الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَة
وَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائد
إعداَد
فضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
هذا البحث سنبسطه أولًا في شكل نصوص للفقهاء تمتزج فيها أقوال التحريم بالتحليل دون تبديل أو تعديل وبعد أن أرستها العراك. أتعرض في المرحلة الثانية من البحث لتحصيل الأقوال مما بسطه من الاستدلال ثم أوجه الأقوال في المرحلة الثالثة متوخيًّا تأصيل فروعها على أساس القواعد الفقهية ثم أنهي بخلاصة تبين الراجح والمنهج الواضح.
وهو سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وهو ولي الصالحين والصلاة والسلام على سيد المرسلين السراج المبين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
التعامل مع شركات تقوم بأعمال مشروعة وتتعامل مع البنوك بالفوائد:
إن ظاهر العنوان يدل على أن الشركات المشار إليها تمتلك رأس مال تتاجر فيه غير ناشئ عن القروض الربوية (وبالتالي فإن أكثر مال الشركة المعنية من أصل حلال) .
فإذا كان الأمر كذلك فإن التعامل معها جائز كما يفيده كلام جمهور العلماء، وقد صرح بعضهم بتحريمه، وقال بعضهم بكراهته، وسنوجه مختلف الأقوال بعد استعراض النقول والله ولي التوفيق.
فقد قال ابن رشد المالكي في كتابه البيان والتحصيل (1) : قال ابن القاسم قال مالك قال ابن هرمز: عجبًا للمرء يرزقه الله المال الحلال ثم يحرمه من أجل الربح اليسير حتى يكون كله حرامًا.
قال محمد بن رشد: قوله ثم يحرمه من أجل الربح يريد من أجل الربح الحرام الذي هو ربا، مثل أن يكون له على رجل مائة فيؤخره بها على أن يأخذ منه مائة وعشرين، وقوله حتى يكون كله حرامًا ليس على ظاهره بأنه يحرم عليه جميعه ولا يحل له منه شيء، لأن الواجب عليه فيه بإجماع من العلماء أن يرد الربح الذي أربى فيه إلى من أخذه منه ويطيب له سائره، لقول الله عز وجل:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) .
(1) البيان والتحصيل: 18/194 – 195.
(2)
سورة البقرة الآية 279.
وإنما معنى قوله حتى يكون كله حرامًا، أي حتى يكون كله بمنزلة الحرام في أنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئًا حتى يرد ما فيه من الربا لأنه إن أكل منه قبل أن يرد ما فيه من الربا فقد أكل بعض الربا لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعًا فيه، وكذلك على قوله لا يجوز لأحد أن يعامله فيه ولا أن يقبل منه هبة، لأنه إذا عامله فيه فقد عامله في جزء من الحرام لكونه شائعًا فيه، وهذا هو مذهب ابن وهب من أصحاب مالك، وهو استحسان على غير قياس، لأن الربا قد ترتب في ذمته وليس متعينًا في عين المال على الإشاعة فيه، فعلى ما يوجبه القياس تجوز معاملته فيه وقبول هبته، وهو مذهب ابن القاسم، وحرم أصبغ معاملته فيه وقبول هبته وهديته، وقال: من فعل ذلك يجب أن يتصدق بجميع ما أخذ وهو شذوذ من القول على غير قياس وبالله التوفيق.
وفرق ابن وهب بين المسلم والنصراني في نقل ابن رشد عنه حيث قال: قال (1) . وسألته (يعني ابن وهب) عن المسلم إن كان معروفًا بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر، هل ترى أن يتسلف منه أو يقبض الدين منه؟ فقال: شأن المسلم عندي أعظم من شأن النصراني إذا كان المسلم معروفًا بأكل الربا والعمل به ويبيع الخمر، لم أر لأحد أن يتسلف منه ولا يقتضي دينه منه ولا يخالطه ولايؤاكله، قال ابن وهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تخالطن إلَّا مؤمنًا)) .
(1) البيان والتحصيل: 8/514 – 515.
قال محمد بن رشد: قوله في المعروف بأكل الربا والعمل به وبيع الخمر إن شأن المسلم في ذلك أعظم من شأن النصراني، يريد أشد من شأن النصراني في معاملة كل واحد منهما، صحيح. وإنما كانت معاملة المسلم الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر أشد من معاملة النصراني وهو يبيع الخمر ويعمل بالربا من أجل أنه غير مخاطب بالشرائع على الصحيح من الأقوال بدليل إجماعهم على أنه إذا أسلم يحل له ما أربى فيه في حال كفره، وثمن ما باع فيه من الخمر. وقد أمر الله أن تؤخذ الجزية (منهم) وكره مالك في كتاب الضحايا من المدونة أن يتسلف الرجل من النصراني دينارًا باع به خمرًا أو يبيع به منه شيئًا مراعاة للقول بأنهم مخاطبون بفروع الشرائع، ولم يحرمه، والقياس جوازه، لأنه لو أسلم لحل له ذلك الدينار، ولم ير في هذه الرواية ابن وهب لأحد أن يتسلف من المعروف بأكل الربا أو بيع الخمر شيئًا، ولا يقبض منه دينًا ولا يخالطه ولا يواكله، ومعناه إذا كان الغالب على ماله الحلال، وابن القاسم يجيز ذلك، وهو القياس، وأصبغ يحرمه، وهو تشديد على غير قياس، لأنه جعل ماله كله حرامًا لأجل ما خَالَطه من الحرام، فأوجب عليه الصدقة بجميعه وقال: إن من عامله فيه وجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ منه، وأما إن كان قد غلب على ماله الربا وثمن ما باع من الخمر فلا يعامل ولا تقبل هديته ولا يؤكل طعامه، قيل على وجه الكراهة وقيل على وجه التحريم، ولو ورث سلعة أو وهبت له لجاز أن تشتري منه وأن تقبل منه هبة باتفاق، واختلف إن كان الربا وثمن الخمر قد أحاط بجميع ما بيده من المال في مبايعته ومعاملته على أربعة أقوال قد ذكرناها، ووجه كل قول منها في مسألة قد شخصناها في هذا المعنى حاوية لجميع وجوهها ومعانيها فتركت ذكرها هنا اختصارًا، ومعنى قوله في الحديث الذي احتج به:((لا تخالطن إلَّا مؤمنًا)) ، أي لا تخالطن في الأخذ والإعطاء إلَّا مؤمنًا ممدوح الإيمان لتورعه عن اكتساب الحرام، وبالله التوفيق.
ووجه ابن رشد أوجه الخلاف في مستغرق الذمة الذي أحاط الربا بماله، أو أحاطت التباعات به في مسألة من نوازل سحنون فقال ابن رشد: بعد حذف أول كلامه فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال (1) : أحدها: أن المستغرق الذمة بالحرام لا يجوز قبول عطيته ولا أكل طعامه ولا يسوغ لوارثه ميراثه. والثاني: أن المستغرق الذمة بالحرام يجوز قبول هديته وأكل طعامه ويسوغ لوارثه ميراثه، والثالث: أن المستغرق الذمة لا يجوز قبول هبته ولا أكل طعامه، ويسوغ لوارثه ميراثه.
وجه القول الأول أن ما عليه من الظلامات والتباعات لما كانت مستغرقة لما بيده من المال كان كمن أحاطت الديون بماله، لا تجوز هبته ولا عطيته ولا معروفه، ولا يسوغ لوارثه ميراثه، لكون ما عليه من التباعات أودى بماله، لأنها كالديون عليه، وقال الله عز وجل:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) .
ووجه القول الثاني أن ما عليه من الظلامات والتباعات وإن كانت مستغرقة لماله فليست متعينة فيه إذ قد ترتبت في ذمته، فساغت عطاياه لمن أعطاه إياها وساغ ماله لوارثه، وكان هو المسؤول المؤاخذ بما عليه من المظالم والتباعات إذا لم يؤدها أو لم يتصح منها في حياته.
ووجه القول الثالث أن ما عليه من المظالم والتباعات (أحق بماله لأنه مأمور بردها منه عاص لله عز وجل في ترك) ذلك وتأخيره، فلا يجوز له فيه عطية ولا معروف، ولا يسوغ ذلك للمعطي فإذا لم يفعل ذلك حتى مات بقيت عليه التباعات يطلب بها في الآخرة، وساغ ماله لوارثه، إذ ليست التباعات التي عليه ديونًا لمعينين يطلبونها فيجب إخراجها من ماله قبل الميراث، وقد أفردنا للتكلم على حكم مال من خالط الحرامُ ماله في حياته وبعد وفاته مسألة حاوية لجميع وجوهها، فمن أراد الشفاء منها في نفسه طالعها وبالله التوفيق.
(1) البيان والتحصيل: 18/579 وما بعدها.
(2)
سورة النساء: الآية 11.
وقد قال ابن قدامة الحنبلي في المغني (1) : فصل وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال السلطان الجائر والمرابي فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فهو حرام، ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم. لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع، لإمكان الحلال قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها، قال أحمد: لا يعجبني أن يأكل منه لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه)) ، متفق عليه. وهذا لفظ رواية مسلم، وفي لفظ رواية البخاري:((فمن ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على مايشك فيه من المأثم أوشك أن يواقع ما استبان)) . وروى الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، وهذا مذهب الشافعي.
(1) المغني: 4/295 وما بعدها.
(فصل) والمشكوك فيه على ثلاثة أضراب:
الأول: ما أصله الحظر كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون فلا يجوز شراؤها وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلمًا لأن الأصل التحريم فلا يزول إلَّا بيقين أو ظاهر، وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك. والأصل فيه: حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أرسلت كلبك فخالط كلبًا لم يسم عليها فلا تأكل، فإنك لا تدري أيها قتله)) ، متفق عليه، فإما إن كان ذلك في بلد الإسلام فالظاهر إباحتها، لأن المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع ما لا يحل بيعه ظاهرًا.
والثاني: ما أصله الإباحة كالماء يجده متغيرًا لا يعلم أبنجاسة تغير أم بغيرها، فهو طاهر في الحكم، لأن الأصل الطهارة، فلا تزول عنها إلَّا بيقين أو ظاهر، ولم يوجد واحد منهما، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن زيد قال: " شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشيء، قال:((لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا)) ، متفق عليه.
والثالث: ما لا يُعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام، فهذا هو الشبهة التي الأوْلَى تَرْكُها على ما ذكرنا، وعملًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه وجد ثمرة ساقطة، فقال:((لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها)) . وهو من باب الورع.
فعلم من هذا أن المذهب الحنبلي على الكراهة في المجهول الذي اختلط حلاله بحرامه، وفي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 8/158:" ولا تحرم معاملة في أكثر ماله حرام ولا الأكل منه".
تفصيل الأقوال:
فتحصل من كلام العلماء جملة من الأقوال:
منها القول بجواز التعامل مع المتعامل بالربا إذا لم يغلب الربا على ماله.
ومنها المنع مطلقًا غلب أو لم يغلب.
ومنها الجواز مطلقًا غلب أو لم يغلب.
ومنها القول بالكراهة.
توجيه هذه الأقوال:
وجه القول الأول: إن الحرام وإن كان شائعًا في الأصل إلَّا أن التصرف يميز الحلال من الحرام فيحمل القدر المُتَصرَّفُ فيه على أنه من الجزء الحلال وهذا على شرط القاعدة التي تقول بتَميُّزِ الجزء الشائع.
وقد أشار إليها الزقاق بقوله:
وهل تعين لجزء شاعا
عليه حالف بعتق باعا
كمستحق وزكاة وغصب
كمهر أو مرتهن ومن وهب
جواب نفري عليه جاء
بلا نعم في قابض كشراء
وثمنًا لشطره وغيره
غصب هل ينزع فيه شطره
وخرج عليها مسائل منها دار مشاعة بين رجلين اعتدى غاصب على نصيب أحدهما فغصبه مشاعًا، هل يجوز للثاني أن يبيع نصيبه أو يكريه؟ وهل يشاركه المغصوب منه في الثمن والكراء؟ فأجاب ابن أبي زيد وهو النفزي بجوابين إلَّا أنه رجح أنه لا نصيب للمغصوب قائلًا إنه أشبه بالقياس.
ويوجه أيضًا بأن الدراهم والدنانير غير متعينة بمجرد استيلاء الشخص تصبح دينًا في ذمته، وتحل لمن يتعامل معه، وقد أشار ابن رشد إلى هذا التوجيه.
ويوجه أيضًا بأن الحرام إذا كثر عليه الحلال استهلكه ويصير كالعين المستهلكة كقليل اللبن يغلب عليه الماء لا ينشر الحرمة عند ابن القاسم وأبي حنيفة خلافًا لأشهب والشافعي، قال في المنهج: وهل لعين ذي اختلاط؟ تنقل مغلوبة. إلخ (1) . وذكر هذه القاعدة ابن رجب في قواعده بعنوان: العين المنغمرة في غيرها إذا لم يظهر لها أثر فهل هي كالمعدومة حكمًا أو لا؟ فيه خلاف وذكر فروعًا كثيرة من الدراهم الحرام تختلط بالحلال وقد ذكروا قاعدة أخرى وهي أن الحرام لا يحرم حلالًا (2) قال السيوطي: وهو لفظ حديث أخرجه ابن ماجه والدارقطني عن ابن عمرو مرفوعاً (3) .
ووجه القول الثاني: بالمنع مطلقًا غلب الحرام أو لم يغلب: هو الشيوع، أي أن الحرام منشر غير متميز وهو الشطر الثاني في القاعدة التي ذكرناها، وهو أيضًا أن الأمر إذا دار بين الحلِّيَّة والحُرْمة غلبت الحرمة احتياطًا.
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر:
القاعدة الثانية: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام. وأورد جماعة حديثًا بلفظ: ((ما اجتمع عليه الحلال والحرام إلَّا غلب الحرام)) قال الحافظ أبو الفضل العراقي والأصل له، وقال السبكي في الأشباه والنظائر نقلًا عن البيهقي: هو حديث رواه جابر الجعفي رجل ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود وهو منقطع، قلت وأخرجه من هذا الطريق عبد الرزاق في مصنفه وهو موقوف على ابن مسعود لا مرفوع، ثم قال ابن السبكي: غير أن القاعدة في نفسها صحيحة، قال الجويني في السلسلة:" لم يخرج منها إلَّا ما ندر".
(1) راجع المنهج بشرح الشنقيطي: ص27.
(2)
القواعد، لابن رجب: ص29-30.
(3)
الأشباه والنظائر: ص80.
وبنى السيوطي جملة من الفروع على هذه القاعدة: منها اشتباه محرم بأجنبيات محصورات لا تحل واحدة منهن، ومنها قاعدة " مدعجوة " ودرهم، ومنها ما أحد أبويه مأكول والأخير غير مأكول غلبت الحرمة – واشتراك المسلم مع المجوس في الذبح – وعدم جواز وطء الجارية المشتركة، ومنها لو خلط المكاس دراهم شخص على دراهم المكس ورد إليه قدرها لا يجوز عن النووي، إلَّا أنه ذكر عن ابن الصلاح لو اختلط دراهم حلال بدراهم حرام ولم تتميز فطريقه أن يفرز قدر الحرام بنية القسمة.
وذكر اتفاق أصحاب الشافعي إذا غصب زيتًا أو حنطة وخلطه بمثله قالوا: يدفع إليه من المختلط قدر حقه ويحل الباقي للغاصب، قائلًا أما ما يقوله العوام إن اختلط ماله بغيره يحرمه فباطل لا أصل له، وذكر مسألة الصفقة التي تجمع بين الحلال والحرام وفيها قول بالصحة في الحلال، والثاني البطلان في الكل وادعى في المهمات أنه المذهب (1)(مع حذف وتصرف)(2) .
أما القول بالجواز مطلقًا فمرده إلى أن الأصل في العقود اللزوم ولاصحة لترتب الأحكام على أسبابها، وأن الحرام قد تعلق بذمة صاحبه، وقد ذكرنا طرفًا من توجيهه في كلام ابن رشد، وصح عن ابن مسعود، أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية، ولا يتحرج من مآل حيث يأخذه قال أجيبوه فإنما الهناء لكم والوزر عليه، وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئًا إلَّا خبيثًا أو حرامًا قال أجيبوه" (3) .
(1) الأشباه والنظائر: ص74 – 75.
(2)
شرح الزقاق، للشنقيطي: ص108.
(3)
جامع العلوم والحكم: ص61 – 62.
توجيه القول بالكراهة:
فلمحل الشبهة، والشبهة تنشأ من تعارض الأدلة، كما تنشأ من اختلاط الحرام بالحلال، كالتمرة الساقطة على الفراش التي أهوى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رماها خشية أن تكون من تمر الصدقة (وهو في الصحيحين)(1) .
وقد اختلف العلماء هل المشتبه فيه حرام أو مكروه؟ فذهب بعضهم إلى الحرمة للزيادة التي في صحيح مسلم وفيها: ((فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) وقد فسر أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام، فقال في معاملة من في ماله حرام وحلال مختلط: فإن كان أكثر ماله الحرام ينبغي أن يتجنب إلَّا أن يكون شيئًا يسيرًا أو شيئًا لا يعرف.
واختلف أصحابه هل هو مكروه أو محرم على وجهين، وإن كان أكثر ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله (2) . [نقلًا عن ابن رجب بتصرف يسير] .
وسئل (ابن لبابة) عن متاجرة أهل الغصب والربا، ومن لا يتورع: هل تجوز متاجرتهم بالدنانير والدراهم، على علم أنها من أموالهم؟ فأجاب: إن ترك ذلك تارك فهو خير له، وإن لم يتورع عن ذلك فليس بحرام حتى يعرف شيئًا بعينه فيجتنبه (3) .
(1) جامع العلوم والحكم: ص60.
(2)
جامع العلوم والحكم: ص61.
(3)
المعيار المعرب: 6/181.
خلاصة القول:
التعامل مع الشركات ذات النشاط المشروع في الأصل إلَّا أنها تتعاطى أنشطة غير مشروعة، وذلك بحصولها على قروض ربوية مما يعني أن هذه الشركات لها رأسمال ناض ناشئ عن أنشطتها المشروعة، وليس ناشئًا عن هذه القروض الربوية في الأساس، ولكن القروض التي تحصل عليها تشكل جزءًا من ثروتها.
وطبقًا لهذا التصوير فإنه يجوز التعامل مع هذه الشركات وهذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، بناء على تغليب جانب الصحة في عقود المسلمين طبقًا للقاعدة وهي:(إن عقود المسلمين محمولة على الصحة) وذهب بعض العلماء إلى التحريم نظرًا لشيوع الحرام وانتشاره وعدم القدرة على تمييزه عن الحلال بناء على أن الجزء الشائع لا يتميَّز.
وهناك قول بالكراهية، وهو وسط بين قولين لمكان الشبهة والاشتباه، ينشأ عن اختلاط حلال بالحرام، والأصل في المشتبه الكراهة عند مالك، وفي رواية عند أحمد، أما الورع فهو عدم التعامل للنهي عن مخالطة أهل الفسق والركون إليهم ومساعدتهم سدًّا للذريعة ولقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
ومعاملة الكفار المرابين أخف من معاملة غيرهم، أما إذا كانت التبعات قد استغرقت مال المسلم ففيه الخلاف السابق إلَّا أن القول بالحرمة يتقوَّى أكثر مما لو كان الحرام يشكل جزءًا من ماله، لا يعرف بعينه، فلو عرف بعينه كحيوان مغصوب أو دار مغصوبة أو سلعة مسروقة ما جاز اشتراؤه.
الشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية
(1) سورة المائدة: الآية 2.