذي الطهارة (124)، سنن النسائي الطهارة (322)، سنن أبو داود الطهارة (332)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 180).
8 -
أن ما أدي به الفرض مرة لا يمتنع أن يؤدى به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا من موضع واحد، وكما يخرج الطعام في الكفارة ثم يشتريه ويخرجه فيها ثانيا، وكما يصلي في الثوب الواحد مرارا.
وقد نوقشت بعض هذه الأدلة بمناقشات نذكر منها:
1 -
الآية الكريمة قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) أجيب عن الاستدلال بها من وجهين:
(أ) عدم التسليم بأن فعول تقتضي التكرار هنا؛ لأنها تأتي في العربية للتكرار ولغيره.
(ب) أن المراد بطهور: المطهر والصالح للتطهير والمعد لذلك.
2 -
الاحتجاج بحديث الربيع وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بفضل ماء كان في يده (2)» .
وأجيب عنه بأن هذا لفظ أبي داود في سننه وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد رواه مسلم وأبو داود وغيرهما عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فذكر صفة الوضوء إلى أن قال: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه (3)».
قال النووي رحمه الله: " وهذا هو الموافق لروايات
(1) سورة الفرقان الآية 48
(2)
سنن أبو داود الطهارة (130).
(3)
صحيح البخاري الوضوء (199)، صحيح مسلم الطهارة (235)، سنن الترمذي الطهارة (32)، سنن النسائي الطهارة (97)، سنن أبو داود الطهارة (120)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (434)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 38)، موطأ مالك الطهارة (32).
الأحاديث الصحيحة في أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدا "، قال: " فإذا ثبت هذا فالجواب عن الحديث من أوجه:
(أ) أنه ضعيف فإن راويه عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف عند الأكثرين، وإذا كان ضعيفا لم يحتج بروايته ولو لم يخالفه غيره، ولأن هذا الحديث مضطرب عن عبد الله بن محمد، قال البيهقي: قد روى شريك عن عبد الله في هذا الحديث " فأخذ ماء جديدا فمسح رأسه مقدمه ومؤخره ".
(ب) لو صح لحمل على أنه أخذ ماء جديدا وصب بعضه ومسح رأسه ببقيته.
(ج) يحتمل أن الفاضل في يده من الغسلة الثالثة لليد.
3 -
أما الجواب على دليل القياس على الماء المتردد على العضو الواحد فقالوا: إنا لا نحكم بالاستعمال ما دام مترددا على العضو بلا خلاف فلا يؤدي إلى مفسدة ولا حرج.
4 -
الجواب عن القياس على التراب الذي تيمم به جماعة والكفارة وكذلك الثوب: أما التراب فجوابه أن المستعمل ما علق بالعضو أو سقط عنه على الأصح، أما الباقي في الأرض فغير مستعمل، فليس كالماء.
أما طعام الكفارة فقالوا: إنما جاز أداء الفرض به مرة أخرى لتجدد عود الملك فيه فتطهيره تجدد الكثرة في الماء ببلوغه قلتين ونحن نقول به على الصحيح.
وأما الثوب فقالوا: إنه لم يتغير من صفته شيء فلا يسمى مستعملا بخلاف الماء.
القول الثاني: أن الماء المستعمل طاهر غير مطهر، وهو مذهب الشافعي والمذهب عند الحنابلة ورواية عن مالك وعن أبي حنيفة.
الأدلة:
1 -
حديث الحكم بن عمرو رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة (1)» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي: حديث حسن.
وجه الاستدلال: أن المراد بفضل طهورها ما سقط من أعضائها؛ لأن الباقي في الإناء مطهر باتفاق.
2 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب (2)» . أخرجه مسلم.
وجه الاستدلال: أن المراد من نهيه لئلا يصير مستعملا.
3 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى فتركه يدل على امتناعه.
4 -
القياس على المستعمل في إزالة النجاسة.
(1) سنن الترمذي الطهارة (64)، سنن النسائي المياه (343)، سنن أبو داود الطهارة (82)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (373)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 66).
(2)
صحيح مسلم الطهارة (283)، سنن النسائي الطهارة (220)، سنن أبو داود الطهارة (70)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (605).
المناقشة:
1 -
أما الحديث الأول الذي فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، فهو ضعيف كما قال البخاري رحمه الله: ليس هو بصحيح.
2 -
حديث أبي هريرة وأجابوا عنه: بأن المراد بالنهي عدم تقذير الماء، أو أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ لئلا يتكرر فيتغير الماء؛ لأن الحديث فيه إطلاق الماء الدائم فيشمل القليل والكثير وهذا الحكم الذي ذكرتموه إنما تخصونه بالقليل دون الكثير فبطل استدلالكم بالحديث.
3 -
أما ما استدل به من ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لجمع الماء المستعمل مع حاجتهم إلى استعماله مرة أخرى فله أجوبة:
(أ) أنه لا يجتمع منه شيء لو جمع.
(ب) أنهم أيضا تركوا جمعه للشرب والعجن والطبخ والتبرد مع الاتفاق على جوازه فيها.
وأجاب أصحاب الدليل فقالوا: إنا لا نسلم بأنه لا يجتمع شيء منه؛ لأنه لو سلم ذلك في الوضوء لما سلم في الغسل.
أما كونهم لم يجمعوه للشرب والعجن والطبخ والتبرد فلاستقذاره. والنبي صلى الله عليه وسلم ترك أكل الضب مع إباحته له؛ لأنه عافه.
لكن هذا الجواب ضعيف، ويمكن الرد على دليلهم بأن
الدين لم يأت بالمشقة، ولو سلمنا بدليلكم لقلنا: بأنه يلزم المسافر أن يحمل معه ماء طهورا يكفيه لوضوئه واغتساله؛ لئلا يحتاج إلى التيمم، وهذا فيه مشقة عظيمة وحرج كبير، ودفع الحرج قد جاءت به الشريعة الإسلامية السمحة.
4 -
أما القياس على الماء الذي أزيلت به النجاسة فالفرق بينهما ظاهر فلا يصح القياس.
وبعد التأمل والنظر يترجح القول بأن الماء المستعمل في طهارة الحدث طهور مطهر؛ لسلامة بعض ما استدل به أصحاب هذا القول من المناقشة، كحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الماء لا يجنب (1)» ، ولما استدلوا به من النظر من أدلة قوية لا تقاومها أدلة القول الثاني التي قد نوقشت جميعها ورد الاستدلال بها، ولهذا قال المرداوي في الإنصاف عن هذا القول:" وهو أقوى في النظر "، مع أن أكثر الأصحاب على أنه طاهر غير مطهر، والحق أحق أن يتبع والله أعلم، هذا وإن لأصحاب القول الأول أدلة من السنة تركنا إيرادها إيثارا للاختصار، واكتفاء بما صح من أدلتهم أثرا ونظرا عما كان ضعيفا في النقل. والله المسئول أن يوفقنا ويرزقنا الفقه في الدين واتباع سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن للبحث بقية يسر الله إيرادها فيما يقبل من أعداد هذه المجلة المباركة وإني في ختام هذه الكلمة لأدعو الله العلي القدير أن يفقهنا جميعا في دينه وأن يرزقنا الالتزام بسنة نبيه صلى
(1) سنن الترمذي الطهارة (65)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (370).
الله عليه وسلم ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويلهمهم رشدهم ويردنا إليه ردا جميلا، ويوفق ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.