الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
الشفاعة المنفية:
وهي الشفاعة التي نفاها الله عز وجل ونفاها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها شفاعة باطلة، وهي الشفاعة الشركية التي يفعلها الناس مع بعضهم البعض.
قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (1)، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2)، وقال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (3) يقول الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: " فالشفاعة التي أبطلها الله شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها كشفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه "(4).
(1) سورة غافر الآية 18
(2)
سورة يونس الآية 18
(3)
سورة المدثر الآية 48
(4)
إغاثة اللهفان ج1 ص 220 طبعة دار المعرفه بيروت لبنان.
المبحث الخامس: أنواع الشفاعة:
المطلب الأول: شفاعات الرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات
يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين " (1) ".
1 -
الشفاعة العظمى:
هي الشفاعة الأولى الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وذلك حين يتوسل الناس يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام من أجل الشفاعة عند الله لإراحة الخلائق من هول وشدة ذلك اليوم العصيب بتعجيل حسابه وفصل القضاء بينهم بين يدي الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين بقسطه وعدله حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع عند ربه عز وجل لأهل الموقف.
وهذه الشفاعة أعظم الشفاعات كلها، ولهذا تسمى الشفاعة العظمى، فهي شفاعة عامة لجميع أهل الموقف، على اختلاف أديانهم.
وهذه الشفاعة أجمع عليها أهل الإسلام. وعلى هذه الشفاعة يدل قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (2).
(1) مجموع الفتاوى (1/ 313).
(2)
سورة الإسراء الآية 79
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: " فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم "(1).
ومن الأدلة على هذه الشفاعة حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " إلى أن قال: " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم. فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم (2)» .
وحديثه الآخر أيضا- رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع لنا، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود (4)» .
(1) تفسير ابن جرير الطبري (15/ 143، 144).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة) باب من سأل الناس تكثرا (2/ 130).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير) سورة بني إسرائيل باب قوله: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)(5/ 228).
(4)
أي جماعات، والجثا جمع جثوة وهو الشيء المجموع. النهاية في غريب الحديث (1/ 239). (3)
ومن أدلتها أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس (1) منها نهسة، فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب
(1) النهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/ 136).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير) سورة بني إسرائيل، باب (ذرية من حملنا مع نوح)(5/ 225).
قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام. فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته (1)، نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى عليه السلام. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله - لم يذكر ذنبا - نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فيقولون: - يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من
(1) أي المؤمنون منهم، كما جاء ذلك صريحا في مسند أبي عوانة (1/ 178) باب في صفة الشفاعة. (2)
ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين (1) من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى».
يقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى مستدلا بهذا الحديث على ثبوت الشفاعة العظمى: " هذه الشفاعة التي وصفها أنها أول الشفاعات هي التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الله بين الخلق، فعندها يأمر الله عز وجل أن يدخل من لا حساب عليه من أمته الجنة من الباب الأيمن "(2).
واستدل بهذا أيضا أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى حيث قال مبينا وجه الاستدلال به على هذه الشفاعة: " وقوله " فيقال:
(1) المصراعان: بابان منصوبان ينضمان جميعا مدخلهما في الوسط منهما، لسان العرب (8/ 199).
(2)
التوحيد لابن خزيمة (1/ 593).