الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع الاطلاع على ما كتبته أخيرا من الأجوبة الصادرة في صحيفة (المسلمون) في 19/ 8 / 1415هـ، الموافق 20/ 1 / 1995م، وقد أوضحت فيها: أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، إن كانوا من أهلها، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم؛ تأسيا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في حربه وصلحه، وتمسكا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة، ووقوفا عندها، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين – قادة وشعوبا – لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في دينه، والاستقامة عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه، وأتباعه بإحسان.
المبحث التاسع عشر: الأدب مع العلماء المخالفين وإحسان الظن بهم:
وكان سماحة الشيخ – رحمه الله – يرد على المخالف خلافا سائغا بأسلوب رفيع وبعبارات تنم عن عظيم خلق، ولا يأتي بأي عبارة فيها تعنيف أو تشنيع، وإنما كان يذكر القول الذي يرى رجحانه ويضعف أدلة القول الآخر.
وإليك – إضافة لما سبق في تعقيبه على مقال د يوسف القرضاوي – مثالا آخر على ذلك:
ففي رده على الشيخ الألباني في حكم قبض اليدين بعد الرفع من الركوع (1):
قال سماحته: فإن قيل: قد ذكر الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في حاشية كتابه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص145 من الطبعة السادسة ما نصه: (ولست أشك أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام)(يعني بذلك القيام بعد الركوع) بدعة ضلالة؛ لأنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها، ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد، ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله، ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم) انتهى.
والجواب عن ذلك أن يقال: قد ذكر أخونا العلامة الشيخ ناصر الدين في حاشية كتابه المذكور ما ذكر، والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن جزمه بأن وضع اليمنى على اليسرى في القيام بعد الركوع بدعة ضلالة، خطأ ظاهر، لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم من أهل العلم، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها، ولست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة، زاده الله علما وتوفيقا، ولكنه قد غلط في هذه المسألة غلطا بينا، وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك بن أنس – رحمه الله: (ما منا إلا راد ومردود
(1)«مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11/ 137).
عليه إلا صاحب القبر) يعني النبي – صلى الله عليه وسلم –، وهكذا قال أهل العلم قبله وبعده، وليس ذلك يغض من أقدارهم ولا يحط من منازلهم؛ بل هم في ذلك بين أجر وأجرين، كما صحت بذلك السنة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في حكم المجتهد:«إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر (1)» .
الوجه الثاني: أن من تأمل الأحاديث السالفة حديث سهل.
وحديث وائل بن حجر (2) وغيرهما، اتضح له دلالتهما على شرعية وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام في الصلاة قبل الركوع وبعده؛ لأنه لم يذكر فيها تفصيل، والأصل عدمه.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، برقم (401).
ولأن في حديث سهل الأمر بوضع اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة ولم يبين محله من الصلاة، فإذا تأملنا ما ورد في ذلك اتضح لنا أن السنة في الصلاة وضع اليدين في حال الركوع على الركبتين، وفي حال السجود على الأرض، وفي حال الجلوس على الفخذين والركبتين، فلم يبق إلا حال القيام، فعلم أنها المرادة في حديث سهل، وهذا واضح جدا.
أما حديث وائل ففيه التصريح من وائل – رضي الله عنه – بأنه رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائما في الصلاة، خرجه النسائي (1) بإسناد صحيح، وهذا اللفظ من وائل يشمل القيامين بلا شك، ومن فرق بينهما فعليه الدليل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول المقال.
الوجه الثالث: أن العلماء ذكروا أن من الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب إلى الخشوع والتذلل، وأبعد عن العبث، كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر، وهذا المعنى مطلوب للمصلي قبل الركوع وبعده، فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ثابت يجب المصير عليه.
أما قول أخينا العلامة: (أنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة، وما أكثرها، ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد)، فجوابه أن يقال: ليس الأمر كذلك، بل ورد ما يدل عليه من حديث سهل ووائل وغيرهما كما تقدم، وعلى من أخرج القيام بعد الركوع من مدلولها الدليل الصحيح المبين لذلك.
(1) كتاب الافتتاح، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، برقم (887).
وأما قوله – وفقه الله -: (ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم)، فجوابه أن يقال: هذا غريب جدا، وما الذي يدلنا على أن أحدا من السلف لم يفعله؟ بل الصواب أن ذلك دليل على أنهم كانوا يقبضون في حال القيام بعد الركوع، ولو فعلوا خلاف ذلك لنقل؛ لأن الأحاديث السالفة تدل على شرعية القبض حال القيام في الصلاة، سواء كان قبل الركوع أو بعده، وهو مقتضى ترجمة الإمام البخاري – رحمه الله – التي ذكرناها في أول هذا المقال، كما أن ذلك هو مقتضى كلام الحافظ ابن حجر عليها (1)، ولو أن أحدا من السلف فعل خلاف ذلك لنقل إلينا، وأكبر من ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم ينقل عنه أن أرسل يديه حال قيامه من الركوع ولو فعل ذلك لنقل إلينا كما نقل الصحابة – رضي الله عنهم – ما هو دون ذلك من أقواله وأفعاله – عليه الصلاة والسلام –، وسبق في كلام ابن عبد البر (2) رحمه الله – أنه لم ينقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم خلاف القبض، وأقره الحافظ، ولا نعلم عن غيره خلافه.
فاتضح بما ذكرنا أن ما قاله أخونا فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين في هذه المسألة حجة عليه لا له، عند التأمل والنظر ومراعاة القواعد المتبعة عند أهل العلم، فالله يغفر لنا وله، ويعاملنا جميعا بعفوه، ولعله بعد
(1) ينظر: «فتح الباري» (2/ 224).
(2)
ينظر: المصدر نفسه.