الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو العزيز الذي كتب العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، وهو الحكيم الذي يمن على عباده ويهديهم لحكمته ويؤتيهم إياها كما قال:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (1)
(1) سورة البقرة الآية 269
المطلب السابع: نموذج من حياة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
النموذج الأول:
من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو خليل الله إبراهيم الذي قال فيه ربه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} (1). فذكر الله ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئا أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر! (2) لقوله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (3) فختم الله الآية بقوله: إنه كان صديقا نبيا فجمع له
(1) سورة الأنبياء الآية 51
(2)
قصص الأنبياء، ص 124.
(3)
سورة مريم الآية 41
بين الصديقية والنبوة.
فالصديق كثير الصدق فهو الصادق في أقواله، وأفعاله، وأحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، وإبراهيم عليه السلام أفضل الأنبياء كلهم، بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (1) وقد أمرنا الله عز وجل بالمجاهدة في الالتزام بدينه حق الالتزام فقال:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (2)، فأمرنا الله بأن نتبع ملة أبينا إبراهيم فقال:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (3) أي: اتبعوا ملة أبيكم، أو نصب على الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم وسماه أبا وإن لم يكن أبا للأمة كلها؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبا لأمته؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده (4).
وورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد (5)» ، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبونا كما قال تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (6) ورسولنا صلى الله عليه وسلم من سلالته.
وفي حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: سمعت
(1) تفسير السعدي 5/ 110.
(2)
سورة الحج الآية 78
(3)
سورة الحج الآية 78
(4)
تفسير النسفي 3/ 112.
(5)
الحديث من سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب كراهة استقبال القبلة (8) 1/ 18.
(6)
سورة الحج الآية 78
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (1)»
فحكى الله لنا في محكم التنزيل إنكار إبراهيم على أبيه وقومه عبادة الأوثان والأصنام؛ لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} (2){أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (3){فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4).
ثم بين الله لنا الأسلوب الأمثل الذي استخدمه إبراهيم عليه السلام مع أبيه فقال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (5).
ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل لئلا يركب متن المكابرة والعناد، ولا ينكب بالكلية عن محجة الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل (6).
فالوقفة الأولى: التي بدأ بها إبراهيم أن قال لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (7)
(1) الحديث من صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (2276) 2/ 1782.
(2)
سورة الصافات الآية 85
(3)
سورة الصافات الآية 86
(4)
سورة الصافات الآية 87
(5)
سورة مريم الآية 42
(6)
تفسير أبي السعود 5/ 267
(7)
سورة مريم الآية 42
علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير، كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، وتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطئ، منبها على خطئه عندما يتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا، ففطن لخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيا مميزا لكانت له شبهة ما، وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحس، إذ قال له: ولا يغنى عنك شيئا ثم انتقل إلى ما يخالج عقل أبيه عن تلقي الإرشاد من أبيه؛ لقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (1) وهذه هي الوقفة الثانية مع أبيه: يقول له فيها: يا أبت وإني من صلبك وترى أني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعده (2) فاتبعني أهدك طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب، وهو رضوان الله والظفر بما أعده في جناته جنات النعيم لمن اهتدى، والنجاة مما أعده الله وتوعد به كل كافر اتبع هواه وعبد شيطانه.
الوقفة الثالثة: بين له السبب الذي أدى به إلى عبادة الأوثان والأصنام والتعلق بها {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} (3) أي: لا تطع
(1) سورة مريم الآية 43
(2)
تفسير ابن كثير 5/ 229.
(3)
سورة مريم الآية 44
الشيطان في عبادة هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها، وقد بين الله ما عهده إلى بني آدم من أن السبب في الكفر هو طاعتهم للشيطان، فقال:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (1)، أي: لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية الله فقد عبده.
وقد حرص إبراهيم عليه السلام في ملاطفة أبيه ومناصحته في بيان سبب كفره وعبادته، وأنه الشيطان الرجيم هو الذي سول للإنسان ودعاه إلى عبادة هذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، فالذي يعبد الأصنام والأوثان فكأنما عبد الشيطان؛ لأنه أطاعه وانقاد له، ولذا فإن إبراهيم وعظ أباه موعظة بليغة وبين له أن الشيطان سول لهم وأملى لهم، وكان للرحمن عصيا.
ثم حذره عاقبة عصيانه، وعبادة الأوثان والأصنام، فقال له:{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (2) وأنت على شركك وعصيانك لما أمر به {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (3) فلا يكون مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)
(1) سورة يس الآية 60
(2)
سورة مريم الآية 45
(3)
سورة مريم الآية 45
(4)
سورة النحل الآية 63