الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَال
إلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرام
إعدَاد
الشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الكريم الوهاب والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأواب وعلى آله وأزواجه والأصحاب. أسأله تعالى التوفيق وأستلهمه الصواب.
أما بعد: فإن من القضايا المعروضة على أنظار المجامع الفقهية في هذه الأيام مسألة مشاركة في شركات أصل نشاطها حلال إلَّا أنها تتعامل بالحرام فأجبت وبالله استعنت.
إن هذه الشركات لا تخلو من أن يكون نظامها ينص على تعاملها بالحرام صراحة، كأن ينص مثلًا على استثمار بعض عائداتها في البنوك الربوية للحصول على زيادة ناشئة عن القروض، أو في مصانع الخمور أو أنشطة القمار، أو أن لا ينص على ذلك صراحة، بل إنه معروف عرفًا، أو أن تكون مشغولة الحال مع أن أصل نشاطها حلال، إلَّا أنها يشرف عليها كفار أو فسقة لا يبالون بطيب الكسب.
قبل أن نرتب على هذه الفروض حكمًا ينبغي أولًا أن نوضح مفهوم الشركة دون النزول إلى تفاصيل أنواعها التي يختلف العلماء فيها حيث قسمها البعض من حيث الموضوع العام إلى ستة أقسام
…
شركة في الأعيان والمنافع، وشركة في الأعيان دون المنافع، وشركة في المنافع دون الأعيان، وشركة في المباح بمنافع المباح، وشركة في حق الأبدان، وشركة في حقوق الأموال.
وأما من حيث الصيغة الناشئة عن العقد في شركة خاصة فقد قسمها البعض إلى خمسة أقسام.
- شركة عنان.
- شركة مفاوضة.
- شركة أبدان.
- شركة وجوه.
- شركة مضاربة.
الذي يعنينا هنا هو تعريف الشركة بقدر ما يخدم الموضوع الذي نبحث فيه، فقد عرفها في التكملة الثانية للمجموع (بأنها ثبوت الحق لاثنين فأكثر على جهة الشيوع)(1) ، وعرفها المغني (بأنها الاجتماع في استحقاق أو تصرف)(2) .
وعرفها خليل المالكي بقوله: (الشركة إذْنٌ في التصرف لهما مع أنفسهما)، قال شارحه:(إنه إذْنٌ من كلٍّ منهما في التصرف في ماله لهما مع بقاء تصرف أنفسهما)، وعرفها ابن عرفة بتعريفين:(أحدهما عام والآخر خاص، قال: الأعمية تقرير متمول بين مالكين فأكثر ملكًا فقط، والأخصية ببلا مالك كل بعضه ببعض كل الآخر موجبًا صحة تصرفهما في الجميع)(3) .
وبعد: فإنه بدون أن ندخل في مناقشة التعريفات، جنسًا وفصلًا، والاختلاف الذي يمكن ملاحظته بينها، والناشئ عن اختلاف المذاهب في الشركة الصحيحة بين موسعٍ كالحنابلة، ومضيقٍ، كالشافعية، ومتوسط كالمالكية يمكن أن نقرر:
أن العنصر المشترك هو استواء شركاء في المسؤولية سواء عبرنا بثبوت الحق المشاع، أو الاجتماع في الاستحقاق، أو الإذن في التصرف لهما مع أنفسهما.
(1) التكملة الثانية، للمجموع.
(2)
المغني، لابن قدامة: 7/109، دار هجر.
(3)
الزرقاني على خليل، مع حاشية البناني: 6/40، وكذلك الحدود، لابن عرفة شرح الرصاع: ص322.
وانطلاقًا من الملاحظة الأولى يمكن القول: إن الاشتراك في شركة تنص قوانينها على أنها تتعامل بالربا لا يجوز، وكذلك تلك التي يعرف منها ذلك ولو كان أصل مال الشريكين حلالًا والدخول في هذا النوع من الشركات حرام وباطل.
وأما تلك التي أصل مالها حلال ولا يوجد شرط ولا عرف بالتعامل بالربا، إلَّا أنها يديرها من لا يتحرج من تعاطي الربا، فهذه يُفَصَّلُ فيها: فإن كان الشريك الذي يتحرج من الربا يشارك في ناشطها ويطلع عليه بحيث يمنع من تسرب الربا إليها فهذا جائز، وإن لم يكن كذلك بل تجري معاملاته في غيبته، فإن ذلك لا يجوز بداية، ويصح عقد الشركة في النهاية. فإذا تحقق وقوع بعض المعاملات الربوية فإنه يتصدق بالربح المتعلق بتلك المعاملة وجوبًا لتطهير ماله، وإذا لم يتحقق بل شك في ذلك فإنه يندب له التصدق.
هذا حصيلة ما يفهم من كلام العلماء في مختلف المذاهب وما تدل عليه الأصول العامة للشريعة، وإليك بعض نصوص العلماء المتعلقة بالموضوع تصريحًا أو تلويحا: قال ابن قدامة: " قال أحمد يشارك اليهودي والنصراني ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه ويكون هو الذي يليه لأنه يعمل بالربا "، وبهذا قال الحسن والثوري، وكره الشافعي مشاركتهم مطلقًا لأنه روي عن عبد الله بن عباس أنه قال:" أكره أن يشارك المسلم اليهوديّ، ولا يعرف له مخالف في الصحابة، ولأن مال اليهودي والنصراني ليس بطيب فإنهم يبيعون الخمر ويتعاملون بالربا فكرهت معاملتهم "، ولنا ما روى الخلال بإسناده عن عطاء، قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاركة اليهودي والنصراني إلَّا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم)) ، ولأن العلة في كراهة ما خَلَوْا به، معاملتهم بالربا وبيع الخمر والخنزير وهذا منتف فيما حضره المسلم أو وليه، وقول ابن عباس محمول على هذا فإنه علل بكونهم يربون، كذلك رواه الأثرم عن أبي حمزة عن ابن عباس أنه قال: لا تشاركن يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مجوسيًّا لأنهم يربون، وأن الربا لا يحل، وهو قول واحد من الصحابة لم يثبت انتشاره بينهم وهم " الشافعية " لا يحتجون به، وقولهم: إن أموالهم غير طيبة لا يصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم ورهن درعه عند يهودي على شعير أخذه لأهله وأرسل إلى آخر يطلب مه ثوبين إلى الميسرة، وأضافَةُ يهوديٌ بخبز وإهالة سنخة، ولا يأكل النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بطيب، وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم فثمنه حلال لاعتقادهم حلَّه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وَلُّوهم بيعها وخذوا أثمانها، فأما ما يشتريه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة فإنه يقع فاسدًا وعليه الضمان لأن عقد الوكيل يقع للموكل والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير فأشبه ما لو اشترى به ميتة أو عامل بالربا، وما خفي أمره فلم يعلم فالأصل إباحته وحِلَّه" (1) .
(1) المغني، لابن قدامة: 7/109 – 110 -111.
هذا نص المغني بكامله واضح منه أن معاملة المرابي منهم الذي يخلو بتصرفه لا تجوز، وأن العلة هي الربا، وأن تعامل اليهودي والنصراني بما لا يجوز بعد الدخول في الشركة مع المسلم يكون فاسدًا، لأن المسلم لا يثبت ملكه على المحرمات، ولا يصح تعامله بالربا، وعقد الوكيل كعقد الموكل، هذا معنى كلامه الذي يدل بنصه وبمفهومه على أن الدخول في شركة تتعامل بالربا لا يجوز ولا يصح.
أما الشافعية فقد قال صاحب المهذب: " ويكره أن يشارك المسلم الكافر لما روى أبو حمزة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مجوسيًّا قلت: لم؟ قال: لأنهم يربون والربا لا يحل"(1) .
فأنت ترى الشافعية كرهوا ذلك لمجرد التهمة، أما المالكية، فقد قال الزرقاني عند قول خليل في الشركة: " وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل وخرج به شركة مسلم بكافر يتجر بغير حضور المسلم، فإنها غير صحيحة على ما لبعضهم كظاهر المصنف ولكن ظاهر المدونة المنع ابتداء وصحتها بعد الوقوع فكان على المصنف الاقتصار على القيد الأول ولذلك لم يعبر ابن شاس وابن الحاجب بالصحة وإنما عبرا بالجواز، فقال: من جاز له تصرف لنفسه جاز توكيله وتكفله إلَّا لمانع. اهـ.
وقبله ابن عرفه قائلًا: مسائل المذهب واضحة به. اهـ.
وأما شركة مسلم لكافر يتجر بحضور مسلم فجائزة وصحيحة قطعًا كما في المدونة، ثم إذا نض المال في القسم الأول، أي عدم حضور المسلم أخذ المسلم ما يخصه من رأس المال والربح إن علم سلامة الكافر من عمل الربا وتجر الخمر، فإن شك في عمله في ربا ندب للمسلم صدقته بربحه فقط لقوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) ، وإن شك في عمله به في خمر ندب له التصدق بربحه وبرأس المال جميعًا بوجوب إراقة الخمر ولو اشتراه بمال حلال، وإن تحقق عمله بالربا وجب التصدق بالربح فقط وإن تحقق تجره بخمر وجب على المسلم تصدقه برأس ماله وربحه معًا كذا يفيده اللخم" (3) .
قال الزرقاني: " كذلك عند قول خليل في باب الوكالة ومنع ذمي في بيع أو شراء أو تقاض، وفي تعقب أو تقاض لدين لعدم تحفظه أي من فعل الربا"(4) .
أما الحنفية، فقال في الدر المختار في باب الشركة تعليقًا على قول تنوير الأبصار:" وتساويا مالًا وتصرفًا ودينًا فلا تصح بين حر وعبد وصبي وبالغ ومسلم وكافر لا يخفى أن التساوي في التصرف يستلزم التساوي في الدين وأجازها أبو يوسف مع اختلاف الملة مع الكراهة "، قال ابن عابدين:" يستلزم التساوي في الدين لأن الكافر إذا اشترى خمرًا أو خنزيرًا لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالة من جهته فيفوت شرط التساوي في التصرف ابن كمال، قوله: مع الكراهة لأن الكافر لا يهتدي إلى الجائز من العقود زيلعي"(5) .
(1) المجموع، التكملة الثانية 14/61.
(2)
سورة البقرة: الآية 279.
(3)
الزرقاني: 6/41.
(4)
نفس المرجع والجزء: ص82.
(5)
حاشية ابن عابدين: 3/337.
المراد من سرد هذه النصوص ليس التدليل على صحة الاشتراك مع الكافر أو عكسه وإنما التنبيه إلى العلة التي من أجلها كرهه من كرهه ومنعه من منعه ألا وهي تعاطي البيوع الممنوعة في شكل اشتراء أعيان لا تجوز أو تعامل بالربا، فمن احتاط منع خوفًا من تهمة الربا، ومن لم يحتط فصل قائلًا: إن الجواز مختص بالمعاملات التي يحضرها المسلم، وفي حالة عدم معرفة حال الشريك فإنه إذا شك تصدق ندبًا لتطهير ماله، وإذا تحقق وجب أن يتصدق على التفصيل الذي ذكره الزرقاني، ولم نجد نقلًا يجيز الدخول معه في شركة مع العلم بأنه يتعاطى الربا، ولا نعلم أحدًا أقرّه على الاشتراك معه إذا اكتشف ذلك التعامل، لأنه لا يجوز أن يبقى المسلم متلبسًا بمعاملة الربوية ليدفع قسطًا من أرباحه تخلصًا من الحرام، وإنما يجب أن يكون دفع هذا القسط علامة على التوبة على أن لا يعود، قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (1) .
ولتأكيد وتأصيل ما ذهبنا إليه نذكر ثلاثة قواعد في شكل مبادئ:
المبدأ الأول: إن الشريك يده هي نفس يد الآخر بحيث أن أي عمل يعمله الآخر بالشركة هو عمله هو لا فرق بينهما، أشار إلى ذلك ابن قدامة في الكلام الذي نقلناه عنه آنفًا وذكر أن المعاملات المحرمة التي يقوم بها الشريك الكافر بعد الشركة تكون فاسدة.
المبدأ الثاني: هو شيوع الحرام في مال الشركة مما يجعلها متلبسة بالحرام حتى ولو أعطى قسطًا من الربا حيث يظل ماله مخلوطًا ببقية مال الشركة الذي ينتشر فيه الحرام، فإن ذلك لا يطهره لأن المعاملات الربوية هي معاملات فاسدة، وبالتالي فإن المال مرهون بمعاملات فاسدة ينتشر فيها الحرام " قال ابن القاسم: قال مالك: قال ابن هرمز: عجبًا للمرء يرزقه الله المال الحلال ثم يحرمه من أجل الربح اليسير حتى يكون كله حراما "، " قال محمد بن رشد: قوله ثم يحرمه من أجل الربح اليسير، يريد من أجل الربح الحرام الذي هو ربا، مثل أن يكون له على رجل مائة فيؤخره بها على أن يأخذ منه مائة وعشرين، وقوله حتى يكون كله حرامًا، ليس على ظاهره بأنه يحرم عليه جميعه، ولا يحل له منه شيء، لأن الواجب عليه فيه بإجماع العلماء أن يرد الربح الذي أربا فيه إلى من أخذه منه، ويطيب له سائره لقول الله عز وجل: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ
…
} الآية (2) .
(1) سورة النحل: الآية92.
(2)
سورة البقرة: الآية 279.
وإنما معنى قوله حتى يكون كله حرامًا، أي حتى يكون كله بمنزلة الحرام في أنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئًا حتى يرد ما فيه من الربا، لأنه إن أكل منه قبل أن يرد ما فيه من الربا فقد أكل بعض الربا لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعًا فيه" (1) .
وذكر ابن رشد خلافًا في التعامل ببيع وشراء مع المرابي بين مانع لذلك كله كابن وهب وأصبغ من أصحاب مالك، ومجيز كابن القاسم ومفرق بين الحرام اليسير والحرام الغالب باختصار يراجع فيه (2) .
وإذا كان الأمر كذلك فكيف بالشركة معه، والخلاف في اختلاط الحرام مع الحلال أيهما يغلب معروف وكذلك في تميز الجزء الشائع أو عدمه (3) .
المبدأ الثالث: إن الشركة كالوكالة، والوكالة لا تجوز على محرم، قال البناني بعد كلام: فجعل الإنسان غيره يقتل رجلًا عمدًا عداونًا هو أمر لا نيابة وجعله يقتله قصاصًا نيابة ووكالة (4) .
وهو أمر لا مرية فيه، فلا يجوز ولا يصح أن توكل شخصًا ليسرق أو ليبيع بالربا، فهي وكالة باطلة وآثارها كذلك، قال السيوطي:" قاعدة من صحت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيره وتوكله فيه عن غيره وإلَّا فلا "(5) .
(1) البيان والتحصيل: 18/194 – 195.
(2)
البيان والتحصيل: 8/514 – 515؛ 18/579 وما بعدها.
(3)
القواعد، لابن رجب: ص29-30؛ والأشباه للسيوطي: ص80.
(4)
حاشية البناني: 6/72.
(5)
الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص261.
وقد سبق كلام المغني في جعله الشركة كالوكالة عندما قال: إن عقد الوكيل يقع للموكل، في كلامه عن الشركة.
وبعد، فإن حرمة هذا النوع من الشركات تبدو غاية في الوضوح لانطباق قواعد التحريم عليها، لأنها أحرى بالحرمة مما ذكرنا، ثم إن التحريم في هذه المسألة هو من باب تحريم المقاصد وتحريم الوسائل، وتحريم المقاصد لأنه ممارسة الربا في شكل بيوع فاسدة، وتعاطي البيع الفاسد في حد ذاته محرم مهما كانت نية المتعاطي في جبره، قال السيوطي " القاعدة الخامسة ": تعاطي البيوع الفاسدة حرام كما يؤخذ من كلام الأصحاب إلى أن قال عن الروياني في الفروق والتصرفات بالشراء الفاسد: كلها كتصرفات الغاصب، إلَّا في وجوب الحد عليه وانعقاد الولد حرًّا (1) .
وممنوعة منع الوسائل والمآلات لأنها تعاون على الإثم قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) .
ولأنها وسيلة إلى استمراء الربا والانغماس في حمأته وقد يؤول الأمر إلى ورثة لا يهتمون حتى بإخراج الأرباح الناشئة عن المعاملات الربوية.
والله ولي التوفيق.
الشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية
(1) الأشباه والنظائر: ص178.
(2)
سورة المائدة:: الآية 2.