الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله وعافاه، وكانوا قد اشترطوا عليهم قطيعا من الغنم، فأوفوا لهم بشرطهم، فتوقفوا عن قسمه بينهم حتى سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم، فقال – عليه الصلاة والسلام:«أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم (1)» ، ولم ينكر عليهم ذلك. وقال – صلى الله عليه وسلم:«إن أحق ما أخذتم عليه أجرا، كتاب الله (2)» ، فهذا يدل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم كما جاز أخذها على الرقية.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب، برقم (2276)، ومسلم في كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201).
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح في كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع الغنم برقم (5737).
المبحث الخامس: الاستدلال بالقواعد الأصولية ورعاية مقاصد الشريعة:
من المعلوم بداهة أن المفتي لا بد أن يراعي مقاصد الشريعة ويوازن بين المصالح والمفاسد فإن تغلب جانب المصلحة على جانب المفسدة أفتى بالجواز، وإن تغلب جانب المفسدة أفتى بالمنع، وهذا المقصد لم تخل فتاوى سماحة الشيخ – رحمه الله – منه، فعلى سبيل المثال:
(أ) سئل سماحته عن حكم التصوير في وسائل الإعلام؟ (1)
فأجاب – رحمه الله: لا شك أن استغلال وسائل الإعلام في الدعوة إلى الحق ونشر أحكام الشريعة، وبيان الشرك ووسائله والتحذير من ذلك
(1)«مجموع فتاوى سماحة الشيخ» جمع د/ الطيار (2/ 817 - 819).
ومن سائر ما نهى الله عنه، من أعظم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وهي من نعم الله العظيمة في حق من استغلها في الخير، وفي حق من استفاد منها ما ينفعه في دينه ويبصره بحق الله عليه.
ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج منه بعض أهل العلم؛ من أجل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في التصوير ولعن المصورين.
ولكن بعض أهل العلم رأى أنه لا حرج في ذلك، إذا كان البروز فيه للدعوة إلى الحق، ونشر أحكام الإسلام والرد على دعاة الباطل؛ عملا بالقاعدة الشرعية وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعا، وتحصيل أعلى المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعا (1).
وهكذا يقال في المفاسد الكثيرة والمصالح الكثيرة: يجب على ولاة الأمور وعلى العلماء إذا لم يتيسر السلامة من المفاسد كلها، أن يجتهدوا في السلامة من أخطرها وأكبرها إثما، وهكذا المصالح يجب عليهم أن يحققوا ما أمكن منها، الكبرى فالكبرى، إذا لم يتيسر تحصيلها كلها، ولذلك أمثلة كثيرة وأدلة متنوعة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2).
(1) ينظر: «الموافقات» (2/ 26)، و «أشباه السيوطي» ص87، و «أشباه ابن نجيم» ص89.
(2)
سورة الأنعام الآية 108
ومنها الحديث الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة – رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم (1)» الحديث، متفق عليه.
وبهذا يعلم أن الكلام في الظهور في التلفاز للدعوة إلى الله – سبحانه – ونشر الحق، يختلف بحسب ما أعطى الله الناس من العلم والإدراك، والبصيرة والنظر في العواقب، فمن شرح الله صدره واتسع علمه، ورأى أن يظهر في التلفاز لنشر الحق وتبليغ رسالات الله فلا حرج عليه في ذلك، وله أجره وثوابه عند الله – سبحانه –، ومن اشتبه عليه الأمر، ولم ينشرح صدره لذلك، فنرجو أن يكون معذورا؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2)» ، وقوله – صلى الله عليه وسلم: «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب
…
(3)» الحديث.
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار، مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه، برقم (126)، ومسلم في كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، برقم (1333).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 200)، برقم (1723، 1727)، والترمذي في كتاب صفة القيامة، برقم (2518)، والنسائي في كتاب الأشربة، باب في الحث على ترك الشبهات، برقم (5711).
(3)
أخرجه بهذا اللفظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 294)، وأخرجه بنحوه أحمد (4/ 228) برقم (18164) من حديث وابصة بن معين – رضي الله عنه.
ولا شك أن ظهور أهل الحق في التلفاز من أعظم الأسباب في نشر دين الله والرد على أهل الباطل؛ لأنه يشاهده غالب الناس من الرجال والنساء والمسلمين والكفار، ويطمئن أهل الحق إذا رأوا صورة من يعرفونه بالحق وينتفعون بما يصدر منه، وفي ذلك أيضا محاربة لأهل الباطل وتضييق المجال عليهم، وقد قال الله – عز وجل:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1)، وقال – عز وجل:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2).
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3)» ، وقال – عليه الصلاة والسلام:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا (4)» ، وقال – صلى الله عليه وسلم – لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لما بعثه إلى اليهود في خيبر: «ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله – تعالى – فيه، فوالله
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2)
سورة النحل الآية 125
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، برقم (1893).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1)».
وهذه الآيات والأحاديث الصحيحة كلها تعم الدعوة إلى الله – سبحانه – من طريق وسائل الإعلام المعاصرة، ومن جميع الطرق الأخرى كالخطابة والتأليف والرسائل والمكالمات الهاتفية، وغير ذلك من أنواع التبليغ لمن أصلح الله نيته ورزقه العلم النافع والعمل به، وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2)» ، وقال – عليه الصلاة والسلام:«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (3)» .
(ب) سئل عن حكم تكرار الحج للمرأة مع الزحام والاختلاط (4):
فأجاب – رحمه الله: لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء، ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة بسبب تيسر المواصلات، واتساع الدنيا على الناس، واختلاط الرجال بالنساء
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس إلى الإسلام والنبوة، برقم (2942)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه، برقم (2406).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، الحديث الأول، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله – صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنية» برقم (1907).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله برقم (2564).
(4)
مجموع فتاوى الحج والعمرة ص204.
في الطواف وأماكن العبادة، وعدم تحرز الكثير منهم عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن وأسلم لدينهن وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن.
وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم، فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد الطيب، ولا سيما إذا كان حجه يترتب عليه حج أتباع له، قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج لجهلهم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرمي وغيرهما من العبادات التي يكون فيها ازدحام، والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلين عظيمين:
أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها حسب الإمكان.
الثاني: العناية بدرء المفاسد كلها أو تقليلها وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل – عليهم الصلاة والسلام –، تدور بين هذين الأصلين.
وعلى حسب علم العبد بشريعة الله سبحانه وأسرارها ومقاصدها، وتحريه لما يرضي الله ويقربه لديه واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له – سبحانه – وتسديده إياه في أقواله وأعماله، وأسأل الله – عز وجل – أن
يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر الدين والدنيا، إنه سميع قريب.
(ج) سئل سماحته عن التنقل بين المساجد طلبا لحسن الصوت (1):
فأجاب – رحمه الله: لا أعلم في هذا بأسا، وإن كنت أميل إلى أنه يلزم المسجد الذي يطمئن قلبه فيه ويخشع فيه؛ لأنه قد يذهب إلى مسجد آخر لا يحصل له فيه ما حصل في الأول من الخشوع والطمأنينة، فأنا أرجح – حسب القواعد الشرعية – أنه إذا وجد إماما يطمئن إليه ويخشع في صلاته وقراءته يلزم ذلك أو يكثر من ذلك معه، والأمر في ذلك واضح لا حرج فيه بحمد الله، فلو انتقل إلى إمام آخر لا نعلم فيه بأسا إذا كان قصده الخير وليس قصده شيئا آخر من رياء أو غيره.
لكن الأقرب – من حيث القواعد الشرعية – أنه يلزم المسجد الذي فيه الخشوع والطمأنينة وحسن القراءة، أو فيه تكثير المصلين؛ لكونه إذا صلى فيه كثر المصلون بسببه حيث يتأسون به، أو لأنه يفيدهم وليس عندهم من يفيدهم ويذكرهم بعض الأحيان، أو يلقي عليهم درسا، بمعنى أن يحصل لهم بوجوده فائدة، فإذا كان هكذا فكونه في هذا المسجد الذي فيه الفائدة منه أو من غيره، أو كونه أقرب إلى خشوع قلبه والطمأنينة وتلذذه بالصلاة فيه، فكل هذا مطلوب.
(1)«مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11/ 329).