الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز
وأصول منهجه في الفتوى
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويدلون من ضل منهم إلى الهدى، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (1)، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمما لا شك فيه أن لعلماء الشريعة القدح المعلى من المنازل، والدور المجلى في الأمة، لا سيما في المستجدات والنوازل، خاصة إذا بلغ العالم مرتبة الفتوى، لما للفتوى من مكانة عظمى ومنزلة كبرى في هذا الدين، ويكفي أن مقام المفتين هو التوقيع عن رب العالمين، وفي ذلك من التشريف والتكليف ما لا يخفى، يقول الإمام العلامة ابن قيم الجوزية: «إذا كان منصب التوقيع عن الملوك
(1) من مقدمة كتاب الإمام أحمد – رحمه الله – في الرد على الجهمية والزنادقة.
بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟!» (1).
ومما يدل على عظم مكانتها أن الله سبحانه وتعالى تولاها بنفسه، قال – عز من قائل -:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} (2)، كما كان الرسول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يتولى هذا المنصب في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته عليه الصلاة والسلام (3)، ثم تولى زمام ذلك بعده صحابته الأخيار؛ فقد كان جملة منهم ممن توارد على هذا المنصب العظيم لا سيما الخلفاء الأربعة وغيرهم ممن اشتهر بالعلم، وقد عد العلامة ابن القيم منهم عددا كبيرا، رضي الله عنهم وأرضاهم (4)، ومع اهتمام السلف بالفتوى وتواردهم على حلائبها فقد كانوا رضي الله عنهم ورحمهم يتهيبونها، ويودون أن لو كفوا مؤونتها، كما قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما منهم من محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث،
(1)«إعلام الموقعين» (1/ 10).
(2)
سورة النساء الآية 176
(3)
«إعلام الموقعين» (1/ 11).
(4)
ينظر: «المصدر السابق» (1/ 12 – 14).
ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى» (1)، ولعل هذا التورع المحمود المتمشي مع الضوابط الشرعية للفتوى، هو الذي جعل الفتوى الصادرة عن علماء الشريعة عبر عصور الإسلام الزاهرة متميزة بمزايا عديدة، تظهر بجلاء كمال هذه الشريعة وشمولها ومحاسنها، وصلاحيتها لكل الأزمنة والأمكنة.
هذا، وقد زخر تاريخ هذه الأمة بكوكبة من علماء الشريعة، يعدون بحق منارات شامخة في سماء الاجتهاد والفتوى، كما ازدان عصرنا الحاضر بنخبة مميزة من العلماء الأفذاذ والمفتين المبرزين، الذين يعدون امتدادا للأسلاف الصالحين من المفتين المجتهدين؛ لذا فإنه من الأهمية بمكان إبراز منهج هؤلاء الصفوة، وتجلية أصولهم في الفتوى، ودراسة حياتهم العلمية والعملية، لما له من الأثر البالغ على ساحات العلم والعلماء عامة، والمعنيين منهم بالفتوى خاصة.
لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وهبت أعاصير المحن، وكثرت النوازل والمستجدات، وتسارعت التطورات والمتغيرات، وتطاول فيه كثير من الرويبضة على مقامات الفتوى، وتجرؤوا على التحليل والتحريم ومدوا للإفتاء باعا قصيرة؛ فكم نسمع من فتاوى لا زمام لها ولا خطام، تشجي الحلق، وتشقي الخلق، لا يظهر فيها بهاء الشريعة، ولا تسلم من الشطحات الشنيعة؟ مما يؤكد الإفادة من منهج
(1) أخرجه الدارمي في «السنن» (137)، وابن سعد في «الطبقات» (6/ 74، 75).
علماء السلف في الفتوى ومن سار على منهجهم من علماء عصرنا الحاضر.
ولقد كان من أبرز أعلام هذا العصر وعلماء هذا الزمان، ممن طبقت شهرته الآفاق في العلوم الشرعية كافة، وفي مجال الفتوى خاصة: شخصية علمية نادرة، يعد بحق أمة في رجل، أئمة في إمام، أنموذجا مشرقا في العلم والدراية، ومثلا سارت به الركبان في الاجتهاد والفتوى، مما يجعله جديرا بالاهتمام والعناية، والدراسة والرعاية، ذلكم هو: سماحة العلامة المفتي الشيخ أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله رحمة واسعة.
ونظرا لما مثله سماحته – رحمه الله – من منزلة علمية عالية، ومكانة إفتائية عالمية، ولما تمتع به من منهج متميز في الفتوى، قل نظيره في هذا العصر، وبناء على حاجة المكتبة الإسلامية – فيما أرى – إلى بحث مستقل يبرز منهجه العلمي ويجلي طريقته وأسلوبه في الفتوى، خاصة أن غالب الكتابات، وأكثر الأطروحات التي صدرت عن سماحته تعنى بالجانب السيري، والطرح السردي العام؛ فقد رأيت أن أقدم بحثا علميا استقرائيا منهجيا، يركز على أصول منهجه – رحمه الله – في الفتوى، والأسس التي بنى عليها فتاويه، إسهاما مني في البحث العلمي، ومشاركة في إبراز المنهج الصحيح في الفتوى، الذي سار عليه علماؤنا – رحمهم الله –، ووضع لبنة سليمة في بناء العلم والفتوى الشامخ، ووفاء
بحق علمائنا علينا، وربطا للأجيال الناشئة بعلمهم ومنهجهم المتميز في الفتوى، ولعلي بذلك أقدم بحثا جديدا في منهجه، وطريفا في بابه؛ حيث لم أطلع على بحث سابق في هذا المجال – فيما وقفت عليه – وقد رأيت أن يكون عنوانه:(الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، وأصول منهجه في الفتوى).
أهمية البحث وعوامل اختياره:
هناك عوامل كثيرة تبرز أهمية هذا البحث، وتوضح أسباب اختياري له، أهمها:
1 -
المكانة العلمية لهذا النوع من الأبحاث؛ حيث يركز على إبراز الصفحة المشرقة لعلمائنا الأجلاء.
2 -
خطورة أمر الفتيا، لا سيما في هذا العصر مع كثرة النوازل والمستجدات، وتسارع الحوادث والمتغيرات، مما يحتم معرفة أصول المنهج الصحيح في ذلك، وهو ما سلكه سماحته – رحمه الله.
3 -
المنزلة العلمية الرفيعة التي حظي بها سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – فهو بحق مفتي عصره، وعلامة زمانه.
4 -
بيان ما كان يتميز به رحمه الله من منهج فريد في الفتوى، ينبني على أصول راسخة، وركائز متينة جديرة بالعناية والاهتمام.
5 -
الحاجة الماسة التي تعيشها المكتبة الإسلامية إلى الأبحاث المستقلة التي تبرز أصول منهجه – رحمه الله – عامة، وفي الفتيا خاصة.
6 -
ما قذفت به المدنية الحديثة من وسائل الاتصالات والفضائيات وشبكات المعلومات، وخوضها في قضايا الفتيا في الأمة، وتصدر من ليس أهلا لهذا المنصب العظيم
…
يجعل تقديم سماحته أنموذجا مشرقا وبلسما شافيا – بإذن الله – في رسم المنهج الصحيح في هذه القضية المهمة.
7 -
لعل هذا البحث وأمثاله يعد رمز وفاء، وعنوان تقدير وثناء لسماحته – رحمه الله –، وأداء لبعض حقه على طلابه ومحبيه، والناهلين من معين علمه وفتاويه، والمستفيدين من منهجه وطريقته وأسلوبه، خاصة في مجال الفتوى، عليه رحمة الله.
تلك أهم العوامل التي دعتني إلى اختيار هذا البحث.
سائلا الله التوفيق والتسديد بمنه وكرمه.
خطة البحث:
تتمحور خطة البحث: في تمهيد، وصلب الموضوع في عشرين مبحثا، وخاتمة.
التمهيد:
ويحتوي على ترجمة موجزة لسماحة الشيخ – رحمه الله – وتشمل العناصر الآتية:
1 -
اسمه ونسبه.
2 -
مولده ونشأته.
3 -
طلبه للعلم وشيوخه.
4 -
حياته العلمية.
5 -
صفاته وأخلاقه.
6 -
تلاميذه.
7 -
آثاره العلمية ومؤلفاته.
8 -
وفاته.
أصول منهج الشيخ ابن باز في الفتوى:
ويشمل عشرين مبحثا، كل مبحث منها في أصل من أصول منهجه – رحمه الله –، وهي:
1 -
اتباع الدليل، ومجانبة التقليد.
2 -
العناية بصحة الحديث سندا ومتنا.
3 -
الاعتماد على آثار الصحابة، وفعل السلف الصالح – رضي الله عنهم.
4 -
الجمع بين الرواية والدراية.
5 -
الاستدلال بالقواعد الأصولية، ورعاية مقاصد الشريعة.
6 -
مراعاة العلل الشرعية للأحكام، وتغير أحوال الزمان والمكان.
7 -
اعتبار القواعد الشرعية في التيسير ورفع الحرج – دون تساهل.
8 -
الاستشارة في الفتوى، والاستفادة من أهل الخبرة.
9 -
الأخذ بالاجتهاد الجماعي، والدعوة إليه.
10 -
العالمية والاجتهاد في النوازل والمستجدات.
11 -
التركيز على مسائل الاعتقاد.
12 -
الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية.
13 -
مزج الفتوى بالدعوة والتربية.
14 -
الحرص على جمع الكلمة، ووحدة الصف.
15 -
الدقة والإلمام بحيثيات المسألة، والتفصيل فيها.
16 -
الوضوح والبعد عن الإغراق في الاختلافات.
17 -
الورع والتوقف، والأخذ بالأحوط في المشتبهات.
18 -
الثبات في الفتوى عند وضوح الدليل، والرد على المخالف.
19 -
الأدب مع العلماء المخالفين، وإحسان الظن بهم.
20 -
عدم الإنكار على المخالف في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها.
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج التي خرجت بها، موشحة ببعض المقترحات والتوصيات المهمة في هذا المجال.
منهج البحث:
يتسم منهج البحث بالخطوات الآتية:
1 -
الاستقراء والتتبع لأصول منهج سماحة الشيخ – رحمه الله – في الفتوى من خلال مجموع فتاواه المطبوع، باعتباره مصدرا أصيلا في حصر فتاويه وبيان منهجه في الفتوى.
2 -
الإفادة من كتبه ورسائله المطبوعة، وكذا ما سجل له بصوته من الفتاوى، أو ما هو مستفيض عنه من منهج الفتوى بين أهل الاختصاص وطلاب العلم.
3 -
الرجوع إلى ما كتب عن الشيخ – رحمه الله – من كتب ومؤلفات ورسائل ومجلات، مما يعد مصدرا ثرا في بيان منهج الشيخ – رحمه الله – في الفتوى.
4 -
لا أدعي استقصاء كل ما صدر عن الشيخ – رحمه الله – من الفتاوى، ولكنني رمت التركيز على ذكر أصول منهجه في الفتوى مدعمة ببعض النماذج والأمثلة.
5 -
أعتمد نقل نص كلام الشيخ في الفتوى، وأثبت أصل المنهج الذي قصدته، وأكتفي في ذلك بنماذج موجزة، مع التوثيق والعزو لمصادرها.
6 -
أورد في التمثيل للأصل الذي أتحدث عنه في بيان منهجه عددا من النماذج والشواهد المحددة نظرا لكثرتها؛ رغبة في الإيجاز.
7 -
عند إيراد الشيخ – رحمه الله – نقولا أو مذاهب، فإني أعزوها لأصحابها من الكتب المعتمدة.
8 -
التوثيق العلمي لما يرد في البحث من المسائل العلمية من مظانها المعتبرة.
9 -
عزو الآيات إلى سورها بذكر رقم الآية واسم السورة.
10 -
تخريج الأحاديث والآثار من مظانها الأصيلة.
11 -
الترجمة للأعلام بإيجاز ما عدا المشهورين.
12 -
ختمت البحث بخاتمة موجزة تشمل النتائج العامة والخاصة وشيئا من المقترحات والتوصيات.
تلك أبرز السمات والخطوات التي سلكتها في هذا البحث، سائلا الله التوفيق والإخلاص والتسديد والإصابة، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.