الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول ابن القيم مرجحا هذا القول: «وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة، وهذا محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال لله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم لزمه، ولو قال إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين فو يمين، وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي أو نصراني كما يمينا، واطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي كان ظهارا، فلو قال إن فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي كان يمينا، واطرد هذا أيضا إذا قال: «أنت طالق» كان طلاقا، وإن قال:«إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق» كان يمينا فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وبالله التوفيق». اهـ كلامه رحمه الله (1).
(1) أعلام الموقعين 3/ 72.
المطلب الثالث: الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والظهار والإيجاب، هل يأخذ حكم اليمين أم لا
؟
إذا حلف الإنسان بالعتاق أو الطلاق أو النذر ونحوها مما يقصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب ولم يقصد التعليق المحض، كأن يقول إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، أو فنسائي طوالق، أو
فعبيدي أحرار، أو قال علي الحج، أو مالي صدقة، أو نسائي طوالق، أو عبيدي أحرار لأفعلن كذا وكذا، فهل هذه يمين أو تأخذ حكم اليمين، أو ليست يمينا ولا تأخذ حكم اليمين؟
وقبل أن أذكر الخلاف في هذه المسألة يحسن أن أذكر الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام لتتضح صورة المسألة ويتحرر موضع النزاع فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صيغة التنجيز مثل أن يقول امرأتي طالق، أو أنت طالق، أو فلانة مطلقة ونحو ذلك، فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين .. وكذلك إذا قال عبدي حر، أو علي صيام شهر، أو عتق رقبة، أو الحل علي حرام، أو أنت علي كظهر أمي فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغة التنجيز والإطلاق.
النوع الثاني: أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا وكذا، أو لا أفعل كذا وكذا، أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه - الذي يرى أنه يبر بقسمه ليفعلن كذا، أو لا يفعل كذا، أو يقول الحل علي حرام لأفعلن كذا أو لا أفعله، أو يقول علي الحج لأفعلن كذا أو لا أفعله ونحو ذلك، فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور لا موقع لها، وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال - ثم ذكرها -.
النوع الثالث من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق أو الحج، أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك، فهذا ينظر إلى مقصوده، فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف (1) وهو من باب اليمين، وإن كان مقصوده وقوع هذه الأمور كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط
…
فهذا يقع به الطلاق
…
إلى أن قال: فالأصل في هذا أن ينظر في مراد المتكلم ومقصوده، فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط، وإن كان مقصوده أن يحلف بها وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها لا موقع لها فيكون قوله من باب اليمين لا من باب التطليق والنذر» (2).
ويؤخذ مما تقدم أن ما كان من الطلاق ونحوه مما ذكر معه بصيغة التنجيز فإنه يقع به الطلاق والعتاق والنذر بإجماع المسلمين وليس فيه كفارة، وليس هو من باب اليمين، وأما ما كان من الطلاق ونحوه بصيغة القسم، أو كان معلقا على شرط والحالف بذلك أو الذي علقه بشرط إنما
(1) يعني وفيه الخلاف المتقدم فيمن حلف بهذه الأمور.
(2)
مجموع الفتاوى 33/ 58، 59، 60.
يقصد به اليمين ولا يقصد به إيقاع هذه الأمور فهذا محل نزاع بين العلماء رحمهم الله.
يقول ابن رشد: واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست إقساما بشيء - يقصد أنها ليست حلفا بأسماء الله وصفاته - وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله الحرام، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر، أو امرأتي طالق، أنها تلزم في القرب وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق، واختلفوا هل فيها كفارة أم لا (1).
إذا فالمختلف فيه هو ما كان من الأيمان الالتزامية بصيغة القسم، والمعلق على صفة إذا كان يقصد بها صاحبها الحلف للحض أو المنع لنفسه أو للغير وهو يكره وقوعها إذا وجدت الصفة أو الشرط، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يلزمه ما حلف عليه إذا حنث وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد وليس في ذلك كفارة، وهو قول مالك في الطلاق والنذر والظهار والتحريم والعتق (2)، وقول أبي حنيفة في ظاهر
(1) بداية المجتهد 6/ 116.
(2)
بداية المجتهد 6/ 116، والمقدمات الممهدات 1/ 405، 576، 577، وقوانين الأحكام الشرعية ص179.
الرواية، وقول الشافعي وأحمد في الطلاق والعتق دون النذر، وهو رواية عن أبي حنيفة (1).
إذا فالأئمة الأربعة متفقون على استثناء الطلاق والعتق من دخول الكفارة فيهما.
القول الثاني: أنه لا يلزمه شيء، وبه قال أهل الظاهر (2).
القول الثالث: أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان، ومن العلماء من فرق بين ما عقده بالله من الوجوب وهو الحلف بالنذر، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق، فقالوا
(1) انظر المصادر المتقدمة في الإحالة رقم (3).
(2)
المحلى 10/ 213 ومجموع الفتاوى 33/ 49.
في الأول عليه كفارة يمين، وقالوا في الثاني يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث - وهذا قول الشافعي وأحمد وأبي حنيفة في رواية عنه كما تقدم في القول الأول - من أنها أيمان مكفرة يلزم فيها ما يلزم في غيرها من الأيمان، ولم ير شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التفصيل في ذلك وقالا: بأن هذا هو الذي تدل عليه أقوال الصحابة (1)، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (2)، وقول الشافعي وأحمد في النذر (3).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
1 -
بعمومات أدلة وقوع الطلاق والنذر والعتاق كقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4)، وكقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5)،
(1) مجموع الفتاوى 33/ 50، 35/ 252، 272 - 273، وأعلام الموقعين 1/ 382، 3/ 59، والفروع 6/ 340.
(2)
البناية شرح الهداية 5/ 195.
(3)
تقدم ذكر المصادر لقول الشافعي وأحمد في الصفحة السابقة في الإحالة رقم (4).
(4)
سورة البقرة الآية 229
(5)
سورة الطلاق الآية 1
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1)» .
ويمكن مناقشة هذا الدليل: بالفرق بين إيقاع الطلاق والعتاق والحلف بهما وهذا ظاهر (2).
2 -
أنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه كنذر التبرر المعلق بشرط (3)؛ ولأن الحالف بالطلاق ألا يفعل أو أن يفعل إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق عليها طلاق امرأته لزمه ذلك (4).
ونوقش هذا الدليل والذي قبله بأن هذه العمومات خص منها ما إذا لم يكن قصده الطلاق والعتاق والنذر، وإنما كان قصده بالتعليق الحث أو المنع كما سيأتي في أدلة القول الثاني (5).
(1) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 585، حديث رقم 6700/ باب النذر فيما لا يملك وفي معصية.
(2)
مجموع الفتاوى 35/ 282.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 49، والمقدمات الممهدات 1/ 405، والهداية 1/ 251.
(4)
المقدمات الممهدات 1/ 476.
(5)
وانظر المحلى 10/ 213.
3 -
ما روى نافع أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت فقال ابن عمر: «إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء (1)» .
4 -
عن عروة بن الزبير قال: «ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر فصاحت بعبد الله بن الزبير فلما رآه قال: أمك طالق إن دخلت، فقال له عبد الله: أتجعل أمي عرضة ليمينك؟، فاقتحم عليه الباب فخلصها فبانت منه، قال: ولقد كنت غلاما ربما أخذت بشعر منكبي ابن الزبير (2)» .
5 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: «إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، ففعلته فقال: «هي واحدة وهو أحق بها (3)» .
ويمكن مناقشة هذه الآثار بما قاله ابن القيم: «بأن اليمين بالطلاق والعتاق إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده هو مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا وإنما
(1) رواه البخاري في صحيحه معلقا «البخاري مع الفتح» 9/ 388، باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون.
(2)
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 338، 339، كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو ضعيف.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 356، باب الطلاق بالوقت والفعل.
المحفوظ بصيغة الشرط والجزاء (1) الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء
…
وأن من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وصح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين - ثم ذكر ابن القيم بعض الصور المتقدمة التي أفتوا فيها بوقوع الطلاق المعلق على شرط ثم قال: وأما الآثار عنهم بخلافه - أي بخلاف الوقوع - فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما.
(1) كما تقدم في الآثار التي استدل بها رقم 3، 4، 5.
6 -
أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله إن أبرأتيني فأنت طالق (1)، وبأنه حكم معلق بشرط فوجب عند ثبوته كسائر الأحكام (2).
ونوقش هذا الدليل: بالفرق بين ما كان يقصد به وقوع الجزاء عند وقوع الشرط، وما كان يقصد به الحث والمنع دون الوقوع (3).
7 -
أن القول بعدم وقوع الطلاق مخالف للإجماع (4).
ونوقش بعدم التسليم بوجود الإجماع على هذا، فقد قال ابن حزم بعدما ذكر بعض الآثار بأسانيدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن طاووس وشريح قال:«فهؤلاء علي بن طالب وشريح وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي مخالف من الصحابة رضي الله عنهم» (5).
وقال أبو الوليد ابن رشد: «فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق .. ثم قال: إلا ما روي عن أشهب في الحالف بالطلاق ألا تفعل فعلا فتفعله
(1) أعلام الموقعين 2/ 133، 134.
(2)
مجموع الفتاوى 35/ 254.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 60، 35/ 250 وما بعدها، وأعلام الموقعين 2/ 134، 133.
(4)
انظر: بداية المجتهد 6/ 118، والمنتقى 4/ 117، والمقدمات الممهدات 1/ 576.
(5)
المحلى 10/ 213.
قاصده لتحنيثه أنه لا شيء عليها» فأثبت الخلاف عن أشهب في هذه المسألة (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة كداود وأصحابه، ومنهم من يلزمه كفارة يمين كطاووس وغيره من السلف والخلف» (2).
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - بعدما ذكر الأقوال في المسألة - قال: «وإن كان من الناس من يدعي الإجماع في بعضها، فهذا كما أن كثيرا من مسائل النزاع يدعي فيها الإجماع من لم يعلم النزاع، ومقصوده أني لا أعلم نزاعا، فمن علم النزاع وأثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافي الذي لا يعلمه باتفاق المسلمين، وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر المسلمين» اهـ (3).
(1) المقدمات الممهدات 1/ 576.
(2)
مجموع الفتاوى 33/ 61.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 136.
وقال في موضع آخر: «وقد علم أنه ليس فيه إجماع» (1).
دليل القول الثاني: القائل بأنه لا يلزمه شيء -
قالوا بأن هذه أيمان غير شرعية ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله فتكون لاغية (2).
ويناقش هذا الدليل: بأنه لا يلزم من ذلك عدم وجوب كفارة اليمين كما سيأتي في أدلة القول الثالث.
أدلة القول الثالث: الذي يرى وجوب الكفارة في ذلك -
1 -
(1) مجموع الفتاوى 33/ 195.
(2)
المحلى 10/ 211.
(3)
سورة المائدة الآية 89
قال ابن القيم: «فهذا صريح في كل يمين منعقدة فهذه كفارتها .. فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه» (1).
2 -
قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2){قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3).
وجه الدلالة: أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلة، لم تخص منه صورة لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي، فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من نذر اللجاج والغضب (5).
(1) أعلام الموقعين 1/ 382.
(2)
سورة التحريم الآية 1
(3)
سورة التحريم الآية 2
(4)
سورة التحريم الآية 2
(5)
مجموع الفتاوى 35/ 268، وأعلام الموقعين 1/ 382.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. (1)» .
وفي رواية: «إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2)» .
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل (3)» .
قال شيخ الإسلام: «فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه» (4).
5 -
ما روى سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال عمر: إن الكعبة غنية
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6718.
(2)
رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6719.
(3)
رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11/ 114.
(4)
مجموع الفتاوى 35/ 280.
عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (1)» .
أن الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في اليمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد ما أورد أثر عمر - قال: «فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (2)» ، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال صلى الله عليه وسلم:«لا يمين ولا نذر (3)» لأن اليمين ما قصد به الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة، وفي هذا
(1) رواه أبو داود 3/ 227 حديث رقم 3272، باب اليمين في قطيعة الرحم، والحاكم في المستدرك 4/ 300 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في المستدرك: صحيح، ورواه البيهقي في السنن 10/ 33.
(2)
أبو داود الأيمان والنذور (3272).
(3)
أبو داود الأيمان والنذور (3272).
الحديث دلالة أخرى وهي أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم» يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا، سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق، ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين أو النذر من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني ظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به، فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله» (1).
6 -
ما رواه أبو رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يهودية أو نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة رضي الله عنها وابن عباس وحفصة وأم
(1) مجموع الفتاوى 35/ 280 - 281.
سلمة رضي الله عنهم فكلهم قال: «أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت، فأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما (1)» .
فإذا كان العتق الذي هو قربة وطاعة لا يلزم ممن لم يرده وتنوب عنه الكفارة فالطلاق لا يلزم بطريق الأولى (2) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله» (3).
يبينه أن ابن عباس يرى أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه لا من يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه (4).
وقد ناقش الجمهور أدلة أصحاب هذا القول – المتقدم – بما قاله ابن قدامة حيث قال: «إنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق، والآية مخصوصة بالطلاق، والعتق في معناه، ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق
(1) مصنف عبد الرزاق 8/ 486، وسنن الدارقطني 4/ 164، وسنن البيهقي 10/ 66، وقد صحح ابن القيم هذا الأثر عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة. أعلام الموقعين 3/ 54 - 56.
(2)
انظر مجموع الفتاوى 33/ 61،. بتصرف يسير.
(3)
رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 9/ 388 في ترجمة الباب الحادي عشر من كتاب الطلاق.
(4)
مجموع الفتاوى 33/ 61.
على شرط فأشبه الطلاق، فأما حديث أبي رافع قال أحمد: قال فيه: كفري يمينك وأعتقي جاريتك، وهذه زيادة يجب قبولها، ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها» (1).
وأجاب أصحاب هذا القول الثالث عن هذه المناقشة بما أجاب به ابن تيمية بقوله: «قلت: القياس المذكور عندهم منتقض بكل ما يعلقه بالشرط من صدقة المال والمشي إلى مكة والهدي، وقوله «إن فعلت كذا فعلي أن أعتق أو أطلق» ، وقوله «إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارا بمعناه، والأصل الذي مشى عليه ممنوع، فإن الطلاق فيه نزاع، بل إذا لم يوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى أن لا يوقعوا الطلاق
…
وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع وأنهم قالوا: «أعتقي جاريتك» ، فهذا غلط، فإن هذا الحديث لم يذكر فيه أحد أنهم قالوا:«أعتقي جاريتك» وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين فلم يذكروا ذلك، وكلام أحمد في عامة
(1) المغني 13/ 479 - 480.
أجوبته يبين أنه لم يذكر أحد (1) عنهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي
…
» (2).
7 -
أن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض على الفعل أو المنع منه، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة، فلأن تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره، فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى» (3).
(1) في المطبوع من المجموع 33/ 195 (أحمد) والصواب الذي يقتضيه المعنى هو ما أثبته (أحد).
(2)
مجموع الفتاوى 33/ 195.
(3)
مجموع الفتاوى 35/ 257، 258.
سبب الخلاف والراجح:
يقول ابن رشد: «وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1)، ومن قال إنها من جنس النذر أي من جنس الأشياء التي نص الشرع على أنه إذا التزمها الإنسان لزمته قال لا كفارة فيها، لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها يمينا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع، والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي؟ وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كفارة النذر كفارة يمين (2)» ، وقال تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3).
(1) سورة المائدة الآية 89
(2)
رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11/ 104، كتاب النذور. قال النووي:«اختلف أصحابنا في المراد به – أي بالنذر في هذا الحديث – فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج والغضب، وهو أن يقول الإنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا، إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذور، وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين، والله أعلم» . شرح النووي 11/ 104.
(3)
سورة التحريم الآية 1
إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين يمينا، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر هذا الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين» (2) اهـ.
قلت: يفهم مما ذكره ابن رشد أن ما جاء بهذه الصيغ مما يقصد به الحث أو المنع أنها تسمى في عرف الشرع يمينا، وبالتالي يجب فيها ما يجب في اليمين إلا ما خصصه الإجماع مثل الطلاق، لكن قد تقدم أن الطلاق ليس محل إجماع، وأما ما ذكره من أن هذا يعسر على المالكية من كونهم يسمونها يمينا ولا يرون أن فيها حكم اليمين هو كذلك يعسر على غير المالكية من الحنفية والشافعية والحنابلة حيث إنهم اعتبروا ما كان بصيغة الشرط يمينا اعتبارا بمعناه دون لفظه، وإنما منعوا ذلك في الطلاق والعتاق.
ويفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (3)» مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (4)» أن الذي يجب الوفاء به بالاتفاق هو نذر التبرر والطاعة المذكور في هذا الحديث (5)، وأما
(1) سورة التحريم الآية 2
(2)
بداية المجتهد 6/ 116 - 118.
(3)
مسلم النذر (1645)، الترمذي النذور والأيمان (1528)، النسائي الأيمان والنذور (3832)، أبو داود الأيمان والنذور (3323)، أحمد (4/ 149).
(4)
صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 581، باب النذور في الطاعة حديث رقم 6696.
(5)
بداية المجتهد 6/ 118.
يقول ابن القيم مرجحا هذا القول: «وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة، وهذا محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال لله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم لزمه، ولو قال إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين فو يمين، وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي أو نصراني كما يمينا، واطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي كان ظهارا، فلو قال إن فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي كان يمينا، واطرد هذا أيضا إذا قال: «أنت طالق» كان طلاقا، وإن قال:«إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق» كان يمينا فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وبالله التوفيق». اهـ كلامه رحمه الله (1).
(1) أعلام الموقعين 3/ 72.
المطلب الثالث: الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والظهار والإيجاب، هل يأخذ حكم اليمين أم لا
؟
إذا حلف الإنسان بالعتاق أو الطلاق أو النذر ونحوها مما يقصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب ولم يقصد التعليق المحض، كأن يقول إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، أو فنسائي طوالق، أو
فعبيدي أحرار، أو قال علي الحج، أو مالي صدقة، أو نسائي طوالق، أو عبيدي أحرار لأفعلن كذا وكذا، فهل هذه يمين أو تأخذ حكم اليمين، أو ليست يمينا ولا تأخذ حكم اليمين؟
وقبل أن أذكر الخلاف في هذه المسألة يحسن أن أذكر الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام لتتضح صورة المسألة ويتحرر موضع النزاع فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صيغة التنجيز مثل أن يقول امرأتي طالق، أو أنت طالق، أو فلانة مطلقة ونحو ذلك، فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين .. وكذلك إذا قال عبدي حر، أو علي صيام شهر، أو عتق رقبة، أو الحل علي حرام، أو أنت علي كظهر أمي فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغة التنجيز والإطلاق.
النوع الثاني: أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا وكذا، أو لا أفعل كذا وكذا، أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه - الذي يرى أنه يبر بقسمه ليفعلن كذا، أو لا يفعل كذا، أو يقول الحل علي حرام لأفعلن كذا أو لا أفعله، أو يقول علي الحج لأفعلن كذا أو لا أفعله ونحو ذلك، فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور لا موقع لها، وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال - ثم ذكرها -.
النوع الثالث من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق أو الحج، أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك، فهذا ينظر إلى مقصوده، فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف (1) وهو من باب اليمين، وإن كان مقصوده وقوع هذه الأمور كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط
…
فهذا يقع به الطلاق
…
إلى أن قال: فالأصل في هذا أن ينظر في مراد المتكلم ومقصوده، فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط، وإن كان مقصوده أن يحلف بها وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها لا موقع لها فيكون قوله من باب اليمين لا من باب التطليق والنذر» (2).
ويؤخذ مما تقدم أن ما كان من الطلاق ونحوه مما ذكر معه بصيغة التنجيز فإنه يقع به الطلاق والعتاق والنذر بإجماع المسلمين وليس فيه كفارة، وليس هو من باب اليمين، وأما ما كان من الطلاق ونحوه بصيغة القسم، أو كان معلقا على شرط والحالف بذلك أو الذي علقه بشرط إنما
(1) يعني وفيه الخلاف المتقدم فيمن حلف بهذه الأمور.
(2)
مجموع الفتاوى 33/ 58، 59، 60.
يقصد به اليمين ولا يقصد به إيقاع هذه الأمور فهذا محل نزاع بين العلماء رحمهم الله.
يقول ابن رشد: واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست إقساما بشيء - يقصد أنها ليست حلفا بأسماء الله وصفاته - وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله الحرام، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر، أو امرأتي طالق، أنها تلزم في القرب وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق، واختلفوا هل فيها كفارة أم لا (1).
إذا فالمختلف فيه هو ما كان من الأيمان الالتزامية بصيغة القسم، والمعلق على صفة إذا كان يقصد بها صاحبها الحلف للحض أو المنع لنفسه أو للغير وهو يكره وقوعها إذا وجدت الصفة أو الشرط، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يلزمه ما حلف عليه إذا حنث وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد وليس في ذلك كفارة، وهو قول مالك في الطلاق والنذر والظهار والتحريم والعتق (2)، وقول أبي حنيفة في ظاهر
(1) بداية المجتهد 6/ 116.
(2)
بداية المجتهد 6/ 116، والمقدمات الممهدات 1/ 405، 576، 577، وقوانين الأحكام الشرعية ص179.
الرواية، وقول الشافعي وأحمد في الطلاق والعتق دون النذر، وهو رواية عن أبي حنيفة (1).
إذا فالأئمة الأربعة متفقون على استثناء الطلاق والعتق من دخول الكفارة فيهما.
القول الثاني: أنه لا يلزمه شيء، وبه قال أهل الظاهر (2).
القول الثالث: أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان، ومن العلماء من فرق بين ما عقده بالله من الوجوب وهو الحلف بالنذر، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق، فقالوا
(1) انظر المصادر المتقدمة في الإحالة رقم (3).
(2)
المحلى 10/ 213 ومجموع الفتاوى 33/ 49.
في الأول عليه كفارة يمين، وقالوا في الثاني يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث - وهذا قول الشافعي وأحمد وأبي حنيفة في رواية عنه كما تقدم في القول الأول - من أنها أيمان مكفرة يلزم فيها ما يلزم في غيرها من الأيمان، ولم ير شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التفصيل في ذلك وقالا: بأن هذا هو الذي تدل عليه أقوال الصحابة (1)، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (2)، وقول الشافعي وأحمد في النذر (3).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
1 -
بعمومات أدلة وقوع الطلاق والنذر والعتاق كقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4)، وكقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5)،
(1) مجموع الفتاوى 33/ 50، 35/ 252، 272 - 273، وأعلام الموقعين 1/ 382، 3/ 59، والفروع 6/ 340.
(2)
البناية شرح الهداية 5/ 195.
(3)
تقدم ذكر المصادر لقول الشافعي وأحمد في الصفحة السابقة في الإحالة رقم (4).
(4)
سورة البقرة الآية 229
(5)
سورة الطلاق الآية 1
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1)» .
ويمكن مناقشة هذا الدليل: بالفرق بين إيقاع الطلاق والعتاق والحلف بهما وهذا ظاهر (2).
2 -
أنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه كنذر التبرر المعلق بشرط (3)؛ ولأن الحالف بالطلاق ألا يفعل أو أن يفعل إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق عليها طلاق امرأته لزمه ذلك (4).
ونوقش هذا الدليل والذي قبله بأن هذه العمومات خص منها ما إذا لم يكن قصده الطلاق والعتاق والنذر، وإنما كان قصده بالتعليق الحث أو المنع كما سيأتي في أدلة القول الثاني (5).
(1) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 585، حديث رقم 6700/ باب النذر فيما لا يملك وفي معصية.
(2)
مجموع الفتاوى 35/ 282.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 49، والمقدمات الممهدات 1/ 405، والهداية 1/ 251.
(4)
المقدمات الممهدات 1/ 476.
(5)
وانظر المحلى 10/ 213.
3 -
ما روى نافع أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت فقال ابن عمر: «إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء (1)» .
4 -
عن عروة بن الزبير قال: «ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر فصاحت بعبد الله بن الزبير فلما رآه قال: أمك طالق إن دخلت، فقال له عبد الله: أتجعل أمي عرضة ليمينك؟، فاقتحم عليه الباب فخلصها فبانت منه، قال: ولقد كنت غلاما ربما أخذت بشعر منكبي ابن الزبير (2)» .
5 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: «إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، ففعلته فقال: «هي واحدة وهو أحق بها (3)» .
ويمكن مناقشة هذه الآثار بما قاله ابن القيم: «بأن اليمين بالطلاق والعتاق إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده هو مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا وإنما
(1) رواه البخاري في صحيحه معلقا «البخاري مع الفتح» 9/ 388، باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون.
(2)
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 338، 339، كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو ضعيف.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 356، باب الطلاق بالوقت والفعل.
المحفوظ بصيغة الشرط والجزاء (1) الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء
…
وأن من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وصح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين - ثم ذكر ابن القيم بعض الصور المتقدمة التي أفتوا فيها بوقوع الطلاق المعلق على شرط ثم قال: وأما الآثار عنهم بخلافه - أي بخلاف الوقوع - فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما.
(1) كما تقدم في الآثار التي استدل بها رقم 3، 4، 5.
6 -
أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله إن أبرأتيني فأنت طالق (1)، وبأنه حكم معلق بشرط فوجب عند ثبوته كسائر الأحكام (2).
ونوقش هذا الدليل: بالفرق بين ما كان يقصد به وقوع الجزاء عند وقوع الشرط، وما كان يقصد به الحث والمنع دون الوقوع (3).
7 -
أن القول بعدم وقوع الطلاق مخالف للإجماع (4).
ونوقش بعدم التسليم بوجود الإجماع على هذا، فقد قال ابن حزم بعدما ذكر بعض الآثار بأسانيدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن طاوس وشريح قال:«فهؤلاء علي بن طالب وشريح وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي مخالف من الصحابة رضي الله عنهم» (5).
وقال أبو الوليد ابن رشد: «فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق .. ثم قال: إلا ما روي عن أشهب في الحالف بالطلاق ألا تفعل فعلا فتفعله
(1) أعلام الموقعين 2/ 133، 134.
(2)
مجموع الفتاوى 35/ 254.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 60، 35/ 250 وما بعدها، وأعلام الموقعين 2/ 134، 133.
(4)
انظر: بداية المجتهد 6/ 118، والمنتقى 4/ 117، والمقدمات الممهدات 1/ 576.
(5)
المحلى 10/ 213.
قاصده لتحنيثه أنه لا شيء عليها» فأثبت الخلاف عن أشهب في هذه المسألة (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة كداود وأصحابه، ومنهم من يلزمه كفارة يمين كطاووس وغيره من السلف والخلف» (2).
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - بعدما ذكر الأقوال في المسألة - قال: «وإن كان من الناس من يدعي الإجماع في بعضها، فهذا كما أن كثيرا من مسائل النزاع يدعي فيها الإجماع من لم يعلم النزاع، ومقصوده أني لا أعلم نزاعا، فمن علم النزاع وأثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافي الذي لا يعلمه باتفاق المسلمين، وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر المسلمين» اهـ (3).
(1) المقدمات الممهدات 1/ 576.
(2)
مجموع الفتاوى 33/ 61.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 136.
وقال في موضع آخر: «وقد علم أنه ليس فيه إجماع» (1).
دليل القول الثاني: القائل بأنه لا يلزمه شيء -
قالوا بأن هذه أيمان غير شرعية ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله فتكون لاغية (2).
ويناقش هذا الدليل: بأنه لا يلزم من ذلك عدم وجوب كفارة اليمين كما سيأتي في أدلة القول الثالث.
أدلة القول الثالث: الذي يرى وجوب الكفارة في ذلك -
1 -
(1) مجموع الفتاوى 33/ 195.
(2)
المحلى 10/ 211.
(3)
سورة المائدة الآية 89
قال ابن القيم: «فهذا صريح في كل يمين منعقدة فهذه كفارتها .. فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه» (1).
2 -
قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2){قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3).
وجه الدلالة: أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلة، لم تخص منه صورة لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي، فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من نذر اللجاج والغضب (5).
(1) أعلام الموقعين 1/ 382.
(2)
سورة التحريم الآية 1
(3)
سورة التحريم الآية 2
(4)
سورة التحريم الآية 2
(5)
مجموع الفتاوى 35/ 268، وأعلام الموقعين 1/ 382.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. (1)» .
وفي رواية: «إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2)» .
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل (3)» .
قال شيخ الإسلام: «فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه» (4).
5 -
ما روى سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال عمر: إن الكعبة غنية
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6718.
(2)
رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6719.
(3)
رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11/ 114.
(4)
مجموع الفتاوى 35/ 280.
عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (1)» .
أن الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في اليمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد ما أورد أثر عمر - قال: «فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (2)» ، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال صلى الله عليه وسلم:«لا يمين ولا نذر (3)» لأن اليمين ما قصد به الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة، وفي هذا
(1) رواه أبو داود 3/ 227 حديث رقم 3272، باب اليمين في قطيعة الرحم، والحاكم في المستدرك 4/ 300 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في المستدرك: صحيح، ورواه البيهقي في السنن 10/ 33.
(2)
أبو داود الأيمان والنذور (3272).
(3)
أبو داود الأيمان والنذور (3272).
الحديث دلالة أخرى وهي أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم» يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا، سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق، ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين أو النذر من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني ظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به، فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله» (1).
6 -
ما رواه أبو رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يهودية أو نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة رضي الله عنها وابن عباس وحفصة وأم
(1) مجموع الفتاوى 35/ 280 - 281.
سلمة رضي الله عنهم فكلهم قال: «أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت، فأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما (1)» .
فإذا كان العتق الذي هو قربة وطاعة لا يلزم ممن لم يرده وتنوب عنه الكفارة فالطلاق لا يلزم بطريق الأولى (2) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله» (3).
يبينه أن ابن عباس يرى أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه لا من يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه (4).
وقد ناقش الجمهور أدلة أصحاب هذا القول – المتقدم – بما قاله ابن قدامة حيث قال: «إنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق، والآية مخصوصة بالطلاق، والعتق في معناه، ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق
(1) مصنف عبد الرزاق 8/ 486، وسنن الدارقطني 4/ 164، وسنن البيهقي 10/ 66، وقد صحح ابن القيم هذا الأثر عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة. أعلام الموقعين 3/ 54 - 56.
(2)
انظر مجموع الفتاوى 33/ 61،. بتصرف يسير.
(3)
رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 9/ 388 في ترجمة الباب الحادي عشر من كتاب الطلاق.
(4)
مجموع الفتاوى 33/ 61.
على شرط فأشبه الطلاق، فأما حديث أبي رافع قال أحمد: قال فيه: كفري يمينك وأعتقي جاريتك، وهذه زيادة يجب قبولها، ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها» (1).
وأجاب أصحاب هذا القول الثالث عن هذه المناقشة بما أجاب به ابن تيمية بقوله: «قلت: القياس المذكور عندهم منتقض بكل ما يعلقه بالشرط من صدقة المال والمشي إلى مكة والهدي، وقوله «إن فعلت كذا فعلي أن أعتق أو أطلق» ، وقوله «إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارا بمعناه، والأصل الذي مشى عليه ممنوع، فإن الطلاق فيه نزاع، بل إذا لم يوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى أن لا يوقعوا الطلاق
…
وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع وأنهم قالوا: «أعتقي جاريتك» ، فهذا غلط، فإن هذا الحديث لم يذكر فيه أحد أنهم قالوا:«أعتقي جاريتك» وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين فلم يذكروا ذلك، وكلام أحمد في عامة
(1) المغني 13/ 479 - 480.
أجوبته يبين أنه لم يذكر أحد (1) عنهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي
…
» (2).
7 -
أن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض على الفعل أو المنع منه، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة، فلأن تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره، فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى» (3).
(1) في المطبوع من المجموع 33/ 195 (أحمد) والصواب الذي يقتضيه المعنى هو ما أثبته (أحد).
(2)
مجموع الفتاوى 33/ 195.
(3)
مجموع الفتاوى 35/ 257، 258.
سبب الخلاف والراجح:
يقول ابن رشد: «وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1)، ومن قال إنها من جنس النذر أي من جنس الأشياء التي نص الشرع على أنه إذا التزمها الإنسان لزمته قال لا كفارة فيها، لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها يمينا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع، والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي؟ وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كفارة النذر كفارة يمين (2)» ، وقال تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3).
(1) سورة المائدة الآية 89
(2)
رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11/ 104، كتاب النذور. قال النووي:«اختلف أصحابنا في المراد به – أي بالنذر في هذا الحديث – فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج والغضب، وهو أن يقول الإنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا، إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذور، وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين، والله أعلم» . شرح النووي 11/ 104.
(3)
سورة التحريم الآية 1
إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين يمينا، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر هذا الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين» (2) اهـ.
قلت: يفهم مما ذكره ابن رشد أن ما جاء بهذه الصيغ مما يقصد به الحث أو المنع أنها تسمى في عرف الشرع يمينا، وبالتالي يجب فيها ما يجب في اليمين إلا ما خصصه الإجماع مثل الطلاق، لكن قد تقدم أن الطلاق ليس محل إجماع، وأما ما ذكره من أن هذا يعسر على المالكية من كونهم يسمونها يمينا ولا يرون أن فيها حكم اليمين هو كذلك يعسر على غير المالكية من الحنفية والشافعية والحنابلة حيث إنهم اعتبروا ما كان بصيغة الشرط يمينا اعتبارا بمعناه دون لفظه، وإنما منعوا ذلك في الطلاق والعتاق.
ويفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (3)» مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (4)» أن الذي يجب الوفاء به بالاتفاق هو نذر التبرر والطاعة المذكور في هذا الحديث (5)، وأما
(1) سورة التحريم الآية 2
(2)
بداية المجتهد 6/ 116 - 118.
(3)
مسلم النذر (1645)، الترمذي النذور والأيمان (1528)، النسائي الأيمان والنذور (3832)، أبو داود الأيمان والنذور (3323)، أحمد (4/ 149).
(4)
صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 581، باب النذور في الطاعة حديث رقم 6696.
(5)
بداية المجتهد 6/ 118.