الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" (1)، والجماعة هم المؤمنون بالله وبرسوله المتحابون في الله ومن أجل الله والمؤتلفون على دين الله القائمون بأداء ما أوجبه الله عليهم على وفق مراد الله فيسود بينهم التعاون والتكافل والتراحم.
(1) الحديث من سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (2165) 4/ 465.
المطلب الرابع: الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - دين وعبادة:
يلتزم المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل أن يحصل على النور والبصيرة، فالله يقول:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).
هذا مثل من هداه الله للإسلام بعد الضلالة وبصره بنور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء فيميز بين الحق والباطل، والمهتدي والضال بمن كان ميتا فأعطاه الحياة، وما يتبعها من القوى المدركة والمحركة، ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص، فهو متحير على الدوام، منها أي: مثل ذلك التزيين البليغ {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) من فنون الكفر والمعاصي (3).
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2)
سورة الأنعام الآية 122
(3)
تفسير القاسمي 6/ 780.
فالداعي إلى الله من جملة الذين اكتسبوا نور الله واستجابوا لداعي الله، قال تعالى:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (1)، فالداعي إلى الله يمشي بهذا النور، وهو ملتزم بمنهج الله داع إلى الله على بصيرة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2)، فمن اتقى الله وأذعن لأمر الله اكتسب جزاءه الذي يمنحه الله المؤمنين والمؤمنات، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (3) والفرقان أصله الفرق والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضار والنافع.
والمعنى: إن تتقوا الله فتتبعوا أوامر دينه وتسيروا بمقتضى سنته، في نظام خلقه، يجعل لكم في نفوسكم ملكة من العلم، تفرقون بها بين الحق والباطل، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى.
وبهذا النور وهذه البصيرة سار سلف الأمة من الخلفاء الراشدين، والصحابة الفاتحين والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فنصرهم الله على أعدائهم.
(1) سورة آل عمران الآية 193
(2)
سورة يوسف الآية 108
(3)
سورة الأنفال الآية 29
نلتزم بالدعوة إلى الخير لنبرهن عن قوة إيماننا لله ربنا: قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (1)" أي: ولنختبركم بالأمر بالجهاد والدعوة إلى الله وسائر التكاليف حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة في دينه من ذي الشك والحيرة فيه، والمؤمن من المنافق {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (2) ونعرف الصادق منكم في إيمانه من الكاذب "(3)، وقيام المسلم بشعيرة الدعوة إلى الله فيه دليل على تقواه وإيمانه به؛ لما جاء في حديث أبي بكر وأبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (4)»
والشاهد من إيراد الحديث أن الاشتغال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه دلالة على قوة الإيمان واليقين بالله.
وأما في حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا
(1) سورة محمد الآية 31
(2)
سورة محمد الآية 31
(3)
تفسير المراغي 9/ 72 سورة محمد.
(4)
الحديث من صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) 1/ 69.
يؤمرون، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1)»
فنفي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان -الذي يرى المنكر فلم يجاهد نفسه في تغييره- الإيمان فقال: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وشهد بالإيمان لمن غير المنكر بيده أو بلسانه أو بقلبه، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو صاحب رسالة أيقن بها ودعا إليها الناس الضالين عن الهدى والحائرين في أودية الضلالة، الذين استجابوا لنزغات الشياطين ودعوات المفسدين، فصاحب الخير حريص على بني جنسه أن يسحبهم من الغواية إلى الهداية، قال تعالى:{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2).
وتذييل هذه الآية له أسرار بديعة، منها:
أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للعالمين أن هدى الله هو الهدى وأننا من ثم أمرنا أن نسلم وننقاد لله رب العالمين، فهو وحده الذي يستسلم له العاملون، فالعوالم كلها مستسلمة له، فما الذي يجعل الإنسان وحده -من بين العالمين-
(1) صحيح مسلم الإيمان (50)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 458).
(2)
سورة الأنعام الآية 71
يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرض.
وفي إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان (1).
ويقوم الآمر بالدعوة إلى الله من أجل أن يحفظ الله له شأنه وعمله وأهله وذريته؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2){يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3)، يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولا سديدا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وعدهم إن فعلوا ذلك أن يصلح لهم أعمالهم، أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها، وختم الله هذه الآية بقوله:{فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4).
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) عطف على جملة {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (6) أي: وتفوزوا فوزا عظيما إذا أطعتم الله بامتثال أمره، وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات،
(1) في ظلال القرآن 2/ 1132.
(2)
سورة الأحزاب الآية 70
(3)
سورة الأحزاب الآية 71
(4)
سورة الأحزاب الآية 71
(5)
سورة الأحزاب الآية 71
(6)
سورة الأحزاب الآية 71
فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل، وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجمله واحدة " (1).
فقد فاز أكد ذلك بقوله: فوزا عظيما أي: ظفروا بجميع مراد الله في الدنيا والآخرة.
الفوز في اللغة: النجاة والظفر بالأمنية والخير، والفوز هو الظفر بالخير والنجاة من الشر، يقال: فاز بالخير وفاز من العذاب (2).
وقد بين الله جزاء المتقين في القرآن فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} (3)، المتقين الذين عملوا بأمر الله، ووقفوا عند حدود الله، ولم يتعدوها فأثابهم الله بالفوز العظيم، وهو النجاة من نار جهنم، كما قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (4)، وقوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (5).
نلتزم بالقيام بالدعوة إلى الله؛ لأن عاقبة الأمور لله عز وجل، قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6)، قال ابن عباس: المراد المهاجرون والأنصار والتابعون لهم
(1) التحرير والتنوير 11/ 123 سورة الأحزاب.
(2)
اللسان مادة (فوز) 5/ 392.
(3)
سورة النبأ الآية 31
(4)
سورة آل عمران الآية 185
(5)
سورة النور الآية 52
(6)
سورة الحج الآية 41
بإحسان، قال الحسن: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة، وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك (1).
ختم الله الآية بقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) وفي ذلك من الحكم الشيء الكثير، منها:
إعلام الله لعباده المؤمنين المقيمين للصلاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأن عاقبة الأمور له سبحانه وتعالى لا لغيره، فعليهم أن يؤمنوا بذلك ويعملوا صالحا، ويبلغوا دعوة ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ابتغاء الأجر من الله، ويبذلوا أنفسهم وأوقاتهم وأموالهم في سبيل الله، فإذا فعلوا ذلك جاءهم نصر الله وتحقق وعد الله بأن العاقبة للمؤمنين. هذا قضاء الله وأمره نافذ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3)، فالصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم مكنهم الله في جزيرة العرب بقيادة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، فلما قضى نحبه عليه الصلاة والسلام جعل الله عاقبة الأمور لأوليائه وأخزى أعداءه وأذلهم وأركسهم، فنصرهم الله على الدولة العظمى الفارسية التي كانت تصول وتجول في عصر كسرى وأبنائه، ونصرهم الله على الدولة الرومانية التي أخزاها الله وجعل عاقبة الأمور للقائمين بشرعه العاملين بسنة نبيه من الصحابة
(1) تفسير القرطبي 12/ 73.
(2)
سورة الحج الآية 41
(3)
سورة يس الآية 82
والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين.
نلتزم بالدعوة إلى الله تحقيقا لوعد الله عز وجل:
فإنه سبحانه وتعالى وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة أن يستخلفهم في الأرض، فيكونون هم الخلفاء المتصرفين في تدبيرها، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، فهو دين الإسلام الذي فاق الأديان كلها، وأنه يبدلهم أمنا من بعد خوفهم. . . فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض. . . فقام صدر هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوق على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها وحصل الأمن التام والتمكين، فهذه من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله به (2).
يقوم الآمرون بتبليغ رسالات ربهم وهم يعلمون أن الله مؤيدهم وناصرهم، ويدافع عنهم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (3)
(1) سورة النور الآية 55
(2)
تفسير السعدي 5/ 439.
(3)
سورة الحج الآية 38