الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يكون هؤلاء الشفعاء من الأموات، ولا ريب أن دعاء الأموات لم يشرع بل المشروع الزيارة الشرعية التي تتضمن الدعاء للأموات، لا دعاؤهم.
وقد يكون هؤلاء الشفعاء من الأحياء الذين لا يقبل الله شفاعتهم ولا يأذن لهم فيها ولا يرضى عنهم.
وإن كانوا ممن قد تقبل شفاعتهم فلا بد من إذن الله تعالى لهم في الشفاعة، كما لا بد من رضاه تعالى عن المشفوع لهم أيضا، كما سبق بيان ذلك في شروط الشفاعة، وأن الشفاعة لا تتحقق إلا بتحقق شروطها.
المبحث التاسع: الشفاعة في أمور الدنيا:
والمقصود بها: شفاعة إنسان لآخر عند السلطان أو صاحب الجاه أو المنصب؛ ليقضي له حاجته، وهي نوع من أنواع التعاون بين المسلمين ووسيلة من وسائل الألفة والمحبة إذا كان المشفوع إليه يملك التصرف فيما طلب منه على مقتضى الأسباب العادية، ومن يشفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر والثواب، كما أن من شفع بالباطل كان له نصيب من الوزر، قال تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} (1). قال مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى: " نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض "(2).
(1) سورة النساء الآية 85
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 653) لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: " قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع شفاعة لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله الكفل، والكفل الوزر والإثم، وقيل: الشفاعة الحسنة في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم "(1).
ويقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) أي: يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) أي: يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته (4).
ويؤجر الشافع على شفاعته، ولو لم تقض حاجة المشفوع له؛ لأن الشافع بذل ما يستطيعه، وسعى في طلب النفع لأخيه.
يدل على هذا حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء (5)» .
(1) الجامع لأحكام القرآن (5/ 295).
(2)
سورة آل عمران الآية 85
(3)
سورة آل عمران الآية 85
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 472).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة) باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (2/ 18) ومسلم في صحيحه (كتاب البر والصلة والآداب) باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام (4/ 2026).
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: " من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها وإن لم يشفع؛ ولأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1) ولم يقل: يشفع "(2).
ومما سبق يتبين لنا أن الشفاعة في الدنيا على قسمين: قسم محمود ومشروع، هو الشفاعة في الأمور المباحة التي يترتب عليها جلب النفع للمسلم دون التعدي فيها على حق من الله عز وجل أو حقوق الناس.
وأما القسم الثاني: فهي الشفاعة التي يترتب عليها إسقاط حد من حدود الله عز وجل، أو ظلم لأحد من الناس، أو إبطال حق.
يقول النووي رحمه الله تعالى: " استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى أحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير، أو في تخليص عطاء لمحتاج، أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام "(3).
يقول الشيخ أبو بكر الجزائري: " وجواز الاستشفاع مشروط
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 603) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 177، 178).
بأن يكون في حق ضاع أو حق يخشى ضياعه، أو في شيء مباح ينتفع به، أما أن يكون في إثم بإسقاط حق من الحقوق أو تعطيل حد من الحدود فلا، وذلك لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع (2)» (3).
وقد وردت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها «أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتشفع في حد من حدود الله!؟ " ثم قام
(1) سورة المائدة الآية 2
(2)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ موقوفا (2/ 835) عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فقال: فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به السلطان. فقال الزبير: إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع " وأخرجه الدارقطني في مسنده (3/ 205) بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال. " شفع الزبير في سارق، فقيل: حتى يبلغه الإمام فقال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(3)
عقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري ص (154).
فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1)».
ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت " رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد في الله أمره. . . (2)» الحديث.
وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن الشفاعة لا تقبل في الحدود إذا بلغت الحاكم، يقول الإمام النووي رحمه الله عند ذكر الإمام مسلم لحديث عائشة السابق وغيره يقول:" ذكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل، وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام للأحاديث وعلى أنه يحرم التشفع فيه "(3).
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " اختلف
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الحدود) باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (7/ 16) والإمام مسلم في صحيحه (كتاب الحدود) باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود (3/ 1315).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 70) والحاكم في المستدرك (2/ 27) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 186).
العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته، وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف، فقال: لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام " (1).
هذه الشفاعة في أمور الدنيا.
وأما الفرق بين الشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة فقد بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: (فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه، وإما لخوفه منه، فيحتاج إلى أن يقبل شفاعته، والله تعالى غني عن العالمين وهو وحده سبحانه يدبر العالمين، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي أذن للشفيع في الشفاعة وهو يقبل شفاعته كما يلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءه، فالأمر كله له، فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة ولا يقبل شفاعته " (2).
كما بين الفرق بينهما الحافظ ابن القيم رحمه الله بقوله:
(1) فتح الباري لابن حجر (12/ 95).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 823).
" وسر الفرق بين الشفاعتين أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقا ولا إذنا، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله هي سعي في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان وإما بما يرغبه فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع به، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته، وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لديه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال لأمره وطاعة له. فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا
بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر، ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله " (1).
وأختم هذا المبحث بمسألة مهمة لها علاقة به وهي حكم الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فأقول مستعينا بالله عز وجل: إن طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا حال حياته من الأمور الجائزة بل هو من الأمور التي حث عليها هو صلى الله عليه وسلم؟ لأن فيها نفعا للمسلمين، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله عز وجل بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (2) وغيره من علماء السلف.
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 241، 242).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (1/ 143 - 147).
وأما طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته فهو من الأمور المحدثة المبنية على الهوى والابتداع، ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع أنهم أحرص الناس على فعل الخير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعا عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا من الأئمة الأربعة "(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا: " فليس لأحد أن يدعو شيخا ميتا أو غائبا، بل ولا يدعو ميتا ولا غائبا لا من الأنبياء ولا غيرهم، فلا يقول لأحدهم: يا سيدي فلان أنا في حسبك أو في جوارك، ولا يقول: بك أستغيث، أستجير، ولا يقول إذا عثر: يا فلان، ولا يقول: محمد، وعلي ولا الست نفيسة، ولا سيدي الشيخ أحمد، ولا الشيخ عدي، ولا الشيخ عبد القادر، ولا غير ذلك، ولا نحو ذلك مما فيه دعاء الميت والغائب ومسألته، والاستغاثة به، والاستنصار به، بل ذلك من أفعال المشركين وعبادات الضالين.
ومن المعلوم أن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ثبت في صحيح البخاري " أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس. وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا،
(1) المصدر نفسه (1/ 241).
فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا، فيسقون " (1) فكانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتوسلون بدعائه، وشفاعته لهم، كما يتوسل به الناس يوم القيامة، ويستشفعون به إلى ربهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يدعونه، ولا يستغيثون به، ولا يطلبون منه شيئا لا عند قبره ولا بعيدا من قبره، بل ولا يصلون عند قبره ولا قبر غيره، لكن يصلون ويسلمون عليه ويطيعون أمره ويتبعون شريعته، ويقومون بما أحبه الله تعالى من حق نفسه وحق رسوله وحق عباده المؤمنين (2).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الاستسقاء) باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا أقحطوا (1/ 16).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 499).