المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

‌الاستصناع

تعريفه - تكيفه - حكمه - شروطه

أثره في تنشيط الحركة الاقتصادية

إعداد

الدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

قسم الشريعة - كلية الشريعة - جامعة أم القرى

مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1)

وقال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2)

وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (3)

وقال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} (4)

(1) سورة سبأ الآية 10-11

(2)

سورة سبأ الآية 13

(3)

سورة الأنبياء: الآية 80

(4)

سورة هود: الآية 38

ص: 1029

مقدمة:

الدين الإسلامي دين كامل شامل لما يقوم به العباد تجاه ربهم من العبادات وما يحتاجون لأنفسهم من العادات والمعاملات قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)

فالنصوص الشرعية، وقواعد الشريعة الإسلامية العامة، وما اشتملت عليه مقاصد الشارع من جلب المصالح، ودرء المفاسد كفيلة بحل مشكلات البشرية كلها والدنيا بأسرها حلًّا بعيدًا عن الحرج والمشقة والعنت، ولذلك رأينا بعد كثرة صور المعاملات نتيجة للتعامل بين الدول الإسلامية، والانفتاح على الدول الغربية والشرقية أن المجامع الفقهية أثرت إثراء واسعًا بكثرة الأبحاث التي تطرحها لإيجاد حلول شرعية، وأحكام فقهية لأنواع التعامل المستجدة، وكذا في بعض الموضوعات القديمة التي اختلفت فيها وجهات نظر الفقهاء، وتباينت آراؤهم وحيث أن موضوع الاستصناع أحد الموضوعات التي طرحت للبحث في الدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي أحببت الإسهام بجهد المقل والكتابة فيه والله أسال أن يكون في هذا البحث ما يوضح بعض الأمور الغامضة وإيجاد الحلول المناسبة بعد التدارس مع علماء أجلاء، وباحثين فضلاء، وخبراء واقتصاديين يشتركون في إبداء الرأي مجتمعين، وقد قسمت البحث إلى مقدمة وستة مباحث وخاتمة.

المبحث الأول: في تعريف الاستصناع.

المبحث الثاني: في اعتبار الاستصناع عقدًا أو وعدًا.

المبحث الثالث: تكييف عقد الاستصناع على القول بأنه عقد.

المبحث الرابع: المذاهب الفقهية في حكم الاستصناع.

المبحث الخامس: في الشروط الجامعة والفارقة بينه وبين السلم.

المبحث السادس: في أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الاقتصادية.

أما الخاتمة فقد اشتملت على أهم نتائج البحث.

والله أسأل أن يكون في هذا البحث خدمة للإسلام والمسلمين.

(1) سورة المائدة: الآية 3

ص: 1030

المبحث الأول

تعريف الاستصناع

الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وحيث أن المعنى اللغوي هو الأصل للمعنى الاصطلاحي فلا بد من تقديمه عليه.

تعريف: الاستصناع في اللغة:

الاستصناع طلب الصنعة قال ابن منظور: (اصطنع فلان خاتمًا إذا سأل الرجل أن يصنع له خاتما.. واستصنع الشيء دعا إلى صنعه)(1)

والصناعة هي حرفة الصانع، وعمله الصنعة والفاعل صانع (2)

وعليه فإن الاستصناع هو طلب عمل من الصانع ليعمل شيئًا لطلب الصنعة.

تعريف الاستصناع اصطلاحا:

جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن الاستصناع قسم من أقسام السلم ولذلك يندرج في تعريفه.

أما الحنفية فقد جعلوه عقدًا مستقلًّا له اعتباره الذي يجعله متميزًا عن عقد السلم، وقد عرفوه بعدة تعريفات، منهم من عرفه بالرسم، ومنهم من عرفه بالحد.

قال الكاساني: هو (أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفًّا، أو آنية من أديم، أو نحاس من عندك بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل، وقدره، وصفته، فيقول الصانع: نعم)(3)

(1) لسان العرب "صنع". وانظر: الفيروز أبادي، القاموس المحيط صنع.

(2)

الفيومي، المصباح المنير "صنع" والفيروز أبادي، القاموس المحيط "صنع"

(3)

بدائع الصنائع: 6/2677، وانظر مجلة الأحكام العدلية مادة "388".

ص: 1031

وقد ذكر بعضهم من صور الاستصناع وزاد بعض ما وجد في عصور المتأخرين كصناعة الزجاج والحديد، مما يدل دلالة واضحة على أن ذكر الصور عند المتقدمين على سبيل التمثيل لا الحصر.

وأما تعريفه بالحد فقد ذكروا له عدة تعريفات: منها ما نقله الكاساني عن بعض الفقهاء أنه:

(عقد مقاولة)(1) ، ويرى بعضهم أنه (عقد على مبيع في الذمة)(2)، ونقل عن آخرين قولهم:(عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل)(3) .

أما مجلة الأحكام العدلية فقد عرف فيها بـ: (عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئًا)(4) .

ومن أمثلته ما ذكر في المجلة (إذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشًا وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استصناعًا)(5)

وعرفه من المعاصرين أستاذنا الدكتور/ أحمد أبو سنة ونقله عنه الدكتور عبد العزيز الخياط حيث قال: (أن يطلب من الصانع عمل شيء مادته من عنده على وجه خاص)(6)

فقد ذكر في التعريف ما يفرق بين الاستصناع والإجارة على الصنع، فالمادة في الاستصناع والعمل من العامل.

أما الإجارة على العمل فالمادة من طالب الصنعة ولعل أوفى تعريف وأقربه إلى حقيقة الاستصناع ما ورد في رسالة عقد الاستصناع حيث عرفه المؤلف بقوله: (عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على وجه مخصوص)(7) ، وعلى هذا التعريف الذي اعتبره عقدًا يخرج الوعد.

والقول بأنه على مبيع يخرج الإجارة إذ هي عقد على منافع مؤقته.

والقول بأنه في الذمة يخرج البيع، إذ البيع مقبوض في المجلس، والاستصناع مطلوب صنعه في الذمة.

والقول بأنه شرط فيه العمل قيد احترز به عن السلم، إذ أن السلم بيع آجل بعاجل، والاستصناع لا يشترط فيه أخذ الثمن عند كثير من الفقهاء كما سيظهر فيما بعد.

والقول بأنه على وجه مخصوص، أي: جامع شرائط الاستصناع (8) التي ستذكر فيما بعد والله أعلم.

(1) بدائع الصنائع: 6/2677

(2)

بدائع الصنائع: 6/2677

(3)

بدائع الصنائع: 6/2677

(4)

مادة: "124"

(5)

مادة " 388"

(6)

العرف والعادة 139، نظرية العرف 117

(7)

بدران الكاسب: ص59

(8)

بدران الكاسب: ص59 - 61

ص: 1032

المبحث الثاني

في اعتبار الاستصناع عقدًا أو وعدًا.

من أهم مباحث الاستصناع معرفة صفته هل هو عقد أو مجرد مواعدة؟

وللإجابة على هذا السؤال لابد من تعريف العقد والوعد ويمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:

* المطلب الأول: في العقد:

تعريف العقد في اللغة:

يأتي العقد في اللغة بمعنى الشد والربط مادته من باب ضرب يقال عقدت الحبل فانعقد، والعقدة: ما يمسكه ويشده ويوثقه، ومنه قيل عقدت البيع والحبل، والعهد يعقده.

وعقدت اليمين وعقدتها بالتشديد توكيدًا، وعاقدته على كذا وعقدته عليه بمعنى عاهدته (1)

تعريف العقد في الإصلاح:

(اتفاق بين طرفين يلتزم بمقتضاه كل منهما بتنفيذ مااتفقا عليه كعقد البيع والزواج)(2)

وفي القرآن المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3)

وجاء في التعريفات: (ربط أجزاء التصرفات بالإيجاب والقبول)(4)

وجاء في مجلة الأحكام العدلية (التزام المتعاقدين وتعهدهما أمرًا وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول)(5)

وقال السنهوري: (ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره في المعقود عليه)(6)

فهو ليس مجرد الإيجاب والقبول ولا الارتباط وحده بل هو مجموع الثلاثة (7)

(1) الفيومي، المصباح المنير، مادة "عقد"، والقاموس المحيط مادة "عقد"

(2)

سعدي أبو جيب: القاموس الفقهي "العقد"

(3)

سورة المائدة: الآية 1

(4)

الجرجاني "العقد".

(5)

مادة "103".

(6)

مصادر الحق: 1/40، 73 - 75

(7)

سعدي أبو جيب: القاموس الفقهي "العقد"

ص: 1033

* المطلب الثاني: في الوعد:

تعريف الوعد في اللغة:

يستعمل الوعد في الخير والشر، ويتعدى بنفسه، وبالباء، فيقال: وعده الخير وبالخير، وشرًّا بالشر، وقد أسقطوا لفظ الخير والشر.

وقالوا في الخير: وعده وعدًا وعدة، وفي الشر وعده وعيدًا فالمصدر فارق وأوعده إيعادًا وقالوا أوعده خيرًا أو شرًّا بالألف أيضًا (1)

تعريف الوعد في الاصطلاح:

عرف الوعد في الاصطلاح بأنه (ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلبه منه)(2)

قال السنهوري هو: (ما يفرضه الشخص على نفسه لغيره بالإضافة إلى المستقبل لا على سبيل الالتزام في الحال)(3) ، وقد يقع الوعد على عقد أو عمل كأن يعد شخص آخر ببيعه أرضًا أو ببنائه دارًا. وجمهور الفقهاء على أن الوعد ملزم ديانة لا قضاء (4)

ولكن الحطاب ذكر عن المالكية أربعة أقوال في القضاء بالوعد وذكر أن ابن رشد حكاها في كتاب جامع البيوع والعارية والعدة.

1-

فقيل يقضي بها مطلقًا.

2-

وقيل لا يقضي بها مطلقًا.

3-

وقيل يقضي بها إن كانت على سبب دخل الموعود في السبب أو لم يدخل.

4-

وقيل يقضي بها إن كان على سبب ودخل الموعود من أجل الوعد في السبب.

وبالمثال التالي يتضح الفرق بين القولين الأخيرين:

يعد شخص آخر بمبلغ من المال ليعينه على الزواج فهذا الوعد ملزم للواعد تزوج الموعود أو لم يتزوج على القول الثالث، وهو ملزم لواعد بشرط أن يكون الموعود قد تزوج على القول الرابع (5)

(1) الفيومي، المصباح المنير "وعد"، وانظر الفيروز أبادي: القاموس المحيط "وعد"، سعدي أبو جيب: القاموس الفقهي "وعد"

(2)

الموسوعة الفقهية: 7/91

(3)

مصادر الحق: 1/45

(4)

مصادر الحق: 1/45

(5)

تحرير الكلام في مسائل الالتزام: ص154 - 155

ص: 1034

* المطلب الثالث: الفرق بين العقد والوعد:

هناك فرق كبير بين العقد والوعد عند من يقول بعدم القضاء بالوعد، فمن يقول بأن الاستصناع عقد يرتب عليه الأثر من حيث اللزوم، ومن ثم يرتب على ذلك الضمان وإلى هذا ذهب بعض الحنفية والمالكية في بعض أقوالهم.

وأما من يقول بأن الوعد غير ملزم فلا يرتب عليه من الآثار غير أن على الواعدين الإثم في عدم الوفاء بالوعد.

من المعلوم أن الذين جعلوا الاستصناع عقدًا مستقلًّا هم الحنفية، فجعلوا له أركانًا وشروطًا تميزه عن غيره من العقود، وقد قسمت الكلام في هذا المطلب إلى فرعين.

الفرع الأول: في قول من اعتبر الاستصناع وعدًا:

يرى الحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور أنه مجرد مواعدة وليس بعقد وأنه ينعقد بالمعاطاة إذا جاء به مفروغًا منه بعد ذلك (1)، جاء في المبسوط:(وكان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغًا عنه)(2)

وقد فصل ابن عابدين في لزوم العقد وجوازه حسب المراحل التي يمر بها حيث قال:

(وأما صفته: فهي أنه عقد غير لازم قبل العمل من الجانبين بلا خلاف، حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل كالبيع بالخيار للمتابيعين فإن لكل منهما الفسخ، وأما بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع فكذلك حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء، وأما إذا أحضره الصانع على الصفة المشروطة سقط خياره وللمستصنع الخيار هذا جواب ظاهر الرواية، وروي عنه ثبوته لهما وعن الثاني عدمه لهما والصحيح الأول)(3)

وقد أيدوا وجهة نظرهم بما يلي:

1-

قالوا: إن الصانع له ألا يعمل وهذا لا يكون في العقود، إذ العقود ملزمة لمن دخل فيها، وذلك بخلاف السلم الذي يجبر فيه المسلم إليه بما التزم به.

2-

إن المستصنع له الحق في عدم قبول ما يأتي به الصانع وله الرجوع أيضًا قبل تمام الصناعة أو رؤيتها وهذا يدل على أنه وعد لا عقد (4)

جاء في حاشية رد المحتار: (ولكل منهما الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق)(5)

(1) السيواسي، فتح القدير: 5/355، والسرخسي، المبسوط: 12/139، وابن عابدين: 5/24

(2)

السرخسي: 12/139

(3)

حاشية رد المحتار: 5/224، وانظر الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2679، والسيواسي، فتح القدير: 5/355، والموسوعة الفقهية: 3/326 - 327

(4)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139، والموسوعة الفقهية: 3/327

(5)

ابن عابدين: 5/224

ص: 1035

الفرع الثاني: قول من اعتبر الاستصناع عقدًا:

يرى الإمام أبو يوسف وبعض المتأخرين أنه عقد. جاء في المبسوط (وعن أبي يوسف قال: إذا جاء به كما وصفه له فلا خيار للمستصنع استحسانًا)(1)

وجاء في فتح القدير: (والصحيح من المذهب جوازه بيعًا)(2)

وقد أيدوا وجهة نظرهم بما يلي:

1-

إن في هذا القول دفع الضرر عن الصانع في إفساد أمتعته وآلاته فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة ولو قيل بثبوت الخيار لثبت الضرر) (3)

2-

الصانع يملك الدراهم بقبضها ويضمنها ولو كانت مواعدة لم يملكها (4)

3-

إثبات خيار الرؤية فيه والمواعدة لا تلزم فلا حاجة لخيار الرؤية فيها) (5)

4-

تجويزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل يؤيد أنه عقد إذ لو كان وعدًا لجاز في الجميع. (6)

5-

أن محمدًا رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان وهما لا يجريان في المواعدة (7)

6-

وتسميته شراء حيث قال محمد: إذا رآه فهو بالخيار لأنه اشترى ما لم يره (8) فاعتباره شراء دليل على أنه عقد.

7-

قالوا أيضًا يجرى فيه التقاضي وإنما يتقاضي في الواجب لا الموعود (9)

الترجيح:

بعد استعراض آراء الطرفين في اعتبار الاستصناع عقدًا أو وعدًا يتضح رجحان قول القائلين بأنه عقد، لقوة الأدلة بجانب ما ذكره الذين ذهبوا إلى أنه وعد وما أيدوا قولهم به من أقوال لا تقاوم أدلة الذين اعتبروه عقدًا حيث أن ما ورد عنهم يعتبر آثارًا مترتبة على أنه وعد وليس هناك أدلة تؤيد قولهم هذا من ناحية، والناحية الأخرى أن القول بأنه وعد يترتب عليه كثير من الأضرار على الصانع والمستصنع فالصانع قد يتلف متاعه وأدواته ولا يجد من يرغبها بتلك الصفات التي طلبها المستصنع، والمستصنع أيضًا قد يتضرر بسبب مضي الوقت وعدم حصوله على حاجته ولا شك أن الشريعة الإسلامية من مبادئها الشرعية وقواعدها العامة مبدأ رفع الضرر ودفعه عن المكلفين مع ثبوت خيار الرؤية إذا ظهر أن المصنوع على خلاف الصفات التي طلبها الصانع.

(1) السرخسي: 12/139، وانظر ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224

(2)

السيواسي: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139

(3)

السرخسي، المبسوط: 12/139

(4)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر بدائع الصنائع: 6/2677

(5)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139

(6)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

(7)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139، والكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

(8)

السيواسي، فتح القدير: 5/355

(9)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

ص: 1036

المبحث الثالث

تكييف الاستصناع على القول بأنه عقد

الذين قالوا بأن الاستصناع عقد اختلفوا في تكييفه إلى عدة أقوال:

1-

عقد على مبيع في الذمة (1)

2-

عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (2)

3-

إجارة. (3)

4-

إجارة ابتداءً بيع انتهاءً لكن قبل التسليم لا عند التسليم (4)

5-

يع عمل العين فيه تبع (5)

6-

بيع عين لها علاقة بالذمة (6)

هذه جملة الأقوال التي اطلعت عليها عند الحنفية في تكييف عقد الاستصناع وقد أيد كلٌ قولَه ببعض الأدلة العقلية وإليك بيانها مع التعقيب عليها بمناقشة المخالفين وما رد به على المناقشة.

1-

الذين قالوا: إن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة أيدوا قولهم هذا بأن الصانع لو أحضر عينًا كان عملها قبل العقد ورضي بها المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي (7)

ونوقش هذا القول بأن هذا يجوز بعقد آخر وهو التعاطي - بالتراضي وليس بالعقد الأول (8)

(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677، وابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224

(2)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

(3)

السرخسي، المبسوط: 12/139

(4)

ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224

(5)

السرخسي، المبسوط: 12/139

(6)

السرخسي، المبسوط: 12/139، والسنهوري، مصادر الحق: 3/38

(7)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

(8)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

ص: 1037

2-

أما الذين قالوا بأن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فقد أيدوا قولهم بأدلة عقلية منها:

أ- إن الاستصناع هو طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه (1) .

ب- العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني في الأصل (2)

3-

الذين قالوا بأن الاستصناع إجارة أيدوا قولهم بعدة أمور:

أ- المعقود عليه هو العمل والعقد الذي قصد فيه العمل هو الإجارة.

ب- الاستصناع اشتقاق من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه والمادة فيه بمنزلة الآلة للعمل (3)

وقد نوقش هذا القول بأنه لو انعقد الاستصناع إجارة لأجبر الصانع على العمل والمستصنع على إعطاء المسمى (4)

وأجيب على هذا الاعتراض بأنه لا يجبر الصانع لأنه لا يمكنه إلا بإتلاف عين له من قطع أديم أو غيره والإجازة تفسخ بهذا العذر ألا ترى أن الزارع له أن لا يعمل إذا كان البذر من جهته وكذا رب الأرض (5)

هذا الجواب مني على التسليم بأنه لا يجبر على العمل ولكن على القول بإجباره على عمل ما التزمه فلا حاجة إلى ذلك.

(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

(2)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677

(3)

السرخسي، المبسوط: 12/139

(4)

ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224

(5)

ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224

ص: 1038

ولكن فرق كثير من العلماء بين الإجارة والاستصناع بأمرين:

1-

الإجارة على الصنع المادة فيها من طالب الصناعة أما الاستصناع فالعمل والمادة من الصانع.

2-

وفرق آخر بين الاستصناع والإجارة على الصنع بأنه في الإجارة المعقود عليه هو العمل أما في الاستصناع فالمعقود عليه هو العين الموصوفة في الذمة لا بيع العمل (1)

3-

الذين قالوا: إن المعقود عليه هو العمل والعين فيه تبع قالوا: إن الاستصناع اشتقاق من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه والأديم فيه بمنزلة الآلة للعمل (2)

ورد على قولهم هذا بأن المعقود عليه المستصنع فيه وذكر الصنعة لبيان الوصف ألا ترى أنه لو جاء به مفروغًا عنه لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز (3)

أما الذين قالوا: إن الاستصناع بيع عين لها علاقة بالذمة، فيرد عليهم عدة اعتراضات.

أولًا: إن تعريف بيع العين لا ينطبق على هذا العقد حيث إن العين كما ورد تعريفها في مجلة الأحكام العدلية: (الشيء المعين المشخص كبيت وحصان وكرسي وصبرة حنطة وصبرة دراهم حاضرتين فكلها أعيان)(4)

وقد نقل سعدي أبو جيب تعريفه عن الحنفية بقوله عند الحنفية: (ما كان قائمًا في ملك الإنسان من نقود وعروض)(5)

وحيث أن المستصنع فيه بيع معدوم كما نص عليه جمهور الحنفية فلا يمكن أن يكون المعدوم عينًا فليس المستصنع موجودًا ولا مشخصًا بل معدومًا والمعدوم يتعلق بالذمة وما تعلق بالذمة فهو دين. جاء في مجلة الأحكام العدلية: (الدين ما يثبت في الذمة كمقدار من الدراهم في ذمة رجل ومقدار منها ليس بحاضر، والمقدار المعين من الدراهم أو من صبرة الحنطة الحاضرتين قبل الإفراز فكلها من قبيل الدين)(6)

(1) الموسوعة الفقهية: 3/326

(2)

السرخسي، المبسوط: 12/139

(3)

السرخسي، المبسوط: 12/139

(4)

مادة "159"، وانظر الباز شرح المجلة، مادة "159"، وعلي حيدر، شرح المجلة، مادة "159"

(5)

القاموس الفقهي "عين".

(6)

مادة "158"

ص: 1039

أما ما يرد بأن الوصف قد يجعل الموصوف عينًا فيناقش بأن الوصف قد يكون لشيءٍ موجود فإذا وصف الموجود صيره عينًا أما في الاستصناع فالمستصنع معدوم ووصف المعدوم لا يصيره عينًا وإلا لصار المسلم فيه بعد الوصف عينًا ولا أعلم من قال بأن الوصف في المسلم فيه يصيره عينًا. وما وجد من فروق بين الاستصناع والسلم في الشروط لا يؤثر في تعلق كل منهما بالذمة حيث أنه من المعلوم أن الوصف يتعلق أحيانًا بعين إن لم تكن العين موجودة كما في الاستصناع وإذا كان الشيء معدومًا فهو دين. ثم لو عدنا إلى تعريف الاستصناع لغة وهو طلب الصنعة وطلب الصنعة يكون لشيء مستقبل لا لشيء موجود.

وأيضًا يعتبر على قولهم بأن المعقود عليه عين فيقال: إن المصنوع غير موجود في ملك البائع وبيع ما لم يملكه البائع إذا كان عينًا غير صحيح لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبع ما ليس عندك"(1) ، أي ما ليس في ملكك وهذا في بيوع الأعيان.

أما الدين - المتعلق بالذمة - فيجوز بيعه وهذا مقتضى عقد السلم، فإنه بيع شيء غير مملوك وقت العقد.

ثم لو سلمنا أن عقد الاستصناع على عين في بعض صوره لقلنا: إنه موجود على غير الصفة المطلوبة بالاستصناع كأن توجد المادة فقط والمعقود عليه المادة مصنعة.

ثم هذا في صور قليلة بل قد تكاد تكون نادرة في عقود الاستصناع والغالب أن المادة لا تعين وأحيانًا لا تكون موجودة وقت العقد بل توصف وصفًا تامًّا ينفي الجهالة ولا توجد إلا بعد العقد وبهذا الوصف تتعلق بالذمة وما تعلق بالذمة فهو الدين لا العين.

وهذا ما سيتم مناقشته وعرضه في المبحث الآتي عند عرض آراء الفقهاء في الاستصناع واعتبارهم له وما سأذكره من تكييف له وبالله التوفيق.

(1) الترمذي، الجامع الصحيح: 3/534، والألباني، إرواء الغليل: 5/132

ص: 1040

المبحث الرابع

المذاهب في حكم الاستصناع

* تقديم:

حاجة الإنسان تتعلق بما في يد غيره فيسدها بالشراء إن كانت أعيانًا موجودة، ولكن ما هو موجود قد لا يسد حاجة الإنسان، فيطلب إحضار ما يحتاجه بصفات معينة وشروط خاصة، وقد يدفع الثمن حالًا ويأخذ المثمن مالًا وذلك السلم كما هو معلوم بشروطه المعتبرة عند الفقهاء ومن أهمها دفع رأس مال السلم في مجلس العقد عن الجمهور أو تأخيره إلى ثلاثة أيام كما هو مشهور عن المالكية (1) وسيأتي تفصيل ذلك في شروط السلم.

وإن وجد الحاجة ولم يجد المال أو لم يدفعه فهو البيع بالدين.

ولكن ما هو موجود في السوق قد لا يسد حاجة الإنسان ولا يشبع رغباته، وقد يخشى على ماله من الاستغلال والضياع فهل يوجد عند الفقهاء حل يتلاءم مع مقاصد الشارع ويسد رغبات المكلفين بدون حرج يلحقهم أو ضرر يتوقعونه؟

هذا ما سيكون بحثه فيما يأتي:

فلا شك أن عقد الاستصناع يعتبر أحد العقود التي ذكرها الفقهاء لسد حاجات الناس ولكنهم اختلفوا في تكييفه وشروطه اختلافًا بينًا فإذا دفع الثمن في مجلس العقد فلا إشكال، إذا كان المعقود عيه سلمًا تحقق شرطه أو استصناعًا بشرط السلم ولا خلاف في الحكم ما دامت المعاني متفقة وإن دفع جزءًا من الثمن وآخر الباقي فما دفع ثمنه صحيح والخلاف فيما لم يدفع ثمنه بين الجواز والفساد.

ولكن ما هو حكم ما لم يدفع عوضه في المجلس مما يستصنع هل هو صحيح أو غير صحيح؟

جواب هذا السؤال سيكون بعرض آراء الفقهاء وأدلة كل على حدة ومناقشتها وبيان ما يرد على الأدلة من اعتراضات وشبه وبيان الرأي الذي يترجح حسب قوة أدلته واتفاقه مع مقاصد الشارع، وقد قسمت هذا المبحث إلى عدة مطالب.

(1) مذهب المالكية لا يسعفه الدليل إذ هو من باب بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وتلقت ذلك الأمة بالقبول كما في حديث:"من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وما قالوه من أن المدة القصيرة بعد العقد كمجلس العقد يرده أن ما بعد العقد يخالف وقت العقد بدليل اعتبار ذلك في الربا

ص: 1041

* المطلب الأول: المذاهب في الاستصناع:

المذهب الأول: مذهب الجمهور:

ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وزفر من الحنفية إلى اعتبار الاستصناع قسمًا من أقسام السلم تشترط فيه شروط السلم وإليك نصوصًا من كل مذهب تؤيد النسبة إليهم.

قال الحطاب: (قال في المدونة: من استصنع طستًا أو قلنسوة أو خفًّا أوغير ذلك مما يعمل في الأسواق بصفة معلومة فإن كان مضمونًا إلى مثل أجل السلم ولم يشترط عمل رجل بعينه ولا شيئًا بعينه يعمله منه جاز إذا قدم رأس المال مكانه أو إلى يوم أو يومين فإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا لم يجز وصار دينًا بدين)(1)

وجاء في المهذب: (يجوز السلم في كل ما يجوز بيعه، وتضبط صفاته)(2)، وعد بعض الأشياء التي يجوز السلم فيها ومنها المصنوعات حيث قال:(كالأثمان والحبوب.. والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج)(3) وذكر النووي عند تعداد شروط السلم النص الآتي:

(الشرط الأول تسليم رأس المال في مجلس العقد فلو تفرقا قبل قبضه بطل العقد ولو تفرقا قبل قبض بعضه بطل فيما لم يقبض وسقط بقسطه من المسلم فيه)(4)

وجاء في الإنصاف: (فائدة: ذكر القاضي وأصحابه أنه لا يصح استصناع سلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم)(5)

وجاء في الفروع: (وذكر القاضي وأصحابه لا يصح استصناع سلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم)(6)

وجاء في فتح القدير: (الاستصناع طلب الصنعة وهو أن يقول لصانع خف.. اصنع لي خفًّا طوله كذا.. ويعطي الثمن المسمى أو لا يعطي شيئًا فيعقد الآخر معه جاز استحسانًا تبعًا للعين والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر (7)

يتضح من هذه النصوص أن الجمهور يرون جواز الاستصناع بشروط السلم وإن اختلف المالكية وغيرهم في تجويز الثمن إلى ثلاثة أيام وسيزاد الأمر وضوحًا عند بيان شروط السلم.

(1) مواهب الجليل: 4/539 - 540، انظر الدردير، الشرح الصغير: 3/287، والصاوي على الشرح الصغير: 3/287، والدسوقي، حاشية الدسوقي: 3/195

(2)

الشيرازي مع المجموع: 13/109

(3)

الشيرازي مع المجموع: 13/109

(4)

روضة الطالبين: 4/3، وانظر الرافعي، فتح العزيز: 9/208 - 209، والمحلى، شرح المنهاج: 2/245

(5)

المرداوي: 4/300

(6)

ابن مفلح: 4/24

(7)

السيواسي: 5/355، والكاساني، بدائع الصنائع: 6/1678

ص: 1042

أدلة الجمهور:

يمكن أن يستدل لهم بالأدلة الآتية:

1-

أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الكالئ بالكالئ". قال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة. وروى البيهقي عن نافع قال: (وهو بيع الدين بالدين)(1)

2-

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان بقوله: "لا تبع ما ليس عندك"(2)

3-

الإجماع، قال الإمام أحمد إجماع الناس على أنه (لا يجوز بيع دين بدين)(3)

وقال السبكي في تكملة المجموع: (وقد أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز نقل ذلك عن ابن المنذر) .

(1) الزيلعي، نصب الراية: 4/39 - 40، وابن حجر، تلخيص الحبير: 3/29 - 30، والشوكاني، نيل الأوطار: 5/176

(2)

الترمذي، الجامع الصحيح: 3/534، وابن ماجه، السنن: 2/13، والألباني، إرواء الغليل: 5/132.

(3)

ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/29، والبيهقي، السنن: 5/290

ص: 1043

المذهب الثاني:

ذهب جمهور الحنفية إلى جواز الاستصناع سواء دفع الثمن في مجلس العقد، أو دفع جزء منه أو لم يدفع شيء منه وأخر كله أو بعضه إلى إحضار المستصنع، أو بعد إحضاره دفعة واحدة أو على دفعات، وإليك نصوصًا من كتبهم المعتمدة.

قال الكاساني: (أما جوازه فالقياس أن لا يجوز لأنه باع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ويجوز استحسانًا لإجماع الناس على ذلك لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير والقياس يترك بالإجماع)(1)

وقال المرغيناني: (وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم والصحيح أنه يجوز بيعًا لا عدة والمعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا)(2)

وقال في فتح القدير: (الاستصناع طلب الصنعة.. ويعطي الثمن المسمى أو لا يعطي شيئًا فيعقد الآخر معه جاز استحسانًا)(3)

وجاء في العناية: (الاستصناع هو أن يجيء إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئًا.. صورته كذا وقدره كذا بكذا درهمًا ويسلم إليه جميع الدراهم أو بعضها أو لا يسلم)(4)

أدلة جمهور الحنفية:

يتفق جمهور الفقهاء الحنفية في جواز الاستصناع في الجملة ولكنهم يختلفون في الشروط فالجمهور يرون أنه يجوز بشرط تسليم الثمن في المجلس والحنفية لا يشترطون ذلك وإن أقاموا أدلة على جوازه حيث أن القياس لا يجيزه عندهم فهو عقد على معدوم وهذه جملة من أدلتهم على جوازه.

1-

عن نافع أن عبد الله حدثه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع (5) خاتمًا من ذهب وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه فاصطنع الناس خواتيم من ذهب فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: "إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه" فنبذه فنبذ الناس) (6)

(1) بدائع الصنائع: 6/1678

(2)

الهداية: 5/355.

(3)

السيواسي: 5/354 - 355

(4)

البابرتي مع فتح القدير: 5/354

(5)

اصنطع أمر أن يصنع له كما تقول: اكتتب أمر أن يكتب له والطاء بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد ابن الأثير النهاية في غريب الحديث "صنع"

(6)

البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/325

ص: 1044

2-

عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا، ثم أن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق فلبسوها)(1)

3-

عن أنس رضي الله عنه قال: (اصطنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا، فقال: "إنا قد اصطنعنا خاتمًا ونقشنا فيه نقشًا، فلا ينقش أحد عليه")(2)

4-

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس فأمرته أن يعملها من طرفاء الغابة ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت فجلس عليه) (3)

وفي رواية أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟ فإن لي غلامًا نجارًا قال:"إن شئت" فعملت له المنبر) (4)

5-

الإجماع العملي قالوا: إن الناس يتعاملون ذلك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير، وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". (5)

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم"(6)

6-

الاستحسان واستدلوا للاستحسان بعدة أدلة منها:

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام (7) . مع أن مقدار عمل الحجام وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير معلوم وغير لازم عند أحد. (8)

ب- دخول الحمام بأجر جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولًا (9)

ج- الشارع قد أعطى المعدوم حكم الموجود في مسائل كثيرة منها طهارة المستحاضة وناسي التسمية في الوضوء والذبيحة.

7-

الحاجة تدعو إليه، لأن الإنسان قد يحتاج إلى شيء من جنس مخصوص ونوع مخصوص على قدر مخصوص وصفة مخصوصة ولا يجده مصنوعًا فيحتاج إلى أن يستصنع فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج والشريعة قد تكفلت برفعه (10)

8-

فيه معنى عقدين جائزين وهما السلم والإجارة ذلك أن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا (11)

(1) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/325

(2)

البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/224، وابن حنبل، المسند: 3/101

(3)

الجامع الصحيح: 4/319

(4)

الجامع الصحيح: 4/319

(5)

ابن حنبل، المسند 1/379 والزركشي، المعتبر: ص234

(6)

ابن ماجه، السنن: 2/1303، والزركشي، المعتبر: ص61 - 62

(7)

البخاري، الجامع الصحيح: 4/324، والإمام أحمد ابن حنبل، المسند: 3/111

(8)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، والسرخسي، المبسوط: 12/138

(9)

السيواسي، فتح القدير: 5/355، والسرخسي، المبسوط: 12/138

(10)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678

(11)

الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678

ص: 1045

مناقشة أدلة الجمهور:

يمكن مناقشة أدلة الجمهور بما يلي:

1-

قالوا في حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، إنه ضعيف حيث تفرد به موسى بن عبيدة الربذي وقد قال فيه الإمام أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث من غيره.

وقال أيضًا: ليس في هذا حديث يصح.

وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. فإن قيل: يؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع كالئ بكالئ دين بدين) .

قيل: إن في إسناده موسى المذكور لا يصلح شاهدًا (1)

فإن قيل: صححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي (2)

قيل: إن ابن حجر قد ذكر وهم الحاكم في تصحيحه حيث قال: (وصححه الحاكم على شرط مسلم فوهم فإن رواية موسى بن عبيدة الربذي لا موسى بن عقبة)(3)

فإن قيل: إن شعبة يروي عن موسى بن عبيدة قيل: إن الإمام أحمد قال عنه: لو رأى شعبة ما رأينا منه لم يرو عنه (4)

وأما من قال: بأن رواية موسى بن عقبة الثقة أحد رواه السنة فقد أخطأ خطأ فاحشًا حيث نقل الحديث من الضعيف إلى القوي (5)

هذا جملة ما قيل في هذا الحديث من حيث الرواية فهو ضعيف السند في نظر علماء الحديث، والذي أوقع الحاكم في الخطأ فحكم بصحته (6) ما نقله الدارقطني: أن رواية موسى بن عقبة (7) وقد غلط في ذلك حيث هو من رواية موسى بن عبيدة الربذي.

هذا جملة ما قيل في هذا الحديث من ناحية ضعف سنده حيث تفرد به موسى بن عبيدة إلَّا أن الأمة اتفقت على الأخذ بمضمونه والاحتجاج به وإن كان بينهم خلاف ما يتناوله ويصدق عليه (8)

ولا يخفي أن تلقي الأمة لهذا الحديث بالقبول يرفعه إلى رتبة الاحتجاج به في الأحكام ووجوب العمل به قال المواق: (تلقي الأمة هذا الحديث بالقبول يغني عن طلب الإسناد فيه كما قالوا في: "لا وصية لوارث")(9)

وحقيقته بيع شيء في ذمة بشيء في ذمة أخرى غير سابق تقرر أحدهما على الآخر. (10)

(1) الشوكاني، نيل الأوطار 5/177، وانظر ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/29

(2)

المستدرك: 2/57، وانظر الشوكاني، نيل الأوطار: 5/177

(3)

تلخيص الحبير: 3/29

(4)

الزيلعي، نصب الراية: 4/40

(5)

الألباني، إرواء الغليل: 5/222

(6)

المستدرك: 2/57، وانظر نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ: ص9

(7)

السنن: 3/71 - 72

(8)

نزيه حماد بيع الكالئ بالكالئ: ص10.

(9)

التاج والإكليل: 4/367، وانظر ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/106

(10)

ابن عرفة، شرح الحدود: ص252، وانظر المواق، التاج والإكليل: 4/367، وانظر نزيه حماد كمال حماد: بيع الكالئ بالكالئ: ص14

ص: 1046

2-

نوقش حديث: " لا تبع ما ليس عندك" من جهتين:

الأولى: جهة الإسناد حيث قيل: إن ابن حزم نقل قول عبد الحق حيث قال في رواية عبد الله بن عصمة: إنه مجهول.

ولكن رد عليه بأن النسائي احتج به وقد روي من غير وجه عن حكيم بن حزام وصححه الترمذي وابن حبان والألباني (1)

فردوا على من ضعف راويه فيكون صحيح الإسناد.

أما الجهة الثانية: فهي جهة المعنى حيث قالوا: إن معنى ما ليس عندك أي ما ليس في ملكك (2)

وأوضح بيان في مناقشته ما ذكره البغوي بقوله: (هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات فلو قبل السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط، يجوز وإن لم يكن في ملكه حالة العقد)(3)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قول القائل: بيع المعدوم لا يجوز ليس معه نص ولا إجماع إلا في بعض الصور كما أنه في بعض الصور لا يجوز بيع الموجود ولكن من أين له أن العلة كونه معدومًا ثم يقال له قد ثبت بالنص والإجماع.. إجارة الظئر وهو عقد على ما لم يوجد بعد وكذلك الإجارة)(4)

فظهر مما سبق أن المراد ما ليس مملوكًا لك في بيوع الأعيان وليس المراد ما كان معدومًا إذ المعدوم يعطى حكم الموجود في مسائل كثيرة منها ناسي التسمية عند الوضوء والذبح وطهارة المستحاضة ودائم الحدث وقراءة المأموم خلف الإمام.. إلخ والعلة في المنع هي الغرر لا كونه معدومًا أو موجودًا ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر " (5)

أما الإجماع الذي نقله الإمام أحمد فقد يناقش بما ورد عن الإمام نفسه حيث قال: (من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا.. أو لم يبلغني ذلك)(6)

فيرد على هذه المناقشة بما وضحه ابن القيم رحمه الله حيث يبين مراد الإمام أحمد من قوله هذا بأن مراد الإمام بذلك هو الرد على من يدعي الإجماع في المسألة، لأنه لم يجد ولم يعلم مخالفًا فيها ولا يقصد استبعاد وقوع الإجماع (7)

(1) ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/5، وإرواء الغليل: 5/132

(2)

الشوكاني، نيل الأوطار: 5/175

(3)

شرح السنة: 8/140 - 141

(4)

نظرية العقد: ص231

(5)

مسلم، الجامع الصحيح مع النووي: 5/3

(6)

انظر ابن القيم، إعلام الموقعين: 1/30 و 31

(7)

انظر ابن القيم، إعلام الموقعين: 1/30 و 31

ص: 1047

مناقشة أدلة الحنفية:

1-

قد يرد على ما ذكروه من أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتمًا من ذهب أولًا ثم اصطناعه الفضة بعد ذلك واتباع الصحابة له في ذلك احتمالان:

الاحتمال الأول: أنه لما كان من هديه صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الدين بالدين يستحيل أن يطلب استصناع شيء ولا يدفع ثمنه في المجلس فيكون استصناعًا بشرط السلم وإذا كان الاستصناع بشرط السلم جاز عند الجميع.

ولكن قد يرد على هذا الاعتراض بأنه لو دفع الثمن لنقل ذلك ولم نجد أثرًا في ذلك فيبقى الدليل محتملًا فيقال حينئذ: (النهي عن بيع الدين بالدين وما عليه من الإجماع عام ولعل استصناعه صلى الله عليه وسلم واستصناع صحابته وما عليه الإجماع العملي الذي لم ينكر مخصص لذلك) .

الاحتمال الثاني: قد يقال: إن احتمال إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بالمادة المطلوبة صناعتها من عندهم وارد وعلى ذلك يكون العقد إجارة لا استصناعًا.

ولكن يرد هذا بأنه يبعد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بذلك من عندهم ولا ينقل ذلك حيث نقل ما هو أقل أهمية من هذا.

2-

أما استدلالهم باستصناعه صلى الله عليه وسلم المنبر فقد اعترض عليه بما ورد في صحيح البخاري أيضًا (أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟ فإن لي غلامًا نجارًا قال: "إن شئت" فعملت له المنبر)(1)

ففي هذه الرواية أنها ابتدأت بالعرض تبرعًا منها وفي حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إليها يطلب ذلك.

قال ابن حجر: (أجاب ابن بطال باحتمال أن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال متبرعة بذلك فلما حصل لها القبول أمكن أن يبطئ الغلام بعمله فأرسل يستنجزها إتمامه لعلمه بطيب نفسها بما بذلته ويمكن إرساله إليها ليعرفها بصفة ما يصنعه الغلام من الأعواد وأن يكون ذلك منبرًا.

ويحتمل أنه لما فوض إليها الأمر بقوله لها: (إن شئت كان ذلك سبب البطء لا أن الغلام كان شرع وأبطأ ولا أنه جهل الصفة وهذا أوجه الأوجه في نظري)(2)

(1) الجامع الصحيح: 1/543 و544، 4/319

(2)

ابن حجر، فتح الباري: 1/544

ص: 1048

3 ـ أما الاستدلال بالاستحسان فقد يعترض عليه بما ورد عن الشافعي رضي الله عنه: (من استحسن فقد شرع) أي وضع نفسه شرعًا من قبل نفسه (1) وقوله: (أفرأيت إذا قال الحاكم والمفتي في النازلة: ليس فيها نص خبر ولا قياس، وقال: استحسن فلا بد أن يزعم أن جائزًا لغيره أن يستحسن خلافه فيقول كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا)(2)

ولكن هذا الاعتراض يناقش بما ذكره الخلاف حيث قال: (إن المختلفين في الاستحسان لم يحرروا موضع النزاع واختلافهم هو اختلاف ظاهري لفظي لا حقيقي)(3) وقد أوضح الشابي قاعدة الاستحسان أوفى توضيح بقوله: (هو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر وله في الشرع أمثلة)(4)

وعلى ذلك يكون الاستصناع جائزًا وقد عدل فيه عن مثل ما حكم به في نظائره إلى خلافه لوجه هو أقوى (5)

والحق أنه لا يوجد في الاستحسان ما يصلح محلًا للنزاع إذ ليس النزاع في التسمية لأنه اصطلاح (6)

ولذلك نقل عن الشافعي أنه قال بالاستحسان في عدة مواضع مثل التحليف على المصحف والخط والكتابة (7) وقال: (ولا يفتي بالاستحسان إذا لم يكن الاستحسان واجبًا)(8)

(1) المحلى، شرح جمع الجوامع: 2/353

(2)

الشافعي، الأم: 7/273، وانظر الرسالة: 69 و 70

(3)

مصادر التشريع الإسلامي: ص81

(4)

الموافقات: 4/116 و 117، وانظر ابن قدامة، روضة الناظر: 5/8

(5)

انظر التفتازاني، التلويح: 2/81، وانظر ابن قدامة، روضة الناظر: ص 85

(6)

التفتازاني، التلويح: 2/8

(7)

السبكي، جمع الجوامع: 2/354

(8)

الشافعي، الأم: 7/270 و 271

ص: 1049

4-

استدلالهم بأن الحاجة تدعو إليه قد يرد على هذا بأن الحاجة العامة معتبرة بمنزلة الضرورة في حق أحاد الناس، ومعلوم أن الضرورة مقيدة بعدة قيود منها أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها (1) ومنها، ما جاز لعذر بطل بزواله (2)

وحيث إن البدائل عن عقد الاستصناع بهذه الصفة لم تنعدم فتسليم رأس المال يقوم مقامه ولا حاجة إليه حينئذ لأنه بيع دين بدين وحيث قد وجد البديل فلا حاجة ولكن يناقش هذا الاعتراض بما هو معلوم أن الحاجة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسلم واقتناء كلب الصيد والماشية والحاجة إلى الاستصناع قائمة بل قد ترقى عن مستوى الحاجيات إذ أن تسليم رأس المال في مجلس العقد فيه من المخاطر الشيء الكثير الذي قد يجعل المستصنع في جهد ومشقة بحيث يخشى على ماله المدفوع من الإنكار والغش في المصنوع وقد تعددت سبل الاحتيال والتزوير والغش في المصنوع مما يجعل المال في خطر، وقد يسبب لصاحبه حرجًا ومشقة. والاستصناع بدون دفع الثمن يكفيه شر هذه المخاطر.

5-

القول بأن الاستصناع في معنى عقدين جائزين وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا فقد يعترض عليه بأن جمع عقدين بعوض واحد ولا يصح لأن المبيع يضمن بمجرد البيع والإجارة بخلاف ذلك فاختلاف حكمهما سبب بطلانهما.

ولكن يرد على هذا الاعتراض بأن اختلاف العقدين في بعض الأحكام لا يؤثر على صحة العقد فإن من باع قسطًا له في شيء مع ملك له خاص يصح مع اختلاف حكمهما في وجوب الشفعة في الشخص دون الآخر فكذلك هنا حيث صدر العقد من أهله في محله فصح.

(1) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص93، وانظر ابن نجيم الأشباه والنظائر: ص85

(2)

السيوطي، الأشباه والنظائر: ص93، وانظر ابن نجيم الأشباه والنظائر: ص85

ص: 1050

الترجيح:

بعد عرض الآراء في الاستصناع يتضح أن الاعتراض عليه ينحصر في حالتين:

أحدهما أنه بيع معدوم، فقد أظهر عرض الأدلة والمناقشة والاعتراضات والرد عليها رجحان من أجازة مع أنه معدوم حال العقد وأن القول بعدم جواز بيع المعدوم ضعيف بل واه. وقد سبق استعراض كل ما ورد في هذا المعنى.

أما الجانب الثاني الذي ظل فيه النقاش والأخذ والرد والاستدلال فلا يزال النزاع قويًّا والأدلة متقاربة، إذ أن تكييف العقد واعتباره من بيوع الدين والاستدلال ومناقشة الادلة أظهر أن أدلة كل من الطرفين قوية وكثير الاعتراضات والمناقشة مردودة بمثلها ولكن الباحث لابد له من النظر في الأدلة مجتمعة على ضوء مقاصد الشارع في المعاملات وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من رفع للحرج والمشقة فالنصوص الشرعية متضافرة في رفع العنت والحرج قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (1)

وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (3)

وهو صلى الله عليه وسلم: "ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه"(4)

ولاشك أن الاستصناع من الأمور الحاجية والملحة لفئات كثيرة من الناس وعناية الشارع بالحاجيات تقارب عنايته بالضروريات وقد ذكر العلماء أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة (5)

فيستثنى موضع الحرج والمشقة ويقال بجواز الاستصناع بدون شرط السلم حيث إن إجراء القياس مطلقًا.. يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده ولو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى ذلك إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه (6) وحيث إن النهي عن بيع الدين بالدين عام فيخصص بالحاجة ويقال بجوازه أخذًا بمبدأ التيسير الذي اشتملت عليه الشريعة في مواردها، وما ورد من أدلة خاصة كاستصناعه صلى الله عليه وسلم واستصناع صحابته من بعده وما بعدهم من القرون قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل إلى يومنا هذا.

(1) سورة الحج: الآية 78

(2)

سورة البقرة: الآية 185

(3)

البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح: 10/524

(4)

البخاري، الجامع الصحيح: 1/93

(5)

المراد بالخصوص طائفة معينة من الناس كأهل بلد أو حرفة معينة من عمال أو زراع أو صناع أو أطباء وأمثالهم من أهل المهن والحرف والصناعات

(6)

انظر: الشاطبي، الموافقات: 4/116 و 117

ص: 1051

فواقع التعامل قديمًا وحديثًا سواء كان على مستوى الحكومات، أم على مستوى الشركات والمؤسسات، أم على مستوى الأفراد لا يدفع فيه الثمن، وقد يدفع جزء منه حالة العقد، والباقي على أقساط كما في استصناع المباني، وقد يؤخر الثمن حتى تسلم السلعة المطلوب صناعتها.

ومما يؤيد ترجيح هذا الرأي النظر إلى سبل الاحتيال في الحصول على الأموال، وتعدد طرق الغش الذي نشأ عن هبوط القيم والأخلاق نتيجة للاحتكاك مع مجتمعات لا هم لها إلا الحصول على المال بأي وسيلة من الوسائل، وتحت ستار أي عقد من العقود ولا شك أن عدم دفع الثمن عند العقد فيه حماية للمستصنع كما أنه سبب لإتقان الصانع صنعته، وحرصه الشديد على مطابقتها للمواصفات والمقاييس مطابقة تامة بعيدة عن الغش والاحتيال. أما لو دفع الثمن أو جزء كبير منه فقد يكون ذلك سببًا من أسباب الضغط على المستصنع في تسلم المصنوع ولو خالف شروطه، لاسيما إذا لاحظنا ما يترتب على عدم التسلم من رفع الدعوى على الصانع، وأجور المحاماة، وما يسببه ذلك من حرج ومشقة، وكثيرًا ما تتبدل الحكومات التي طلب الصنع منها أو في عهدها فيؤثر ذلك على التجارة فكم صودرت أموال لأفراد كانوا يتعاملون مع آخرين في ظل حكومة معينة فلما تغيرت تلك الحكومة صودرت تلك الممتلكات، بل إن الأمر يصل إلى أبعد من ذلك حيث إن سياسة الحكومات تتغير حسب مصالحها وكم عاصرنا وسمعنا عن أموال تحتجز بعد شحنها في السفن أو الطائرات لأن تلك الدولة المصدرة تغيرت سياستها أو مصالحها مع الدولة الطالبة.

وعليه فإن حاجة التجار وطالبي المصنوعات ومن يحتاجون إلى استصناع المباني والعمارات والمواد الغذائية والملابس والأدوات الحربية.. إلخ ما يحتاجه الناس في استعمالاتهم المشروعة يؤيد القول بجواز الاستصناع سواء دفع رأس المال أو دفع جزء منه أو لم يدفع منه شيء وهذا القول مؤيد إضافة إلى ما سبق ذكره بمقاصد الشارع في المعاملات وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من قواعد كلية لدفع الضرر وجلب المصالح وإنزال الحاجة العامة أو الخاصة منزلة الضرورة.

وبعد هذا العرض والترجيح أقول إن دفع رأس المال في المجلس أحوط وأسلم خروجًا من الخلاف، وقد يرتفع بطلب المستصنع بعض الضمانات لتوثقة ماله كالرهن، والضامن، والكفيل أو يلجأ إلى الضمانات البنكية المعروفة.. والله أعلم.

ص: 1052

المبحث الخامس

الشروط الجامعة والفارقة بين السلم والاستصناع

لكل عقد من العقود شروط تتوقف عليها صحته ونفاذه، والسلم والاستصناع من عقود المعاوضات المالية لهما شروط تميزها عن غيرهما. ونظرة شاملة إلى المذاهب الفقهية في عقد السلم والاستصناع، والاعتبار الذي جعله الفقهاء لكل منهما تبين أن الجمهور جعلوا الاستصناع قسمًا من أقسام السلم، تشترط له شروطه ولذلك كان ذكرهم لأحكام الاستصناع ضمن أحكام السلم، وإن كان بينهم اختلاف في شروط السلم. والذي أرى أنه لابد من ذكر شروط السلم عند الجميع سواء المتفق عليها والمختلف فيها حتى يكون القارئ على صلة قريبة باستذكارها، وبعد ذلك أذكر شروط الاستصناع عند الحنفية، وأبين أوجه الاتفاق بين العقدين، وأوجه الاختلاف. ويمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: شروط السلم:

تقرر فيما سبق أن الجمهور يرون أن الاستصناع قسم من أقسام السلم يلزم توفر شروطه له.

وقد ذكروا للسلم شروطًا: بعضها محل اتفاق عندهم، وبعضها محل اختلاف بينهم، وإليك بيانها:

1-

ألا يجمع البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل (1) ، لأن المسلم فيه مؤجل في الذمة، فإذا جمعه مع رأس المال أحد وصفي علة ربا الفضل تحقق ربا النساء. والعقد الذي فيه ربا فاسد باتفاق الفقهاء (2)

2-

أن يكون العقد باتًّا عاريًا عن شرط الخيار للعاقدين أو لأحدهما، ذلك لأن الخيار في السلم يجعل بين العاقدين علقة بعد التفرق، والسلم يشترط فيه ألا يبقى بين العاقدين علقة بدليل اشتراط القبض في مجلس العقد (3)

(1) في الموزونات يجوز إسلام الذهب والفضة مع كونهما موزونين لحاجة الناس إلى ذلك وإلا لانسد باب السلم في الموزونات غالبًا

(2)

ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/214

(3)

الكاساني، بدائع الصنائع: 7/7/3147، نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/187

ص: 1053

3-

أن يكون المسلم فيه معلومًا، وذلك بمعرفة جنسه، ونوعه، وصفته، وقدره (1) . فلا بد من معرفة جنس المسلم فيه ونوعه ومقداره بمعيار معلوم عند العامة حتى يمكن تسليمه من غير تنازع، ولا بد من بيان الصفات التي تؤثر في القيمة كالجودة والرداءة، وزاد بعضهم وجوب بيان الصفات التي تختلف بها الرغبات كاللون مثلًا (2) . وهل يشترط بيان بلد المسلم فيه؟ خلاف الظاهر وجوبه.

4-

بيان جنس رأس المال، ونوعه، وصفته، وقدره، لأنه لا يؤمن فسخ السلم لسبب من الأسباب المجيزة للفسخ، فواجب معرفة رأس ماله ليرد بدله (3) ، ويجوز أن يكون رأس المال منفعة كأن يسلم إليه دارًا ليسكنها في شيء في الذمة بشرط قبض الدار في المجلس، لأنه الممكن في قبض المنفعة (4)

5-

تسليم رأس مال السلم في مجلس العقد قبل الافتراق، لئلا يصير بيع دين بدين - سواء كان هذا القبض حقيقيًّا أو حكميًا - فإن تفرقا قبل قبضه بطل العقد، أو بعد قبض بعضه بطل فيما لم يقبض، وسقط بقسطه من المسلم، وصح فيما قبض (5) . إلا أن المالكية فصلوا في هذا الشرط واختلفوا في مسائل منه، وقد حقق الدسوقي ذلك بقوله:(حاصل ما في المقام أنه إذا أخر رأس المال عن ثلاثة أيام فإن كان التأخير بشرط فسد السلم اتفاقًا كان التأخير كثيرًا جدًّا.. أو لم يكن كثيرًا جدًّا.. وإن كان التأخير بلا شرط فقولان في المدونة لمالك بفساد السلم وعدم فساده.. إن محل الخلاف إذا كانت بلا شرط وإلا فسد العقد اتفاقا)(6)

(1) البهوتي، كشف القناع: 3/297، النووي روضة الطالبين: 4/14، الكاساني بدائع الصنائع: 7/3162، الدردير، الشرح الصغير: 3/276، المرتضى، الأزهار:171.

(2)

الدردير، الشرح الكبير: 3/187

(3)

نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/178، البابرتي شرح العناية: 5/344، الكاساني، بدائع الصنائع: 7/3148، البهوتي، شرح المنتهى: 2/221، ولا يرى الشافعية حاجة لمعرفة رأس المال في السلم، لأنه من شروط البيع في الذمة انظر قليوبي، حاشية مع المنهاج: 2/245.

(4)

النووي، المنهاج: 2/246

(5)

الكاساني، بدائع الصنائع: 7/315، نظام الدين، الفتاوى الهندية: 3/179، البهوتي، شرح المنتهى: 2/221، النووي، روضة الطالبين: 4/3، المرتضى، الأزهار:172.

(6)

حاشية: 3/176، وانظر المواق، التاج والإكليل: 4/514

ص: 1054

6-

أن يؤجل المسلم فيه بأجل معلوم فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالأجل في حديث: "من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"(1) . والأمر يقتضي الوجوب حيث أمر بذلك مبينًا لشروط السلم، ومانعًا منه بدونها (2) . وعليه يرون أن يكون للأجل تأثير ووقع في الثمن عادةً، ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن وإن اختلفوا في تقدير المدة التي لها وقع في الثمن: فمنهم من يرى أن أقلها شهر، وعليه الفتوى عند الحنفية. ومنهم من يرى أن النصف كاف ويرى الزيدية أن أقل مدة ثلاثة أيام (3) والاعتبار بما له وقع في الثمن، لأنه عقد شرع للرفق فلا يتحقق بما لا رفق فيه. غير أنهم اختلفوا في السلم الحال فمنهم من يرى عدم صحته ومنهم من يرى صحته كالشافعي وابن المنذر (4) .. وقال النووي:(يصح السلم في الحال كالمؤجل فإن صرح بحلول أو تأجيل فذاك وإن أطلق فوجهان وقيل: قولان أصحهما عند الجمهور يصح ويكون حالًّا والثاني لا ينعقد (5) والذي يظهر أن اشتراط الأجل متوجه.

7-

أن يوجد المسلم فيه عند حلول أجله غالبًا، ولا يضر انقطاعه قبل حلول الأجل إذا وجد عنده، ولا يشترط وجوده في جميع الأجل سواء كان موجودًا عند العقد أو معدوما. فإن كان لا يوجد وقت حلوله أو لا يوجد إلا نادرًا لم يصح؛ لأنه لا يمكن تسليمه غالبًا عند وجوبه أشبه ببيع الآبق (6)

8-

بيان موضع تسليم المسلم فيه شرط إن كان موضع العقد غير صالح للتسليم أو كان لحمله مؤونة قطعًا للنزاع بين العاقدين، ولأنه يكون مجهولًا إذ ليس بعض الأماكن بأولى من بعض للتسليم فوجب تعيينه (7) . أما إذا لم يكن الأمر كذلك فما عليه الفتوى عند الشافعية اشتراطه مطلقًا (8)

9-

يرى الحنفية أنه يشترط في عقد السلم أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين حتى لا يجوز السلم في الدراهم والدنانير (9)

10-

أن يسلم في ذمة (10) ولم يشترطه أكثر الفقهاء استغناء عنه بذكر الأجل، إذ المؤجل لا يكون إلا في ذمة فلا يصح السلم في عين كشجرة ثابتة ونحوها، لأنه يمكن بيعها في الحال فلا حاجة إلى السلم فيما هو موجود (11)

(1) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري:4/434

(2)

الدردير، الشرح الصغير: 3/273، والشرح الكبير: 3/185، البهوتي كشف القناع: 3/299، شرح المنتهى: 2/218، نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/180، الفرغاني، شرح العناية: 5/344.

(3)

المرتضى، الأزهار: ص172

(4)

ابن قدامة، المغنى: 4/321

(5)

روضة الطالبين: 4/6

(6)

الدردير، الشرح الكبير: 3/190، الشرح الصغير: 3/280، المواق، التاج والإكليل: 4/514، نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/180، البابرتي، شرح العناية: 5/3404، البهوتي، كشف القناع: 3/303، النووي، روضة الطالبين: 4/11، المرتضى، الأزهار: ص172

(7)

البهوتي، كشف القناع: 3/304، وشرح منتهى الإرادات: 2/221، النووي، روضة الطالبين: 4/11

(8)

الرافعي، فتح العزيز: 9/208، النووي، روضة الطالبين: 4/11، عميرة، حاشية 2/245.

(9)

نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/180

(10)

الدردير، الشرح الكبير: 3/189

(11)

البهوتي، شرح المنتهى: 2/221، الدردير، الشرح الكبير: 3/189

ص: 1055

* المطلب الثاني: الشروط الخاصة بالاستصناع عند الحنفية:

ذكرت فيما سبق أن الجمهور يرون أن عقد الاستصناع قسم من أقسام السلم، ولذلك يعتبر شروط السلم شروطًا له، وأن الحنفية هم الذين يفرقون بينهما، ويرون لكل حقيقته، وشروطه، وإليك بيان شروط الاستصناع عندهم:

1-

العلم بالمصنوع، وذلك ببيان جنسه، ونوعه، وقدره، وصفته، لأنه لا يصير معلومًا بدون ذلك (1) ، وعليه يجب بيان كل ما يؤثر في الثمن والرغبات بيانًا يحول دون النزاع حين التسليم (2)

أن يكون المستصنع مما يجري فيه التعامل بين الناس من أواني الحديد، والنحاس، والرصاص، والزجاج، والخفاف، والسلاح، ونحو ذلك.

ولا يجوز في الثياب، لأن القياس يأبى جوازه، وإنما جاز استحسانًا لتعامل الناس، ولا تعامل لهم في الثياب، فيثبت جوازه فيما لهم فيه تعامل ويبقى ما عداه موكولًا إلى القياس، فإن حصل فيما ليس للناس فيه تعامل كان سلما، واشترطت له شروط السلم من قبض الثمن، وذكر الأجل.. إلخ (3)

ومعلوم أنهم عللوا ذلك بتعامل الناس وما كان كذلك يتغير بتغير التعامل فمعلوم أن الأحكام التي تبنى على العرف تتغير بتغيره كالحرز والنفقة، تتغير حسب العرف، وقد اتضح لك فيما سبق أنهم ذكروا الأشياء التي يصح فيها التعامل على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، فإذا جرى التعامل بشيء آخر لم يكن يتعامل ثبت له الحكم، وكذلك لو تغير العرف وتعامل الناس بما لم يكن فيه تعامل كاستصناع الثياب في عصرنا الحاضر، وغيرها كالطائرات والسيارات، وأدوات الإنارة، والمعامل التحليلية، والمصانع، والسفن، وآلات الكتابة والتصوير إلى آخر ما توصلت إليه العقول البشرية كسفن الفضاء، والأقمار الصناعية يجوز استصناعها إذا أمكن ضبطها على وجه تنتفي المنازعة معه فكما هو معلوم أن الأشياء التي يجيزها الشارع في الجملة ولم يكن فيه ولا في لغة العرب ما يحددها يرجع في تحديدها إلى العرف وتتغير بتغيره والله أعلم.

(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678، وابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/2235، ونظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/207

(2)

عبد السميع المصري، التجارة في الإسلام: ص88

(3)

السيواسي، فتح القدير: 5/353، ونظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/207، والسنهوري، مصادر الحق: 3/38، 39

ص: 1056

3-

ألا يكون مؤجلًا (1) إلى أجل يصح معه السلم، وإن اختلفوا في تحديده كما سبق، فيكون الاستصناع صحيحا إذا خلا عن الأجل، أو كانت مدته دون مدة عقد السلم، وقد خالف أبا حنيفة صاحباه فيما ضرب له أجل، فقال الإمام: هو سلم تشترط له شروطه، وقالا هو استصناع على كل حال.

ووجه قول أبي حنيفة أنه إذا ضرب فيه أجل فقد أتى بمعنى السلم؛ إذ هو عقد على مبيع في الذمة مؤجل، والعبرة لمعاني العقود، لا لصور ألفاظها.

ووجه قولهما أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة، فلا يخرج به عن كونه استصناعًا، ألا ترى أنه ذكر أقل مدة يمكنه الفراغ من العمل (2)

ومعلوم لدى الخاصة والعامة أن المدة التي تشترط للاستصناع تختلف باختلاف الشيء المطلوب صنعته فلا يمكن تقديره بمدة معينة بل يرجع في ذلك إلى ما تعارف عليه أرباب الصناعات من تقدير وقت لصناعة الشيء المطلوب صنعه، فصناعة السيف ليست كصناعة البندقية، وهما ليسا كالمدفع، والدبابة، والجميع ليس كصناعة الطائرات ولا شك أن الوقت يختلف باختلاف المصنوع فسفن الفضاء، والأقمار الصناعية، والقطارات والسفن الكبيرة، لكل منها وقت يمكن إنجازها فيه، فتحديد المدة بشهر أو نصفه تحديدًا لا يستند إلى دليل عقلي أو نقلي ولا يتلاءم مع الواقع العملي للاستصناع حيث نرى أن بعض الأشياء المطلوب صنعها تسلم بعد عدة سنين (3)

(1) المراد بالأجل عندهم الأجل الذي يشترط للسلم وإن اختلفوا في تحديده فما نقص عن أجل السلم وقصد به التعجيل كان استصناعًا

(2)

السيواسي، فتح القدير: 5/356؛ والسرخسي، المبسوط: 12/140؛ وابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/223؛ والكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678 و 2679

(3)

تقرر أن مدة التأجيل إذا بلغت أقل مدة السلم يصير العقد - عندهم - سلمًا وإذا صار سلمًا اشترطت شروط السلم بدفع الثمن في المجلس وإلا اعتبر بيع دين بدين وحينئذ لا يوجد مخرج إلا ما تقرر من استثناء الاستصناع من القاعدة العامة في بيع الدين بالدين كما تقدم، والله أعلم.

ص: 1057

* المطلب الثالث:

أوجه الاتفاق والاختلاف بين العقدين عند الحنفية:

يمكن أن يقسم هذا المطلب إلى فرعين:

الفرع الأول: أوجه الاتفاق بين العقدين:

1-

الاستصناع كالسلم قسم من أقسام بيع المعدوم.

2-

لابد في العقدين من بيان المسلم فيه والمستصنع بيانًا يمنع النزاع بحيث يوضح ما يؤثر في القيمة، وما تختلف به الرغبات أيضًا.

3-

لا يصح في السلم والاستصناع أن يكون الثمن مما يحرم بينه وبين المثمن الربا.

4-

يسلم المسلم فيه أو المستصنع في محل العقد إن صلح لذلك وإلا اشترط ذكر مكان الإيفاء، وكذا إن كان لحمله مؤونة، فلا بد من تحديد موضع التسليم منعًا للنزاع.

الفرع الثاني: أوجه الفرق بين السلم والاستصناع عند الحنفية:

1-

يرى جمهور الحنفية أن المبيع في السلم دين تحتمله الذمة، أما في الاستصناع فيرى جمهورهم أن المعقود عليه عين المستصنع وله تعلق بالذمة.

2-

الثمن في السلم يدفع في مجلس العقد عندهم، أما في الاستصناع فقد يدفع كله، أو بعضه، وقد لا يدفع منه شيء بل يكون دينًا حتى يسلم المصنوع.

3-

التأجيل في السلم للاستمهال، وفي الاستصناع للاستعجال.

4-

السلم يكون في المثليات فقط والاستصناع في المثلي وغير المثلي (1)

(1) ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/226

ص: 1058

المبحث السادس

أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الاقتصادية

الناظر إلى العالم كله يرى ما يسمى بالثورة الصناعية الهائلة، ولو نظرنا إلى الدول كلها لرأيناها إما مصنعة منتجة أو مستهلكة أو منتجة لشيء، مستهلكة لآخر، ولذلك يعتبر رجال الاقتصاد التصنيع حجر الزاوية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها الدول كلها.

فما تشتمل عليه الدول من موارد طبيعية قد تنقلها نقلة هائلة لو استغلت الاستغلال الحقيقي، فالذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والخشب، والزجاج، والمواد البترولية ومشتقاتها هي غالب المواد الأساسية. في التصنيع في حياتنا المعاصرة، فالعمل على اكتشافها واستغلالها بتصنيعها يعود بالنفع العام، ويسد احتياجات الذين يرغبون في سلع ليست موجودة في السوق، أو يكون ما هو موجود لا يسد حاجتهم، ولا يحقق رغباتهم، وللاستصناع فوائد عظيمة لعل من أهمها:

1-

القضاء على البطالة المنتشرة في العالم، وخصوصًا الإسلامي وذلك حين يراد استغلال تلك الموارد التي تدخل ضمن عقد الاستصناع، ويحصل التكامل بين الخبرات ورأس المال، ويقضي حينئذ على البطالة بتوجيه الأيدي التي يمكن عملها وهي معطلة إلى الصناعة، وذلك يعتبر من أسمى الأهداف لغالبية الدول التي تحرص على مواطنيها، وتخشى من الآثار السلبية التي تترتب عي انتشار البطالة بين رعاياها مما يؤثر على الدولة من الناحية السياسية والاجتماعية والأمنية.

2-

يساهم الاستصناع في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، إذ أن طلب سلع خاصة بصفات معينة يعني أن هناك حاجة لها، يدل على عدم وجود تضخم في المصنوعات، وهذا بدوره يؤدي إلى التوازن بين العرض والطلب مما يؤدي إلى تحقيق استقرار في اقتصاد البلاد.

3-

إشباع الحاجات التي تؤدي إلى التوسعة وتجنب المكلفين الحرج والمشقة، إذ قد يحتاج الإنسان إلى شيء لا يجده في الأسواق على الصفة التي يرغبها، فإذا استصنعه رفع الحرج عن نفسه، وهذا بدوره يشجع الصانع على عمل ما طلب منه، لأنه حينئذ يكون على يقين أن ما يصنعه سوف يكون نافقًا.

ص: 1059

4-

يستطيع الصانع أن يشتري مواد التصنيع التي يحتاج إليها بثمن مؤجل حتى يحين وقت الدفع إليه، وهذا بدوره يؤدي إلى نشاط الحركة التجارية، إذ يعتبر المال الذي سيدفع مصدرًا من مصادر التمويل للصانع والتاجر، وكذلك أصحاب العلاقة معهم من سماسرة ونقلة وخازنين وموزعين.

5-

يستطيع المستصنع أن يحصل على السلع بالمواصفات التي يظن أنها تكون سببًا في رواج سلعة، وذلك بإدخال مواصفات تحسينية ترغب المشتري فيما يطلبه مما يحقق له ربحًا أوفر مما لو اشترى بالمواصفات الموجودة والمقاييس المعروفة.

6-

يضمن المستصنع تقلبات الأسعار وذلك بدفع السعر المتفق عليه عند العقد.

7-

يضمن الصانع عدم ركود السلع عند أو فسادها، فلا يصنع إلا ما يتفق على صناعته، بخلاف ما لو صنع بدون طلب فقد يصيب صناعته الركود والكساد، وقد يفسد ما هو عرضة لذلك.

8-

يستطيع المستصنع أن يدفع ما يقبضه من مال عند العقد في سلع أخرى يحتاجها، ويضمن دفع أخرى عند تسليم السلع إلى طالبها، وبهذا يحصل تمويل مشاريع صناعية وتجارية وعقارية جديدة.

9-

يؤدي عقد الاستصناع إلى حل الأزمات الإسكانية، إذ يطلب المستصنع مسكنًا معينًا بمواصفات ومقاييس يحددها حسب رغبته، وحاجته، ويدفع من ثمنها أو لا يدفع إلا بعد الاستسلام على أقساط محددة، حسب استطاعته، وبذلك تخف الأزمات الإسكانية أو تنعدم، وهذا يؤدي بدوره إلى الرفاه الاجتماعي، ورواج التجارة ونشاط وحركة الأيدي العاملة.

10-

المصانع في الدول النامية تكون في الغالب في مرحلة تكوين ونمو وعدم استقرار عرضة عند تقلبات الأسعار للإفلاس والانهيار، وعقود الاستصناع كفيلة بضمان نفاذ ما تصنعه هذه المصانع لاسيما إذا كانت هناك سياسة ثابتة لهذه الدول لإحلال الإنتاج المحلي مكان المستورد الذي تخرج أثمانه إلى خارج البلاد، فتقل العملات الصعبة التي تحرص الدول على الحصول على أكبر قدر منها.

ص: 1060

الخاتمة

الحمد لله في البداية والتمام وأصلي وأسلم على رسوله سيد الأنام بعد:

فقد انتهيت من هذا البحث الذي يمس جانبًا كبيرا من حياة الناس ويشمل جزءًا من معاملاتهم ويحقق كثيرًا من رغباتهم ويسد حاجاتهم وذلك من كمال الشريعة وتمامها ووفائها بما للناس فيه حاجة وبقي أن أذكر أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث والمناقشة وإليك أهمها فيما يلي:

1-

إن أقرب تعريف إلى حقيقة الاستصناع هو "عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على وجه مخصوص".

2-

إن الاستصناع يعتبر عقدًا من العقود اللازمة لكلا الطرفين وليس وعدًا.

3-

إذا جاء الصانع بالمستصنع مخالفًا للشروط كان للمستصنع الخيار.

4-

الاستصناع قسم من أقسام السلم جاز بدون شرطه رفعًا للحرج، والمشقة

5-

إن المستصنع معدوم وليس بيع عين، بل يتعلق بذمة العاقد وما تعلق بالذمة فهو الدين.

6-

عدم وقوف الشريعة مكتوفة الأيدي أمام الأمور المستجدة والنوازل المعاصرة حيث نجد فيها حلًا لكل ما يطرأ وحكمًا لكل ما يستجد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .

7-

اتضح أن الاستصناع جاز للحاجة فيما للناس فيه تعامل عرفًا والأحكام التي بنيت على العرف تتغير بتغيره زمانًا ومكانًا وعليه يجوز التعامل فيما لم يثبت التعامل فيه سابقًا.

8-

تحديد مدة للمستصنع قول لا يسنده دليل عقلي، أو نقلي فالمدة تختلف طولًا وقصرًا حسب جنس المصنوع ونوعه وصفاته وقدره.

9-

الفروق التي ذكرت بين عقد السلم والاستصناع غير مؤثرة في الحكم.. والله أعلم.

10-

الاستصناع من العقود التي لها آثار واضحة في تنشيط الحركة الاقتصادية فمن قضاء على البطالة إلى المساهمة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وحصول الصانع والمستصنع على المال والحاجة في الوقت المحدد بالصفات التي تشبع الحاجة، وتزيل الحرج، والمشقة، فيضمن الصانع عدم ركود السلع عنده، ويضمن المستصنع نفاذها أيضًا حيث أدخل عليها من المواصفات ما يضمن نفاذها.

11-

قد يؤدي عقد الاستصناع إلى حل الأزمات الإسكانية أو الحد منها حيث تنتشر العمارات بدون حاجة إلى دفع الثمن في مجلس العقد.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الدكتور/ سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

ص: 1061

المصادر والمراجع

1-

البابرتي، شرح العناية، مع فتح القدير 1315هـ، المطبعة الكبرى الأميرية مصر.

2-

الباز، شرح المجلة، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي.

3-

الألباني، إرواء الغليل، الطبعة الأولى 1399هـ، المكتب الإسلامي.

4-

البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري، المطبعة السلفية 1390هـ.

5-

بدران كاسب، الاستصناع، رسالة ماجستير، جامعة الإمام.

6-

البغوي، شرح السنة، الدار السلفية، بومباي الهند.

7-

البهوتي، شرح منتهى الإرادات، دار الفكر.

8-

البهوتي، كشف القناع، مكتبة النصر الحديثة.

9-

البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى 1344هـ، دائرة المعارف النظامية، الهند.

10-

الترمذي، الجامع الصحيح، تحقيق أحمد محمد شاكر، الناشر المكتبة الإسلامية.

11-

التفتازاني، التلويح على التوضيح، مطبعة محمد على صبيح 1377هـ.

12-

ابن تيمية، نظرية العقد، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية 1368هـ.

13-

الجرجاني، التعريفات، الطبعة الأولى 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

14-

ابن حجر، تلخيص الحبير، تحقيق شعبان محمد إسماعيل 1399هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.

15-

ابن حجر، فتح الباري، المطبعة السلفية 1390هـ.

16-

الحطاب، تحرير الكلام في مسائل الالتزام، تحقيق عبد السلام الشريف، الطبعة الأولى 1404هـ، دار الغرب الإسلامي.

17-

الحطاب، مواهب الجليل، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.

18-

ابن حنبل، المسند، الطبعة الثانية 1398هـ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت.

19-

خلاف عبد الوهاب، مصادر التشريع الإسلامي، الطبعة الثانية 1390هـ، دار القلم، الكويت.

20-

الدارقطني، السنن، تصحيح عبد الله هاشم، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.

21-

الدردير، الشرح الصغير، دار المعارف، مصر 1974م.

22-

الدردير، الشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي.

23-

الدسوقي، حاشية الدسوقي، المكتبة التجارية الكبرى.

24-

الرافعي، فتح العزيز مع المجموع، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

ص: 1062

25-

الزركشي، المعتبر، تحقيق حمدي السلفي، الطبعة الأولى 1404هـ، دار الأرقم، بغداد.

26-

الزيلعي، نصب الراية، الطبعة الثانية 1393هـ. المكتبة الإسلامية.

27-

السرخسي، المبسوط، الطبعة الثانية، دار المعرفة، بيروت.

28-

سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي، الطبعة الأولى 1402هـ، دار الفكر دمشق.

29-

السيوطي، الأشباه والنظائر، عيسى البابي الحلبي.

30-

الشاطبي، الموافقات، دار الفكر 1341هـ.

31-

الشافعي، الأم، مطبعة أبناء مولوي، الهند.

32-

الشافعي، الرسالة، مع الأم، مطبعة أبناء مولوي، الهند.

33-

السنهوري، مصادر الحق، دار إحياء التراث، بيروت.

34-

الشوكاني، نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي.

35-

الشيرازي، المهذب مع المجموع، الناشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

36-

الصاوي، حاشية على الشرح الصغير، الناشر دار المعارف بمصر.

37-

ابن عابدين، حاشية رد المحتار، الطبعة الثانية، 1386هـ، مصطفى البابي الحلبي.

38-

ابن عرفة، شرح الحدود، الطبعة الأولى، المطبعة التونسية 1350هـ.

39-

عميرة، حاشية، الطبعة الثالثة 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي.

40-

الفيروز أبادي، القاموس المحيط، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

41-

الفيومي، المصباح المنير، مصطفى البابي الحلبي.

42-

ابن قدامة، روضة الناظر، المكتبة السلفية 1385هـ.

43-

ابن قدامة، المغني، مكتبة الجمهورية العربية.

44-

قليوبي، حاشية، الطبعة الثالثة 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي.

45-

ابن القيم، إعلام الموقعين، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، مطبعة الكيلاني.

46-

الكاساني، بدائع الصنائع، الناشر زكريا علي يوسف.

47-

ابن ماجه، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي وشركاه.

48-

مجموعة من العلماء، مجلة الأحكام العدلية، الطبعة الخامسة 1388هـ.

49-

المحلى، شرح جمع الجوامع، مع حاشية البناني، دار إحياء الكتب العربية.

50-

المحلى، شرح المنهاج، الطبعة الثالثة 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي، على هامش قليوبي وعميرة.

51-

المرتضى، الأزهار، الطبعة الرابعة.

52-

المرداوي، تصحيح الفروع طبع بهامش الفروع، الطبعة الأولى 1345هـ، عالم الكتب، بيروت.

53-

المرغيناني، الهداية، مع فتح القدير، الطبعة الأولى 1315هـ، المطبعة الأميرية، بولاق، مصر.

54-

مسلم، الجامع الصحيح، مع شرح النووي، دار الفكر، بيروت.

55-

المصري عبد السميع، التجارة في الإسلام، الطبعة الثانية 1406هـ، الناشر مكتبة وهبة.

ص: 1063

56-

ابن منظور، لسان العرب، طبعة بولاق.

57-

المواق، التاج والإكليل، مع مواهب الجليل، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.

58-

ناجي محمد سعيد سياسات التصنيع في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.

59-

ابن نجيم، الأشباه والنظائر، تحقيق عبد العزيز الوكيل، مؤسسة الحلبي وشركاه 1387هـ.

60-

نزيه حماد، بيع الكالئ، الطبعة الأولى، 1406هـ، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي.

61-

نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية "العالمكيرية" الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي.

62-

النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي.

63-

النووي، المنهاج، على هامش قليوبي وعميرة، الطبعة الثانية 1375هـ، شركة مصطفى الحلبي.

64-

ابن الهمام، فتح القدير، الطبعة الأولى، 1315هـ، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر.

65-

وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الموسوعة الفقهية، الكويت، وزارة الأوقاف، الطبعة الأولى 1400هـ.

ص: 1064