الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد الرهن
وأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاء
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
بسم الله الرحمن الرحيم
سنتناول هذا الموضوع من خلال المحاور التالية:
المبحث الأول: تعريف الرهن وأحكامه.
المبحث الثاني: أحكام الرهن.
المبحث الثالث: شروط الرهن.
المبحث الرابع: هلاك المرهون وتصفية الرهن.
المبحث الخامس: أوجه الشبه بين عقد الوفاء وبين الرهن.
خاتمة مقارنة موجزة بين عقد الرهن في الشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية.
تقديم
سبقت الشريعة الإسلامية غيرها من الشرائع والكتب السماوية إلى سن أحكام كثيرة في المعاملات التي تتم بين بني الإنسان، وذلك بصفة متقدمة، ومدققة، تراعي مصالح جميع أطراف التعامل على نمط يكفل احترام حقوق الطرفين دون تحيز ولا تمييز. فأحكام الشريعة الإسلامية عامة ومجردة وسهلة التطبيق لكون الناس أمامها سواسية كأسنان المشط، ومن خلال هذا الواقع الذي تتجذر أحكامه عبر الزمن من خلال تطور المعاملات وتجدد حاجات الإنسان، وتنوع مصادرها واختلاف آياتها، برزت الشريعة الإسلامية كل يوم وهي أكثر قابلية لاحتواء كل طموحات القانونيين، وكل المشرفين على تسيير أي نظام يخدم الفرد والجماعة خدمة مخلصة ونزيهة.
وإذا كانت الأمثلة كثيرة ومتنوعة على صدق هذا القول فإن تنظيم مختلف صور عقد الرهن في الشريعة الإسلامية خير شاهد على مدى ارتباط أحكام هذه الشريعة بحياة الناس ومماتهم.
فمن خلال الكتاب والسنة وأصول نظريات الفقه الإسلامي وفرعها تبرز السابقة الحضارية لهذه الشريعة والتي ستبقى بحول الله صالحة لكل زمان ومكان.
وعليه فسنحاول دراسة بعض المبادىء العامة لهذا الموضوع بإيجاز من خلال المباحث المبينة قبل وهي:
المبحث الأول
تعريف الرهن وأصله وأحكامه
التعريف اللغوي:
الرهن ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك والجمع رهان ورهون ((بضمتين)) ورهين ورهنه عنده الشيء حبسه، ورهن كمنع، وأرهنه جعله رهنًا وارتهن منه أخذ منه رهنًا
…
إلى آخر المادة من القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز أبادي.
ومعناه اصطلاحًا هو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم ومن أحسن التعاريف له حكمًا تعريف السرخسي ونصه:(الرهن عقد وثيقة بمال مشروع للتوثق في جانب الاستيفاء فالاستيفاء هو المختص بالوفاء لمال لأن موجب حقيقة الاستيفاء ملك عين المستوفى وملك اليد فموجب العقد الذي هو وثيقة الاستيفاء)(1) .
وأصله في الكتاب قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
قال القرطبي لما ذكر الله الندب إلى الإشهاد والكتب، لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب على ذلك بذكر الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار في ذلك الوقت، ويدخل في ذلك كل وقت لم يوجد فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس والليل والخوف على خراب ذمة الغريم.
وعلى هذا فالرهن في السفر ثابت بكتاب الله تعالى، وفي الحضر ثابت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي البخاري قال: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم في الرهن والقبيل يعني السلف فقال إبراهيم: حدثنا الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعه.
هذا إضافة إلى حالات كثيرة تهم أنواع الرهن تعرضت لها كتب السنة.
(1) المبسوط للسرخسي: 21/63.
أما حكم الرهن فهو ينقسم إلى نوعين الرهن الحيازي، وهذا لا جدال في جوازه والقسم الثاني وتعرفه القوانين الوضعية الرهن الرسمي وفيه خلاف والراجح جوازه، كما سيأتي ومن خلال نصوص الكتاب والسنة أسهب الفقهاء في تحليل مختلف صور الرهن وأركانه وشروطه وأحكامه ولذا يحسن تقسيم هذا المبحث إلى الفقرات التالية:
أولًا: للرهن أركان أولها الراهن، فلكي يكون لعملية الرهن مفعول شرعي يلزم أن يكون الراهن متمتعًا بكامل أهليته، وأن لا يكون محجورًا عليه، واستعمل ابن رشد في بداية المجتهد كلمة من أهل السداد في حق الراهن وهو تعبير عميق الدلالة يجعلنا نحتاط كثيرًا في حالة الراهن حتى أنه إذا كان متمتعًا بأهليته فإن أهل السداد دائمًا حالهم أكثر حيطة من العاديين من الأفراد.
وعند مالك الوصي يقدم الرهن من مال من يلي أمرهم، إذا كان ذلك سيجر إليهم نفعًا ماديًّا، ويرهن عند مالك المكاتب، والصبي المأذون، أما الشافعي، فقد شدد على ضرورة توفر المصلحة الظاهرة في عملية التعاقد التي يمكن أن يقدم عليه الوصي رهنًا من مال من تحت وصايته إذ لا يجوز له ذلك إلا إذا تأكد من النفع الظاهر لفائدة من يتولى الوصاية عليه.
واتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه، وقال أبو حنيفة يجوز رهنه، وذلك قبل أن يفلس.
أما الشروط المطلوبة في المرتهن فهي نفس الشروط الواجب توافرها في الراهن.
قال خليل بن إسحاق: (الرهن بذل من له البيع ما يباع أو غررًا ولو اشترط في العقد وثيقة بحق) .
أما الركن الثاني وهو الرهن فقالت الشافعية بأنه يصح بثلاثة شروط هي:
الأول: أن يكون عينًا، وعندهم أنه لا يجوز رهن الدين.
الثاني: أن لا يمتنع إثبات يد الراهن عليه كالمصحف، أما مالك فقد أجاز رهن المصحف على أن لا يقرأ فيه المرتهن. وخلافهم مبني على جواز أو عدم جواز بيع المصحف.
الثالث: أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر الذي لم يبد صلاحه، على أن لا يباع لأداء الدين إلا إذا بدا صلاحه، ولو حل أجل الدين، وللشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهيم إذا طبع عليها.
وليس من شرط الرهن أن يكون ملكًا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي، بل يجوز عندهما أن يكون مستعارًا على أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن وعند مالك يمكن رهن المغصوب وينتقل من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهنًا في يد الغاصب قبل قبضه، وقال الشافعي: لا يجوز بل يبقى على ضمان الغصب إلى أن يقبضه ومنع أبو حنيفة رهن المشاع وأجازه مالك والشافعي، وخلافهم أساسه هل يمكن القبض والتسليم في المشاع أم لا؟
وانطلاقًا من قول المختصر ((نقل من له البيع ما يباع أو غررًا ولو اشترط في العقد وثيقة بحق)) تتسع مجالات محل الرهن لتشمل كل الأشياء الصالحة محل عقده، وحتى ما فيه قليل من الغرر يجوز بناء على هذا النص رهنه عند جمهور المالكية، ويكون الرهن وثيقة عند المرتهن.
ويجوز أن يرهن الأب أو الوصي أو الحاجر على محجوره، فيما يرجع عليه بنفع عن طريق الرهن.
وإذا رهن دارًا هي وقف عليه على أنها ملك له بشرائها ثم تبين أنها وقف عليه فهل يبطل الرهن أم لا؟ وهل ينتقل الرهن إلى منفعتها وكرائها، لإنماء ماله منها في هذا قولان: أحدهما ينقل الرهن إلى المنفعة والآخر أبطل الرهن لوقوعه على شيء ليس ملكًا للراهن، ولا يستطيع تسليمه للمرتهن وصح رهن الشيء المأجور قبل انتهاء مدة الإجارة.
وإذا كان المرتهن تفوق قيمته قيمة الدين الموثوق بالرهن جاز للراهن أن يرهن الزائد عن القيمة بشرط أن يعلم بذلك المرتهن ويقبل به ويصبح حائزًا للرهن الثاني.
وصح رهن المستعار لقول مالك: من استعار سلعة ليرهنها جاز له ذلك.
ويبطل بشرط مناف لطبيعته كأن يشترط عليه عدم القبض أو أن يشترط عليه عدم بيع المرهون عند انتهاء الأجل لاستيفاء الدين.
وإذا كان البيع فاسدًا ودفع فيه المشتري رهنًا ظانًّا أنه يلزمه، فإن الرهن فاسد لأنه تابع لعقد البيع الفاسد.
وإذا دفع القاتل خطأ رهنًا في الدية ظانًّا أنها تلزمه وحده حلف على جهله بلزومها للعاقلة وفسخ الرهن.
وبطل بدفع رهن جديد على دين قديم مضمون برهن، وبقي ساريًا في حدود الدين الجديد.
وبطل بموت الراهن قبل الحوز لأنه لم يخرج من ملكه، ولم يستلمه الدائن المرتهن فالرهن يلزم بالقول ولا يتم إلا بالحوز.
وإذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن وسلمه له فإنه يبطل ولا يقبل قول المرتهن.
ويبطل الرهن إذا أعاره المرتهن للراهن أو لغيره بإذنه عارية مطلقة إن لم يقيدها بزمان لأن ذلك يدل على أنه أسقط حقه.
ولابن القاسم أن الراهن إذا طالب بوضع الرهن عند أمين وطالب المرتهن بأن يبقى تحت يده فالمشهور والذي اختاره جمهور المالكية هو وضعه عند أمين خشية ضياعه.
وإذا سلمه الأمين للمرتهن دون قبول الراهن وضاع عنده ضمن الأمين قيمة الرهن للراهن وكذلك إذا سلمه للراهن دون قبول المرتهن ضمن أيضًا وإلى ذلك أشار المختصر بقوله: (وإن سلمه دون إذنهما للمرتهن ضمن قيمته وللراهن ضمنها أو الثمن) مع تحمل من أذن منهما تبعة تصرفه في حال الهلاك الذي نجم عن وضع الرهن في مكان غير المكان المتفق عليه.
ويصبح الرهن على الجعل ويلزم الواعد أداء ما وعد به أو تتبع إجراءات تصفية الرهن، لأداء الدين المعروفة.
ويجوز للمرتهن اشتراط منفعة الرهن لنفسه بشرطين هما:
1-
أن تكون المنفعة موقوتة بمدة معينة، للخروج من الجهالة في الإجارة.
2-
أن يكون الرهن في عقد بيع لا من عقد قرض لأنه في البيع بيع وإجارة وهو جائز وفي القرض سلف وإجارة وذلك غير جائز.
وتابع الخرشي ابن رشد في أحكام هلاك الرهن. والحالات التي اختلف فيها الحكم بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه.
وإذا التزم الدائن أثناء إجراءات عقد البيع بتقديم رهن أجبر على الوفاء بالتزامه، وإذا هلك الرهن أو استحق قبل القبض أخبر المرتهن وبقي دينه بدون رهن.
وإذا أذن الراهن للأمين في بيع الرهن عند تمام الأجل أصبح الأمين وكيلًا على البيع يجوز له أن يباشر إجراءاته وإليه أشار المختصر بقوله: (وللأمين بيعه بإذن في عقده إن لم يقل: إن لم آت كالمرتهن بعده وإلا مضى فيها) .
ولا يمكن للأمين أن ينيب غيره في استعمال إجراءات تفويت الرهن عند انقضاء الأجل ولا أن يوصي بذلك لأن الراهن والمرتهن لم يرضيا إلا بأمانته لا بأمانة غيره.
وإذا قضى الراهن الدين ثم أتاه المرتهن بالدين ثم قال الراهن: اتركه عندك، فهلك بعد ذلك فلا شيء على المرتهن لأنه أصبح في هذه الحالة أمينًا وإذا سقط الدين في جزء منه بهبة أو إرث أو شراء، فإن الرهن يبقى وثيقة فيما تبقى من الدين ومعنى ذلك أن الرهن لا تتجزأ قيمته ليأخذ الراهن منه جزءًا مقابل ما آلت إليه ملكيته من الدين وإلى ذلك أشار المختصر بقوله:(وإذا قضى بعض الدين أو سقط فجميع الرهن فيما بقي)(1) . فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن.
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار القول في قدر الحق قول الراهن وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه والمرتهن مدع فوجب أن يكون اليمين على الراهن تطبيقًا لظاهر السنة المشهورة.
أما مالك فيرى أن المرتهن وإن كان مدعيًا فله ههنا شبهة ينقل اليمين إلى غيره وهو كون الرهن شاهدًا له من أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين حجة.
أما الركن الثالث فهو الشيء المرتهن، وعند مالك يجوز الرهن في الأشياء المأخوذة من جميع البيوعات، إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة لأن الصرف من شرطه التقابض فلا يجوز رهنه قبل القبض.
وقال بعض أهل الظاهر عكس ذلك تمامًا، فعندهم لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة، لأن آية الرهن واردة في الدين وهو السلم عندهم فجعلوا هذا شرطًا من شروط صحة الرهن.
إذًا فعند مالك الرهن يجوز في كثير من الحالات كالسلم والقرض وفي الغصب وفي قيم المتلفات وفي أروش الجنايات في الأموال في جراح العمد التي لا قود فيها فليخرج جواز أخذ الرهن في الدية ويجوز عنده في العارية، التي تضمن ولا يجوز فيما لا يضمن ويجوز أخذه في الإجارات ويجوز في الجعل بعد العمل، ويجوز في المهر ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة.
(1) لقد لخصت هذه الحالات من شرح المختصر المعروف بالخرشي: 5/335 - 361 دون تتبع ألفاظه؛ ومن بداية المجتهد: 2/272 - 279.
وعند الشافعية المرهون فيه له شرائط ثلاثة:
1-
أن يكون دينًا، فإنه لا رهن في عين.
2-
أن يكون واجبًا، فلا رهن قبل الوجوب.
3-
أن لا يكون لزومه متوقعًا بأن يجب أو لا يجب، كالرهن في الكتابة.
والشافعي هنا قريب من مذهب مالك إذ أهم خلاف بينهما يتجلى في أن الشافعي منع الرهن قبل الوجوب وأجازه مالك.
هذا عن الأركان التي قسم الفقهاء الرهن إليها أما الشروط ففصلوها على الشكل التالي: شروط صحة، وشروط فساد، الأولى شرطان هما:
- شرط متفق عليه بالجملة وهو القبض مع اختلاف في الجهة التي هو بها شرط فعندما قال الله عز من قائل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فقد تم الاتفاق على قبض الرهن لكنهم اختلفوا في شأن القبض هل هو شرط تمام أو صحة؟
فإذا اعتبرناه شرط صحة لم يتم العقد إلا إذا تم القبض، وإذا اعتبر شرط كمال تم العقد بدونه لكن لا يتم كاملًا إلا إذا تم القبض وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن جبر الراهن على تسليم الرهن إذا تراضى عمدًا في ذلك ولا يحول بينه مع ذلك سوى تراضي المرتهن في طلب التسليم حتى تم تفليس الراهن، أو دونه أو تم مرضه مرضًا أعجزه عن إدارة أمواله.
وفي اختلافهم على هاتين الصورتين قال مالك: إنه من شروط التمام اعتبر عند الشافعي، وأبو حنيفة وبعض أهل الظاهر التسليم شرط صحة لا يتم الرهن بدونه.
وفي القبض يرى مالك أن امتداد القبض من شروط استمرار الرهن وأنه متى عاد إلى يد الراهن، بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم، وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شروط الصحة وفي هذه الحالة مالك عمم الشرط على ظاهره فألزم من قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وجود القبض واستدامته، والشافعي يقول إذا وجد القبض فقد صح الرهن وانعقد فلا يحل ذلك إعارته ولا غير ذلك من التصرف فيه كالحال في البيع.
وقد عقب ابن رشد على هذه المواقف بقوله: وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقدان يشترط الاستدامة ومن لا يشترطه في الصحة أن لا يشترط الاستدامة.
ثم إنهم اتفقوا على جوازه في السفر لقول الله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، واختلفوا عليه في الحضر فذهب الجمهور إلى جوازه، وخالفهم أهل الظاهر ومجاهد، فقالوا بعدم جوازه في الحضر، لظاهر النص على السفر في الآية الكريمة التي هي أصل الرهن من باب دليل الخطاب.
وقال ابن رشد بالحرف: وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنًا على أنه إن جاء بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ.
المبحث الثاني
أحكام الرهن
هذه الأحكام تهم حالات كثيرة نلخصها فيما يلي:
ما للمرتهن وما عليه:
إن من حق المرتهن أن يمسك المرهون عنده حتى يستوفي حقه، وإذا لم يف الراهن بما عليه لجأ المرتهن إلى القضاء لبيع المرهون وسداد ما بذمته للراهن من ثمنه إن كان يفي به وإلا أخذ ما وصل إليه الرهن، وبقي باقي الدين دينًا عاديًّا، لأن الرهن زالت عينه بالبيع، الذي دعا إليه المرتهن وكره مالك توكيل المرتهن على بيع الرهن وأخذ دينه من ثمنه وأجازه الكل مع أن الكراهة ليست هي المنع.
والرهن يتعلق بجملة المرهون فلكل جزء منه ضامن لعموم الدين إذ لا يتجزأ ذلك بمعنى أن الراهن إذا أدى بعضًا من الدين لا يجيز له ذلك أخذ جزء من المرهون إذا كان قابلًا للتجزئة، بل يبقى الرهن بذمة المرتهن ما بقي جزء من الدين في ذمة الراهن حتى ولو مات، فإن الورثة لا يمكنهم استلام المرهون وضمه إلى التركة قبل سداد الدين المقدم الرهن عنه واختلفوا في نتاج الرهن أثناء مدة الرهن فقال الشافعي إن النماء المنفصل مثل فصيل الدابة وثمر الشجرة لا يدخل شيء منه في الرهن، قال آخرون ومنهم أبو حنيفة والثوري: إن ذلك كله داخل في الرهن.
أما مالك فقد فرق بين المتصل بالرهن فجعله منه وبين المنفصل عنه فجعله خارجًا عن الرهن وعلة التمييز عنده هنا هي ما كان على صورته وخلقته يعد منه كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن ولو كان متولدًا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام، فإنه لا يدخل في الرهن ووجه الخلاف في هذا أن أبا حنيفة رأى أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل.
وأما من حكم بعدم التبعية إطلاقًا فاعتماده أحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرهن محلوب ومركوب)) ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله: ((مركوب ومحلوب)) أي يركبه الراهن ويحلبه، لأنه كان يكون غير مقبوض وذلك مناقض لكونه رهنًا فإن الرهن من شروطه القبض قالوا أيضًا: ولا يصح أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه، فلم يبق إلا أن المعنى في ذلك أن أجرة ظهره لربه ونفقته عليه واستدلوا أيضًا بعموم قوله عليه السلام:((الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه)) ثم أضافوا أيضًا بأنه نماء راكد على ما تم الاتفاق عليه فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد.
وعمدة مالك أن الولد حكمه حكم أمه في البيع فهو تابع لها بينما الثمر لا يتبع الشجر إلا إذا نص على ذلك وولد الجارية يتبع عنده بغير شرط والجمهور على أن المرتهن ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن.
ولا نستطيع إلا أن نقول بأن حجة الجمهور هنا أقرب إلى الصواب في نظرنا من التبعيض الذي اختاره إمامنا مالك رضي الله عنه. واختلفوا في ضمان الرهن يهلك عند المرتهن فممن ضمانه؟ الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث قالوا بأن الرهن أمانة، فالقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه.
أما أبو حنيفة وجمهور الكوفيين فقالوا: الرهن من المرتهن ومصيبته منه فأبو حنيفة وجماعة قالوا: إن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين.
وعزت جماعة لعلي بن أبي طالب أنه مضمون بقيمته قَلَّت أو كثرت، وإن بقي للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن.
وفرق مالك وجماعة بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه فقال: هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه، وأضاف مالك أنه إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط فإنه لا يضمن، وقال الأوزاعي: بل يضمن.
أما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الرهن فقال مالك: القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك (1) .
(1) انظر هذه الأقوال مفصلة في بداية المجتهد: 2/270.
المبحث الثالث
شروط الرهن
يرجع الفقهاء شروط الرهن إلى عدة حالات منها ما يتعلق بعقد الرهن نفسه ومنها ما يرجع إلى الراهن والمرتهن ومنها ما يرجع إلى المرهون كما أن بعضها أيضًا يرجع إلى المرهون به.
1-
أما الذي يرجع إلى نفس الرهن فهو أن لا يكون معلقًا بشرط ولا مضافًا إلى وقت.
2-
وما يرجع إلى الراهن والمرتهن فيجب أن يكونا عاقلين فلا يقبل من مجنون ولا من الصبي الذي لا يعقل (1) .
ويجوز الرهن في السفر والحضر إذ النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بالمدينة طعامًا من يهودي ورهنه درعه.
3-
والذي يرجع إلى المرهون فأنواع منها:
(أ) أن يكون محل الرهن قابلًا للبيع فلا يجوز عند الحنفية رهن ما ليس موجودًا وقت إبرام عقد الرهن وفي هذه المسألة أقوال كثيرة تحاشيناها تجنبًا للتطويل الممل ولا يجوز من المجهول ولا ما يمكن تسليمه.
(ب) أن يمكن تسليمه للمرتهن أو من ينوب عنه في ذلك وعند الكاساني من الحنفية أن القبض شرط وليس بركن لذكر القبض مع الرهن في الآية الكريمة.
وللرهن شروط صحة ملخصها:
- أن يكون بإذن الراهن فلا يصح بدون القبض.
- ومنها الحيازة فلا يصح رهن نصف المشاع وبقاء النصف الآخر غير مرهون، وعند الشافعي هذا ليس بشرط وزيادة الرهن مرهونة مثل الأصل، وزيادة الدين بنفس الرهن فغير جائزة عند أبي حنيفة ومحمد وجائزة عند أبي يوسف.
- يجب أن يكون المرهون فارغًا، أي خاليًا مما ليس مرهونًا.
(1) يجوز من الصبي المأذون والعبد. وعنده أن السفر ليس بشرط للرهن.
4 -
وفي المرهون أنواع منها:
(أ) أن يكون مضمونًا وذلك من حيث أصل اشتراط الضمان والثاني في صفة المضمون والهدف من ذلك هو صلاحية الاثنين معًا لضمان حق الدائن وفق مسطرة الرهن.
(ب) أن يكون محتمل الاستيفاء من الرهن فإن لم يحتمل لم يصح الرهن لأن الارتهان استيفاء.
أما أحكام الرهن عند الحنفية فهي:
- حبس المرهون على سبيل الدوام إلى وقت الفكاك أو ملك العين في حق الحبس.
- اختصاص المرتهن بيع المرهون أو اختصاصه بثمنه وهذان الحكمان أصليان عند الحنفية (1) .
وجوب تسليم المرهون عند الافتكاك، قال الشافعي في هذا الصدد: الحكم الأصلي للرهن واحد وهو كون المرتهن أحق ببيع المرهون وأحق بثمنه من سائر الغرماء.
وأما حق حبس الرهن فليس بحكم لازم عند الحنفية حتى أن المرهون إن كان شيئًا يمكن الانتفاع به دون هلاك عينه، كان للراهن أن يسترده من المرتهن فينتفع به فإذا فرغ من الانتفاع أرجعه للمرتهن، هذا على رأي الكاساني وإن كان لا يمكن الانتفاع به إلا بهلاك عينه فليس للراهن استرداده.
(1) البدائع: 6/145، وهذان الشرطان سارت عليهما القوانين الوضعية حتى الفرنسية منها.
المبحث الرابع
هلاك المرهون وتصفية الرهن
أما أمور الضمان والكفالة واستحقاق المرهون من يد المرتهن فإن الأحكام تكاد تتشابه فيها عند جميع الفقهاء فلا نطيل بسرد تفاصيلها في بحث كهذا يهتم بذكر المبادىء العامة.
ومن هلاك المرهون إذا هلك المرهون ففيه خلاف قال الشافعي يهلك أمانة واحتج بالحديث الشريف لا يغلق الرهن وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاثًا وقال لصاحبه الذي رهنه عليه له غنمه وعليه غرمه ولذا يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة ويبقى عليه قضاء الدين أما إذا هلك مضمونًا كان غرمه على المرتهن وضعف الكاساني هذا القول، إذ قال:(وهذا خلاف النص ولأن عقد الرهن شرع بوثيقة بالدين ولو سقط الدين بهلاك المرهون لكان توهينًا لا توثيقًا فيقع تعريض الحق للتلف)(1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرهن بما فيه)) وفي رواية: ((الرهان بما فيها)) وفي السنة قضية الرجل الذي رهن فرسًا لآخر فمات الفرس فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام للدائن: ((ذهب حقك)) والراجح أن هلاك العين عند المرتهن تطبق عليه أحكام هلاك الأمانة في يد الأمين.
والبينة عند الاختلاف بينة الراهن لأنها بينة مثبتة تثبت الاستيفاء وبينة المرتهن تثبت نفي الاستيفاء فالمثبتة أولى وكل الزيادات في المرهون لا تكون مضمونة فلو هلك شيء منها لم يسقط في مقابله شيء من الدين ((إلا الأرش خاصة)) بخلاف الزيادة على الرهن فإنها مضمونة مقصودًا لا تبعًا فإذا صحت ألحقت بأصل العقد لأنها وقعت بطريق الأصالة عن طريق التبعية للمرهون، وإن عين شيئين لرهن واحد قسم الدين على قيمتهما عند الحاجة ليعرف قدر ما في كل واحد منهما من الضمان، كما ينقسم الثمن عليهما في باب البيع وأيهما هلك يهلك بالأقل من قيمته.
(1) البدائع: 6/154.
ولا يجيز أبو حنيفة وأبو يوسف الدين بالجعل وعندهما يضمن القيمة ولا يجوز الرهن بمحل آل إلى الراهن عن طريق عقد فاسد، حتى لا يثبت عن طريق ذلك حق بواسطة عقد سيهدم من أساسه.
وفي الرهن ملك الرقبة دائمًا للراهن وللمرتهن حق الحبس.
وإذا اختلفا في مبلغ الدين المقدم عليه الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه وعن أبي حنيفة في بعض الروايات يتحالفان ويترادان لأنهما اختلفا في قدر ما وقع عليه العقد وهو المرهون به فاشتبه اختلاف البائع والمشتري في مقدار الثمن.
بهذه الأقوال من كتاب بدائع الصنائع للكاساني في باب الرهن تتوصل إلى ضيق شقة الخلاف بين أصحاب أبي حنيفة وبين المالكية في شأن المبادىء العامة للرهن.
وأما هلاك الرهن فللفقهاء فيه خمسة أقوال:
قالت طائفة: يترادان الفضل وتفسير ذلك أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء فقد سقط الدين عن الذي كان عليه ولا ضمان عليه في الرهن فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة على قيمة الدين وإن كانت قيمة الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد على قيمة الرهن (1) .
(1) المحلى: 8/96
المبحث الخامس
بيع الوفاء
هذا إجراء أجازه فقهاء الحنفية وغير جائز عند بقية المذاهب، وهو بيع من حيث نقل ملكية العين إلى الشاري بثمن معلوم، غير أن حق الملكية في هذا النوع يعتبر مؤقتًا لاتفاق الطرفين على أن يرجعا إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرام عقد البيع، ومن هنا أفتى فقهاء المذاهب الأخرى بعدم جوازه لأن المبيع من خصائصه نقل حق الملكية إلى من دفع الثمن، ويكون بإمكان الشاري أن ينقل ذلك الحق إلى من أراد، إذ من مسلمات البيع تمكين الشاري من حق التصرف، والتفويت في العين المبيعة دون عائق، وكل شرط ينافي هذا الحق يبطل حق البيع، وقد أشارت المجلة إلى هذا النوع من البيع، وبينت أوجه الشبه بينه وبين الرهن في المادة 118 بقولها:
(بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع وهو في حكم الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري به وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى اقتدار كل من المتعاقدين على الفسخ وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيع المبيع من الغير) .
قال سليم رستم باز في شرحه لهاته المادة، بأن بيع الوفاء صحيح في العقار على الإطلاق أما في المنقول فعلى الخلاف ولعله يقصد بكلمة الإطلاق الحكم عند الأحناف، لأن بقية فقهاء المذاهب غير جائز عندهم في العقار وفي غيره.
وقال حيدر أفندي: إن مشائخ الإسلام كانوا يفتون بعدم الجواز، وعندما وردت المسألة في المجلة أجازوه، وأيضًا أن مشائخ الإسلام هنا يعني بها مفهوم المذهب الرسمي عند العثمانيين، لأن غير فقهاء الأحناف لم يسكتوا عن المسألة ولم يقبلوا بها، قبل المجلة ولا بعدها.
وبيع الوفاء يشابه الرهن من عدة وجوه منها:
1-
كون المشتري لا يقدر على تفويت العين محل البيع.
2-
وهو كالرهن لأن بيع الوفاء لا يتم إلا بالقبض.
3-
إذا هلك المحل قبل القبض لم يسقط من الدين المعتبر ثمنًا أي شيء.
4-
إن هلك البائع قبل القبض استوى المشتري مع بقية الغرماء.
لذا ومن حيث المبادىء العامة حسب نص المجلة نستطيع القول بأن بيع الوفاء نوع من الرهن، ولكن من حيث وجهة نظر المذاهب الأخرى هو إجراء غير جائز إطلاقًا.
ولقد تأرجح هذا الإجراء بين البيع والرهن لكنه استقر من تاريخ وضع المجلة على أنه بيع (1) .
(1) انظر ما قاله صديقنا العلامة وهبة الزحيلي في الموضوع في كتابه: ج 4، هامش ص48 ثم ذكره في صفحات 242 و 485 و 514.
الخاتمة
يتضح من كل ما سبق أن حق الرهن من الحقوق العينية التبعية. ويشتبه اشتباهًا كبيرًا بين الفقهين الإسلامي والغربي.
فكونه حقًّا عينيًّا يبين أنه لا يتعلق إلا بأعيان الأشياء، وكونه تبعيًّا يعني بأنه لا يقوم وحده، بل لا يترتب إلا إذا سبقه حق أصلي يأتي هو ليعطيه ميزة تخوله الأسبقية عن جميع الديون التي ليست مضمونة برهن، كما يخول التتبع وحق التقدم، ويرى السنهوري أن حق التتبع في الرهن عند فقهاء الإسلام أقوى منه في الفقه الغربي، ذلك أن الراهن لا يستطيع أن يتصرف في العين المرهونة دون إذن المرتهن فإن لم يأذن وتصرف الراهن لا ينفذ، أما في الفقه الغربي، فتصرف الراهن ينفذ ولكن المرتهن يحتج بحق الرهن في مواجهة من تصرف له الراهن، وينفذ البيع بإذن من المرتهن (1) .
ففي الفقه الغربي الرهن الحيازي يقع إما على منقول وإما على عقار.
أما رهن المنقول فهو عقد ضمان يستلم به الدائن عينًا من المدين ضمانًا لدينه، وتفضيلًا له على بقية الدائنين، وهذا الحق يخول الدائن حق حبس العين المرهونة حتى يتم سداد الدين بكامله ويتميز رهن المنقول عن رهن العقار بكونه لا يقع إلا حيازيًا إذ لا مجال للرهن الرسمي في مجال رهن المنقول، وأكثر حالات رهن المنقول في العمليات التجارية، إذ كثيرًا ما يلجأ التجار إلى رهن ما لديهم من بضائع وسندات وأسهم للحصول على ما يلزمهم من اعتمادات وبهذا أصبح الرهن التجاري أكثر انتشارًا في الحياة اليوم وأهم خصائص الرهن الحيازي في القوانين الوضعية هي:
رهن المنقول حق عيني تبعي يولي الدائن حق التتبع وحق الأولية فهو بهذه الحالة يتطلب وجود حق أصلي في ذمة الراهن يقدم المرهون ضمانًا له، كما يصبح للمرتهن حق تتبع المرهون في الأيدي التي انتقل إليها، وأيضًا يولي الأولية. ثم إن هذا الحق بتبعيته للحق الأصلي تترتب عليه جميع الحالات التي تترتب على الحق الأصلي في الانعدام والوجود.
(1) مصادر الحق، لعبد الرزاق السنهوري: 1/35.
ويشترط في المرهون ما يلي:
1-
أن يكون الالتزام الأصلي صحيحًا فإذا كان باطلًا أو قابلًا للإبطال كان حق الرهن مثل ذلك.
2-
أن يكون الالتزام الأصلي قابلًا للتنفيذ جبرًا، لأن الرهن عند عدم الوفاء بالدين يباشر بيعه ليؤدي الدين من ثمنه.
3-
يشترط لإنشاء رهن المنقول أن يكون الالتزام الأصلي التزامًا بأداء مبلغ من النقود، مع أن التشريع السوري أجاز رهن المنقول لضمان وفاء التزام ما لا فرق بين التزام بأداء مبلغ أو الامتناع عن عمل بينما القانون المغربي لا يجوز عنده لضمان التزام بعمل شيء أو عدم عمله، وإنما يجوز عقد لضمان أي التزام يكون محله وفاء مبلغ من النقود.
أما شروط المرهون فهي:
- أن يكون المنقول صالحًا للتداول حتى يتمكن المرتهن من اتباع إجراءات تصفيته وسداد الدين منه عند عدم الأداء.
- أن يكون قابلًا للتسليم لأن الرهن يستلزم تسليم المرهون ولا يجوز من وجهة نظر القوانين التي اشترطت هذا الشرط أن يكون المرهون من الديون.
أما الشروط التي تتعلق بالراهن مالكًا للمرهون وأن يكون أهلًا للتصرف.
وبهذا نرى أن القوانين الوضعية أخذت أحكام الرهن الحيازي من أحكام الشريعة الإسلامية.
أما الرهن العقاري ففيه الرهن الحيازي وأحكامه موحدة تقريبًا، أما الرهن الرسمي فهو حق عيني أيضًا تبعي يولي صاحبه حق تتبع العقار فهو حق عقاري لا يقبل التجزئة وهو لا يتطلب خروج العقار من يد صاحبه.
ولقد اقتبسته جل القوانين العربية من المادة 2154 من القانون الفرنسي وإليه أشارت المادة 175 من ظهير 19 رجب 1333هـ المغربي، والمادة 1054 من القانون المصري.
وهذا النوع من الرهن أصبح متداولًا في العالم بشكل عام، وساعد على إبرام كثير من العمليات والصفقات، وإذا نظرنا إلى أن بعض الفقهاء أجاز رهن الوثائق، وبعض الحالات التي لا تتعارض مع هذا الرهن تمكنا من القول بأنه لا يشكل خروجًا على أحكام الشريعة، وأن على الفقهاء دراسته من جديد لإخراج أحكام بارزة لمختلف صوره من الأقوال التي يتشابه معها. والله الموفق للصواب.
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
المناقشة
بيع الوفاء
الرئيس:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة الصباحية هو ((بيع الوفاء)) العارض هو فضيلة الشيخ خليل الميس والمقرر الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على النبي المصطفى رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
بين يدي البحث هنالك ملاحظة: إن أي مسألة لم يضع لها الأئمة الأعلام عنوانًا حار بها من بعدهم، واختلفوا فيها أيما اختلاف وإنها لحكمة، هذه الحكمة أن الله سبحانه وتعالى قد منَّ على هذه الأمة بعد سلفها الصالح بمجموعة خيرة أطَّرت الفقه الإسلامي تحت عناوين ونهل من هذا المنهل من جرى على منهج أولئك الأئمة الأعلام.
ومن الأدلة على ما نحن بصدده ما يوصف بـ ((بيع الوفاء)) ، ومن العنوان أمر عجب وهل هنالك بيع بدون وفاء؟ إنه عنوان عجيب! وكأنهم أخذوا من آخره لأوله ومن أوله لآخره، ومن هنا أقول أيضًا بين يدي البحث كيف تستجد المسائل؟ وكيف تحصل الواقعات والنوازل؟ نعم، لنتأمل الأرض التي نبت فوقها هذا العنوان، قالوا: إنها بخارى وسمرقند وبلخ، يا ترى لماذا؟ قالوا: شحت النفوس وضنت ولا بد أن يأكل المسلمون أموالهم بينهم بالحق ولا يأكلوها بالباطل. ولما بعُدَ الحق التمسوا طرقًا كي يصلوا إلى الحق ولكنها لم تكن طرقًا معبدة، وهذا واحد منها. إنه ((بيع الوفاء)) الذي يعتبر من العقود المستحدثة بعد استقرار المذاهب، نعم لم يكن له وجود في عهد السلف الصالح، ولكن باستشراء الفساد واختلال المروءات ظهر في الناس هذا النمط من التعامل، قالوا: حدث في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري إلا ما ذُكِرَ أو ورد عن أبي جعفر الباقر - رضي الله تعالى عنه - في كتب المذهب المعتمدة، وبعبارة أخرى نقول: إن هذه المسألة من النوازل أو الواقعات، ولذلك تعددت الأقوال في تعريفه كما اختلفت أقوال الفقهاء في تصنيفه. ومما لا خلاف عليه أنه عقد مركب من عقدين يتنازعه كل من الرهن والبيع على حد سواء، وعلى خلاف في صحته أو فساده لذلك دار بينهما وكأنه كالتنازع في علم النحو والصرف.
والقاعدة الفقهية تقضي (بأن المعاملات طلق حتى يعلم المنع) لذلك بذل الفقهاء أقصى جهدهم - كما هو شأنهم - لبيان حكم هذا العقد وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة في سمرقند وبخارى وبلخ. فإن شئنا قلنا مدرسة ما وراء النهر لأنهم سلكوا هذا المسلك تجنبًا عن الوقوع في الربا لأن الصيغة بيع والحقيقة رهن.
فالقول بحل الانتفاع بالعين يكون هذا العقد بيعًا، ومن حيث الالتزام أو إلزام المشتري برد العين إلى البائع إذا أعاد البائع الثمن يكون رهنًا، وهنالك فروق واضحة ما بين الرهن وما بين البيع.
ومن هنا من أراد أن يلتمس هذه المسألة يجدها في كتب الفتاوى المطولة، ومن المعروف أن كتب الفتاوى هي في المرتبة الثالثة من كتب فقهاء الحنفية وليست من كتب الأصل.
إذن لنقل أولًا تعريف بيع الوفاء: تعددت أقوال الفقهاء في تعريف بيع الوفاء ولكنها متقاربة من حيث المعنى، عرف الزيلعي بقوله: هو أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بدين لك علىَّ على أنِّي متى قضيتُ الدين فهو لي، فهنا اختار عبارة (قضيت الدين) . ويأتي قاضيخان ويتبعه ابن نجيم معرفين بقولهما: بعت منك هذا العين بكذا على أنِّي متى دفعت لك الثمن تدفع العين إليَّ، استعمل هنا كلمة (تدفع) وهنالك قضاء، ونقل في هامش جامع الفصولين عن صاحب جواهر الفتاوي قوله: بيع الوفاء أن يقول: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن وهنا جاءت كلمة (تبيع)، وأما ابن عابدين فقد قال في الحاشية: هو أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين، وواضح أنه استعمل كلمة (رد) . أما في المجلة: فقد عرف الوفاء بأنه بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن - إنها عبارة ابن عابدين - يرد المشتري إليه المبيع. وبالجملة هنالك أربع عبارات: قضاء الدين، ودفع الثمن، والبيع، والرد. وبالتأمل في هذه العبارات نجد أن صورة هذا العقد دائرة في لسان الفقهاء ما بين البيع والرهن، بل هو رهن في صورة بيع فهو عقد أحدث تحيُّلًا لتحصيل الأرباح من طريق مباح.
المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى: كما تعددت أقوال الفقهاء في تعريفه كذلك تعددت أقوالهم في أسمائه. فيسميه المالكية: بيع الثنيا، والشافعية: بيع العهدة، والحنابلة: بيع الأمانة، ويسمى أيضًا: بيع الطاعة وبيع الجائز، وعند فقهاء الحنفية أيضًا له أسماء فهو بيع الوفاء، والوجه في ذلك أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن، وهو البيع الجائز، وبعض الفقهاء يسميه: البيع الجائز، لعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه، وهو بيع المعاملة، والوجه فيه أن المعاملة ربح الدين، وهذا يشتري الدائن لينتفع به بمقابلة الدين، وهو بيع الأمانة، ويسمى بمصر بيع الأمانة، والوجه في اعتباره بيع أمانة، أنه أمانة عند المشتري، بناء على أنه رهن أي كالأمانة، وهو بيع الإطاعة كذا في بلاد الشام يسمى بيع الإطاعة أو الطاعة، ووجهه أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد.
مناسبة ذكره في كتب الفقه: من الملفت للانتباه أنه تَوَزَّعَ هذا المبحث في أبواب الفقه حتى ضمن المذهب الواحد، نقول: ذكره الحطاب في باب البيوع المنهي عنها، قال: ومن الشروط المناقضة بيع الثنيا، وهو من البيوع الفاسدة، بينما ذكره ابن رشد في بيع الشروط، وذكره صاحب الملتقط في باب الرهن، وذكره البزازي وقاضيخان في مباحث البيع الفاسد، وذكره ابن نجيم وغيره في خيار الشرط، وذكره الزيلعي في كتاب الإكراه. وهكذا نجد أن هذا البيع احتار العلماء تحت أي فئة ينسبونه من أبواب الفقه.
ما ينعقد به البيع وفاء: قالوا: لو قال المشتري: اشتريت منك المبيع الفلاني بكذا على أن أرده لك أو أبيعه منك متى أرجعت إلي ثمنه، أو أديتني إياه، فقال البائع: بعته منك على تلك الصورة، انعقد البيع بالوفاء، وإذا حصل الاتفاق بين الطرفين على أن يكون العقد الذي سيجري بينهما عقد بيع ووفاء ثم عقدا البيع ولم يصرحا فيه بأنه كذلك.
والفرق بين عامة البيوع وبيع الوفاء متصور في ثلاثة وجوه: في بيع الوفاء ثلاثة محظورات: بيع الوفاء بيع فيه شرط لا يقتضيه العقد وهو شرط رد المبيع إلى البائع إذا رد الثمن فيلزم أن يكون بيعًا فاسدًا. وبيع الوفاء بيع شرط فيه إقالة، وكل بيع شرط فيه إقالة يكون فاسدًا، وبيع الوفاء رهن في الحقيقة ومن حكم الرهن حرمة الانتفاع بالعين المرهونة، وهاهنا ينتفع المشتري وهو المرتهن بالمشترى وهو الرهن.
حكم بيع الوفاء والأصل المستند إليه في التحليل أو المنع: اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء اختلافًا كثيرًا حتى فيما بين فقهاء المذهب الواحد، وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة المتقدمين منهم والمتأخرين، وبالجملة فالمالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية ذهبوا إلى أن بيع الوفاء فاسد. والوجه فيه: أن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه. وهو: ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام، وبيع الوفاء إن المشتري قلق، وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطًا فاسدًا يفسد البيع باشتراطه.
حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية: استظهر صاحب الفتاوي البزازية تسعة أقوال لفقهاء المذهب في حكم بيع الوفاء، نقول منها، القول الأول: ما أورده النسفي في فتاويه: البيع الذي يتعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع وفاء هو رهن في الحقيقة، وتترتب عليه أحكام الرهن، وهي ألا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن المشتري ما أكل من ثمرة المبيع أو أتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، وللبائع استرداده عند قضاء الدين متى شاء، والوجه في هذا القول: أن المتعاقدين وإن سمياه - أي بيع الوفاء - لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذ البائع يقول: رهنت ملكي، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والناس يسمونه الرهن، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. وقال في الفتاوى الخيرية: والذي عليه الأكثرون أنه رهن لا يفترق من الرهن في حكم من الأحكام، وفيه: قلت للسيد الإمام أبي الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن. قال: وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله وفي فتاوى عماد الدين: فتوى أئمة زماننا أن حكم بيع الوفاء حكم الرهن، ويترتب عليه ما يترتب على الرهن، وقال النسفي: هذا البيع باطل وهو رهن وحكمه حكم الرهن، وقيل: هو بيع فاسد يوجب الملك إذا اتصل به القبض والأول أصح. وفي جواهر الفتاوى: لا فرق عندنا بين الرهن وبينه في حكم من الأحكام.
القول الثاني: عن علامة سمرقند صاحب المنظومة - سمرقند التي كنا ندعو دائمًا أن يعيدها الله إلى ديار الإسلام، وقد عادت بحمد الله تعالى، ونرجو، إن شاء الله، أن تكون الجلسة المقبلة فيما بيننا علماء تلك المنطقة - عن علامة سمرقند صاحب المنظومة نجم الدين النسفي (710هـ) قال: اتفق مشايخ الزمان - وهو ما كان عليه بعض السلف - على صحته بيعًا وإفادته لبعض أحكامه وهي: الانتفاع به دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس، وَجُوِّزَ الاستصناع لذلك، وقد بحث البارحة مبحث الاستصناع. وقال صاحب النهاية: وعليه الفتوى.
والقول الثالث: في فتاوى قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر، إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع، وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز عندهما هذا البيع عبارة عن عقد غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزم الوفاء بالميعاد - طبعًا له دليله ولن نذكره اختصارًا.
القول الرابع: قاله في العدة واختاره الإمام ظهير الدين المرغيناني وغيره من مشايخ بخارى: أنه بيع فاسد كبيع المكره، ولذلك يكون للبائع حق نقض المشتري وهبته لأنه بيع بشرط فاسد. ووجه هذا القول: أن الفساد باعتبار عدم الرضا فكان حكمه حكم بيع المكره. وقال الأتقاني: والأصح عندي أن بيع الوفاء بيع فاسد، يوجب الملك بعد القبض، كسائر البياعات الفاسدة.
القول الخامس: ما اختاره أئمة خوارزم: أنه إذا أطلق البيع ولكن وَكَّل المشتري وكيلًا لفسخ البيع إذا أحضر البائع الثمن، أو عَهِدَ على أنه إذا أوفاه فسخ البيع، والثمن لا يعادل المبيع وفيه غبن فاحش.
- على أي حال نأتي للقول السادس وباختصار - القول السادس: ما اختاره البعض منهم الشيخ الإمام فخر الدين الزاهدي وبعض مشايخ سمرقند: إذا كان الوفاء غير مشروط في البيع نجعله صحيحًا في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل بسائر أملاكه، ولا ضمان عليه، ونجعله رهنًا في حق البائع، حتى لا يتمكن المشتري من بيعه ولا يورث عنه ولا يملك المشتري تحويل يده وملكه إلى غيره وأجبر على الرد إذا أحضر المدين لأنه كالزرافة مركب من البيع والرهن، على ما قال، وكثير من الأحكام له حكمان: كالهبة حال المرض، والهبة بشرط العوض. قال: وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلخ اعتادوا الدين والإجارة الطويلة ولا يمكن ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه. وعقب على هذا الرأي بالقول: والفتوى في زماننا على جوازه من هذا الوجه. وفي جامع الفصولين - نختصر - قال: والقول السابع: أجاب علاء الدين بدر: أنه لا يصح، وعلى هذا اختيار صاحب الهداية وأولاده ومشايخ زماننا، قال: وعليه الفتوى. أعني لا يملك المشتري البيع من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد البقض. والقول الثامن والتاسع مذكور باختصار.
والقول الراجح: قال علي حيدر في شرح المجلة ما نصه: والحاصل أن بيع الوفاء وإن وُجِد فيه تسعة أقوال فأرجحها القول الذي اتبعته المجلة في قولها: بيع الوفاء في حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري، وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى كون كل من الفريقين مقتدرًا على الفسخ، وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيعه إلى الغير. وعلى كل فوجه الشبه بالرهن أبين وأرجح.
مذهب المالكية: اختلف أيضًا فقهاء المالكية في حكم بيع الوفاء على قولين: القول الأول إنه بيع باطل، والقول الثاني إنه رهن باطل. وابن رشد قال في البداية: لا يجوز عند مالك، وعبارته: أما من قال له البائع متى جئتك بالثمن رددت عليَّ المبيع، فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف، إن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجىء كان بيعًا. وفي البيان والتحصيل، قال: سئل مالك عمن باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن كان أحق بحائطه وكان إليه رده فأقام في يد المشتري ست سنين يأكل ثمرته، ويزرع قصيبًا يأكل غلته، ثم أيسر البائع بعد ست سنين فجاءه بالثمن فرده عليه وأخذ حائطه، وقد أكل المشتري ثمرته ست سنين وغلة قصب كان يزرعه، وقال مالك: أصل هذا البيع لم يكن جائزًا ولا حسنًا، وأرى للمشتري ما أكل من الثمر واستغل من القصب بالضمان لأنه كان للحائط ضامنًا، إلى آخر القول. وجاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى جاء بالثمن فهو أحق بالجارية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا، قلت: لِمَ؟ قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف.
حكم الغلة في بيع الثنيا عند المالكية: اختلف في الغلة في هذا البيع، هل هي للمشتري أو للبائع: قال الرجَراجي: اختلف في بيع الثنيا هل هو بيع أو رهن على قولين: وفائدة الخلاف في الغلة، فمن رأى أنه بيع قال: لا يرد الغلة، وقد قال مالك في العتبية: إن الغلة فيه للمشتري بالضمان فجعله بيعًا وإنه ضامن والغلة له، إلى آخر الكلام. وبالجملة: فإن ثمرة الخلاف بين القولين - أي في كونه رهنًا أو بيعًا عند المالكية - تظهر في الغلة، فمن قال: إنه بيع، قال: لا يرد الغلة، وتكون للمشتري بالضمان، ومن قال: إنه رهن، قال: لا يرد الغلة، وإنه في ضمان البائع، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها.
مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أن بيع الأمانة (الوفاء) الذي مضمونه اتفاق المتبايعين على أن البائع إذا جاءه المشتري بالثمن، أعاد عليه ملك المبيع، وللمشتري أن ينتفع بالمبيع بالإجارة أو السكنى أو غيرها، وهو عقد باطل بكل حال. ووجه هذا القول: إن مقصود المتبايعين إنما هو الربا بإعطاء الدراهم إلى أجل ومنفعة الدار مثلًا هي الربح. والواجب فيه: رد المبيع إلى البائع، وأن يرد المشتري ما قبضه من الثمن.
وأما مذهب الشافعية: اختلفت أقوال فقهاء مذهب الإمام الشافعي في حكم بيع الوفاء من المتقدمين فمنهم من ذهب إلى القول بفساده إذا كان شرط الوفاء في صلب العقد مقترنًا بالإيجاب والقبول، أو في مجلس العقد، أو في زمان خيار الشرط. أما بعض المتأخرين من فقهاء المذهب قالوا: إن بيع الوفاء جائز ومفيد لبعض أحكامه، وهو: انتفاع المشتري بالمبيع وهو البيع من الآخر. ووجه هذا القول: أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس هكذا وتعاملوا به لحاجتهم إليه فرارًا من الربا، فيكون صحيحًا لا يفسد البيع باشتراطه فيه، وإن كان مخالفًا للقواعد، لأن القواعد تُتْرَك بالتعامل كما في الاستصناع.
أثر فوت المبيع: إذا كانت قيمة المال المباع بالوفاء مساوية للدين وهلك المبيع في يد المشتري أو أتلفه، سقط من الدين بقدر قيمة المبيع الهالك أو المتلف - والحقيقة هذا هو قول فقهاء الحنفية في هلاك الرهن - أما إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء ناقصة عن الدين وهلك المبيع في يد سقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي وأخذه من البائع، وسواء كان الهلاك بلا تعد ولا تقصير من المشتري، أو كان بتعدِّ يَدٍ وإتلافه، وإذا كانت قيمة المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري، سقط من الدين قدر ما يقابل الدين وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي، أما إذا كان بلا تَعَدٍّ فلا يلزم المشتري أداء تلك الزيادة.
حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء ببيع الوفاء: لما كان بيع الوفاء يتراوح ما بين الرهن والبيع صحيحًا كان أو فاسدًا على خلاف بين العلماء كما صحح بعضهم أن بيع الوفاء إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا ولو ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذ المواعيد تكون لازمة فيجعل لازمًا لحاجة الناس، كما ذكروا أن الشرط الفاسد إذا ألحق بالعقد يلتحق عند أبي حنيفة رحمه الله لا عند صاحبيه، إلى آخر الكلام.
وجه التطابق فيما بين عقدي الرهن والوفاء: إن بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة وخُرِّج على هذا الأصل الفروع التالية:
1-
لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلَاّ بإذن مالكه.
2-
المشتري وفاء ضامن لما أكل من ثمر المبيع أو أتلف من شجره.
3-
يسقط من الدين بهلاك المشتري تحت يده.
4-
لا يضمن الزيادة.
5-
للبائع استرداد المبيع وفاء إذا قضى دينه.
6-
لو بيع كرم بجنب هذا الكرم - الذي بيع وفاء - فالشفعة للبائع لا للمشتري.
والوجه فيه: أن بيع المعاملة وبيع التلجئة حكمهما حكم الرهن، وللرهن حق الشفعة وإن كان في يد المرتهن.
والخلاصة: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أن بيع الوفاء إن كان خاليًا عن شرط الرد في صلب العقد يكون جائزًا، وكذلك عند الإمامية، أما إذا شُرِطَ رد المبيع في صلب العقد يكون البيع فاسدًا عند الأحناف والمالكية والشافعية. أما الحنابلة فيرون البيع صحيحًا والشرط فاسدًا، وإذا كان البيع خاليًا عن ذكر شرط الرد فالراجح في المذاهب الأربعة أنه جائز لكونه بيعًا خاليًا عن شرط
هل يجوز انتفاع المرتهن بالعين المرهونة؟ اتفق الفقهاء على أن عين الرهن ومنافعه ملك للراهن، وأن المرتهن ليس له إلَّا حق استيفاء دينه من ثمن المرهون إذا تعذر على الراهن وفاء الدين للمرتهن عند الأجل. كما اتفقوا على أن المرتهن لا يحل له الانتفاع بشيء من الرهون، إذا لم يأذن له الراهن، ولم يكن المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة، واختلفوا في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أَذِنَ له الراهن مطلقًا سواء أكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة أم كان غير ذلك، أو لم يأذن له الراهن، وكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة. فالخلاف بين الفقهاء في وضعين: الأول: انتفاع المرتهن بالمرهون، إذا أذن له الراهن. والثاني: إذا لم يأذن له الراهن. والأدلة مطروحة ومعروفة.
والقول المختار: هذا والمختار من الأقوال الثلاثة هو القول بعدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا سواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد، أم كان غير مشروط، وسواء أكان الرهن بدين قرض أم كان بغير دين قرض، لقوة أدلته وسلامتها مما ورد عليها، ولأنه يتفق وسماحة الدين ويسره ونبل مقاصده حيث حَثَّ على التعاون وأكده، أما تَحَيُّن الفرص لأكل أموال الناس بالباطل فليس في شرائع الله تعالى ما يبيحه.
انتفاع المرتهن بالمرهون إذا لم يأذن له الراهن: الحقيقة - يعني - هي أقوال أربعة معروضة لن نأتي على ذكرها لأنه ما من جديد، لكن نعود إلى الخلاصة.
المختار: والقول المختار من الأقوال الأربعة في انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به، هو ما ذهب إليه أبو ثور والليث والأوزاعي من حل الانتفاع بقدر المنفعة إذا امتنع الراهن عن الإنفاق على المرهون، لقوة أدلته ولموافقته لروح التشريع، ولما فيه من المحافظة على حقوق الراهنين والمرتهنين، وعلى الأموال التي أمر الشارع بالمحافظة عليها ونهى عن إضاعتها وأكلها بالباطل. فإن الناظر في أدلة المذاهب المختلفة يرى أنه قد سلم منها حديث:((له غنمه، وعليه غرمه)) ، وحديث:((الظهر يركب بنفقته)) ، وحديث:((فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) ، وسبيل العمل بالأحاديث المتعارضة هو الجمع بينها، وأما الأخذ وترك البعض الآخر لمجرد ما أثير حوله من أقاويل، أو تعصب لرأي معين، فبعيد عن الصواب.
والخلاصة أن التحريم متفق عليه في غير مسألة المركوب والمحلوب، أما فيهما فقد قيل بالحل. ولكن الجمهور على خلافه ولا شك أن الأرض المرهونة ليست كالحيوان حتى تقاس عليه، فلا يجوز أن يكون القرض على رهنها سببًا في الانتفاع بها اتفاقًا فإن محل الخلاف بين الجمهور وغيرهم إنما هو الحيوان كما علم.
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء: في الحقيقة خلصنا من مبحث الرهن إلى أربعة عشر ضابطًا أو قاعدة فقهية:
1-
أن بيع الوفاء ليس برهن محض، وأن ثمن الوفاء ليس بدين محض في ذمة البائع.
2-
لو كان الثمن في بيع الوفاء دينًا لكان المبيع رهنًا ولما كان المبيع بيع الوفاء ليس برهن فلا يملك المشتري منافعه أو يملكها.
3-
لو كان ثمن الوفاء دينًا لما جاز البيع وفاء قبل الثمن لأنه يصير رهنًا بلا دين، وهو لا يجوز.
4-
لو كفل بدين فشرى الطالب به عقار المديون وفاء تبطل الكفالة ثم لا تعود بفسخها ببيع الوفاء.
5-
لو باعه وفاء ولم يقبض الثمن لا يتمكن من بيعه من آخر قبل فسخه، والرهن كذلك.
6-
إن زكاة مال الوفاء تجب على البائع ولو كان دينًا محضًا لما وجب عليه، وفي هذا الوجه لا فرق بينه وبين الرهن لأن العين المرهونة تبقى على ملك المدين الراهن على ما هو معلوم في حكم من الأحكام لأنه ملكه بقبضه على المشتري لأنه يعد مالًا موضوعًا له عند البائع أو دينًا له عليه.
7-
البائع والمشتري في البيع بالوفاء مقتدران على الفسخ.
8-
كون المبيع في بيع الوفاء غير مشاع شرط.
9-
ليس للبائع أو المشتري بيع المبيع وفاء من آخر.
10-
يجوز أن يشترط في بيع الوفاء أن تكون منافع المبيع للمشتري.
11-
إذا تلف المبيع وفاء في يد المشتري سقط من الدين بمقداره ولو كان ذلك بدون تعد منه.
12-
إذا توفي أحد العاقدين للبيع بالوفاء قام ورثته مقامه.
13-
يميز المشتري وفاء عن غيره في أخذ المبيع.
14-
إن المشتري يملك زوائد المبيع وفاء ولا يضمنها بإتلافها.
وعليه: بيع الوفاء وثيق الصلة بخيار النقد على ما قاله الدكتور عبد الله في بحثه فيأخذ أحكامه ويدخل - أي ما يستفاد من هذا العقد البنك وسيطًا بين طرفي المعاملة فيكون راهنًا ومرتهنًا ويبايع بالوفاء بين الطرفين على ما ذهب إليه السيد الشريف محمد عبد القادر.
وفي الخاتمة: هذا ما أعاننا الله عليه ووفقنا إليه من جهد المقل في بحث ((بيع الوفاء)) ونعرف في النهاية أن المعاملة طلق حتى يعلم المنع ولكن يقابلها التقوى فوق الفتوى، والله من وراء القصد. وَصَلَّى اللَّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ رجب بيوض التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أريد أن أعلق ولي ملاحظات على ما ذُكر بالأمس من عقد الاستصناع، إن هذا المجمع محط أنظار المسلمين في جميع الأقطار، وعليه يعولون في حل مشاكلهم حسب الشريعة الإسلامية، ولقد أجاد إخواني العلماء الذين عرضوا وصوروا العقد، والموضوع حسب أقوال المذاهب التي ذكرت، لكن هناك أمور كما ذكر بعضها أخي الدكتور عبد السلام العبادي، هذه الأمور تتعلق بالدولة وتتعلق بالجماعات وتتعلق بالأفراد، أما ما يتعلق بالأفراد والجماعات فهي أمور مهمة لأن طالب الاستصناع وطالب العمل يطلب عملًا له تكلفة مالية وله تكلفة فنية، فمثلًا إن أراد أن يبني عمارة أو مدرسة فعليه أن يراجع المقاولين والمهندسين والفنيين وهذا يتطلب تكلفة مالية، لكن هناك أمور تتعلق بالدولة وتتعلق ببناء المستشفيات أو المدارس أو المجمعات السكانية، هذا الأمر هو الذي يجب أن يلاحظ وأن يضع له المجمع الحلول الشرعية، لأن هذا الأمر يدخل تحت أن يقوم الممول بتقديم التمويل على مدة معينة، وبعدها يسلم ما قام به، وفي أغلب الأحيان أو في الأحوال كلها يتبع ذلك فوائد بنكية ربوية، وهذا مناقض لأحكام الشريعة الإسلامية، وهنا يجب أن يعمل المجمع على إيجاد الحلول التي تخرج بها من المشاكل الربوية، والله الموفق حتى تبقى صورة المجمع الفقهي مضيئة مشرقة يتطلع إليها العالم الإسلامي، وهذا المجمع جدير بأن يكون في مكان إسلامي محترم مصان يجب أن تكون أعماله وقراراته موضع الاحترام والأخذ بها. والله الموفق.
هذا ما أردت أن أُنَبِّهَ إليه والله سبحانه وتعالى يهدينا إلى سواء السبيل وهو ولينا، نعم المولى ونعم النصير. والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور أنس مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الكريم.
في موضوع ((بيع الوفاء)) أريد أن أبين الموقف الذي يبدو لي أنه مناسب منه اليوم، أي أتكلم أساسا حول المحور الرابع من المحاور المطروحة في الموضوع. حقيقة إن تكاثر الفروع الفقهية المعروضة أخشى معه أن يغيب بينها جذع الشجرة وعمود الخيمة. فالطبيعة الاستثنائية لبيع الوفاء ينبغي ألا نغفل عنها في أي لحظة.
من المسلمات الشرعية أنه في القرض لا يحل أن ينال المقرض بالقرض منفعة وبخاصة منفعة من جنس منفعة ما يمكن إيجاره من عقار أو منقول، هذه من البديهات المسلمة لدى الجميع والحمد لله. الآن بيع الوفاء كما ذكر غير واحد من العلماء الأكابر القدامى والمعاصرين الذين بينوا ووضحوا حقيقته، هذا البيع يؤول إلى أن يضمن للمقرض الذي هو مشترٍ في بيع الوفاء أن يسترد رأس ماله وينتفع من هذه العين المبيعة بيع وفاء ينتفع بها بصورة مباشرة أو بإيجارها من أحد آخر إذن واضح تمامًا أن هذا العقد كما صرح به من كتبوا وفصلوا أحكامه هو يؤدي إلى هذه النتيجة. الآن الذين أجازوه أيضًا صرحوا بأنهم لم يجيزوه إلا تحت ضغط الضرورة الماسة، هكذا بينه عدد من الأوراق المقدمة إلى هذا المجمع الموقر، كما بينه فضيلة الشيخ الميس الذي لخص الموضوع وهنا أيضًا أمامي صفحات من الموسوعة الفقهية الكويتية في بند البيع، تقول: إنه للضرورة الماسة، هذا ما يقوله بعض متأخري الشافعية أيضًا ويؤكدون بذلك ما قاله من سبقهم من الحنفية الذين أجازوه، إذن الذين أجازوا هذا البيع إنما أجازوه تحت ضغط الضرورة الماسة حتى لا يقع الناس في الربا الصريح. الآن إذا احتفظنا بهذه الحقيقة في أذهاننا أمكننا أن نطرح الآن نقطتين: النقطة الأولى أريد أن أنبه لخطورة إباحة بيع الوفاء اليوم، هذا حكم استثنائي قال به من قال به لضرورة وجدت في مجتمعات مسلمة في القرن الخامس ثم قلدهم آخرون في مجتمعات أخرى قد تكون واقعة تحت ضغط الضرورة المشابهة لما واجهه الأولون، الآن لو أخذنا به اليوم تقليدًا من سبقنا دون تروٍّ فيما إذا كنا نحن أيضًا واقعين تحت ظروف الضرورة التي جعلتهم يقولون به، ربما نقع في مخاطر كبيرة أذكر بعضها. إذن أريد أن أذكر بضع نقاط عن خطورة إباحة بيع الوفاء اليوم.
أولًا: من الصعب أن نجد مبررًا شرعيًّا أو منطقيًّا لقصر بيع الوفاء على العقارات، المنطق الذي يدعو إلى القول به في العقارات يجري أيضًا في المنقولات، إذا كنت أنا أملك سيارة وأخي يملك أرضًا أو دارًا فكيف تبيح لأخي أن يبيع داره بيع وفاء ولا تبيح لي أن أبيع سيارتي بيع وفاء؟ وإذا قلنا في السيارة ما الذي يمنع أن أبيع ساعتي بيع وفاء، وسجادة أيضًا في البيت عندي؟ لا نستطيع منطقيًّا ولا فقهيًّا أن نقف عند حد العقارات، هذه النقطة.
النقطة الثانية والأهم: انظروا ماذا يحصل لو قلنا ببيع الوفاء اليوم. خذوا - مثلًا - الشركات، شركات تريد أن تحصل على تمويل، بدل أن تزعج نفسها بالبحث عن بدائل شرعية متاحة - الحمد لله - الآن في كثير من البلاد من خلال مؤسسات مصرفية إسلامية بدل ذلك، كل شركة لديها بعض العقارات ولديها بعض الآلات، أفران الإسمنت، آلات النسيج، أموال استعمالية تقبل الإجارة، يبيعون هذا المبنى الذي تستعمله الشركة أو بعض مستودعاتها بيع وفاء، ويدفعون عنه أجرة شهرية تساوي الفائدة التي يرغب ذلك المصرف في تقاضيها، ثم إذا ردوا المال شطبت الورقة التي كتب بها أن المصرف صار مالكًا لهذا العقار - هذا الملك العابر الذي لا أثر له إلا بشكل عابر - يعود إلى الشركة.
إذن الآن أي مصرف حتى لو كان من أكبر المصارف الربوية في العالم يستطيع في ليلة واحدة أن يتحول إلى مؤسسة مالية إسلامية، كل ما يقوله من يريد أن يقترض مني بالفائدة ليكن عنده مال يقبل الإجارة شرعًا، وكل مال استعمالي يقبلها. يأتيني بهذا المال وأنا أرتب أمر القرض، علينا أن نعمل بمختلف أنحاء العالم للتخلص من بلوى الربا والخروج من حالة الضرورة إليه إلى حالة البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها والتي تسلك إلى التمويل الطرق المباحة والتي تنتج لجميع أفراد المجتمع ومؤسساته وبسبل مشروعة.
أنتقل إلى النقطة الرابعة والأخيرة، ما الموقف المناسب من بيع الوفاء اليوم؟ يبدو - والله أعلم - أنه من الضروري أن نتذكر أنه أصلًا من قال به قال به كحكم لضرورات فردية أو ما يحل محلها في الأحكام من حاجات اجتماعية ملحة لا تجد لها وفاء إلا بالوقوع في الربا الصريح، فأخرجوا لهم شيئًا يبعدهم عن صراحة الربا، نحن اليوم لا يحق لنا لا فقهًا ولا منطقًا أن نسحب على أنفسنا ومجتمعاتنا هذا الحكم الاستثنائي قبل أن نبين ونبرهن على أننا نحن أيضًا واقعون في مثل هذه الضروروات، ويمكن أن يعترض معترض ويقول: طيب أنتم بارعون في الرفض والتحريم، ولكن ما هو البديل إذا كنتم تريدون منع بيع الوفاء فما البديل له؟ جوابي ببساطة، إن كل الجهود الفكرية والعملية التي بذلت وتبذل في تطوير وتوفير صيغ التمويل الإسلامية المعاصرة سواء أكانت جهودًا في البحث عن الحلول أو إقامة مؤسسات مالية هي البديل العام لكل صيغة تمويل محرمة ومنها بيع الوفاء، فالبديل أن نلجأ ليصغ التمويل الإسلامية التي لا تجعل الفرد في وضع يضطر فيه إلى الربا فإن أراد تجاوزه ذهب إلى مسألة فيها شبهة شديدة كبيع الوفاء.
وأختم كلامي بهذا، وأرجو من المجمع الموقر تحاشي إصدار أي قرار يجيز بيع الوفاء لما يترتب على ذلك من مخاطر، ولأنه حقيقة لا يصح إصدار قرار عام فيه ومسألته مسألة ضرورات وكل إنسان ربما يعلم الضرورة إذا واجهها، يعلم إذا كان يحل له شرب الخمر خشية أن يغص ويموت أو يصح أن يأكل الميتة لأنه في وضع ليس عنده طعام ويهلك، هو نتركه يرى الضرورة ويعرف أنه محاسب أمام الله على تخطي الحدود إذا طبقها على نفسه دون مبرر، أما أن نعطي بيانًا أو قرارًا عامًّا بأن هذا البيع من حيث المبدأ، هكذا يصح ففي ذلك مجانية للصواب، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
لاحظت منذ الأمس ظهور اتجاه جديد إلى إنشاء اجتهادات تنفصل عن آراء السابقين واجتهاداتهم، وهذا قد يكون له محاسنه ولكن - أيضًا - قد يكون له محاذيره، والذي أرجوه أن يكون لهذا المجمع الموقر منهج واضح في الاجتهاد حتى لا يقع في التناقض. سادتنا الفقهاء الأعلام لكل منهم منهجه المعروف، على سبيل المثال إذا قلنا ما قاله كثير من الإخوة بالأمس بإباحة الاستصناع كعقد بيع مع غياب كل من العوضين، وقعنا في تناقض مع فتوانا السابقة بمنع البيع إذا غاب العوضان، وبما قلناه في بيع المرابحة، وباستدلالنا بالحديث الشريف:((لا تبع ما ليس عندك)) وبمنع بيع الكالىء بالكالىء، وبما استقر عليه الأئمة جميعًا بل استقر عليه العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كنا سنخرج على هذا كله فلا بد أن يكون لنا منهج معروف، لماذا سنخرج؟ ما الضرورة إلى هذا الخروج؟ وما منهجنا الجديد الذي سنبني عليه هذه الفتاوى؟ هل هو العرف والعمل؟ العرف والعمل الآن أن الناس يتعاملون بالتأمين وقد منع المجمع التأمين، العرف والعمل الآن التعامل مع البنوك الربوية، وقد منع المجمع هذا. إذن على أي أساس سيقوم مثل هذا الاجتهاد الجديد؟.
ملحظ آخر، وهو أن المخارج التي تظهر في عصرنا قد تكون نتيجتها من حيث الناحية العملية أسوأ من الشيء نفسه الذي نبحث له عن مخرج، وأضرب هنا مثلًا، بيع الوفاء عندما انتشر في مصر ولجأ إليه من أراد ألا يتعامل بالربا كانت النتيجة أن ذهبت عقارات كثيرة وضاعت من أيدي الناس مقابل أموال أخذوها والعقارات أكبر بكثير من هذه الأموال حتى اضطر القانون المصري وهو يبيح الفوائد الربوية، اضطر إلى منع بيع الوفاء نتيجة هذه الأضرار في الواقع العملي.
وأضرب مثلًا آخر: أحد الإخوة سألني قال: أنا بعت سيارتي بأربعين ألفًا وأمهلت المشتري خمسة أشهر، فقلت له: جزاك الله خيرًا، ثم قال لي: ولكن وجدت المشتري يبيع السيارة فاشتريتها منه بثمانية وعشرين ألفًا، فقلت له: أنت أسوأ من البنوك الربوية لأنك أخذت فوائد أكثر من 100 %، إذن هنا أرجو أن ننتبه إلى المحاذير - وشكر الله الأخ الدكتور أنس لما بينه هنا - المحاذير عند الخروج بمخارج نرى أنها شرعية وتمنع الحرام، ننظر إلى الواقع العملي في عصرنا.
نقطة أخيرة: مسألة البنوك الإسلامية والإيداع بفوائد ربوية، عندنا أخوان كريمان مسؤولان عن بنكين إسلاميين فإن كانا يفعلان هذا فليخبرانا حتى نقول بأن هذه البنوك ليست إسلامية، وإن كانوا لا يفعلون هذا، فأرجو ألا نلقي الأمور على عواهنها بغير دليل، فالذي نعرفه أن البنوك الإسلامية لا تلجأ إلى هذا بل ما قامت إلا لتحرير أموال المسلمين من الربا. وأكتفي بهذا القدر، وشكرًا ومعذرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أولًا نشكر العارض الكريم على عرضه الطيب، وكان بودنا أن يلخص ما جاء في بقية البحوث ولنا بعض الملاحظات.
أولًا: أن بيع الوفاء ليس له أثر على الاقتصاد في وقتنا الحاضر بل كما قال أخي الدكتور أنس: إنه ضربة قاصمة للظهر للبنوك الإسلامية.
ثانيًا: أن بيع الوفاء توصل إليه بعض الفقهاء في ظل الظروف الاستثنائية، وهو يدخل ضمن الحيل في عصر ما بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، ولذلك فهي من الحيل كما قال علماء الحنفية أو أكثر علماء الحنفية أنفسهم.
ثالثًا: أن بيع الوفاء إضافة إلى أنه حيلة للتخلص من الربا، يتضمن شرطًا ينافي مقتضى البيع وهو البيع بشرط رده، ولذلك لم تعترف به القوانين المدنية الوضعية كما جاء ذلك في كثير من المذكرات الموضحة للقوانين المدنية بأن هذا العقد لا يمكن الاعتداد به أو اعتباره لأن الشرط الموجود فيه يخالف مقتضى العقد إضافة إلى الأضرار الاقتصادية التي حدثت في مصر كما تفضل به الدكتور علي السالوس.
رابعًا: أن بيع الوفاء في الواقع ليس بيعًا، لأن مقتضى البيع التأبيد، وليس رهنًا لأنه لا يجوز بالاتفاق الانتفاع بالعين المرهونة سوى المحلوب والمركوب، كما أنه ليس بيعًا عقدًا مستقلًّا إذ ليس في مقوماته عقد مستقل كما سبق وأن ذكرنا في عقد الاستصناع، وعقد الاستصناع - حقيقة - عقد قال به العلماء في القرون الثلاثة، ولا يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تبع ما ليس عندك)) كما يقول ابن القيم لأن هذا نفي في شيء فيه غرر، أما بيع الاستصناع فهو موجود في الذمة وابن القيم يقول: ما هو موجود في الذمة كالموجود في العين، الموجود في الذمة كالموجود والمحسوس، كما يقول ابن القيم في شرحه لحديث:((لا تبع ما ليس عندك)) في شرحه لسنن أبي داود.
خامسًا: أن بعض المصطلحات التي ذكرها أخي الكريم العارض لبعض المذاهب الأخرى كالثُنْيا عند المالكية، والعهدة عند الشافعية، والأمانة عند الحنابلة، حسب معلوماتي بهذه المذاهب يحتاج إلى إعادة النظر من أخينا الكريم وينقح المناط، هل هذه المصطلحات فعلًا تساوي بيع الوفاء؟ وأنا في اعتقادي أن هذه المصطلحات لا تساوي تمامًا وهناك فروق جوهرية بين هذه المصطلحات ومصطلح بيع الوفاء.
سادسًا: أن بيع الوفاء إذا لم يتضمن شرط الرد لا يسمى حينئذ بيع الوفاء، وحينئذ يخرج عما نحن فيه، فالقضية قضية أنه إذا كان فيه شرط الرد، أما إذا كان واحد يبيع فعلًا وبعد ذلك طبيعيًّا ودون أن يكون هناك نية مبيتة كما في بيع العينة وغير ذلك فحينئذ لا يسمي بيع الوفاء أبدًا، فبيع الوفاء كمصطلح معروف هو ما كان فيه شرط الرد، أو ما كان معروفًا فيه الرد، لأن المعروف عرفًا - كما يقول - كالمشروط شرطًا، فالقضية إما أن يكون منصوصًا عليه أو معروفًا عرفًا، أما إذا حصل بيع عادي بعد ذلك فهذا شيء آخر.
سابعًا: أنا أضم رأيي إلى رأي الأخوين الكريمين المتداخلين أنه فعلًا لو فتح هذا الباب لفتح معه باب الحيل على مصراعيه. هذا والله سبحانه أعلم، وأشكركم وبارك الله فيكم.
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد أعددت بحثًا حول هذا الموضوع لمقارنته بين الرهن وبيع الوفاء، بينت فيه أحكام الرهن التي لا تحتاج إلى تبيين لأنها محل إجماع من الفقهاء ومؤصل بالكتاب والسنة، ولما وضحت الصور والحالات التي يمر منها الرهن، تعرضت لبيع الوفاء، هذا الاجتهاد الذي اجتهد فيه علماء الحنفية في القرن الخامس، وعلى ما أعلم فإن كل العلماء الآخرين وقفوا منه موقف الريبة لأنه ينافي الشرط الأساسي لعقد البيع، فالغاية الأولى من عقد البيع هي نقل العين محل البيع إلى ملكية المشتري ليتمكن فيها من التصرف بأي نوع كان، بينما عقد الوفاء يحد من هذه الحرية ويحد من حق الملكية الذي هو الشرط الأساسي للبيع، وبالتالي إذا اعتبرناه بيعًا فقد يكون فاسدًا حسب نظر الفقهاء الذين لم يقولوا بهذا الشرط، ومن حيث التراضي على البيع فهو يشابه عقد البيع كما قال الإخوة العلماء الذين تحدثوا عنه في بحوثهم التي بين أيدينا، لكن مرور الزمن من القرن الخامس عليه وهو يتحرك في المعاملات - وأعني في الفقه الحنفي - والحاجة الملحة إليه في هذا العصر أو الملحة إلى إبراز أحكامه، تجعل من الواجب أن ينظر إليه ولا أقول من خلال عقد البيع لأنه حتى في القوانين المدنية تقول إن حق البيع يخول الإنسان التصرف والاستغلال والتتبع، ومن حيث كونه يشابه عقد الثنايا أو الثنيا عند المالكية ففيه نظر، ذلك أن بيع الثنايا عند المالكية هو أن يستثني الإنسان سكناه سنة في الدار التي باعها، أو شهرًا في الدابة التي باعها، أو استخدام الأمة في شهور معينة، أما أن يكون يستثني الرجوع عن البيع وإرجاع العين المبيعة إلى شاريها فلا أعلم هذا في الفقه المالكي، وعليه فإننا إذ نحيي هذه السابقة لدراسته ونحيي الشيخ أستاذنا الجليل محمد الحبيب ابن الخوجة الذي أخرج لنا كتابًا مجهولًا تمامًا، وأعني عندنا في المغرب أننا نجهل كل شيء عن عقد البيع إلا فيما كتبته المجلة وفي شروحها وخصوصًا حيدر أفندي الذي قال على أن علماء الإسلام أجمعوا عندما شرعته المجلة على اتباعه، وأظن أنه كان يعني بعلماء الإسلام علماء الحنفية، أرى أن هذا الكتاب فتح مجالًا للنقاش ولكن لا يمكن بحال من الأحوال في نظري أن يسمى هذا الإجراء الذي أطلق عليه عقد البيع بيعًا لمنافاته لشرط البيع وكل ما أردت قوله عنه كتبته في البحث الذي بين أيديكم.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
يبدو بعد العرض الذي استمعنا إليه من فضيلة الأخ الشيخ خليل أن بيع الوفاء يشتمل على عدة مخالفات شرعية فهو - كما تفضل بعض الإخوة الذين سبقوني في الحديث - بيع وشرط، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما هو حيلة للربا، ونحن نعلم أن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . [البقرة: 278، 279]
والعبرة بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني، فأي تحايل للربا قليلًا كان أو كثيرًا فهو حرام قطعًا، وهو أيضًا مخالف لحقيقة الرهن حيث لا يجوز الانتفاع بالمرهون حسب الرأي الراجح عند الفقهاء، وهو أيضًا ليس تنشيطًا للاقتصاد - كما تفضل الأخ الدكتور أنس - بل قد رأت بعض اللجان البرلمانية عند مناقشة هذا النوع من المعاملات أنه لا يستجيب لأي حاجات حيوية اقتصادية في التعامل إنما هو وسيلة ملتوية من وسائل الضمان تبدأ ستارًا بالرهن وتنتهي إلى تجريد البائع من ملكه بثمن بخس، ومن هنا أرى عدم إقراره إلا إذا كانت هناك ضروروة قصوى عملًا بقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) و ((الضرورة تقدر بقدرها)) ، وهنا يجب على المجمع الموقر أن يضع ضوابط وحدودًا لهذه الضرورات ولا يترك الأمر لكل شخص حسب أي تقدير.
وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالملين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أحب أن أركز على أمرين اثنين فقط، اختصارًا للوقت وتنفيذًا لتوجيهات المجمع في بحث هذه الأمور.
أولًا: تعريف بيع الوفاء، ثم صورته، وبعد ذلك تكييفه بناء على الأصل الذي يعتمد عليه، فتعريفه هو (بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع) . وهذا التعريف لا ينطبق مع تعريف البيع، لأن المقصود في البيع هو الملك على سبيل التأبيد، وفي هذا مخالفة ومنافاة لمقتضى عقد البيع، فلا يمكن بحال من الأحوال تطبيق عقد البيع على مثل هذا البيع المذكور، أو المسمى ببيع الوفاء، أو ببيع الأمانة عند الحنابلة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ورد عليه ردًّا واضحًا وقويًّا وأبطله بطلانًا نهائيًّا لا شبهة فيه بناء على أن القصد والاعتبار في العقود هو للمعاني وليس للألفاظ والمباني، وهذه القاعدة الشرعية التي لا يجوز هدمها وهي أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبادات كما هي معتبرة في التقربات. والاعتقاد يجعل الشيء - كما هو معلوم - حلالًا وحرامًا، ويجعل الشيء صحيحًا وفاسدًا، ويجعله طاعة ومعصية، ومن لم يراع القصود كما قال شيخ الإسلام ابن القيم في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر للخمر للعنب بقصد تخميره، ويجوز له أن يعطيه أجرة على ذلك إذا ظهر منه قصد العصر للخمر، وأن يقضي له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده، وعلى هذا فمن بنى من الفقهاء هذا العقد على ظاهر ما جرى بين المتعاقدين بناء على القاعدة الأخرى المقابلة لقاعدة الاعتبار في العقود للمعاني وليست للألفاظ والمباني، حيث أن هناك قاعدة أخرى تقول:((إن العبرة للألفاظ)) ، فقد طبق قول العلماء في غير محله، ذلك أن الشافعي رضي الله عنه عندما قال هذه القاعدة لم يقصد بهذه القاعدة حيث مخالفة القصد للمعنى، وإنما قصد بذلك (حين الاحتمال) فحينما يظهر قصد يخالف كلامه يجب حمل الكلام على الظاهر، إذا لم يظهر قصد يخالف ظاهر الكلام يجب حمل الكلام على الظاهر، والأدلة على هذا كثيرة والشافعي رضي الله عنه إنما ذكر هذا القول حينما يكون الكلام محتملًا للظاهر ومحتملًا لقصد آخر، أما إذا ظهر من العقد الذي يجريه المتعاقدان قصد يخالف ظاهر المعنى فكلام الشافعي لا ينطبق على هذه القاعدة عنده، ومعلوم أن النية هي روح العمل ولبه وقوامه - كما قال شيخ الإسلام ابن القيم - أخذًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى)) ، ولو أخذنا بظواهر ما يجري من الأقوال بين المتعاقدين لما حرمنما بيع السلاح لمن يقتل به مسلمًا، ولما حرمنا عصر الخمر لمن يعصره، ولما حرمنا الربا حين يذكر بلفظ البيع، ولما حرمنا الزنا حينما يصير حرية، ولما حرمنا عبادة غير الله حينما يسمى تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى، فنقول بناء على تعريف الحنفية لهذا العقد وأن المقصود منه هو استفادة من أخذ المبيع مدة بقاء الدين في ذمة المدين، أنه لم يكن القصد به في حال من الأحوال تملك المبيع، فقصد البائع هو الاستفادة بالمال المرهون - هذا المال الذي أخذه - ليستمتع به، ومقصود البائع هو الاستفادة بهذا المبيع مدة بقاء الدين في ذمة المدين، وعلى ذلك لا يعتبر بحال من الأحوال بيعًا لأن البيع على التأبيد وليس مؤقتًا بحال من الأحوال، إنما هو له شبه بالرهن، والرهن يبقى الكلام فيه في المحور الثاني، وهو هل يجوز استفادة المرتهن بالرهن، أو لا يجوز استفادة المرتهن بالرهن؟ هذا خلاف مبني على ثلاثة أحايث:((لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) ، فإذا كان الرهن فيه قرض فلا يجوز بحال من الأحوال الاستفادة بالمرهون، وإذا كان صاحب الرهن ينفق عليه إذا كان يحتاج إلى نفقة ومؤونة فلا يجوز كذلك.
يبقى الأمر في الرهن إذا كان محلوبًا ومركوبًا يحتاج إلى مؤونة ولم ينفق عليه صاحبه هل يجوز أن ينفق عليه؟ نص الحديث كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الرهن محلوب ومركوب بقدر ما ينفق عليه)) . وشكرًا لكم وجزاكم الله خيرًا.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإني أشكر فضيلة أخي الشيح خليل الميس - حفظه الله تعالى - على عرضه للموضوع واستيفائه لنصوص الفقهاء في مسألة البيع بالوفاء، والذي أريد أن أشير إليه هنا نقطتان مهمتان قبل أن نصل إلى قرار محدد في هذا الموضوع.
النقطة الأولى: هي أنه قد اشتهر على ألسنة الناس أن فقهاء الحنفية أجازوا البيع بالوفاء، وإن هذا التعبير - في نظري - ليس صحيحًا، إن فقهاء الحنفية لم يجيزوا البيع بالوفاء بمعناه الحقيقي، ما هو المعنى الحقيقي للبيع بالوفاء؟ المعنى الحقيقي للبيع بالوفاء هو أن يكون شرط الوفاء وشرط الإقالة مشروطًا في صلب عقد البيع، فإذا كان شرط الإقالة مذكورًا في صلب عقد البيع فلم يذهب إلى جواز هذا البيع أحد من فقهاء الحنفية، لم أطلع على فقيه من الفقهاء ذهب إلى جواز مثل هذا البيع لا من الحنفية ولا من المالكية ولا من الشافعية ولا من الحنابلة، هذا البيع مجمع على فساده، أما بعض المتأخرين من الحنفية الذين أجازوا هذا البيع، في الواقع لم يجيزوا البيع بالوفاء، وإنما أتوا له ببديل، هم حكموا على البيع بالوفاء بأنه رهن وهو في حكم الانتفاع بالمرهون ولا يجوز شرعًا، ولكنهم أتوا ببديل، ما هو البديل؟ أن يعقد البيع من غير اشتراط الوفاء كالبيع العادي دون أن يكون فيه شرط في الإقالة، ثم تقع بعد عقد البيع مواعدة بين البائع والمشتري بأنه كلما جاء المشتري بثمنه فإن البائع سيرد إليه المبيع، هكذا جاءوا له ببديل، ولا شك في أن هذا البديل - أيضًا - ليس إلا حيلة للفرار من الربا.
فالبيع بالوفاء بمعناه الحقيقي لا يجوز، أما هذا البديل، المواعدة على الاسترداد بعد انعقاد العقد، هذا استخدموه كحيلة في بعض المعاملات، والحيلة كما تعرفون لها مكان في الشريعة، يعني الحيلة متى جاءت لإبطال مقاصد الشريعة فإنها لا تجوز وتحرم كحيلة أصحاب السبت، وأما إذا كانت الحيلة للتخلص من بعض المحرمات وللفرار من بعض المحرمات التي يلجأ إليها المجتمع في بعض الأحيان، ففي بعض الجزئيات يجوز أن تتخذ تلك الحيلة كمخرج من المحرمات.
فالذي أراه أنه ينبغي أن نركز على أن البيع بالوفاء بمعناه الحقيقي من حيث أن يشترط في صلب العقد الاسترداد أو الإقالة أن هذا يحرم شرعًا ولا سبيل إلى جوازه. أما المواعدة بعد عقد البيع فإنه بحكم أنه حيلة وليس عقدًا مثاليًّا من العقود الإسلامية فإنه لا ينبغي أن يتخذ كأصل عام أو كمبدأ عام في المعاملات الجارية، كما ذكر الأخ الأستاذ الفاضل الدكتور أنس الزرقا أنه لو فتحنا هذا الباب لأخذت المصارف كلها هذا الطريق وأجروا بينهم المعاملات الربوية على هذا الأساس، لا لأن الحيلة لها مقام، الحيلة لا يمكن أن تتخذ كمبدأ عام وتدار عليه جميع المعاملات والعمليات في المجتمع، نعم لا ينبغي أن نقفل هذا الباب بالكلية فإنه من الممكن أن تكون هناك بعض الحالات وبعض الجزئيات يلجأ فيها الناس إلى مثل هذا البيع، مثل هذه الحيلة، ألا ترون أن المرابحة التي تجري عليها المصارف الإسلامية، لا شك أنها حيلة، والتأخير المنتهي بالتمليك لا شك أنها حيلة، ولكن أخذناها للفرار من الربا، فلو أخذنا بهذا المبدأ ونصرح بأنه لا يستخدم هذا النوع من البيع إلا في مواضع لا يمكن فيها الفرار من الربا إلا بهذا الطريق، فلو أجزنا هذا البيع وهذا الطريق للتعامل بهذا الشكل يمكن أن نجمع فيه بين المصلحتين، المصلحة التي ذكرها الدكتور أنس الزرقا والمصلحة التي أبيح من أجلها هذا الطريق من قبل بعض الفقهاء.
هذا ما أرى، والله سبحانه وتعالى أعلم وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
سيدي الرئيس، كأنه قدر لي أن أكون المعارض دائمًا لكني الموافق دائمًا - إن شاء الله - ولا نقصد إلا الحق.
الحقيقة لو استعرضنا أدلة الموافقين وأدلة المخالفين لهذا العقد بموضوعية وكلنا - والحمد لله إن شاء الله - موضوعيون، نستطيع أن نصل إلى رؤية أوضح في هذا المجال.
قبل كل شيء تحرير محل النزاع، محور الإشكال في هذا العقد ولنترك كل الذيول التابعة له، محور الإشكال هو أن يشترط بائع البيت على المشتري أن يرد له البيت - مثلًا - بعد سنتين إذا سلمه وأعاد له الثمن.
شرط الرد عند الرد هو محور الإشكال في هذا العقد، المخالفون لهذا العقد محور أو عمدة أدلتهم هو أن هذا الشرط يخالف مقتضى العقد، هذا أولًا، ثم الدليل الثاني لهم أن المقصود بهذه العملية الفرار من الربا أو التحايل على القصد الشرعي، وهناك إشكال آخر أذكر أن الإمام الخميني رحمه الله ذكره في هذا العقد وذكر احتماله ورده وهو وجود الغرر باعتبار أن البائع يعطي المشتري أو أن المشتري يعطى يعني في هذا العقد تعطى فرصة لتحقق الرد عند الرد خلال سنة، فيبقى العقد قلقًا متى جاء الثمن يأتي هذا المثمن، هذا المعنى أيضًا ذكر، هذه عمدة أدلة من خالف. الحقيقة - اسمحوا لي - أن أقول: إن إشكال الغرر يكاد لا يأتي إذا تأكدنا تمامًا من كل الشرائط الأخرى، هذا ما يبدو لي وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة التي فيها الترديد المتسامح عرفًا، على أن الغرر هنا لا ينصب على مصب العقد، والغرر الذي لا ينصب على مصب العقد لا يضر به، وهذا أيضًا من القواعد التي يجب أن نحررها هنا، فكثيرًا ما نستند إلى الغرر ونحرم به المواضيع والأشياء ولكننا لم ننقح دور الغرر في هذه العقود، الغرر أحيانًا يأتي في مصب العقد، وأحيانًا في الفروع في أوصاف العقد، وأحيانًا في نتائج العقد، هذه أمور يجب أن تنقح حتى نكون على بينة، أعتقد أن الغرر هنا لا يضر، مسألة الفرار من الربا، نعم الفرار من الربا خصوصًا وإذا كنا ننتقل إلى عقد آخر نلتزم بكل لوازمه، هذا البيت الذي بيع ببيع الوفاء إذا تلف فمن مال من يتلف، من مال البائع أم من مال المشتري؟ انتقلت ملكيته إلى المشتري، يتلف من مال المشتري بكامله، الثمن الذي يأخذه البائع هذا الثمن يتصرف به تصرفًا تامًّا، فهناك أمور يلتزم بها البيعان هنا وتختلف تمامًا العملية عن عملية الربا، فلو استطعنا أن نستعيض عن - يعني أن نعوض - عملية الربا بعقود هذه العقود لها كل لوازمها التي تختلف عن الربا، العرف هنا لا يشتبه، والمقياس هنا في تشخيص المصاديق العرف، والعرف لا يقول هذه العملية عملية ربوية، نعم لو وثقنا كل الطريق وعقدنا كل المسير، لكن واضح أن هذه التعقيدات لا ترتب أي لوازم على أي من الطرفين إلا ما يرتبه القرض الربوي مهما طال الطريق فهو ربا، لكن هنا الأمر يختلف، هناك لوازم تأتي بشكل كامل، التلف له أحكامه، النماء له أحكامه. أعتقد أننا إذن علينا أن نحرم ما ذكره شيخنا العثماني - حفظه الله - التأجير المنتهي بالتمليك، والمرابحة للآمر بالشراء، وحتى عقود مطمئنة مضمونة نقبلها جميعًا يتبعها الكثيرون ممن يريدون القرض للفرار من الربا. نقول قصدك هذا فتحمل نتائجه.
يبقى البحث الأساسي في أدلة المانعين، هو قضية الشرط المخالف لمقتضى العقد. ((المؤمنون عند شروطهم)) قاعدة مسلمة لا يختلف فيها المسلمون، ولكن بالنسبة لصحة الشروط نذكر شرائط، من هذه الشرائط ألا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من هذه الشرائط ألا يخالف الشرط مقتضى العقد، وهنا أشير إلى ما تفضل به الأخ سعود من أن البيع والشرط ليس المراد به هذا وإلا فكل بيع تشترط فيه شرطًا يجب أن ترفضه، ليس المراد به هذا، الأمر المردد هناك. الشرط الذي يرفض هو الذي يخالف مقتضى العقد. هذا له صور، تعالوا لنعرف الشرط المرفوض من الشرط المقبول، هناك شرط يخالف مقتضى العقد بالمعنى المصدري، يقول: أبيعك هذا على ألا تملكه. هذا لا ريب في بطلانه لأنه يخالف مقتضى العقد.
هناك شرط يخالف كل آثار العقد، أقول: أبيعك هذا على ألا ترتب آثار الملكية، تكون مالكًا ولكن لا ترتب آثار الملكية، أيضًا هذا الشرط باطل.
هناك شرط يخالف الأثر الرئيسى المقصود من العقد، كشرط ألا يتم المس الجنسي في الزواج، هذا محل خلاف وإن كان الأرجح ألا يكون منافيًا لمقتضى العقد، لو فرضنا أن إنسانا أراد أن يتزوج زوجة لغرض أن يسكن معها في بيت، أن يتم شيء ما عدا المس الجنسي، هل يستطيع له أن يشترط المس؟ نقول هذا ولا ننظر إلى روايات أخرى قد تمنع، يدخل الشرط الآخر وهو ألا يخالف الكتاب والسنة، إذن أن يخالف أهم الآثار أيضًا فيه تردد والأرجح التوقف طبعًا طبق المواد، ويبقى لدينا شرط آخر أو صورة أخرى من أنواع الشرط، وهو الشرط الذي يخالف إطلاق العقد، العقد المطلق - عقد البيع المطلق - يؤدي للملكية المستمرة المؤبدة لو تركت على حالها بكل معنى، هذا إطلاق العقد، وكل شرط يأتي في البيع يقيد هذا الإطلاق بمقداره. الشرط الذي يقيد إطلاق العقد ما الذي يجيزنا أن نعتبره خلاف مقتضى العقد ويقيد إطلاق العقد؟ هنا في بيع الوفاء يتم البيع تمامًا، ينتقل الثمن بشكل كامل إلى البائع، والمثمن بشكل كامل إلى المشتري، ولهما نماؤهما، ولهما التصرف إلا ما يخالف هذا الشرط الذي اشترط، انتقل بكل ما لديه.
نعم الإطلاق يقتضي التأبيد قيد الإطلاق وأنشىء العقد مقيدًا من أول الأمر بهذا الشكل، ما المانع في هذا الشرط؟ وما هو النص الذي يمنع منه؟ هذا بالنسبة للشرط وأرجو الدقة الأصولية في هذا المعنى - نحن نحتاج إلى الدقة الأصولية في مثل هذا التحليل حتى نستند إليها أيضًا في أماكن أخرى، الأصول تنفعنا في مختلف الأبواب - أعتقد أن هذا الشرط لا يخالف مقتضى العقد ولا أكبر آثاره ولا يخالف كل آثاره، وإنما يخالف إطلاق العقد ولا مانع من أن يكون الشرط مخالفًا لإطلاق العقد، وأعتقد أن كل شرط يخالف إطلاق العقد إلا أن تنفوا أي اشتراط في عقد البيع، إذن انفوا أي أشراط في عقد الإجارة، وعلى كل حال طبقًا للقاعدة التي أشار إليها الأستاذ سعود لا ليس الأمر كذلك. إذن ننفي قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) لأن الشروط الابتدائية مرفوضة والشروط ضمن العقود تأتي فيها القاعدة التي أشار إليها ((النهي عن البيع والشرط)) . إذن ينتفي مفعول ((المؤمنون عند شروطهم)) . هذه أدلة المانعين.
أما أدلة المجيزين فقد لاحظتها ووجدتها أربعة.
الرئيس:
((المسلمون عند شروطهم)) صحيحة يا شيخ.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
أنا أقول لكم
…
أنا قلت لكم من شروطهم الصحيحة.
الرئيس:
لا، أنا قصدي أن كلام الشيخ سعود يعني لا يتناقض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام الشيخ سعود هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعليه كافة العلماء على أن العبرة بالمعاني.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
سيادة الرئيس، لو تم كلام الشيخ في تفسيره لهذا المعنى لسقطت هذه القاعدة، لأنها شروط ابتدائية أو ضمن عقود الابتدائية مرفوضة بالإجماع وضمن عقود يرفضها الشيخ سعود، إذن انتفت المسألة.
نعود إلى أدلة المجيزين. الواقع المجيزون استندوا إلى العرف وقالوا: العرف هنا أقر بهذا المعنى. العرف في الواقع - قلت لكم - لا يمكن أن يكون دليلًا إلا إذا امتد إلى عصر الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام، ولم يصدر نهي عنه، يصبح كاشفًا عن تقرير السنة، والعرف كما يقول القائلون به هنا امتد إلى القرن الخامس في بلخ، وأنا أقول لكم - حقيقة - هذه الحقيقة مغلوطة تاريخيًّا، لأن لدينا روايات في كتب ألفت في القرن الثالث عن الإمام الصادق تتحدث بوضوح عن أسئلة دقيقة محددة عن هذا العقد، والإمام الصادق يجيب عنها بالإيجاب، فالمسألة ليست مسألة في القرن الخامس، المسألة مطروحة أمام الإمام الصادق في القرن الثاني والإمام الصادق يعطي رأيه.
الرئيس:
هذا ذكره الشيخ خليل.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
لا أنا لم أكن هنا أرجو المعذرة. فإذن هنا العرف لا يمكن الاستناد عليه. الضرورة، الضرورة لها حالتها لا أستطيع أن - فعلًا - أتحدث فيها.
الدليل الثالث والرابع هما المهمان. الرابع، قد يلزمني ولا يلزم أحدًا باعتباري أنا اؤمن بروايات أهل البيت وأنها حجة عليّ، روايات أهل البيت واضحة تمامًا في صحة هذا العقد. ولذلك هناك إجماع كامل لعلماء الإمامية في هذا المعنى. الدليل الرابع المهم عندي هو أن هذا عقد عرفي - يعني يطلق عليه اسم العقد - يشمله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بشكل كامل ولا مانع منه، وقد رأيتم أن أدلة المانعين كلها لم تثبت عندي، مناقشة هذه الأدلة، بقي لي أن أشير إلى الخوف الكبير الذي تخوف منه أخي الأستاذ أنس الزرقا، لماذا هذا الخوف الكبير وقد نقلت لكم عن مصر نقل خبر أن كثيرًا من المجحفين استفادوا من هذا العقد؟ ولذا فالقانون المدني المصري رفض وليرفضه القانون المدني المصري، ولا قيمة له عندي وعندكم جميعًا وكل القوانين المدنية الأخرى. الحقيقة هذا العقد يجري الآن منذ القرن الخامس، وآثاره الإيجابية كثيرة جدًّا، خلصت الكثيرين من مسائل الربا بشكل واضح جدًّا، ولم أسمع عن حادثة سلبية في إيران رغم شيوع مثل هذا العقد، لم أسمع عن حادثة سلبية أنا وربما لأني لست قاضيًا، ولكن لم نسمع، يعني ليس هناك شيء مطروح كنتيجة سلبية لهذا المعنى، فلا تخوف في هذا المجال.
بقي لي أن أشير إلى نقطة ذكرت هنا، وأرجو أن تكون خاتمة حديثي وتعليقي، وليعذرني السيد الرئيس إن كنت قد أطلت، الحقيقة أنا أعتقد أن هذا العقد يمكنه أن يشكل سبيلًا شرعيًّا للتخلص من الربا وآثاره التخريبية، فهو يحدث برغبة من كل من طرفي العقد في الانتفاع بما لدى الطرف الآخر، فالبائع بحاجة إلى التصرف في الثمن لسد حاجة من حاجاته من جهة، فيتم العقد ولا يشعر حينئذ بأنه يدفع شيئًا لقاء حصوله على الثمن، ثم هو يحتاط كثيرًا في تصرفه لئلا يفقد ما باعه ببيع الوفاء ليمكنه التسديد حين سعيه لرد العين، والمشتري بحاجة للاستفادة من العين المبيعة والانتفاع بمنافعها مع ضمان تام لعودة رأس ماله المدفوع في المدة المشترطة، بل لعله - أيضًا - بتوقف استقرار البيع عليه عند انقضاء تلك المدة، وهذا مما يشكل حافزًا قويًّا للإقدام على التعامل. وهكذا نجد الدوافع متكافئة والإقدام طبيعيًّا على مثل هذا العقد دونما حاجة للولوج في الربا المحرم.
أرجو أن نعيد النظر كرتين قبل أن نسرع بتحريم شيء معمول به في عالمنا الإسلامي منذ القرن الخامس على الأقل. وشكرًا.
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أعلق على نقطة وهي في الواقع إقرار للحق بحكم صلتي كعضو مجلس إدارة وعضو لجان تنفيذية في تسع مؤسسات إسلامية، بنوك وشركات استثمار وغيرها، وبحكم صلتي بثلاث عشرة مؤسسة إسلامية موجودة في البحرين، وبحكم صلتي بالمؤسسات العربية ومعظم المؤسسات الإسلامية، أود أن أؤكد للجميع بأنه لا يوجد بين هذه البنوك من يتعامل مع البنوك الربوية بالربا، هم يتعاملون مع البنوك الربوية بشروط إسلامية، وهذا انتصار للإسلام. في الواقع مرت علينا أحداث بحيث سجلت علينا أموال ربوية فرفضناها، وعندما أتى مندوب البنك ليناقش البنك الإسلامي بأن تسجيل هذا المبلغ هو بحكم القانون في تلك الدولة قلنا له بصريح العبارة: إن القانون وضعه بشر، وضعه إنسان، أما ما نقوم به نحن فهو من وضع الله سبحانه وتعالى، ولا نستطيع مخالفته بأي شكل من الأشكال، وصدقوني أنهم رجعوا إلى بلدانهم فألغوا مثل ذلك القيد، وهذا انتصار للإسلام. فإذن هذا من قبيل التعليق على ما ذكر.
ثم من أجبر بحكم القانون بأخذ فائدة عزل هذه الأموال، وصرفها في وجوه الخير دون أن يكون له أجر، كما - طبعًا - أقر من قبل الكثير من الفقهاء، فنحمد الله سبحانه وتعالى، أن مسيرة المصارف الإسلامية مسيرة نقية، ولا أظن أنه يوجد في مصرف إسلامي من يربح العميل ويربح المساهم ويشتري بذلك جهنم، ما مصلحته؟ لا توجد لديه مصلحة.
أعود للموضوع الذي نحن بصدده: أنا في الواقع عندما تصل العملية إلى النقود والفروج أكون متحرجًا كثيرًا لأنها مسألة دقيقة وهامة، ولكن أود أن أبسط الموضوع أمامكم حتى تنظروا فيه.
مجتمع اليوم مجتمع معقد، وخربت فيه الذمم، وابتعد فيه الناس عن الإسلام، ولا بد أن نعيدهم إلى دينهم بيسر الإسلام وسماحته، ونخرجهم من ذلك الصراع القائم بين الحلال والحرام فنريحهم ونرتاح نحن معهم، هناك الآن من المسلمين من هو متورط مع بنوك ربوية يدفع لهذه البنوك الفوائد وهو قلق ويريد أن يعود لدينه، وهذا المسلم - أيضًا - له ديون هو الآخر في ذمم محترمة، ولكن سوف يحل موعدها بعد مدة، هي قابلة للتحصيل، بعد هذه الصحوة الإسلامية وجدنا الكثير من عملاء البنوك الربوية يمرون علينا يريدون أن يتخلصوا من تعاملهم مع البنوك الربوية. السؤال: هل نسد الباب أمامهم؟ أم نبحث لهم عن البديل؟.
أنا أذكر حادثة لا أنساها أبدًا، مر عليَّ أحد العملاء وقد منَّ الله عليه بالهداية، ويريد أن يتخلص من التعامل مع البنوك الربوية، وعندما بحثت موضوعه لم أجد له سبيلًا لأن باب القرض الحسن لدي محدود فخرج وهو يبكي، هذه الأحداث التي تمر علينا في المصارف، فإذا كان هناك باب ممكن أن ييسر لهؤلاء ويكون لهذا الباب ضوابط نضع له الضوابط، وتؤخذ الحالة إلى لجنة من الرقابة الشرعية لتنظر في حالة هذا الإنسان الذي يريد أن يتخلص من الحرام، ألا يكون في ذلك تيسير للمسلمين؟ النظر في هذا الموضوع بعد تشابك وتغلغل الربا ووجود هذه المصارف الربوية التي تشجع على الاقتراض، النظر فيه أمر مهم وأن يكون هذا النظر جزءًا من استراتيجية مرحلية نضعها لننحي المصارف الربوية عن مجتمعنا ونعيد المسلمين إلى معاملات إسلامية، والله من وراء القصد. وشكرًا.
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
سأجمل تدخلي في نقاط - إن شاء الله - مختصرة كالعادة، تعليقًا على ما سمعناه اليوم. هذه النقاط هي:
أولًا: إن هذا العقد يستند إلى الضرورة، وهذه كلمة مجملة في أذهان الناس، إلا أنها معروفة عند الفقهاء. ما هي الضرورة؟ الناس يطلقون كلمة ((الضرورة)) على عواهنها. والضرورة الفقهية التي تبيح المحرم هي الأمر الذي إذا لم يتناوله المضطر أو يأته المضطر هلك أو قارب على الهلاك، هذا هو التعريف الذي ذكره العلماء للضرورة، وهذا البيع أجازه من أجازه بناء على تنزيل الحاجة منزلة الضرورة، لم يقولوا الضرورة وإنما قالوا الحاجة، وهو أمر مختلف فيه. السيوطي ذكر أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وذكر ذلك ابن نجيم أيضًا. ولكن من الغريب أن السيوطي قبلها بورقة واحدة قال: إن الحاجة لا تبيح حرامًا ولا تسقط واجبًا، عندما تكلم عن الضرورة والحاجة وقسم إلى ضرورة وحاجة ومنفعة وزينة فقال: إن الضرورة فقط هي التي تجيز المحرمات ((تبيح المحرمات)) كيف تبيح الضرورة المحرم عند الفقهاء؟ هي إباحة مؤقتة بمعنى أنها من باب الرخص، والرخصة هي حكم غير إلى سهولة لعذر مع قيام علة الأصل. وأعتقد أن الخلط الذي وقع عند الناس هو خلط بين الضروري عند الأصوليين وبين الضرورة عند الفقهاء، وهذا خلط عجيب، وبين الحاجي عند الأصوليين وبين الحاجة عند الفقهاء، الضروري أو الحاجي عند الأصوليين، عند من يقول بترتيب حكم على الحاجي فإنه يرتب حكمًا وآثارًا حيث لا مؤثر، أي حيث لا يوجد نص شرعي، ولا عموم شرعي، يترتب هنا أثر حيث لا مؤثر، والأثر الذي يرتبه هو أثر باق وليس أثرًا منتقلًا، بينما الضرورة عند الفقهاء ترتب أثرًا مؤقتًا وليس باقيًا، يجب أن نكون دقيقين في تحديد هذه المفاهيم.
مسألة أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ذكره جملة من علماء القواعد، ولعل أول من ذكر ذلك إمام الحرمين، لعل إمام الحرمين أول من ذكر هذه المسألة، ولكن عند الرجوع إلى نصوص الشافعي نجد أن الشافعي يقول: إن الحاجة لا تبيح محرمًا وإنما الضرورة فقط، لا أدري، هذا الاختلاف هو اختلاف لغوي، يعني في كلمة حاجة. المهم أن هذه القضية هي من باب الحاجة وليست من باب الضرورة وحينئذ فإنه لا يمكن أن نطلق هذه الكلمة فيجب أن نكون دقيقين.
ثانيًا: هي قاعدة الألفاظ والمعاني، هذه القاعدة الأمر فيها واضح جدًّا، هو أن جماعة من العلماء قالوا بالمعاني من هؤلاء مالك وأحمد بصفة واضحة، وجماعة قالوا بالألفاظ والمباني من هؤلاء الشافعي وأبو حنيفة إلى حد ما، وهذا واضح جدًّا، لا يمكن إنكاره، لا يمكن أن ننكر أن الشافعي يبيح العينة، يبيحها هذا لا خلاف فيه، المهم أمره واضح في هذه المسألة، وكثير من العقود، المغني مثلًا: يذكر عن الشافعي أنه لا يبطل عقد البيع إذا باع العنب لمن يعصره خمرًا، إن هذا العقد ليس باطلًا عند الشافعي بل هو عقد صحيح، بينما مالك وأحمد يبطلان العقد. إذن هذه المسألة مسألة واضحة، والرجوع إليها أو محاولة القول إن الشافعي يوافق الإمام أحمد ومالكًا هو مخالف ومناقض تمامًا ومنابذ لأصول الشافعية وهي واضحة في العقود، في النكاح، في البيع، في سائر العقود نجد أن الشافعي يتمسك بالألفاظ وأصل مذهبه هو التمسك بالألفاظ ولا يهتم بالمعاني إلا نادرًا.
ثالثًا: المواعدة ذكر بعضهم أنها عند الأحناف - ذكرها أعتقد الشيخ تقي حفظه الله تعالى - ذكر أن الأحناف يقولون بالمواعدة بعد البيع، إذا كان هذا هو المذهب الحنفي فهو مشهور مذهب مالك، ذكر ذلك البناني على الزرقاني وقال: إنه إذا وعده بألا يبيعها إلا له إذا أتى الثمن - هذا الوعد بالإقالة - فإنه لازم قضاء. بإمكانه إذا جاء ووجده يريد أن يبيعها أن يوقفه حتى ينتهي الأجل وحتى يكون في زمن قريب. إذن هذا في المذهب المالكي أيضًا.
رابعًا: مسألة الشروط، إذا كان الشرط يَكرُّ على الماهية بالبطلان فهو شرط مبطل للعقد، وحتى عند أولئك كالمالكية الذين فصلوا بين الشرط المنافي الذي ينافي العقد وبين الشرط الذي يقتضيه العقد وبين شرط لا ينافي العقد منافاة كاملة فصلوا في الشروط بحسب الأحاديث التي بنى العلماء عليها الشروط. يقول ابن رشد: إن مالكًا اهتدى إلى التفصيل هو الذي فهم هذه الأحاديث ورد كل واحد منها إلى الموقع أو إلى مكانه المناسب له.
الشرط إذا كان يكر على الماهية بالبطلان فإنه يبطل العقد وهذا الشرط هو ثنيا، هو الذي فسر به مالك ثنيا الشرط المقارن الذي في أصل عقده، هو الذي فسر به مالك الثنيا التي وردت في الحديث ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا)) ، وهو يكر على الأصل بالبطلان لماذا؟ لأن البيع أصله ملك للذات يتصرف فيها صاحبها بما شاء من بيع وهبة وبصفة عامة بجميع أوجه التفويت، فإذا منعناه من أن يفوت المبيع فإن البيع حينئذ أصبح كالإجارة أو أصبح كالعارية، وهنا انتقل عن حقيقة البيع إلى حقيقة أخرى، وبها لا نعرف أن الشرط هنا كر على الماهية بالبطلان.
خامسًا: بيع الوفاء هذا هو بيع مركب تركيبة ممنوعة من كل وجه فلا تصححه من وجه إلا وجدت أنه باطل من الوجه الآخر، يعني لا يوجد وجه يصح عليه وهذا بعيد عن بيع الاستصناع حقيقة لأن هذا البيع هو متردد بين بيع وسلف ((قرض)) لأن الذي ينتفع بهذه العين كأنه أقرض تلك الدراهم أو الدنانير لينتفع بالعين ثم إذا ردت إليه رد العين، فهو من هذا الوجه بيع وسلف، ثم إنه بين البيع الصحيح والبيع الفاسد كما يقول السيوطي: فهو بيع يمكن أن يبقى عند صاحبه فيكون صحيحًا، ويمكن ألا يبقى فيكون فاسدًا، هو أيضًا متردد بين البيع وبين الرهن، وهو رهن منتفع به على خلاف سنة الرهن، إذن بيع مركب تركيبة عجيبة لا تدع مناصًا ولا تترك منفذًا لتحليله بهذه الأوجه ولأجل ذلك فإنى أقول: إنه بيع مخالف لسنن العقود وإنه بيع باطل، وأرجو أن يقرر المجمع ذلك. وشكرًا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بيع الوفاء هل هو عقد جديد كما يقول بعض الباحثين؟. الواقع إنه ليس عقدًا جديدًا وقد أشار إلى هذه الحقيقة الشيخ التسخيري، وأزيدها وضوحًا بما جاء في البحث الذي قدمه الشيخ خليل من فتوى الإمام مالك في هذه المسألة، الجديد هو التسمية فقط عند الحنفية، التسمية هي الجديدة أما حقيقة البيع فهو موجود منذ عهد مالك، وواضح كما فهمنا من البحوث التي قدمت أن الجمهور على منعه، وأن الحنفية الذين أجازوه اختلفوا فيما بينهم، وبهذه المناسبة أقول: إن ما سمعته من الشيخ العثماني لا يتفق مع ما يقرره فقهاء الحنفية، والعقد عندهم لا بد فيه من الشرط حتى إذا ما اشترط فلا يسمونه عقد بيع وفاء، وعباراتهم واضحة في هذا. ابن عابدين يقول: أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين، وهذا شرط واضح وكل تعريفاتهم نحو هذا المعنى، فهذه هي الصورة التي اختلف فيها الحنفية.
الشيخ التسخيري ذهب إلى الجواز بناء على مذهبهم، وحاول الرد على أدلة المانعين، ولكن هناك دليل على المنع هو في رأيي أقوى الأدلة لم يتعرض إليه، وقد ذكره المالكية وهو: أن هذا البيع هو سلف جر منفعة، هذه هي حقيقته، سلف جر منفعة، وقال هذا سحنون في المدونة، لأنه كأن المبتاع أسلف البائع الثمن على أن ينتفع بالمبيع حتى يرد إليه ما أسلفه، فالذي يأخذ بهذه القاعدة ((أن كل سلف جر منفعة فهو ربا)) عليه أن يمنع بيع الوفاء هذا أو بيع الثنيا على الاختلاف في تسمياته.
والشيخ التسخيري - أيضًا - في رده أراد أن يدفع الغرر عن هذا البيع بهذه الصورة، والواقع أن الغرر في هذا واضح، وهو غرر في صيغة العقد، وليس غررًا في المحل، فإنما هو غرر في الصيغة، لأن هذا العقد قد يتحقق وقد لا يتحقق، يعني قد يرد إليه الثمن ويأخذ المبيع وقد لا يفعل، وهذا هو مفهوم الغرر، ما كان مستور العاقبة، وبخاصة إذا كانت المسألة ليس فيها أجل، متى يرد؟ يكون فيه غرر من ناحيتين لأنه ليس معروفًا هل سوف يحصل هذا أو لا يحصل، وإذا حصل متى يحصل؟ وهذا كله غرر، لكن أنا اعتمادي في المنع على أنه سلف جر منفعة. والقول بأنه إنما استعمل فرارًا من الربا، لا هذا ليس دليلًا والواقع أنه لم يستعمل فرارًا من الربا وإنما استعمل حيلة، هو استحلال للربا باسم البيع. فلا يمكن أن نقول: إنه فرار من الربا.
يقول الشيخ التسخيري: إنه عقد عرفي يشمله قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وكأنه يشير إلى قاعدة ((أن الأصل في الشروط والعقود الجواز)) ولكن لا بد من الاستثناء، هذا إذا لم يرد نص بالمنع، وقد رأينا أدلة كثيرة على المنع وإن كانت بعضها قد يكون محلًّا للأخذ والرد ولكن في رأيي أنه كونه سلفًا جر منفعة لا يمكن دفعه.
بعد هذا، أريد أن أتطرق إلى مسألة، وإن كان الدكتور الجناحي قد تحدث عنها كثيرًا وبين الرأي فيها لكنها مسألة خطيرة مادامت قد أثيرت، وأبين لكم فيها وهي مسألة تعامل البنوك الإسلامية مع البنوك الربوية، هذه المسألة طرحت على هيئة الرقابة الشرعية عندما أنشىء بنك فيصل الإسلامي قبل أكثر من عشر سنين، وأول ما طرح عليه كيف نتعامل مع البنوك الخارجية وهي بنوك ربوية ونحن في حاجة للتعامل معها لا نستطيع أن نستغني عن ذلك، وهي تدفع فوائد على الأموال التي توضع عندها وتأخذ فوائد على الأموال التي تدفعها إذا انكشف حساب صاحب الحساب؟ فقلنا لهم: لا سبيل إلى إجازة هذا، لكن يمكنكم أن تتصلوا بهذه البنوك وتتفقوا معها على أن حسابكم الذي يوضع في بنكهم لا تطلبون منهم فائدة عليه وإذا حصل وانكشف هذا الحساب ودفعوا لكم من حسابهم لا يطالبونكم بفائدة، وحصل هذا الاتصال واستجابت البنوك الربوية إلى هذا، وهذا ما يسير عليه العمل، وهذا أيضًا كان مقيدًا بأنه أي بلد فيه بنك إسلامي لا يضع بنك فيصل ماله إلا في هذا البنك الإسلامي. فهو لا يضعه أولًا في البنك الربوي إلا إذا كانت هناك حاجة حقيقية لوضعه فيه وبهذه القيود. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا أريد في الواقع أن أدخل فيما أثير من قضايا فقهية وتفصيلات، إنما أريد أن أرجع إلى أصل طرح هذا الموضوع على مجلس المجمع، ليس هدف المجمع في الواقع أن نعود إلى ما تقرر من صيغ فقهية لنقومها ونرجح تلك على تلك، أصل الطرح هو هل يمكن الاستفادة من هذا العقد في مجال المعاملات المصرفية الإسلامية المعاصرة؟. الإخوة الخبراء في هذا المجال أفادونا بالدليل ونحن نتابع ذلك أن هذا في الواقع سيدمر وسيكون ضربة قاضية للعملية من حيث هي فلذلك - يعني - أصبحت القضية واضحة أمامنا، يعني هذا الموضوع ما دام أنه يسيء إلى هذا البناء الكبير الذي تتابعت لبناته لبنة إثر لبنة وجهد كبير ويفسد البناء من أساسه ويفتح مجالات واسعة للتعامل الربوي مع ما ورد من استدلالات قوية في أصل التحريم وتردد كبير حتى عند أئمة الحنفية في إجازته. فلذلك أنا أقترح على مجلس المجمع ما دام أن ما قصدناه لا يتحقق، فنكتفي بهذا النقاش وننتهي إلى هذا الحكم.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الواقع مع كلمة الشيخ عبد السلام انتهى الوقت، هل ترون أن نختم الوضع؟ أنا عندي الآن اثنان وعشرون طالبًا للكلمة، فاعذرونا - إن شاء الله تعالى - وإذا كان عندكم شيء فسجلوه في ورقة وأعطونا إياها.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا أسأل الشيخ عبد الله بن بيه عندما يقول: الشرط الذي يكر على الماهية بالبطلان، ماذا تقولون في شرط خيار الفسخ؟ ألا يكر على الماهية بالبطلان؟ هذا أولًا. والدليل الذي ذكره شيخنا الكبير الضرير هو عين المدعى، المدعى أنه سلف، والاستدلال ضد المدعى ليس هذا دليلًا. النقاش هو: هل هو سلف أم لا؟ فليس دليلًا. وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع من خلال المناقشات التي جرت في الموضوع، تكاد تلتقي كلمة عامة أصحاب الفضيلة المناقشين والخبراء الاقتصاديين على المنع، والخلاف بالجواز هو قلة من كثرة وإن كان لكل وجهة هو موليها، وقد ترون أن يكون تأليف اللجنة من المشايخ: الشيخ الصديق، الشيخ عبد الله بن بيه، الشيخ نبيل غنايم، الشيخ خليل الميس، الشيخ القاسمي، الأستاذ أنس.
مناسب؟ وبهذا ترفع الجلسة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 68/4/7
بشأن
بيع الوفاء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((بيع الوفاء)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته:((بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع)) .
قرر:
1-
إن حقيقة هذا البيع ((قرض جر نفعًا)) فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء.
2-
يرى المجمع أن هذا العقد غير جائز شرعًا.
والله أعلم.