الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلم، والحرب، والعلاقات الدولية
في الإسلام
إعداد
الدكتور محمد رأفت سعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد.
فإن موضوع السلم والحرب والعلاقات الدولية في الإسلام من الموضوعات الجديرة بالعناية والدراسة، لإبراز الحقائق التي تعمد خصوم الإسلام إخفاءها في هذا الموضوع، حتى ألبسوا الباطل ثوب الحق، وقدموا الإسلام في المجال الدولي على أنه دعوة إلى الإرهاب وسفك الدماء، وأن المسلمين لا يستريحون في إقامة علاقات دولية سامية مع غيرهم؛ لأنهم دعاة حرب وعصبية.
فكان لا بد من تناول هذا الموضوع تناولًا علميًّا موثقًا يقدم الحق مدعمًا بدليله ليدحض الشبهات والمفتريات التي لا أساس لها، ولبيان حاجة البشرية إلى السلام لما تجنيه من آثارالحروب المدمرة؛ ولأن التقدم البشري مرتبط بأمن الإنسان وسلامه، كما أن سلامه النفسي مرتبط بسلامه الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك يمثل في عالمنا المعاصر وحدة مترابطة في التأثير والتأثر ومن إحقاق الحق فإن الإسلام ـ كما يعرفه المنصفون، وكما سنتبينه بالدليل في المباحث الآتية ـ هو السبيل الوحيد لتحقيق السلم الدولي في عالمنا المعاصر.
إنه شرع الله لخلقه، ورحمة الله للعالمين، به تحمى مقومات الحياة فلا يمس الدين أو النسل أو العقل أو النفس أو المال في ظل توجيهاته وتشريعه.
واتخاذ الإسلام بعقائده وأخلاقه وعبادته ومعاملاته، وتوجيهاته جميعًا، سبيلًا لتحقيق السلم الدولي له ما يميزه عن قرارات المنظمات الدولية في أن الاستجابة لأوامره تكون دينًا ملزمًا لا مجال فيه للتحايل في التطبيق، ولا المخادعة؛ لأن الله شهيد على عباده؛ ولأن أحكامه تهدف خير عباده جميعًا دون ميل أو هوى، فعند التطبيق الصحيح يجد الجميع السلم والأمن المؤسس على الحق والعدل والمساواة بين الجميع.
ولذلك فإننا سنلتزم في موضوعنا ما يجلي حقيقة الإسلام في نصوصه التي تمس سلم الناس وحربهم وعلاقاتهم الدولية في ستة فصول وخاتمة.
الفصل الأول: السلام في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ مفهوم السلام، وتقرير مبدأ السلام في الكتاب والسنة واعتباره الأصل، وآراء علماء السلف في حقيقة السلام، وتطبيقات الخلفاء والقادة لمفهوم السلام من واقع التاريخ الإسلامي، وضمانات الإسلام لتحقيق السلام.
الفصل الثاني: الجهاد في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ مدلولي الجهاد والحرب، وحكم الجهاد ومراحل تشريعه، وبواعثه وأهدافه، وفضله، ومنهج الإسالم في حقن الدماء، والدعوة أولًا، والإعداد للجهاد (ماديًّا ومعنويًّا) .
الفصل الثالث: خلق الجهاد في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ نظام الإسلام الخلقي الذي يتناول السلم والحرب، وأخلاق القائد من الرفق بالجند والنصح لهم والمشاورة، وأخلاق الجند من الطاعة للقائد في المعروف.
وخلق الصبر والمصابرة والثبات وعدم الفرار.
والظهور بالقوة مع عدم الغرور، والرحمة ومظاهرها والوفاء بالعهود والمواثيق، والشكر مع النصر وعدم اليأس عند الهزيمة ومحاسبة النفس، والطاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم والتنزه عن المعاصي.
الفصل الرابع: الآثار المترتبة على الجهاد:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ المصطلحات الآتية وما يتعلق بها: دارالإسلام ـ دار الحرب ـ المعاهدون حقوقهم وما يجب عليهم، الهدنة والأمان، والصلح، والغنائم وأحكامها (الأموال المنقولة ـ الأسارى ـ الأرض) .
وتوجيهات الإسلام في حالة وقوع الهزيمة بالمسلمين.
الفصل الخامس: العلاقات الدولية في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ ضرورة الاتصال بين الأفراد والدول، وأن الإسلام أقام العلاقات الداخلية بين أفراد الأمة على المودة والرحمة، الأسس التي تقوم عليها علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى.
السبيل العملي في بيان العلاقتين ـ الكتاب الذي وادع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وعاهدهم ـ موقف الإسلام من المنظمات الدولية.
الفصل السادس: شبهات في موضوع السلم والحرب في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ:
ـ الغرض من إثارة الشبهات.
ـ الرد الموضوعي على الشبهات.
ـ شبهة الإكراه في الدين ونشره بالسيف.
ـ شبهة الجزية وما يتعلق بها.
ـ شبهة اعتبار الرق غاية من الجهاد.
الخاتمة:
وسنبرز فيها ـ إن شاء الله أهم النتائج التي نتوصل إليها من تناولنا لهذه المباحث:
والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول
السلام في الإسلام
مفهوم السلام:
السلام مبدأ من المبادئ التي عنى بها الإسلام عناية واضحة في اسمه الدال عليه، وفي مضمونه وما يدعو إليه، فالإسلام والسلام يشتركان في مادة "سلم" وهي مادة تعني في اللغة الخلوص والنجاة من الآفات، وتعني الصلح (1) ، وهذه المادة مثل مادة "أمن" وزنًا ومعنى، وما يتضمن هذا من سكون القلب (2) ، والطمأنينة والسكينة.
من أجل هذا وجدنا احتفاء الإسلام بالسلام، وما يشيعه في النفس الإنسانية في الأسرة البشرية من معاني المودة والرحمة، ووجدنا تعميق الإسلام لهذا المبدأ المحقق لهذه المعاني في توجيهات القرآن الكريم وفيما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم واعتبار هذا المبدأ أصل العلاقات البشرية فعليه تقوم، وإن ابتعدت عنه تصارعت، ولا بد من إزالة أسباب الصراع للعودة إليه تحقيقًا للأمن وإرساء للطمأنينة، وهذا معنى الصلح الذي تدل عليه المادة "سلم".
فأما تقرير السلام لهذا المبدأ وتعميقه وإزالة ما يعكر صفوه فنجده في الكتاب والسنة على ما يلي:
أولًا: الدين الذي ارتضاه الله لنا جعل عنوانه من مادة السلام فسماه الإسلام قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) .
ثانيًا: والله سبحانه الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينًا من أسمائه الحسنى السلام. قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) .
ثالثًا: وإذا كان السلام ـ كما مر بنا في بيان مفهومه ـ قرين الأمن والسكينة والطمأنينة، وأن هذه المعاني قرينة الرحمة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه للعالمين رحمة مهداة فيقول الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (5) .
رابعًا: وإذا كان هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أمته فإن الله تعالى جعل مفتاح المعاملات بين الناس، وبداية العلاقات واللقاءات فيما بينهم في لفظة السلام فتحية الإسلام السلام.
(1) انظر المصباح المنير: ص 287؛ ومختار الصحاح: ص 311
(2)
انظر المصباح: ص 24
(3)
سورة المائدة: الآية 3
(4)
سورة الحشر: الآية 23
(5)
سورة الأنبياء: الآية 107
(6)
سورة آل عمران: الآية 159
خامسًا: الذين يعيشون مستجيبين لهدي ربهم في حياتهم الدنيا فيتحقق لهم الأمن والسلام سيحظون يوم القيامة بتحية الله لهم وهي السلام. قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} (1) .
وسيحظون كذلك بتحية الملائكة لهم في الآخرة وهي السلام قال تعالى: {وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (2) .
سادسًا: سمى الله الدار التي ينعم فيها المؤمنون المستجيبون لله وللرسول بدار السلام وهي الجنة، قال تعالى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3) .
سابعًا: وأحلى ما يسمع أهل الجنة في دار السلام كلمة السلام، قال جل شأنه:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (4) .
ثامنًا: ولترغيب المؤمنين للدخول في السلم دعاهم ربهم إلى دار السلام، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (5) .
تاسعًا: ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط دخول دار الإسلام بإفشاء السلام فيما بين المؤمنين فيقول صلى الله عليه وسلم: ((لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)) (6) .
عاشرًا: ويجعل الإسلام لكلمة السلام قوة لا تدع في النفس مجالًا للظن أو الوهم، فيقول تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (7) .
وبذلك تكون كلمة السلام التي أرسى دعائمها الإسلام للمسلمين وينال من خيرها كذلك غيرهم، وهكذا نرى تضافر الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في إفشاء روح السلام بين العالمين، وأن هذا ما ينبغي أن تكون عليه الحياة وأول من يستجيب لهذا الروح بين المؤمنين، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (8) .
وإن أصيبت هذه الروح بما يعكر صفوها بنزاع أو قتال وجد الناس خطره وذاقوا مرارته وبدأ فيهم ميل للعودة إلى الأصل وهو السلام فإن المؤمنين أسرع الناس استجابة إلى هذا حتى ولو كان الميل ميل مخادعة ، فإن الله حسبهم ويكفيهم شر خداعهم، قال تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (9) .
(1)[الأحزاب: 44]
(2)
سورة الرعد: الآيات 23 و 24
(3)
سورة الأنعام: الآية 127
(4)
سورة الواقعة: الآية 26
(5)
سورة يونس: الآية 25
(6)
رواه مسلم وأخرجه أبو داود والترمذي، وانظر رياض الصالحين كتاب السلام: ص 336
(7)
سورة النساء: الآية 94
(8)
سورة البقرة: الآية 208
(9)
سورة الأنفال: الآيات 61 و62
بهذه الروح الواعية لمبدأ السلام والمحققة له في حياة الناس انطلق قادة الفتوح الإسلامية فمع مواجهتهم لأقوام استعبدوا الناس بالباطل، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد كان تطبيقهم العملي في ميادين الجهاد محافظًا على مبدأ السلام وآثاره في حياة الناس ونستطيع أن نقدم دليلًا على ذلك من واقع التاريخ الإسلامي ومن تطبيقات الخلفاء الراشدين وهم خير سلف هذه الأمة وأصفاهم فهمًا لحقيقة ما قرره الإسلام من مبادئ.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقف في جيش أسامة خطيبًا فقال: "أيها الناس، أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكتلم شيئًا بعد الشيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا.. اندفعوا باسم الله". (1) .
والاستشهاد بأقوال القادة وقت الحرب خير دليل على فهم هؤلاء القادة لمفهوم السلام، فقد يكون التعبير عن مفهوم السلام من غير وقت اللقاء مع الأعداء مشوبًا بكثير من الادعاء والظهور في صورة مثالية، أما الوصية من القائد إلى جنده عند اللقاء، وامثال الجند لمجموعة من المبادئ والقيم التي تمثل مفهوم السلم في أحلى صوره فإنه دليل على عمق هذا المفهوم وتأصله في النفوس. ومن هنا نقول أن القادة المسلمين يجعلون مبادئ السلام وثيقة الارتباط بدينهم فلا تنازل عنها في أي وقت من الأوقات، وأن القتال في الإسلام ـ كما سينجلي لنا في مباحثه ـ ليس إلا تدعيمًا لهذا الأصل العظيم الذي أسس الإسلام حياة الناس عليه. فالفاتحون دعاة إلى الله يستهدفون هداية الناس إلى الحق ويزيحون العوائق من طريق الشعوب، ويخرجون الناس من عبادة الحكام إلى عبادة الرحمن، ومن ظلم الحكام إلى عدل الإسلام، ويبذلون في سبيل ذلك أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ولذلك فإن صلاحهم مستمر في لقائهم مع عدوهم فلا خيانة، ولا غلول ولا غدر، ولا يقاتلون إلا المقاتلة فلا قتل لطفل صغير ولا لشيخ كبير ولا امرأة. وإذا قوتل المقاتلة فلا تمثيل. وفتحهم للعمارة والنماء فلا عقر لنخل ولا إحراقه ولا قطع لشجرة مثمرة ولا ذبح لشاة ولا بقرة ولا بعير إلا للأكل. وهكذا يتجلى في توجيهات أبي بكر رضي الله عنه لجيش أسامة رضي الله عنه امتداد مفهوم السلم ليكون مستمرًا في جميع الأحوال ،وأن هذا المعنى إذا كان يحقق عند لقاء العدو فإنما لكونه مرتبطًا بعقيدة المسلم الذي ينطلق في أمره كله باسم الله سبحانه واستجابة لأمره ونهيه، وأما لدى غير المسلمين فإن أوقات الحروب تستباح فيها الأنفس ويمتهن معها كل معنى كريم.
ويمتد هذا المعنى للسلام ليجد التطبيق لدى القادة المسلمين قديمًا وحديثًا وإذا كنا أعطينا مثالًا لتوجيهات أول الخلفاء الراشدين فهذا ـ كذلك ـ القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي يحقق هذا المفهوم بعد أن استعاد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد تسعين سنة من مجزرة الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس في 15/ 7/ 1099م فذبحوا سبعين ألف مسلم ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمرت ثلاثة أيام، ولم تنته إلا بعد إجهادهم من القتل، وحطموا رؤوس الصبيان على الجدران، وألقوا الأطفال الرضع من أسوار المعاقل والحصون، وشووا الرجال على النار، وبقروا بطون الحوامل ليروا هل ابتلع أهلها الذهب؟
ـ بعد هذه المجزرة لم يعامل صلاح الدين الصليبيين بالمثل. فلما سلمت له الحامية النصرانية أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مائة ألف وأعطاهم مهلة للخروج في سلام، لم يقتل أحد منهم بعد أن بذل لهم وعده بالأمان، ولم يفعل كما فعل "ريكاردوس" الإنجليزي الذي قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف سلموا أنفسهم إليه بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم (2) .
(1) تاريخ الطبري: 2/ 463، وقادة فتح الشام ومصر محمود شيت خطاب: ص 42
(2)
انظر محاضرة الأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود عن تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين، مطبوعات قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ص3 و4
ضمانات الإسلام لتحقيق السلام:
وليجعل الإسلام مفهوم السلام واقعًا يعيشه الناس ويجنون ثماره ويستمتعون من وضع الإسلام أمام الناس بمجموعة من التدابير والضمانات التي تكفل تحقيق السلام في حياة الناس، ويمكن أن نقسم هذه الضمانات والتدابير إلى قسمين:
الأول: ضمانات نفسية.
الثاني: معالجة الصراع إذا وقع بين البشر معالجة موضوعية.
فأما الضمانات النفسية فقد بسط القرآن الكريم أمام الناس قصة الصراع بين ابني آدم لتجنب الأسباب التي أدت إليه، فحكى لنا القرآن الكريم ما حدث بين ابني آدم حيث تفوق أحدهما بتقواه وحظي بقبول عمله، وأما الآخر فبدلًا من أن يشغل نفسه بإصلاح شأنها ليقبل عمله مثل أخيه شغل نفسه بالحقد عليه، والحسد له، وتهديده بالقتل، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، ويبصرنا القرآن الكريم بأثر هذا الصنيع من الندم الذي أصاب القاتل، والمظلمة الشديدة التي وقع فيها بهذه الخبائث النفسية وبتزيين الشيطان للإنسان عمل السوء ومقارفة المظالم، كما يضع الناس بعد هذه القصة أمام القاعدة المستخلصة منها في أن من قتل نفسًا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أحدهما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} . (1)
(1) سورة المائدة: الآيات 27 – 32.
فمن هذه البداية التي نضع أيدينا عليها وما تبعها من صراعات، نستطيع أن نستخلص أهم العوامل المؤثرة على السلم في حياة الناس، والتي يهتم بها كثير من الباحثين، والتي تتصل بالعامل النفسي، والذي نبرز أوضح مظاهره فيما يأتي:
(أ) حب الاستعلاء في الأرض بالتسلط على الآخرين.
(ب) استغلال ثروات الآخرين.
(جـ) سرور النفس بالشبع مع وجود الجوع عند الآخرين.
(د) ترتيب الناس ورفع بعضهم على بعض باعتبارات لا صلة لهم فيها.
(هـ) استيفاء النفس لحظوظها ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
(و) إهمال النفس الإنسانية في التهذيب الصحيح والتقويم المستمر.
هذه مجموعة العوامل النفسية وراء الصراعات الفردية التي بدأت بابني آدم، والصراعات الدولية التي تصحب بدم بشري دافق يصرخ في وجه الإنسانية يطلب الإيقاف ليسري في عروق بانية، وليؤدي وظيفته في بشرية سوية ترفرف عليها رايات الحب والسلام.
وأما الضمان الثاني: والذي يتمثل في معالجة الصراع إذا وقع بين البشر فإن الإسلام يعالج قضايا الصراع معالجة موضوعية متكاملة تأخذ بالمنهج المتكامل الذي يعالج المشكلة من جذورها فيبدأ بمعالجة الأهواء النفسية التي أشرنا إليها من قبل.
كما يعالج الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية ويتمثل ذلك فيما يلي:
(أ) النظرة الصحيحة إلى الإنسان لاعتباره مخلوقًا لله سبحانه وقد كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق وجعله مسؤولًا ومحاسبًا ومجزيًّا عن عمله، وأقام الإسلام كيان الإنسان على حسن الصلة بخالقه وواهب النعم له، وتنمية مكوناته الروحية والبدنية والعقلية، وصيانة نفسه ودينه وعقله وماله وعرضه.
(ب) النظرة الصحيحة إلى العلاقات الإنسانية وإقامتها على الأسس التالية:
1 ـ المساواة الإنسانية.
2 ـ العدل.
3 ـ التكافل الإنساني.
4 ـ الأساس المتصف للتفاصيل بين الناس والذي يدفع بالإنسانية إلى الخير والتنافس في مجالاته.
5 ـ السلم النفسي والسلم العالمي.
ومجموع هذه الضمانات تؤمن الفرد والجماعات وتحول بينهم وبين الصراعات الدموية، فإذا ما تغلبت نوازع السوء ودفع الصراع فإن المعالجة تأخذ بالمشكلة من جذورها فإن لم يستجيب الأفراد والجماعات لهذه الضمانات السابقة، فإن للإسلام نظرته في اتخاذ الجهاد سبيلًا لتحقيق هذا السلم الذي يعده أصلًا في حياة الناس، وهذا ما سنتناوله إن شاء الله في الفصل الثاني.
الفصل الثاني
الجهاد في الإسلام
مدلولا الجهاد والحرب:
وإذا كانت كلمة الحب تحمل ظلالًا قاتمة من المعاني التي تثير الإنسان وينفعل بها الأدباء شعرًا ونثرًا قديمًا وحديثًا، لما تحدثه من مظاهر التدمير والتخريب والقتل، وفي هذا نجد قول زهير بن أبي سلمى:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافًا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
إذا كانت الحرب ـ كذلكـ في سوآتها فإن القرآن الكريم يذكر الحرب بهذه الآثار الثقيلة في مثل قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (1) .
ولما كانت الحرب بين الناس تقوم على أسس باطلة ـ سبق الإشارة إليها ـ ويتعرض الناس مع الحرب لظلم الظالمين المحاربين، ووقوف المعاندين في وجه الحق، وتسلطهم على غيرهم والوقوف في طريق دعوتهم إلى الحق والخير كان الإذن من الله سبحانه بمقاتلة هؤلاء الظالمين، والوعد من الله بنصرهم قال تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (2) .
وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (3) .
(1) سورة محمد: الآية 4
(2)
سورة الحج: الآيتان 39، 40
(3)
سورة الحج: الآية 40
ولكي يبقى معنى القتال الذي أذن فيه واضحًا في أهدافه، وفي أبعاده، وفيما يلتزم فيه من مبادئ وقيم، وجدنا في الإسلام مصطلحات أخرى لتؤدي المعنى المراد مصحوبًا بالمفاهيم الإسلامية كمصطلح الجهاد وكذلك المغازي والسيرة ، فالجهاد: مصدر جاهد جهادًا ومجاهدة، وجاهد: فاعل، مِنْ جهد: إذا بالغ في قتل عدوه وغيره، ويقال: جهده المرض وأجهده، إذا بلغ من المشقة، وجهدت الفرس وأجهدته: إذا استخرجت جهده، والجهد بالفتح: المشقة، وبالضم: الطاقة: وقيل: يقال: بالضم وبالفتح في كل واحد منهما. فمادة "ج. هـ. د" حيث وجدت ففيها معنى المبالغة. وهو في الشرع: عبارة عن قتال الكفار خاصة (1) بالوجه الذي سنبينه في هذا لموضوع، والمعنى اللغوي للجهد من استفراغ الوسع وبذل الطاقة وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته هو ما يعبر عنه بالحرب في العرف الحديث فالحرب هي القتال المسلح بين دولتين فأكثر (2) .
وإذا كان البشر قد خاضوا الحروب ظلمًا واستعلاء في الأرض فإن الإسلام قد جعل الجهاد لوقف هذا الظلم والاستعلاء ، فالجهاد كما سيتضح من مفهومه في الإسلام لتحقيق السلام والوقوف في وجه كارهي هذا السلام، والعجيب أن تجد المفهوم المخرب للحريات لدى من ينتسب إلى دين عبثت به نفوسهم الشريرة فحرفوا وبدلوا ووضعوا ما لم يأذن به الله في العلاقات بين خلقه فنجد في أسفار التوراة التي يتدالوها اليهود تقرير شريعة الحرب والقتال في أبشع صورة من صور التخريب والتدمير والإهلاك والسبي فقد جاء في سفر التثنية
…
في الإصحاح العشرين عدد 10 وما بعده: "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيه يكون لك بالتسخير، وسيتعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربًا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء، والأطفال، والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريمًا؛ الحيثيين والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والجويين، واليوبوسيين، كما أمرك الرب إلهك".
(1) المطلع على أبواب المقنع، للإمام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي، مجموعة المبدع: 11/ 209؛ والروض الندي شرح كافي المبتدي، لأحمد بن عبد الله البعلي: ص 198
(2)
انظر فقه السنة، للاستاذ سيد سابق: 2/ 618
وفي إنجيل متى المتداول بأيدي النصارى في الإصحاح العاشر عدد 24 وما بعده يقول: "لا تظنوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا، بل سيفًا، فإنني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته ، مَنْ أحب أبًا أو أمًّا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها"(1) .
فهكذا يكون التسلط البشري المخرب الذي يلبس ثوب دين فصله الهوى للتخريب والاستعلاء في الأرض بغير الحق.
ولكن المسلم الذي يلتزم مفهوم الجهاد في الإسلام يبذل الوسع والطاقة في سبيل الله بالنفس واليد واللسان (2) .
ويتضمن هذا المعنى عناصر الجهاد في المقاتل من جهة إعداده معنويًّا وماديًّا ، والعدد ، وما يبذل فيها ، والخطط وما يرسم لها من أفكار ، وغير ذلك مما يرتبط بهذه العناصر والتي تقتضي جهاد النفس في مدافعة الجبن والبخل والتربية على الشجاعة والإقدام وحسن التدريب، والسهر لمعرفة ما يكون لدى العدو حتى لا يكون المؤمن دونه.
وأما المغازي والسير فإنها ترتبط كذلك بالمعاني السابقة في معنى الجهاد ، واستعملت بهذا المفهوم ، جاء في الحديث:((الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكرمية واجتنب الفساد فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا رياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف)) (3) .
ولذلك ارتبطت المغزي بالمعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ لإعلاء كلمة لله. واستعملت كتب التفسير والحديث والفقه مصطلحات الجهاد والمغازي والسير لمعالجة ما يتصل بالقتال والحرب، بل ألفت كتب تحمل هذه العناوين مثال ذلك:
ـ المغازي والسير لابن عبد البر.
ـ السير للأوزاعي.
ـ والمغازي للواقدي.
ولذلك وجدنا الفقهاء يتناولون موضوع الجهاد فيتكلمون عن حكمه وفضله، ومراحل تشريعه، وبواعثه وأهدافه، ومنهج الإسلام في حقن الدماء، والدعوة قبل الدخول فيه، والإعداد له ماديًّا ومعنويًّا. وسنتناول في هذا الفصل ـ إن شاء الله ـ هذا المباحث.
(1) انظر فقه السنة، للاستاذ سيد سابق: ص 618، و 619
(2)
انظر نيل الأوطار، للشوكاني: 7/ 208، وانظر الحرب والسلام في الفقه الدولي الإسلامي، د. محمد كمال إمام: ص 42
(3)
رواه أبو داود، والدارمي، والموطأ، وانظر شريعة الإسلام في الجهات والعلاقات الدولية، للمودودي: ص 185
حكم الجهاد ومراحل تشريعه:
يتفق علماء الأمة على أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن باقيهم ولم يأثموا بتركه (1) .
وقال صاحب المجموع: "والجاهد فرض ، والدليل عليه قوله عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} .
وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
وهو فرض على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} ، ولو كان فرضًا على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك؛ ولأنه وعد الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع، وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان وقال: ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعدين: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج؛ ولأنه لوجعل فرضًا على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلاك الخلق)) (2) .
ولكن يتعين الجهاد - أي يصبح فرض عين - في حالات تضطر فيها الأمة كلها إلى مواجهة العدو ذكر منها ابن قدامة ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف ، وتعين عليه المقام لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَابِرِينَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتاله ودفعهم.
الثالث: إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا استنفرتم فانفروا)) (3) .
(1) انظر الإفصاح: لابن هبيرة: 2/ 273
(2)
كتاب المجموع شرح مهذب الشيرازي: 18/ 43، و 44
(3)
المغني، لابن قدامة: 8/ 346، و347
وأما ابن عبد البر في كتابه الكافي في فقه أهل المدينة المالكي فيقسم الجهاد تقسيمًا آخر يشمل ما ذكر من الفرضية بنوعيها (فرض الكفاية وفرض العين) ولكنه يضيف إلى الفرضية فرضًا آخر يجعله على الإمام، ويذكر في تقسيمه كذلك جهاد النافلة فيقول:"الغزو غزوان: غزو فرض، وغزو نافلة"، والفرض في الجهاد ينقسم أيضًا قسمين:
أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربًا لهم فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالًا وشبابًا وشيوخًا ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعددهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عددهم وعلم أنه يذكرهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضًا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل البلد التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه.
والقسم الثاني: من واجب الجهاد فرض أيضًا على الإمام إغراء طائفة إلى العدو، وكل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية فإن أعطوها قبلها منهم وإن أبوا قاتلهم وفرض على الناس بأموالهم وأنفسهم الخروج المذكور حتى يعلم أن في الخارجين من فيه كفاية بالعدد، وقام به، وفإذا كان ذلك سقط الفرض عن الباقين وكان الفضل للقائمين على القاعدين أجرًا عظيمًا وليس عليهم أن ينفروا كافة". (1) .
(1) كتاب الكافي، لابن عبد البر: 1/ 395 و396
وابن عبد البر يتفق مع جمهور العلماء في حكم الجهاد الفرض بقسميه ولكنه يقرر هذه الفرضية بوصف عملي ينظر فيه إلى الأمة المسلمة باعتبارها أمة واحدة في عزتها ومنعتها، وكذلك ينظر في قوله إلى وجود الإمام للأمة والذي يحمل على كتفيه مسؤولية الدعوة وتبليغها للعالمين وإنقاذ الناس من الشرك ومظاهره، ومن الظلم وآثاره، وهو يذكر واجب الإمام في هذا يطبق معه كذلك حكم الجهاد العين وجهاد الكفاية، ليذكر بعد ذلك النوع الثاني من الغزو وهو غزو النافلة فيقول: وأما النافلة من الجهاد: فإخراج طائفة بعد طائفة وبعث الرايات في أوقات العزة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في مواضع الخوف، وسأل العمري العابد وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، أيضًا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها؟ فقال مالك: الأمر في ذلك إلى الكثرة والقلة، قال أبوعمر: جواب مالك هذا ـ وإن كان في جهاد غير المشركين ـ فإنه يشمل ويجمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأنه يقول: من علم أنه إذا بارز العدو قتلوه ولم ينل منهم شيئًا جاز له الانصراف عنهم إلى فئة من المسلمين ولم يجز له إباحة دمه لمن لا يقوى عليه ولا يمكنه ولا ينفع المسلمين بما يحاوله فيه، وقول مالك هذا يشبه عندي ما رواه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجحي عن عطاء عن ابن عباس قال: من فر من رجلين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر ، يعني في القتال. قال سفيان: فحدثت به ابن شبرمة فقال: هكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فأذنوهم (1) .
فهذا هو حكم الجهاد لدى جمهور العلماء فرض كافية إلا إذا تعين بأسباب تجعله على كل مستطيع نفسًا ومالًا، وقد ذكر ابن عبد البر تطبيق هذا الحكم عمليًّا على الأمة كلها بإمامها وارتباط حكم الجهاد بالقوة والضعف والقلة والكثرة على ما ذكره (2) .
(1) الكافي، لابن عبد البر: 1/ 396
(2)
انظر تفصيل هذا في الروض الندي شرح كافي المتبدي، لأحمد بن عبد الله البعلي: ص 198، والمقنع، لابن قدامة: 1/ 483، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح: 3/ 307 و 308، وموسوعة فقه عمر بن الخطاب، د. محمد قلعة: ص 230، وبداية المجتهد، لمحمد بن رشد القرطبي: 1/ 380، و 381: وأحكام القرآن للإمام الشافعي: 2/ 29، وما بعدها؛ والوجيز في فقه الشافعي، للغزالي: 2/ 113
ويقول مجد الدين أبو البركات في المحرر: "وأقل ما يفعل مرة في كل عام، إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره لضعف المسلمين
…
وللإمام تأخيره ـ أيضًا - مع القوة والاستظهار لمصلحة رجاء إسلام العدو ونحوها (1)
ومعنى ذلك أن الحكم مرتبط كذلك بغايات الجهاد التي تجعل اللجوء إلى القتال ضرورة وصولًا إلى الحق، وتحقيقًا للعدل ودفعًا للفساد وتبليغًا لكل ما يحقق في الناس هذه القيم وهو الإسلام الذي ينقذ العالمين.
وقد نبه علماؤنا إلى هذا وقضوا عليه وهم يذكرون حكم الجهاد فيقول صاحب كتاب اللباب في شرح الكتاب الشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي: "الجهاد فرض على الكفاية لأنه لم يفرض لعينه إذ هو فساد في نفسه ، وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الفساد عن العباد ، وكل ما هو كذلك فهو فرض كفاية إذا حصل المقصود بالبعض وإلا ففرض عين". (2) .
ويتضح هذا المعنى لدى الباحثين المعاصرين ـ أيضًا ـ في اعتبار الحرب في الإسلام شرًّا ولكن لا بد منه لدفع الفساد فيقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب: "إن الحرب في الإسلام شر وبلاء فلا يدخل المسلمون الحرب إلا دفعًا للشر والعدوان، وعندئذ يكون هذا الشر خيرًا، ويصبح البلاء عافية.. وفي هذا يقول الشاعر:
والشر إن تللاقه بالخير ضيقت به ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم
ويقول الآخر:
وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان
إن الشر الذي يدفع به الشر، هو في غايته خير، إذ لو ترك الشر دون أن يؤخذ على يد فاعليه، لاستشرى، ولأتى على كل خير في هذه الحياة ، والله تعالى يقول:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3) .
فمن فضل الله تعالى على الناس، ورحمته بهم أنه أقام من عباده الصالحين المحسنين من يتصدى للشر وأهله، وحتى يقضي على هذا البلاء، الذي لو ترك لأهلك الحرث والنسل.
(1) المحرر في الفقه، لمجد الدين أبو البركات: 2/ 170
(2)
كتاب اللباب في شرح الكتاب في فقه الحنفية: لعبد الغني الميداني الدمشقي: ص 367
(3)
سورة البقرة: الآية 251
(4)
سورة الحج: الآية 40، انظر الحرب والسلام في الإسلام، للأستاذ عبد الكريم الخطيب: ص 16
مراحل تشريعه:
ويرتبط حكم الجهاد كذلك بسيرة الدعوة حيث عاش المسلمون فترتها الأولى يواجهون تحديات شتى ، ويفتنون في أبدانهم وأموالهم ، ويقابلون هذا بالصبر الجميل والرد الفردي عند الاستطاعة ممن كانت له قوة أو يأوي إلى ركن شديد، وكذلك بالتحرك بعيدًا عن مواطن الفتنة بالهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة المنورة، ثم أذن للمسلمين بالقتال ، وأبيح لهم ردًّا للعدوان مع عدم الاعتداء، ثم فرض القتال تحقيقًا للغايات التي سنفصل القول فيها إن شاء الله بعد ذلك.
وقد أجاد الشافعي رحمه الله في وصف هذه المراحل بأدلتها في كتابه أحكام القرآن ، فقال رحمه الله: "ففرض عليه إبلاغهم، وعبادتهم، ولم يفرض عليه قتالهم، وأبان ذلك في غير آية من كتابه، ولم يأمره بعزلتهم، وأنزل عليه:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون] .
وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} مع أشياء ذكرت في القرآن في غير موضع في مثل هذا المعنى.
وأمرهم الله عز وجل بأن لا يسبوا أندادهم ، فقال:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية، مع ما يشبهها.
ثم أنزل جل ثناؤه ـ بعد هذا ـ في الحال الذي فرض فيها عزلة المشركين فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وأبان لمن تبعه ما فرض عليهم بما فرض عليه قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} الآية (1) .
(1) أحكام القرآن، للشافعي: 2/ 9 ـ 11
ثم يقول الشافعي: "وكان المسلمون مستضعفين بمكة زمانًا لم يؤذن لهم فيه بالهجرة منها، ثم أذن الله لهم بالهجرة، وجعل لهم مخرجًا ، فيقال: نزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} .
فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد جعل الله لهم بالهجرة مخرجًا ، قال:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} وأمرهم ببلاد الحبشة فهاجرت إليها منهم طائفة.
ثم دخل أهل المدينة في الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة هاجرت إليهم ـ غير محرم على من بقى وترك الهجرة. وذكر الله عز وجل أهل الهجرة فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} .
وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} .
قال: ثم أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة منها فهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ولم يحرم في هذا على من بقي بمكة المقام بها ـ وهي دار شرك ـ وإن قالوا بأن يفتنوا ولم يأذن لهم بجهاد.
ثم أذن الله عز وجل لهم بالجهاد، ثم فرض بعد هذا عليهم أن يهاجروا من دار الشرك.
ثم يقول رحمه الله: "فأذن لهم بأحد الجهادين: بالهجرة، قبل أن يؤذن لهم بأن يبتدئوا مشركًا بقتال".
ثم أذن لهم بأن يبتدئوا المشركين بقتال ، قال الله عز وجل:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
وأباح لهم القتال بمعنى أبانه في كتابه فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} .
قال الشافعي رحمه الله يقال: "نزل هذا في أهل مكة وهم كانوا أشد العدو على المسلمين ـ ففرض عليهم في قتالهم ما ذكر الله عز وجل".
ثم يقال: نسخ هذا كله، والنهي عن القتال حتى يقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول الله عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد.
ثم يقول: "ولما فرض الله عز وجل الجهاد على رسوله صلى الله عليه وسلم جهاد المشركين، بعد إذ كان أباحه، وأثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل مكة ورأوا كثرة من دخل في دين الله عز وجل اشتدوا على من أسلم منهم ففتنوهم عن دينهم
…
".
فعذر الله عز وجل من لم يقدر على الهجرة من المفتونين فقال {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} .
ثم يقول: "ولما مضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من هجرته، أنعم الله فيها على جماعات باتباعه ـ حدثت لهم بها مع عون الله عز وجل قوة بالعدد لم يكن قبلها، ففرض الله عز وجل عليهم الجهاد بعد إذ كان أباحه لا فرضًا ، فقال تبارك وتعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (1) الآية.
وقال جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} .
وقال تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} .
وقال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} .
وقال تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} إلى {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} .
وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
(1) وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة
(2)
أحكام القرآن، للشافعي: 2/ 11ـ 19
وهكذا تتبع الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الأدلة القرآنية أصل فرض الجهاد ومراحل تشريعه حتى استقرت فرضيته بالصورة التي ذكرت، وارتبط حكمه ببواعثه وأهدافه والتي أشير إليها في كلامنا السابق والذي نبرزه في النقاط الآتية:
بواعثه وأهدافه:
إن الهدف الأسمى من الجهاد الذي يقره الإسلام هو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذا الهدف يحقق للناس سلمهم الحقيقي ويضمن لهم سلامة أنفسهم وصيانة أعراضهم وحفظ أموالهم، ولذلك فإن هذه الغاية هي التي تجعل الجهاد في سبيل الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر ،والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟.
فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله العليا، فهو في سبيل الله)) .
وإذا قلنا إن إعلاء كملة الله هو هدف المؤمن، والأمة المؤمنة فإن الذي يبعث الأمة على الجهد هو كل سبيل يحقق هذا الهدف، وإزاحة كل معوق في هذا السبيل. ومن هذه السبل:
ـ إخراج المؤمنين من الفتنة ونصرة المستضعفين، قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (1) .
ـ ومن هذه الصور الباعثة على الجهاد رد الاعتداء الذي يقع من الظالمين الذين يقفون في طريق الدعاة فإن الأمة المسلمة أمة تحمل رسالة ربها وتدعو الناس أجمعين إليها فقيام الأمة بواجب الدعوة أمر لا بد منه، فإذا تعرض أحد المخالفين للدعاة إلى الله على بصيرة ووقف في سبيل الدعوة فعذب الداعي أو من آمن وصده عن الدخول فيها فإن هذه الصورة أنواع من الاعتداء على الناس يجب دفعه حتى يرتفع الظلم والإكراه من الظالمين ولتكون كلمة الله هي العليا.
وهذه الصورة هي التي تجعل الباحثين يقررون أن الجهاد في مثل هذه الحالات جهاد دفاعي لرد الاعتداء. قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [سور البقرة الآيات 190 ـ 191] .
(1) سورة البقرة: الآية 193
(2)
سورة النساء: الآية 75
ـ ومن هذه الصورة الدفاعية كذلك رد العدوان على الديار والعرض والنفس والمال. قال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (1) .
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) (2) .
والذي يؤكد ما قررناه من أن بواعث الجهاد تمثل صورا دفاعية لا يكون معها اعتداء أن المعتدي إذا أوقف اعتداءه وجب وقف قتاله ، قال تعالى:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (3) .
والذي يضبط هذا ما ذكرناه من هدف الجهاد في سبيل الله وهو إعلاء كلمة الله تعالى فبها يتحقق السلم والأمن ويقاوم الفساد في الأرض.
والذي يدعم ما ذهبنا إليه من ذكر أهداف الجهاد وبواعثه التطبيق العملي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك فإن البواعث والأهداف ـ كما قلنا ـ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمراحل تشريع الجهاد.
(1) سورة البقرة: الآية 246
(2)
ورواه أيضًا ابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، الترتيب: 2/ 339، وانظر جمع الفوائد: 2/ 16
(3)
سورة النساء: الآية 90
(4)
سورة الأنفال: الآيتان 61، و 62
وإذا كانت البواعث والأهداف بهذا النبل والسمو في تحقيق السلم الدولي الصحيح فإن لهذا الجهاد فضله الذي يقدر الإسلام على النحو التالي:
فضل الجهاد:
لقد تنوعت الأساليب القرآن الكريمة في بيان فضل الجهاد في سبييل الله ففي استفهام يغري ويحث على الطلب يأتي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
فالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من المنجيات من العذاب الأليم ومن أسباب مغفرة الذنوب ودخول الجنات والمساكن الطيبة في جنات عدن وهذا فوز عظيم في الأخرى.
وبالجهاد في سبيل الله يتحقق نصر الله والفتح القريب والبشرى للمؤمنين، قال تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (2) .
وفي عدم التسوية بين الجهاد وغيره من الأعمال وبيان أن الجهاد في سبيل الله أعظم يقول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (3) .
وفي تهديد ووعيد لمن يسوي بين حب الله ورسوله مع الجهاد في سبيله وأقرب الناس إلى الإنسان من الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والأقارب والأموال قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4) .
فإذا ما صحب هذا الجهاد بحصول الشهادة كان بيان الفضل من الله على الشهداء في أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وأن الله سبحانه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ومنحهم الجنة قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (5) .
(1) سورة الصف: الآيات 10ـ 13
(2)
سورة آل عمران: الآية 195
(3)
سورة التوبة: الآيتان 19، 20
(4)
سورة التوبة: الآية 24
(5)
سورة آل عمران: الآيتان 169 ـ 171
(6)
سورة التوبة: الآية 111
فهذا بعض ما ورد من فضل الجهاد في سبيل الله في كتاب الله تعالى، وأما ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كما يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار:"والأحاديث في فضل الجهاد كثيرة جدًّا لا يتسع لبسطها إلا مؤلَّف مستقل ". (1) .
ولكن يكفي أن نذكر بعضها على سبيل المثال:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَغَدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)) متفق عليه (2) .
وعن أبي عيسى الحارثي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)) [رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي](3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)) [رواه أحمد والترمذي] .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)) رواه أحمد ومسلم والترمذي ، وعن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) متفق عليه. (4)
والأحاديث في فضل الجهاد ـ كما ذكر ـ كثيرة تبين ما ذكره القرآن الكريم من فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، ويرتبط هذا الفضل بأهمية الجهاد في سبيل الله في حماية الدين الذي هو عصمة أمر الإنسان والأمة وسبب نهضتها وسعادتها وسبب الأمن والسلم والرخاء العالم، وهو الطريق إلى إرساء مبادئ الحق والعدل في العالمين.
(1) نيل الأوطار: 8/ 28
(2)
نيل الأوطار: 8/ 24
(3)
نيل الأوطار: 8/ 24
(4)
نيل الأوطار: 8/ 24
منهج الإسلام في حقن الدماء:
إن الإسلام يصون النفس الإنسانية ويحرم الاعتداء عليها إلا إذا استوجبت هذه النفس عقوبة تستحقها، كما يعد الإسلام الاعتداء على النفس اعتداء على الناس جميعًا تبشيعًا وتنفيرًا ومن باب بيان خطورة سفك دم نفس واحدة والذي يؤدي إلى مزيد من سفك الدماء قال تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) .
وفي تفصيل نبوي كريم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم بعض هذه الموجبات لقتل النفس والتي تمثل اعتداء من هذه النفس على غيرها كالقتل أو ارتكاب جريمة الزنا أو الردة ومفارقة الجماعة التي تمثل معنى الخيانة العظمى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) .
فإذا علم ذلك رأينا حرص الإسلام على عدم سفك الدماء وبذلك كل السبل التي تحول بين المجاهد في سبيل الله وسفك دماء العدو وذلك يتمثل فيما يلي:
أولًا: يطلب الإسلام من أتباعه أن يعدوا ما استطاعوا من القوة (ماديًّا ومعنويًّا) لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء فلا يجرؤون على المقاتلة. والنص على الغاية من الإعداد وأنه لتحقيق هذه الرهبة بيان لحرص الإسلام على عدم الدخول في حرب تسفك فيها الدماء فإن الرهبة ستمنع العدو من الهجوم والدخول في القتال قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (2) .
وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى يستطيعها المؤمنون، ويحققون به جانبًا من منهج الإسلام في حقن الدماء.
ثانيًا: إن كان العدو قد بلغت به الجرأة إلى الهجوم والاعتداء فإن الإسلام يحجم الحرب حتى لا يتوسع في سفك الدماء فيكون الرد على قدر العدوان فحسب ولا يتمادى في إيقاع المزيد عليه قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) .
(1) سورة المائدة: الآية 32
(2)
سورة الأنفال: الآية 60
(3)
سورة البقرة: الآية 194
ومن مظاهر هذا التحجيم كذلك قصر القتال على المقاتلة فحسب وعدم التوسع ليشمل غيرهم ، فجاء النهي عن قتل النساء إلا إذا باشرن القتال ، وكذلك النهي عن قتل الشيخ الفاني الذي لا يقوى على القتال ولا يقوى على المشورة والكيد والتدبير ، كما جاء النهي عن قتل الصبيان والرهبان ، ومعنى ذلك أن القتل قاصر على من يباشر القتال ويخشى شره، وقد عالج الشوكاني رحمه الله هذا الني معالجة موضوعية ذكر فيها ما ورد من النصوص عن النهي والإباحة وخرج بما قررناه ـ هنا ـ في هذه المسألة ـ وذلك في باب الكف عن قصد النساء والصبيان والرهبان والشيخ الفاني بالقتل ، فذكر رواية ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. رواه الجماعة إلا النسائي، وعن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى المقدمة خالد بن الوليد فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني وهم يتعجبون من خلفها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فافرجوا عنها ، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((ما كانت هذه لتقاتل فقال لأحدهم الحق خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا)) (1) . رواه أحمد وأبو داود وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلًا صغيرًا ولا امرأة ، ولا تغلوا وضحوا غنائمكم ، واصلحوا واحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [رواه أبو داود] .
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: ((اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع)) .
وعن ابن كعب بن مالك عن عمه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان)) وعن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوا الذرية في الحرب ، فقالوا: يا رسول الله أو ليس هم أولاد المشركين؟ قال: أو ليس خياركم أولاد المشركين)) [رواه أحمد](2) .
(1) العسيف: الأجير
(2)
نيل الأوطار، للشوكاني 8/ 71، و72
وبعد ذكر الشوكاني لهذه الروايات يذكر ما يخالفها ثم يوجه الروايات ويستخلص ما يتفق مع ما ذكرناه فيذكر رواية سمرة عن أحمد والترمذي وصححه بلفظ ((اقتلوا شياخ المشركين واستحيوا شرخهم)) ويقول الشوكاني: وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان وإلى ذلك ذهب مالك والأوزاعي فلا يجوز ذلك عندهما بحال من الأحوال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم، ذهب الشافعي والكوفيون إلى الجمع بين الأحاديث المكذورة ، فقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها، وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إذا باشرت القتل أو قصدت إليه ويدل على هذا ما رواه أبو داود في المراسيل عن عكرمة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين ، فقال:من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي ، فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها. فلم ينكر عليه رسول الله)) صلى الله عليه وسلم ووصله الطبراني في الكبير وفيه حجاج بن أرطأة وأرسله ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يحيى الأنصاري، ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان ، إما النساء فلضعفهن وأما الولدان فلقصورهن عن فعل الكبار، ولما في استبقائهم جميعًا من الانتفاع إما بالرق أو الفداء فيمن يجوز أن يفادي به، قال في الفتح: وقد حكى الحازمي قولًا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر (1) حديث الصعب وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب.
كما يذكر الشوكاني رحمه الله ما يستخلص من ذكر العسيف في الأحاديث أنه لا يجوز قتل من كان مع القوم أجير أو نحو لأنه من المستضعفين. (2) ولكن إذا سلك الأعداء في هذه الأيام مسلك استيجار المرتزقة للقتال فإنهم ـ دون شك ـ يخرجون عن هذا الحكم لأنهم يستأجرون لمباشرة القتال.
(1) نيل الأوطار: 8/ 73
(2)
نيل الأوطار: 8/ 73
ويقول الشوكاني: قوله: لا تقتلوا شيخًا فانيًا؛ ظاهره أنه لا يجوز قتل شيوخ المشركين، ويعارضه حديث: اقتلوا شيوخ المشركين الذي ذكرناه ، وقد جمع بين الحدثين بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الأول هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة على المسلمين وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله ((شيخًا فانيًا)) والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصمة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله أبو عامر، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى.
قال أحمد بن حنبل في تعليل أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الشيوخ: إن الشيخ لا يكاد يسلم ، والصغير أقرب إلى الإسلام.
وفي كلام الشوكاني عن أصحاب الصوامع يقول: فيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان متخليًا للعبادة من الكفار كالرهبان لإعراضه عن ضر المسلمين، والحديث وإن كان فيه مقال لكنه معتضد بالقياس على الصبيان والنساء بجامع عدم النفع والضرر وهو المناط ولهذا لم ينكر صلى الله عليه وسلم على قاتل المرأة التي أرادت قتله، ويقاس على المنصوص عليهم بذلك الجامع من كان مقعدًا أو أعمى أو نحوهما ممن كان لا يجرى نفعه ولا ضره على الدوام (1) .
وعلى ذلك يكون حرص الإسلام على تحجيم سفك الدماء وقصر هذا على الفئة المباشرة للقتال فحسب، وإذا جنحت للسلم جنح المسلمون وتوقف القتال كما سبق ذكره.
(1) نيل الأوطار: 8/ 74، وانظر: وصية عمر رضي الله عنه في ذلك في الأموال: ص 37؛ والمغني: 8/ 477، وقوله في الفلاحين:"اتقوا الله في الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب" سنن البيهقي: 9/ 91. وانظر موسوعة فقه عمر: ص 236
ثالثًا ـ ومن أسباب تحجيم سفك الدماء كذلك وحقن الدماء ما اشترطه الإسلام من توجيه الدعوة أولًا قبل القتال ، فإن استجابوا جميعًا أو استجاب بعضهم فقد عصم دمه ، ولذلك يذكر ابن رشد القرطبي شرط الحرب وأنه بلوغ الدعوة، ويحكي الاتفاق على هذا، ويفسر ذلك بقوله "أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجتمع عليه بين المسلمين؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) .
ودليل ذلك رواية ابن عباس قال: ((ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا قط إلا دعاهم)) [رواه أحمد] .
وكذلك رواية سليمان بن بريد عن أبيه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا ، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: أو خلال، فأيهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم؛ ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإنه هم أبوا فلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم، وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا.)) [رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه](2) .
(1) بداية المجتهد: 1/ 386
(2)
نيل الأوطار: 8/ 51، و 56
ولقد حقق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في سيرهم العملي أخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عمر رضي الله عنه يقول لسلمة بن قيس: "سر باسم الله، فقاتل في سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم من فيء المسلمين نصيب، فإن اختاروا أن يكونوا معكم ـ أي في عداد المجاهدين ـ فلهم مثل الذي لكم ـ أي من العطاء ـ وعليهم مثل الذي عليكم، فإن أبوا ـ أي الدخول في الإسلام ـ فادعوهم إلى إعطاء الجزية، فإن أقروا بالجزية فقاتلوا عدوهم من ورائهم، وفرغوهم لخراجهم، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن أبوا ـ أي دفع الجزية ـ فقاتلوهم، فإن الله ناصركم عليهم، وإن تحصنوا منكم في الحصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تنزلوهم على حكم الله ولا حكم رسوله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإن سألوكم أن تنزلوهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، واعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ". (1) .
وأما ما ذكر من رواية نافع عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون)) فإنه جعل في المسألة ثلاثة مذاهب يحسن الإشارة إليها:
الأولى: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه، وبه قال مالك وغيره، وظاهر الحديث معهم.
المذهب الثاني: أنه لا يجب مطلقًا ويستدل أصحاب هذا المذهب بحديث نافع عن ابن عمر وغيره (2) .
المذهب الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث (3) .
وعلى كل حال فإن تقديم الدعوة أولًا سواء على جهة الوجوب لمن لم تبلغه أو الاستحباب لمن بلغته يدل على حرص الإسلام على تجنب سفك الدماء بالقتال.
(1) الخراج، لأبي يوسف: ص 230، وانظر موسوعة فقه عمر بن الخطاب د. محمد رواس قلعجي: ص 233
(2)
راجع نيل الأوطار: 8/ 55، و 56
(3)
راجع نيل الأوطار: ص 53، وانظر بداية المجتهد: 1/ 387
رابعًا: فإن لم يستجب الأعداء إلى الدعوة وأصروا على القتال فإن الإسلام في هذه الحالة يحجم سفك الدماء بما يشرعه من كتمان الأمر والتورية وغير ذلك من الأمور التي تحقق المفاجأة للعدو ومُسَلِّم أمره بلا إسراف في سفك الدماء؛ لهذا جاء عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها)) [متفق عليه وهو لأبي داود وزاد: والحرب خدعة] .
وعن جابر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحرب خدعة)) ، وعن أبي هريرة قال:((سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة)) ، وعن جابر قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بخبر القوم؟ يوم الأحزاب ، فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير)) متفق عليه.
وعن أنس قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسًا (1) عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء فحدثه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا. فجعل رجال يستأذنون في ظهرهم في علو المدينة ، فقال: لا إلا من كان ظهره حاضرًا. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا ركب المشركين إلى بدر)) [رواه أحمد ومسلم] .
ولقد أخذ ابن المنير من هذه الأحاديث هذا المعنى فقال: معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر المواجهة ولحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر. (2)
وبهذه العناصر وغيرها يحقق الإسلام غايته في حقن الدماء، فلا سفك منها إلا ما يضطر إليه إحقاقًا للحق وإعلاء لكلمة الله سبحانه.
(1) انظر نيل الأوطار: 8/ 58
(2)
نيل الأوطار: 8/ 57، و 58
الفصل الثالث
خلق الجهاد في الإسلام
ولقد أقام الإسلام نظامه الخلقي الذي يتناول السلم والحرب حيث جعل التخلق بمكارم الأخلاق غاية من الغايات التي بعث من أجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فليست الأخلاق في الإسلام أمرًا ثانويًّا بل هي أساس من أسس هذا الدين كما أن الإسلام لم يربط التخلق بمكارم الأخلاق بحصول المنفعة منها ، بل التحلي بها واجب في كل وقت وعلى كل حال ، ثم حث الإسلام على الترقي في درجات الكمال الخلقي حتى يحسن المسلم الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، والذي وصف بقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
وتتجلى في الجهاد مجموعة من الصور الخلقية التي يحتاجها الموقف ومنها ما يتعلق بالقادة ومنها ما يتعلق بالجند وهذه الصورة تنسجم مع نظرة الإسلام للجهاد، واعتبار المجاهدين يقومون بأشرف الأعمال وأعظمها ويقدمون في سبيلها أنفسهم وأموالهم.
فمن هذه الصور الخلقية التي تتعلق بالقادة:
ـ رفق القائد بجنده ونصحه لهم ومشاورته لجيشه، وهذه الأخلاق تجعل القائد قريبًا من جنده يحبهم ويحبونه ويأمرهم ويطيعونه، كما تعطي صورة حقيقة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدعوة التي جاء المجاهدون لإعلائها ، وهذا يغري الأعداء بالتفكير في شأن هذا الدين والإقبال عليه ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمًا بتوجيهاته وسنته العملية في هذا الخلق ، فعن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه ، فقام سعد بن عبادة فقال: "إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا)) [رواه أحمد ومسلم] .
وعن أبي هريرة قال: ((ما رأيت أحدًا قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)[رواه أحمد والشافعي] .
ففي هذا تعليم من الرسول الكريم للقادة في المشاورة وعملًا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}
وعن معقل بن يسار قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) [متفق عليه] .
فهذا تحذير من رذيلة خلقية وهي الغش للرعية ليكون محلها النصح للرعية.
وفي لفظه: ((ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة)) [رواه مسلم] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فأرفق به)) [رواه أحمد ومسلم] .
وفي هذا الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم ترغيب وترهيب في رفق القائد بالأمة وبعده عن المشقة عليهم.
وفي السيرة العملية للرسول القائد صلى الله عليه وسلم يأتي ما رواه جابر رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم)) [رواه أبو داود] .
وعن سهل بن معاذ عن أبيه قال: ((غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًّا فنادى من ضيق منزلًا، أو قطع طريقًا فلا جهاد له)) [رواه أحمد وأبو داود](1) .
(1) نيل الأوطار للشوكاني: 8/ 45 ـ 48
ومن حرص القائد على جنده أن يحافظ عليهم وألا يوردهم موارد الهلكة ، وأن يتخذ لكل أمر عدته حتى لا يزج بجيشه فيما يغلب فيه الهلاك.
فعن أنس أن عمر سأله: إذا حاصرتم المدينة كيف تصنعون؟ قال: "نبعث الرجل إلى المدينة، ونصنع له هيئة من جلود، قال: أرأيت إن رمى بحجر؟ قال: إذن يقتل، قال: فلا تعقلوا فوالذي نفسي بيده ما يسرني أن تفتحوا مدينة فيها أربعة آلاف مقاتل بتضييع رجل مسلم ". (1) .
وروى زيد بن وهب قال: خرج عمر ويداه في أذنيه وهو يقول: يا لبيكاه.. يا لبيكاه.. قال الناس: ماله؟ قال: جاءه بريد من بعض أمرائه أن نهرًا حال بينهم وبين العبور، ولم يجدوا سفنًا، فقال: أميرهم: اطلبوا لنا رجلًا يعلم غور الماء فأتى شيخ ، فقال: إني أخاف البرد ـ وذلك في البرد ـ فأكرهه فأدخله الماء، فلم يلبثه البرد فجعل ينادي: يا عمراه يا عمراه.. فغرق، فكتب عمر، إلى القائد فأقبل، فمكث أيامًا معرضًا عنه، وكان إذا وجد على أحد أعرض عنه، ثم قال: ما فعل الرجل الذي قتلته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما تعمدت قتله، لم نجد شيئًا نعبر فيه، وأردنا أن نعلم غور الماء ففتحنا كذا.. وكذا.. وأصبنا كذا وكذا.. فقال عمر:"لرجل مسلم أحب إلي من كل شيء جئتَ به". (2) .
ـ ومن رفق القائد بجنده ألا يحبس جنديًّا عن أهله أكثر من أربعة أشهر ، ولقد اتخذ عمر هذا الموقف لما سمع امرأة ذات ليلة تنشد:
تطاول هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره لززع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فسأل عمر النساء: كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفذ الصبر. فكتب إلى أمراء الأجناد: لا تحبسوا رجلًا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر (3)
(1) سنن البيهقي: 9/ 42
(2)
سنن البيهقي: 8/ 323
(3)
المغني: 7/ 301، وسيرة عمر، لابن الجوزي: ص 71؛ وموسوعة فقه عمر: ص 236
وإذا كان القائد على هذا المستوى من النصح والرفق والمشورة فإن مما يرتبط بهذا ارتباطًا وثيقًا ما يتعلق بخلق الجند فيما يلي:
ـ الطاعة للقائد: وطاعة الجند خلق لا بد منه فيما يحب الجندي وفيما يكره، إلا إذا أمر بمعصية، فإن القاعدة لا تتخلف فلا طاعة لملخوق في معصية الخالق سبحانه.
وفي تدعيم هذا الخلق جاء حديث معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله ، وأما من غزا فخرًا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف)) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي] .
وفي تعظيم خلق الطاعة للأمير والقائد يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخلق من طاعته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)) متفق عليه.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
قال: "نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية"[رواه أحمد والنسائي] .
((وعن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار ، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شيء فقال: اجمعوا لي خطبًا فجمعوا ، ثم قال: أوقدوا لي نارًا فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا وقال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)) [متفق عليه](1) .
(1) نيل الأوطار، للشوكاني: 8/ 49
ـ الصبر والمصابرة والثبات وعدم الفرار:
وهذه من الأخلاق التي لا غنى عنها لدى المجاهدين؛ لأنهم يواجهون عدوًّا قد يكون أكثر عددًا وأقوى ، من أجل ذلك كان الأمر الصريح بهذه الأخلاق في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
بل إن الإسلام يعد نفاد الصبر والتولي يوم الزحف من الموبقات التي يحذر منها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ، فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين، ثم نزلت:{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية فكتب أن لا تفر مائة من مائتين [رواه البخاري وأبو داود] .
وعن ابن عمر قال: " كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاص الناس صيصة (2) . وكنت ممن صاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل الصلاة الغداة، فخرج فقال: ((من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون (3) أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: "فأتيناه حتى قبلنا يدهط)) [رواه أحمد وأبو داود](4) .
وهذا الشعور من هؤلاء يدل على أن خلق الثبات والصبر وعدم الفرار صار من أخلاق المجاهدين من أصحاب النبي رضوان الله عليهم.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي بالصبر والمصابرة فكتب إليه أبو عبيدة بن الجراح يذكر له جموعًا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجًا، وأنه لن يغلب عسر يسرين، وأن الله يقول في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وقال عمر: "إذا لقيتم فلا تفروا ". (5) .
وكتب إلى عامل له: ثلاثٌ من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف، والنهي (6) .
ولكن لا يعد من الفرار التحيز إلى فئة، والذي ذكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((أنا فئتكم)) ، فإذا وجد القائد أو المجاهد أن الانسحاب إلى مكان آخر لمعاودة القتال بصورة أحسن وأقوى فليس هذا من الفرار، وهذا يمثل الاستثناء المذكور في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (7) .
وقد استعمل عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي على جيش، فخاض معركة غير متكافئة مع العدو، وظن أن انسحابه منها هو الفرار من الزحف، فاستمر فيها، فقتل هو وجيشه في أرض فارس، فقال عمر: رحم الله أبا عبيد، لو كان تحيز إلي لكنت له فئة. (8) وقبل ذلك فعل خالد بن الوليد يوم مؤتة فلم يعده الرسول صلى الله عليه وسلم فارًّا من الزحف.
ـ الظهور بالقوة مع عدم الغرور: وذلك لإرهاب أعداء الله:
فعن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الغيرة ما يحب الله ، ومن الغيرة ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله ، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير الريبة، والخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل بنفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، والخيلاء التي يبغض الله فاختيال الرجل في الفخر والبغي)) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي](9) .
فإذا كان الاختيال لتحقيق الرهبة، عند العدو وتنشيط المجاهدين فهذا من الخلق المطلوب في الجهاد، ومنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة رضي الله عنه لما رآه يختال عند القتال:((إن هذه مشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن)) (10) .
(1) سورة آل عمران: الآية 200
(2)
أي حادوا حيدة
(3)
إذا حاد الإنسان عن الحرب، ثم عاد إليها يقال قد عكر، وهو عاكر وعكار ـ انظر: القاموس مادة عكر؛ ونيل الأوطار: 8/ 80
(4)
الموطأ: 2/ 446
(5)
المحلى: 7/ 294، وموسوعة فقه عمر: ص 234
(6)
سنن البيهقي: 3/ 169
(7)
سورة الأنفال الآيتان 15، و 16
(8)
مصنف عبد الرزاق: 5/ 251؛ والمغني: 8/ 485؛ وموسوعة فقه عمر: ص 235
(9)
نيل الأوطار: 8/ 68
(10)
نيل الاوطار: 8/ 68
ـ الرحمة ومظاهرها:
والمجاهد الذي خرج لإعلاء كلمة الله تتجلى أخلاقه في كل وقت، وخاصة في أوقات الشدة التي ترتكب فيها الحرمات، فإذا كان القتال مصحوبًا بسفك الدماء، فإن خلق المجاهد في سبيل الله الرحمة؛ لأنه لا يحب سفك الدماء ـ كما سبق ـ بل يضطر إليه اضطرارًا للحفاظ على حياة الآخرين في أمن وسلام. ولذلك لا يتخلى عن الرحمة التي تمثل خلقًا عامًا له في وقت الحرب، ومن مظاهر هذه الرحمة عدم المثلة والتحريق، وقطع الشجر، وهدم العمران إلا لحاجة.
فعن صفوان بن عسال قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ، فقال: سيروا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا)) [رواه أحمد وابن ماجه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا - لرجلين - فاحرقوهما بالنار. ثم قال حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)) [رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وصححه] .
وعن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام فخرج جيش مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع ، فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تعقرن نخلًا ولا تحرقه ، لا تغلل، ولا تجبن [رواه مالك في الموطأ عنه](1) .
(1) نيل الأوطار: 8/ 74
ـ الوفاء بالعهود والمواثيق:
وإذا أبدى العدو رغبته في الصلح فعلى المجاهدين أن يقبلوا الصلح ـ كما أشرنا ـ وعليهم الوفاء بما تم التعاهد عليه، قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1) .
وإذا خاف المجاهدون من عدوهم خيانة فلا ينقضون عهدهم بل عليهم أن يخبروهم بانتهاء العهد الذي بينهم وبين عدوهم قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (2) .
ـ الشكر مع النصر وعدم اليأس عند الهزيمة ومحاسبة النفس فالمجاهد يعلم أن النصر من عند الله عندما يجعل المجاهد نفسه على المستوى الذي يؤهله لنصر الله استجابة لأمره وطاعة له واستغاثة به، وإعلاء لكلمته، وإخلاصًا في توجيهه، فإذا نصره الله شكر ولم يتكبر، وراقب نفسه وحاسبها حتى تظل على نقائها.
وإذا ابتلي بالهزيمة لتقصير وقع فيه، فإنه يحاسب نفسه أيضًا، ويستدرك أمره، ويثوب إلى رشده، ويجمع شمله ويتوكل على الله في جولة أخرى.
فهكذا يكون خلق المجاهد في الحالتين، وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقدم دليلًا على ذلك ما حدث في بدر وأحد.
ففي بدر كانت النتيجة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) .
(1) سورة النحل: الآية 91
(2)
سورة الأنفال: الآية 58
(3)
سورة آل عمران: الآية 123
ومع النصر ومع الشكر كان التوجيه القرآني الكريم الذي يعينهم على محاسبة النفس فكشف القرآن الكريم لهم ما كانوا يودونه من الحصول على أموالهم التي أخذها المشركون في مكة قبل الهجرة ، والأَوْلَى أن يجردوا خروجهم لكي يكون إعلاء لكلمة الله فحسب، وإحقاق الحق، وقطع دابر الكافرين، قال تعالى:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (1) .
وكان التوجيه لهم كذلك بعد المعركة في تقسيم الأنفال، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرًا فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون ، وأكبت طائفة على الغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا.. نحن نحينا منها العدو وهزمناه. وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه عثرة فاشتغلنا به. فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، فقسمها رسول الله بين المسلمين)) (2) .
وفي الموقف من الأسرى ((استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليًا فقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة، والإخوان، وأني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأي أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان ـ أخيه ـ فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولهم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء قد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ـ شجرة قريبة ـ وأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} )) (3) .
فكانت المحاسبة التي تدعو إلى معاقبة هؤلاء الكفار على أنهم مجرمو حرب لهم من الجرائم ما يستوجب القتل، وليس الفداء.
(1) سورة الأنفال: الآية 7
(2)
حديث صحيح أخرجه أحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وانظر فقه السيرة، للأستاذ الغزالي: ص 252
(3)
سورة الأنفال: الآيتان 67، و 68 والحديث صحيح أخرجه مسلم وأحمد والبيهقي من حديث عمر ـ وانظر فقه السيرة، للغزالي: ص 254
وأما أُحد فإن حدوث الإنكار نتيجة المخالفة من الرماة مع ما كان من موقف المنافين جعل المحاسبة مع التماسك النفسي يؤدي إلى معالجة الأمر والنهوض من الكبوة، وعالج القرآن الكريم كذلك هذه الكبوة بما يعينهم على النهوض والانتفاع مما وقع بهم فكان قوله تعالى في ذلك:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
وكان ذلك بيانًا لما وقع من الرماة.
، فكان مسحًا للأحزان ودفعًا إلى الأمام.
وقال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (3) .
ولما عجب المسلمون للكارثة وقد كانوا متقومين كان التنبيه على ما بدر من بعضهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) .
ولذلك بعد أن حدث ما حدث من انكسار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد تنظيم رجاله على عجل وأن يتحامل الجريح مع السليم على تكوين جيش جديد يخرج في أعقاب قريش ليطاردها ويمنع ما قد يجد من تكرار عدوانها ، فكانت معركة أحد في يوم السبت لخمسة عشر من شوال، وكان خروج هذا الجيش في الأحد لستة عشر منه، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا "حمراء الأسد".
وعسكر المسلمون بحمراء الأسد وفكر المشركون في القتال، ولكنهم آثروا النجاة بأنفسهم وعادوا إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها أرفع رؤوسًا وأعز جانبًا (5) .
(1) سورة آل عمران: الآية 152
(2)
سورة آل عمران: الآيات 137 ـ 139
(3)
سورة آل عمران: الآية 140
(4)
سورة آل عمران: الآية 165
(5)
انظر تفصيل ذلك في فقه السيرة، للغزالي: 291، و 292
(6)
سورة آل عمران: الآيات 172 ـ 174
ـ ومن الأخلاق الجامعة التي لا غنى للمجاهد عنها الطاعة الكاملة لله ورسوله والتنزه عن المعاصي التي تكون سببًا في سخط الله وغضبه. وقد تنبه القادة المسلمون إلى أهمية هذا الخلق فأوصوا به جيوشهم فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد فيقول: "أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعملوا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لمّا عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولًا، اسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم ، أسأل الله ذلك لنا ولكم"(1) .
الجهاد والإرهاب:
وإذا كان الجهاد في الإسلام ملتزمًا بهذا الخلق الكريم في الطاعة والرحمة بمظاهرها من عدم المثلة والكف عن المرأة والصبي والراهب ومن لا يباشر القتال، والمحافظة على العمران، وإذا كانت غايته إعلاء كلمة الله التي يتحقق بها الأمن والسلام الحقيقي لجميع البشر ، فكيف يقرن الجهاد بالإرهاب بالمعنى الذي يكون معه من التخريب والفساد في الأرض؟!
إن الإرهاب المذكور مع إعداد القوة هو ـ كما بينا ـ إرهاب أعداء الله المفسدين في الأرض، وليس الإرهاب الذي يعيث في الأرض فسادًا، ويهلك الحرث والنسل، فإن الله سبحانه لا يحب الفساد، وما شرع الجهاد إلا لدفع الفساد.
(1) فقه السنة، للأستاذ سيد سابق: 2/ 642
الفصل الرابع
الآثار المترتبة على الجهاد
وإذا وضعت الحرب أوزارها فإنها تنتج مجموعة من الآثار التي تتصل بالمجاهدين والمحاربين، وسيرًا على قواعد الحق والعدل التي أرساها الإسلام وجدنا فقهاؤنا وعلماءنا قد وضعوا لها المصطلحات المناسبة وعالجوا فيها ما لنا وما علينا، ولذلك سنذكر من هذه الآثار ما يتعلق بالمصطلحات الآتية:
دار الإسلام، ودار الحرب.
والمعاهدون وما يجب عليهم من واجبات ليستمتعوا بما لهم من حقوق.
والهدنة والأمان الحربي والصلح، والغنائم وأحكامها (الأموال المنقولة ـ الأسارى ـ الأرض) ، وتوجيهات الإسلام في حالة وقوع الهزيمة بالمسلمين.
دار الإسلام ودار الحرب:
الدنيا كلها ـ كما يذكر الإمام الشافعي رحمه الله بحسب الأصل دار واحدة (1) . وأرض الله الواسعة لخلق الله جميعًا واحدة، لا يحظر على أحد مكان منها إلا بسبب يوجب ذلك ـ على ما فصل في أبواب الفقه.
فالكفر من الأسباب التي تجعل من بلاد الإسلام تجاه الكفار ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الحرم فلا يدخله الكافر ذميًّا كان أو مستأمنًا ودليل ذلك قوله: {يا أيها الذين آمنواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2)
وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك. وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم بإذن الإمام أو الخليفة أو نائبه في الحكم، ويقيم فيه مقام المسافر ولا يستوطنه.
ويجوز عند أبي حنيفة دخول الواحد منهم الكعبة (3)
القسم الثاني: الحجاز: ولا يجوز لأحد منهم سكن الحجاز ، وبهذا قال مالك والشافعي ، إلا أن مالكًا قال: أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)) .
وروى أبو داود بإسناده عن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلا أترك فيها إلا مسلمًا)) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء؛ قال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالث)) [رواه أبو داود] .
وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز ، وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عدن طولًا، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا، وقال أبو عبيدة: هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولًا ومن رمل برين إلى منقطع السماوة عرضًا.
قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة: لأن بحر الجيش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب؛ لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها.
وقال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها. يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها. وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها.
وما والاها، وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلو من تيماء ولا من اليمن، وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخرجوا اليهود من الحجاز)) فأما إخراج أهل نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده، فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازًا لأنه حجز بين تهامة ونجد ، ولا يمنعون ـ أيضًا ـ من أطراف الحجاز كتيماء وفيد ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك.
(1) انظر تأسيس النظر، للدبوسي: ص 58، وانظر العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي: ص 104
(2)
سورة التوبة: الآية 28
(3)
ـ أيضًا ـ[فقه السنة 2/ 670 و 671 وانظر المغني لابن قدامة 8/ 531] .
ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة؛ لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة فقال: أنا الشيخ النصراني، وإن عاملك عشرني مرتين. فقال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. وكتب له عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة. ولا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام على ما روي عن عمر رضي الله عنه، ثم ينتقل عنه. وقال القاضي: يقيم أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الإذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام، وإذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة؛ لأنه يشق الانتقال على المريض وتجوز الإقامة لمن يمرضه؛ لأنه لا يستغني عنه، وإن كان له دين على أحد وكان حالًا أجبر غريمه على وفائه ، فإن تعذر وفاؤه لمطل أو تغيب عنه فينبغي أن يمكن من الإقامة ليستوفي دينه؛ لأن التعدي من غيره، وفي إخراجه ذهاب ماله، وإن كان الدين لم يكن من الإقامة، ويوكل من يستوفيه له؛ لأن التفريط منه، وإن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته، احتمل أن يجوز؛ لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله، وذلك مما يمنع من الدخول بالبضائع إلى الحجاز فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم، ويحتمل أن يمنع من الإقامة؛ لأن له من الإقامة بدًّا، فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز، ويقيم فيه أيضًا ثلاثة أيام أو أربعة الخلاف فيه، وكذلك إذا انتقل فيه إلى مكان آخر جاز ولو حصلت الإقامة في الجميع شهرًا ، وإذا مات بالحجاز دفن به؛ لأنه يشق نقله، وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى. بالمغني لابن قدامة: 8/ 529 و 531] .
ولا يخفى ما في هذه الأحكام من سماحة وحرص على تحقيق المصالح، وتأكيد لإقرار الإسلام لمبادئ الحق في العلاقات بين الناس.
القسم الثالث: سائر بلاد الإسلام، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز دخولها لهم من غير إذن. وقال مالك وأحمد: لا يجوز لهم الدخول بحال (1) .
ومن هذه الأسباب قيام الحرب، وما يتبعها من آثار فيحظر على المسلم أن يقيم في دار فيها القتال بينهم وبين المسلمين لما يترتب على ذلك من تعريضهم للمخاطر والقتل، فعن جرير بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم العقل، وقال: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا يا رسول الله: ولم؟ قال: "لا تتراءى ناراهما")) [رواه أبو داود والترمذي وأخرجه أيضًا ابن ماجه ورجال إسناده ثقات ولكن صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم ورواه الطبراني موصولًا] .
ومعنى "لا تتراءى نارهما" يعني لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الأبصار لأبصرت الأخرى (2) .
(1) انظر فقه السنة: 2/ 672
(2)
نيل الأوطار: 8/ 176، و 1772
فإذا كان وجود المسلم في دار يكون مستضعفًا فيها أو معرضًا للفتنة، أو معرضًا للقتل حظرت عليه هذه الدار، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . الآية.
فهذا في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها. إلا أن الماوردي رحمه الله يرى أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام. (1) .
فالماوردي نظر إلى المقيم على أنه من الدعاة وعلى ذلك لم يره مخالفًا للنهي عن الإقامة في دار الكفر.
وعلى هذا نجد تقسيم العلماء للأرض على القسمين: دار الإسلام ودار الحرب نشأ من الآثار المترتبة على وقوع الحرب.
فأما دار الإسلام فيقصد بها البلاد التي تحكم بالإسلام، وتظهر فيها شعائره ويأمن فيها المسلمون.
ومثل هذه الدار يحافظ عليها ويرد العدوان عنها بالجهاد باعتباره فرض كفاية أو فرض عين (2) .
وأما دار الحرب فهي البلاد التي لا تحكم بالإسلام ولا تظهر فيها شعائره ، فالسلطان فيها لغير المسلمين.
وينشأ كذلك من آثار الحرب وجود دار ثالثة تسمى بدار العهد: وهي الدار التي لم يظهر عليها المسلمون حتى تطبق فيها أحكام الإسلام ، ولكن أهلها دخلوا في عقد المسلمين وعهدهم على شرائط تشترط وقواعد تعيّن فهذه تسمى بدار العهد (3) .
وهي دليل على ما قررناه ـ من أن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه ، وأن الجهاد لإزالة المعوقات التي تقف في طريق نشر الدعوة أمام العالمين وتبليغها.
(1) نيل الأوطار: 8/ 18
(2)
انظر العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي: ص 104، و 105
(3)
انظر العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي: ص 107
والذي ينظر فيما اتجه إليه الإسلام في معاملة المعاهدين يتأكد من هذا المعنى ، لقد فصل الإسلام في الحقوق والواجبات التي تتعلق بالمعاهدين على النحو التالي:
أولًا: التحذير من نقض العهود بصورة عامة.
وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (2) .
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)) [متفق عليه] .
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)) [رواه أحمد ومسلم] .
يقول الشوكاني معلقًا على الحديثين: "وفي حديث أنس وحديث أبي سعيد دليل على تحريم الغدر وغلظه لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير؛ ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء، قال القاضي عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام إذا غدر في عهود لرعيته أو لمقابلته أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها فمن حاف فيها أو ترك الرفق فقد غدر بعهده.."(3) . فالغدر ونقض العهد من الأخلاق المذمومة والتي حذر الإسلام منها بصورة عامة.
(1) سورة النحل: الآية 91
(2)
سورة الأنفال: الآية 58
(3)
نيل الأوطار: 8/ 180، و 181
ثانيًا: المعاهدون الذين قبلوا شروط المسلمين ودخلوا في الطاعة قبل الحرب أو أثناء الحرب يعاملون طبقًا لشروط الصلح التي أبرمت معهم ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لعلكم تقاتلون قومًا فتظاهرون عليهم ، فيتقونكم بأموالكم دون أنفسهم وأبنائهم)) .
وفي حديث آخر: ((فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم)) (1) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهدًا ، أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) [رواه أبو داود](2) .
وكما يذكر الأستاذ المودودي تعليقًا على الحديثين: "وألفاظ هذين الحديثين ألفاظ عامة تستنبط منها حكم عام ، وهو: لا يجوز أبدًا الإخلال بأية شروط تم الاتفاق عليها في المعاهدة المبرمة مع أي معاهد ذمي، ولا يمكن زيادة الضرائب عليه أو الاستيلاء على أرضه، أو سلب داره، ولا يمكن تطبيق قوانين عسكرية عليه، أو التدخل في دينه، أو المساس بشرفه ، ولا يمكن ارتكاب أي عمل يدخل في حدود الظلم كالانتقاص من قدره أو تحميله ما لا يطاق"(3) .
وهذه نماذج من المعاهدات التي تبين ما للمعاهدين وما عليهم، فهذه معاهدة نجران وقعت حين دخل العرب جميعًا في الإسلام، وخشي أهل نجران على أنفسهم ، فأرسلوا سيدهم يطلب الصلح فعقدت معه تلك المعاهدة، وجاء فيها بعد أن حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مقدار الخراج:((ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم، وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم (الصلبان والصور وغيرها مما هو موضوع في الكنائس) لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حقًّا من حقوقهم وأمثلتهم، لا يفتن أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا دهقان عن دهقانيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية ، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش ، من سأل منهم حقًّا فبينهم النَّصَف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران ، ومن أكل منهم الربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة ، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي أبدًا حتى يأتي أمر الله ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم)) (4) .
(1) أبو داود كتاب الجهاد، انظر شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية، للمودودي: ص 213و 214
(2)
الخراج: ص 35؛ وأبو داود كتاب الجهاد، انظر شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية: للمودودي: ص 214
(3)
انظر شريعة الإسلام في الجهاد، للمودودي: ص 214
(4)
شريعة الإسلام في الجهاد، للمودودي: ص 215
وهذه المعاهدة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه عقدها خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة ، قرر فيها خراجًا سنويًّا قدره ستون ألف درهم على جميع السكان ، تصرف على المحتاجين والفقراء ، ثم عشرة دارهم على كل شخص من بقية السكان ، وفي المقابل ذلك تتعهد الحكومة الإسلامية بما يلي:-
" لا تهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصر من قصورهم التي كانوا يتحصنون فيها إذا نزل بهم عدو لهم، ولا يمنعون من ضرب النواقيس ، ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم". (1)
ويقول الإمام أبو يوسف: أن عمر رضي الله عنه قد نفذ هذه المعاهدة (2)
. وهذه المعاهدة أبرمها عمر رضي الله عنه مع أهل القدس؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريِّها وسائر ملتها ، ألا يسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينتقص منها ، ولا من خيرها ، ولا من صلبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دنيهم ، ولا يضر أحد منهم ، وهذا نص معاهدة التي أبرمها عمر رضي الله عنه مع أهل دمشق: " أعطاهم أمانًا على أنفسهم وعلى أموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم ، لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم، ولهم بذلك عهد الله وذمة رسوله
…
لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية ". هذه معاهدة أخرى عقدها خالد بن الوليد من أهل عاتات: " لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ، وعلى أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلاة ، وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم".
والمعاهدة التي عقدها أبو عبيدة مع أهل بعلبك جاء فيها: "هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها ، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم ، داخل المدينة وخارجها ، وعلى أرحامهم.. من أسلم فله ما لنا وعليه ما علينا ، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها ، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج ".
وكتب حبيب بن مسلمة في معاهدة الصلح مع أهل دبيل: " هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لنصارى أهل دبيل ومجوسها ويهودها ، شاهدهم وغائبهم؛ أني أمنتكم على أنفسكم وأموالكم ، وكنائسكم وبيعكم وسور مدينتكم ، فأنتم آمنون ، وعلينا الوفاء لكم بالعهد ما وفيتم وأديتم الجزية والخراج ".
وكتب حذيفة بن اليمان في معاهدة الصلح مع أهل أذربيحان: (الأمان على أنفسهم وأموالهم وملكهم وشرائعهم) .
وكتب حذيفة كذلك ـ في معاهدة الصلح مع أهل جرجان: " مد لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وملكهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك"(3) .
(1) انظر شريعة الإسلام في الجهاد للمودودي ص216
(2)
انظر شريعة الإسلام في الجهاد للمودودي ص84
(3)
انظر المعاهدات في شريعة الإسلام للمودودي: ص 216 و 217
فهذه المعاهدات تنطبق بما ألزم الإسلام به أتباعه من الوفاء بالعهد ، وأن ما يشترط في المعاهدات هو الحق والعدل والمساواة ، وليس فيها إلا ما يغري من به عقل باتباع الحق والدخول في دين الله ليغمر الجميع بعدله وسماحته. ونستطيع أن نجعل ما جعله الإسلام من حقوق المعاهدين إذا نصحوا ووفوا والتزموا فيما يلي:
1 ـ حماية النفس والمال من أي اعتداء سواء من المسلم أو غيره، ووفاء الخليفة المسلم بذلك ، فهذا عمر كان بالجابية وأتاه رجل من أهل الذمة يخبره أن الناس قد أسرعوا في عنبه ، فخرج عمر حتى لقي رجلًا من أصحابه يحمل ترسًا عليه عنب، فقال عمر: وأنت أيضًا؟! فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا مجاعة، فانصرف عمر، فأمر لصاحب الكرم بقيمة عنبه. (1)
2 ـ إذا غزا العدو بلاد المسلمين فغنم شيئًا من أموال أهل الذمة ثم أظهر الله المسلمين على عدوهم واستردوا هذه الأموال فعليهم إعادتها إلى أصحابها من أهل الذمة دون مقابل. (2)
3 ـ لهم الحق في المحافظة على عقائدهم الدينية وممارسة عباداتهم، وعلاقاتهم الشخصية بينهم كالزواج وغيره حسب دياناتهم (3)
4 ـ لهم أن يمارسوا من عاداتهم ما لا يتعارض مع آداب الإسلام العامة ، فعن عبد الله بن قيس قال: كنت فيمن تلقى عمر مقدمه من الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلسون ـ وهم الذين يلعبون بلعبة لهم بين يدي الأمراء إذا قدموا إليهم ـ من أهل أذرعات بالسيوف والريحان، فقال عمر: صه، ردوهم وامنعوهم. فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم، وإنك إن تمنعهم منا يروا أن في نفسك نقضًا لعهدهم. فقال عمر: دعوهم. (4)
ويظل لهم الوفاء بما كلفه الإسلام من هذه المعاملة الكريمة ما لم ينقضوا عهدهم بأمر من الأمور التي تدل على تمرد ونكوص عن أداء ما يجب عليهم من حق مالي للدولة، أو تنفذ ما يحكم به الحاكم، أو الاجتماع على قتال المسلمين منهم، أو بالتظاهر مع أهل الحرب، أو الغدر، أو انتهاك حرمة أحد من المسلمين، أو الطعن على المسلمين في دينهم أو رسولهم صلى الله عليه وسلم أو كتابهم أو ربهم سبحانه، قيل لابن عمر رضي الله عنه:"إن راهبًا يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطه الأمان على هذا". (5)
(1) الأموال: ص 151
(2)
موسوعة فقه عمر، دكتور محمد رواس قلعجي: ص 324
(3)
موسوعة فقه عمر، دكتور محمد رواس قلعجي: ص 324
(4)
الأموال: ص 152؛ موسوعة فقه عمر، دكتور محمد رواس قلعجي: ص 324
(5)
فقه السنة: 2/ 670
الهدنة:
ومن الآثار المترتبة على الجهاد كذلك أن يطلب الأعداء ترك القتال فترة من الفترات قد تنتهي إلى صلح، وهذا يسمى بعقد الهدنة ، والموادعة إذا تم الاتفاق عليه، بل يضعها الإسلام موضع الوجوب في حالين يدلان على حرص الإسلام على إرساء السلم الدولي ـ كما أشرنا من قبل ـ.
أما الحالة الأولى فتكون مع طلب العدو فيجب أن يجاب إلى طلبه عملًا بقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (1) .
وقد هادن الرسول صلى الله عليه وسلم مشركي مكة ووادعهم مدة عشر سنين في غزوة الحديبية ، وكان ذلك حقنًا للدماء، ورغبة في السلم (2) .
فعن البراء رضي الله عنه قال: ((لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم ثلاثًا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، السيف وجرابه (3) ، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدًا يمكث بها ممن كان معه)) .
قال ((الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب الشرط بينا: بسم الله الرحمن الرحيم (4) : "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون:"لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فأمر عليًّا أن يمحوها فقال: "لا والله لا أمحوها" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله، فأقام بها ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الثالث، قالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره فليخرج فأخبره بذلك، فقال:"نعم" فخرج)) .
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال (5) .
والحالة الثانية التي تجب فيها المهادنة: الأشهر الحرم فلا يحل فيها البدء بالقتال إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال، فإنه يكون دافعًا للاعتداء، أو جاء وقت الأشهر الحرم وكان القتال مستمرًا ولم يستجب العدو لقبول الموادعة فيها، قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (6) .
(1) سورة الأنفال: الآيتان 61 و 62
(2)
فقه السنة: 2/ 659
(3)
بيان لجلبان السلاح
(4)
وفي رواية: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم
(5)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود، والعيبة دعاء الثياب، ومكفوفة مربوطة محكمة، ولا أسلال ولا أغلال، أي لا سرقة ولا خيانة ـ انظر فقه السنة: 2/ 660
(6)
سورة التوبة: الآية 36
الأمان:
ومن الآثار المرتبة على الجهاد ـ كذلك ـ أن يطلب فرد من الأعداء المحاربين الأمان ، وعندئذ يقبل منه ويصير آمنًا، لا يجوز الاعتداء عليه في أي صورة من صور الاعتداء.
فطالب الأمان قد يطلبه لأغراض شتى ، يحسن أن نتعرف عليها وكيف عومل فيها، فقد يطلب الأمان ليتعرف على الإسلام، وهذا يبذل له الأمان ويدخل بلاد المسلمين، ويطلع على الإسلام، وإن شاء دخل فيه وأقام في بلاد المسلمين، وإن شاء بقي على دينه وأقام في بلاد المسلمين إقامة دائمة ـ إن وافق إمام المسلمين على ذلك، وعندئذ يعقد له عقد الذمة، الذي سبقت الإشارة إليه ـ ويدفع الجزية، وإن أراد العودة إلى بلاده سهل له ذلك، عملًا بالآية الكريمة السابقة. (2) .
ـ وقد يطلب الأمان ليتمكن من الدخول إلى بلاد المسلمين للتجارة، وهذا متروك الإذن فيه لأمير المؤمنين فإن شاء سمح له بذلك، وعندئذ يلزم بدفع العشر إلى الدولة الإسلامية، كما تحدد مدة إقامته فيها، وقد مر بنا ما قاله شيخ نصراني لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو بالمدينة المنورة، فقال له: أنا الشيخ النصراني، وإن عاملك عشرني مرتين. فقال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. وكتب إليه عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة، ولا يؤذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام. أي في الإقامة في الحجاز.
(1) سورة التوبة: الآية 6
(2)
انظر موسوعة فقه عمر: ص 120؛ وانظر فقه السنة: 2/ 694
ـ وقد يطلب الأمان ليبلغ أمير المؤمنين رسالة يحملها إليه من أمير بلاده، وهذا يعامل معاملة الرسل وقد حدث أن أرسل مسيلمة الكذاب برسولين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملان كتابًا منه جاء فيه: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت بالأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرسولين حين قرأ الكتاب ((فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال. فقال رسول الله: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)) [أخرجه أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود] .
وأوفدت قريش أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الإيمان في قلبه فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم، وأبقى معكم مسلمًا: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ، فأرجع إليهم آمنًا، فإن وجدت بعد ذلك في قلبك ما فيه ـ الآن ـ فارجع إلينا)) [أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه] .
ـ وقد يطلب الأمان ليحفظ دمه. فإن أعطى الأمان في صورة من هذه الصور وغيرها فقد عصم دمه من أن يراق، وحفظ ماله من أن يسلب، وشخصه من أن ينال بأذى، ودينه من أن يكره على تركه، فإن تعرض له أحد بشيء من ذلك عوقب.
فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: "لا تخف. ثم قتله، فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: أنه بلغني أن رجالًا منكم يطلبون العلج حيًّا ، إذا اشتد في الجبل وامتنع يقول له: "لا تخف" فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدًا فعل ذلك إلا قطعت عنقه".
وروى البخاري في التاريخ، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أمّن رجلًا على دمه فقتله؛ فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرًا)) .
وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)) .
وهذا الأمان الفردي أعطاه الإسلام للرجال والنساء فمن حق أي فرد أن يؤمن أي فرد من الأعداء يطلب الأمان باستثناء الصبيان والمجانين.
روى أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم)) ، وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها قالت:((قلت يا رسول الله، زعم ابن أم يعلي أنه قاتل رجلًا قد أجرته؛ فلان (ابن هبيرة) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء")) (1)
(1) فقه السنة: 2/ 694 و 695
وأما الأمان الذي يعطى للجماعة فإنه من شأن أمير المؤمنين لتحري المصلحة ، ولو جعل ذلك لآحاد الناس لصار ذريعة إلى إبطال الجهاد (1) . ويتقرر الأمان صورة بأي من الصور التي تدل عليه ، بالعبارة، أو الإشارة، فلما حاصر المسلمون " تستر " ونزل الهرمزان على حكم عمر بعث به أبو موسى الأشعري على وفد فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله، فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.. ثم قال: ما عندك وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك، فاستقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشًا لم أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به في قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يداه ترتعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب. فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه ، فأكفأه ، فقال عمر: أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس. فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: إنك أمنتني. قال: كذبت، فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قتل مجزأة والبراء؟! قال: قلتَ: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلتَ: لا بأس عيك حتى تشرب. وقال له من حوله مثل ذلك، فامتنع عمر عن قتله ، ثم أسلم الهرمزان. (2) .
ويبقى المستأمن مستحقًا بحقه في الأمن ما دام محافظًا على الأمن والنظام العام ولم يخرج عليهما بأن يكون عينًا أو جاسوسًا، وتطبق عليه القوانين الإسلامية في المعاملات المالية، وكذلك العقوبات. (3) .
وإذا عاد إلى دار الحرب فإنه يبطل الأمان بالنسبة لنفسه ويبقى بالنسبة لماله ، قال ابن قدامة في المغني:" إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلمًا أو ذميًّا أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا فإن دخل تاجرًا، أو رسولًا، أو متنزهًا أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه في نفسه، وماله؛ لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة في دار الإسلام، فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل دار الحرب مستوطنًا، ثبت الأمان لماله، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب، بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به". (4) .
وبعد أن تناولنا المعاهدين، والهدنة والأمان باعتبارها من آثار الجهاد نشير إلى أنه قد نعقد الصلح بين المسلمين وبين أقوام دون حصار، كما صالح عمر بني تغلب، فقد قال له عبادة بن النعمان التغلبي، أو أبوه: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قد علمت شوكتهم، وأنهم بإزاء العدو، فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤونتهم، فإن رأيت أن تعطيهم شيئًا فافعل. فصالحهم عمر على ألا يغمسوا أولادهم في النصرانية، ويضاعف عليهم الصدقة. (5)
كما يجوز أن يتضمن عقد الصلح أمورًا أخرى يتم الاتفاق عليها بين الطرفين.
(1) الروضة الندية: ص 408؛ وانظر فقه السنة: 2/ 696
(2)
البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 87، والأموال: ص 113؛ والمغني: 8/ 489 و 398؛ وسنن البيهقي: 9/ 96؛ وانظر موسوعة فقه عمر: ص 121
(3)
فقه السنة: 2/ 698
(4)
المغني: 8/ 400 و 401
(5)
موسوعة فقه عمر: ص 318
الغنائم:
ومن الآثار المترتبة على الجهاد كذلك ما يتعلق بالغنائم.
والغنائم جمع غنيمة، وهي في اللغة ما يناله الإنسان بسعي، قال الشاعر:
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وشرعًا تطلق الغنيمة على المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب والقتال وتشمل الأنواع الآتية:
1 ـ الأموال المنقولة.
2 ـ الأسرى.
3 ـ الأرض.
وتسمى ـ كذلك ـ الأنفال ـ جمع نفل ـ لأنها زيادة في أموال المسلمين (1) .
والمال المأخوذ من الأعداء كان يقسم من قبل الإسلام على المحاربين على الطريقة التي ذكرها أحد الشعراء بقوله مخاطبًا رئيس القوم:
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
فإن المرباع وهو الربع من الغنيمة، وما يستحسنه ويصطفيه لنفسه (الصفايا) ، وما يحكم به وما يقع في أيدي المقاتلين قبل الموقعة (النشيطة) ، وما يفضل بعد القسمة (الفضول) .
ولكن بعد أن من الله على الناس بالإسلام وأصبح الجهاد محكومًا بأسسه ووسائله وغاياته التي فصلنا القول فيهاـ لإحقاق الحق وإرساء قواعد العدل وإحلال السلام ـ وخاصة أن مرحلة الجهاد الفرض كانت قد سبقت بمصادرة أموال المسلمين في مكة من قِبَل المشركين وحوربوا اقتصاديًّا بالمقاطعة والمغالاة في الأسعار ـ أحل الله لهذه الأمة الغنائم، وقال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وبعثت إلى الناس عامة)) .
كما إن الإسلام جعل من توزيعها ما يحقق النفع للأمة جميعًا، ففي أول تجربة مع الغنائم بعد غزوة بدر وقد ترك المشركون المنهزمون وراءهم أموالًا كثيرة ، تساءل المسلمون: كيف تكون قسمة هذه الأموال؟ وكانت إجابة القرآن الكريم في أن تقسيم الغنائم يرجع إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) .
(1) فقه السنة: 2/ 673
(2)
سورة الأنفال: الآية 69
(3)
سورة الأنفال: الآية 1
وقال تعالى في بيان هذه القسمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
فخمس الغنيمة يصرف على المصارف التي ذكرت في الآية الكريمة وهي: الله ورسوله وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
فذكر الله سبحانه وتعالى في بيان المصارف تنبيه إلى أن ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون له ولغيره من الأمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤثر أمته ـ دائمًا ـ ويتضح هذا المعنى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة قال: "صلى بنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، ولما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال:((لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم)) . ومعنى الرد فيهم أن ينفق منه على الفقراء وفي الإعداد للجهاد. فهذا مصير الخمس في الأصناف المذكورة. وأما الأربعة الأخماس الباقية فتعطى للجيش.
ويشترك في العطاء الجميع القوي منهم والضعيف، روى أحمد رحمه الله عن سعد بن مالك قال: " قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، ويكون سهمه وسهم غيره سواء. قال:((ثكلتك أمك ابن أم سعيد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)) .
ولكن يبقى للأمير أن يقدر من بذل جهدًا أكبر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل - أي الذي قاتل على رجليه - سهمًا. (2) .
كما أن مَنْ غيبه الأمير في مصلحة كالبريد وغيره وإن لم يحضر الواقعة يستوي مع الحاضرين. فعن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يعني يوم بدر فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله ، وأنا أبايع له فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ولم يضرب لأحد غاب غيره)) [رواه أبو داود] .
وعن ابن عمر قال: ((لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لك أجر رجل وسهم)) [رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه](3) .
كما يجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش ببعض الغنيمة إذا كان له من العناية والمقاتلة ما لم يكن لغيره (4) .
فعن سعد بن أبي وقاص قال: ((جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا السيف، فقال: إن هذا السيف ليس لي ولا لك ، فذهبت وأنا أقول يعطاه اليوم من لم يبل بلائي ، فبينا أن إذ جاءني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجب، فظننت أنه نزل في شيء بكلامي ، فجئت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وإن الله جعله لي فهو لك ، ثم قرأ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى آخر الآية)) [رواه أحمد وأبو داود](5) .
وفي الوقت الذي تكون الغنيمة بهذا التقسيم العادل والذي يسع الجميع يأتي التحذير من الغلول وهو السرقة من الغنيمة ، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (6) .
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: ((كان على ثقل ـ أي متاع ـ النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها)) (7) .
(1) سورة الأنفال: الآية 41
(2)
انظر فقه السنة: 2/ 678؛ وانظر نيل الأوطار للشوكاني: 8/ 115
(3)
نيل الأوطار: 8/ 119
(4)
نيل الأوطار: 8/ 106
(5)
نيل الأوطار: 8/ 105
(6)
سورة آل عمران: الآية 161
(7)
نيل الأوطار: 8/ 136
الأسارى:
من الغنائم التي تكون كذلك بعد الحرب أن يقع في يد المجاهدين أسرى من المقاتلين أحياء.
وقد يكون من هؤلاء الأسرى النساء والصبيان.
فأما الرجال المقاتلون فإن الحاكم له الحق في أن يتصرف معهم بما يكون أولى بالحق وأنفع، فله أن يمن أو الفداء أو القتل والمن أن يطلق سراحهم بلا مقابل. والفداء يكون بالمقابل، وقد يكون المقابل مالًا وقد يكون تبادلًا بالأسرى المسلمين.
وقد من الرسول صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح ، وقال لهم:((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) .
وروى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق سراح الذين أخذهم أسرى، وكان عددهم ثمانين، وكانوا قد هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم وفي هذا نزل قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} )) (2) .
وقد راعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يقدمه بعض الأسرى من أعمال نافعة ومفيدة فعندما بعث أبا موسى الأشعري في بعض الغزوات فأصاب سبيًا قال عمر: "خلوا سبيل كل أكار وزراع"(3) .
وأما شواهد الفداء العملية، فقد ((فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل)) [رواه أحمد والترمذي وصححه] .
ومعنى ذلك أن الفداء قد يكون بالمال وقد يكون بغيره ـ أيضًا ـ.
وأما القتل فإنه من حق الحاكم باعتبار القتل عقوبة يستحقها مجرمو الحروب الذين لا يناسبهم المن ولا الفداء ، وقد قتل النضر بن الحارث وعقبة بن معيط يوم بدر، وقتل أبو عزة الجمحي يوم أحد (4) وفي هذا يقول الله سبحانه:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) .
(1) سورة محمد: الآية 4
(2)
الفتح: 24، وانظر نيل الأوطار: 8/ 140
(3)
الأموال: ص 136، وانظر موسوعة فقه عمر: ص 74
(4)
انظر فقه السنة: 2/ 686
(5)
سورة الأنفال: الآيتان 67 و 68
هذا ما يخص الرجال المقاتلين وأما النساء والصبيان فليس عليهم القتل الذي يمكن أن يكون وجهًا من الوجوه مع مجرمي الحرب.
فقد جاء في الصحاح في شأن أسرى غزوة بني المصطلق ـ وكان من بينهم جويرية بنت الحارث ـ أن أباها الحارث بن أبي ضرار حضر إلى المدينة ومعه كثير من الإبل ليفتدي بها ابنته، وفي ودي العقيق، قبل المدينة بأميال، أخفى اثنين من الجمال أعجباه في شعب بالجبيل، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا محمد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها. فقال عليه الصلاة والسلام:((فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا؟)) فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله. وأسلم الحارث وابنان له، وأسلمت ابنته أيضًا، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها وتزوجها، فقال الناس: لقد أصبح هؤلاء الأسرى بأيدينا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنوا عليهم بغير فداء.
وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها معلقة على هذا الموقف:
"فما أعلم أن امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية، إذ بتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم إياها أعتق مائة من أهل بيت بني المصطلق".
كما يعلق الأستاذ سيد سابق على هذا بقوله:
"ولمثل هذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من جويرية، لا لشهوة يقضيها، بل لمصلحة شرعية يبتغيها، ولو كان يبغي الشهوة لأخذها أسيرة حرب بملك اليمين". (1) .
وإذا كانت الحروب تتمخض عن وقوع أسرى لدى كل فريق من المتحاربين ، فإننا رأينا كيف تكون المعاملة الرقيقة الإنسانية الحانية من الإسلام نحو الأساري رجالًا ونساء وذرية، وينص على ذلك في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى مبينا على من يكرمهم:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (2) .
وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((فكوا العاني (والعاني هو الأسير) وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض)) .
(1) فقه السنة: 2/ 687
(2)
الدهر: 9
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك ، إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك ، إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على الأرض أبغض علي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين إلي أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد إلي أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا تأتيكم من يمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)[متفق عليه] . (1) .
(1) نيل الأوطار: 8/ 140 و 141
الأرض:
وأما القسم الثالث من الغنائم والذي يتمثل في الأرض التي تؤخذ نتيجة الحرب والقتال فإن الإمام مخير فيها بين أمرين:
الأول: أن يقسمها على المجاهدين.
الثاني: أن تصبح وقفا على المسلمين.
وإذا اختار الحالة الثانية فإنه يضرب على الأرض خراجًا مستمرًا يؤخذ ممن هي في يده سواء أكان مسلمًا أو ذميًّا، ويؤخذ هذا الخراج (الأجرة) كل عام ويقدر الخراج اجتهادًا بما يناسب المكان والزمان.
وأصل الأمرين السابقين ما كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر حيث قسمت من المجاهدين بعد أحد ضمها لله وله (1) . عملًا بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فهذه آية الغنيمة.
ولذلك فإن عمر تأول الآية حين ذكر الأموال وأصنافها فقال: استوعبت هذه الآية الناس.
روى أبو عبيدة في الأموال أن عمر بن الخطاب قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين ، فقال له معاذ: والله ليكونن ما تكره، إنك لو قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة، ثم يأتي بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدًّا، وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ (2) .
وذكر أبو يوسف في الخراج أن الذي اشار على عمر بترك قسمة أراضي العراق والشام هو عبد الرحمن بن عوف (3) .
ولا يمنع أن يكون الصحابيان قد أشارا بهذا الرأي السديد والمفيد وأخذ بقوليهما عمر، وهذا دليل على اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم وتحريهم ما ينفع المسلمين في كل عصر، وقد دربهم الرسول الكريم وعلمهم ذلك.
وكتب عمر بذلك إلى سعد بن أبي وقاص: انظر ما جلب عليك إلى العسكر من كرائم أو مال فأقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها فيكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لم نبقي بعدهم شيء. (4) .
ووقف عمر جميع الأراضي التي فتحت عنوة، الشام والعراق، ومصر، وسائر ما فتحه، وقال:"لولا آخر الناس لقسمت الأراضي كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ". (5)
واجتهاد عمر والصحابة ـ في هذا الموقف ـ قائم على مراعاة المصلحة وتغير بعض الظروف، وظل مراعيًا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فقد ثبت أنه جمع مع هذا الوقف استطابة نفوس القائمين باعتبار أن هذا حقهم كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر.
(1) سيرة ابن هشام: 2/ 349
(2)
الأموال: ص 59؛ والمغني: 2/ 716، وموسوعة فقه عمر: ص 62
(3)
خراج أبي يوسف: ص 26
(4)
خراج يحيى: ص 48؛ وسنن البيهقي: 9/ 134؛ وموسوعة فقه عمر: ص 62
(5)
المغني: 2/ 718؛ وسنن البيهقي: 9/ 138؛ وموسوعة فقه عمر: ص 63
وقد ذهب إلى هذا جماعة منهم ابن حزم فقالوا: إن عمر لم يوقف هذه الأرض إلا بعد أن استطاب نفوس القائمين وأرضاهم، واستدلوا على ذلك بأن جرير بن عبد الله البجلي لما قدم على عمر من قومه يريد الشام وجهه عمر إلى الكوفة بعد مقتل أبي عبيدة، وقال له: هل لك في الكوفة، وانفلك الثلث بعد الخمس، من كل أرض أو شيء؟ قال: نعم، فبعثه. (1)
وكانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فجعل عمر لهم ربع السواد، فأخذوه سنتين أو ثلاثا ، فوفد عمار بن ياسر إلى عمر، ومعه جرير بن عبد الله البجلي ، فقال عمر لجرير: يا جرير، لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما جعل لكم، وأرى الناس قد كثروا فأرى أن ترده عليهم، ففعل جرير ذلك، فأجازه عمر بثمانين دينارًا (2) .
وقالت أم كرز البجلية: يا أمير المؤمنين إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد، وإني لن أسلم، فقال لها عمر: يا أم كرز إن قومك قد صنعوا ما قد علمت. فقالت: إن كانوا صنعوا ـ أي سلموا أراضيهم ـ فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهبًا، ففعل عمر، فكان الذهب الذي أعطاها نحوا من ثمانين دينارا. (3) .
قال ابن حزم: فهذا أصح ما جاء عن عمر في ذلك، وهو قولنا، فإنه لم يوقف حتى استطاب نفوس القائمين وورثة من مات منهم (4) .
وعلى ذلك يكون عمر قد جمع بين الدليلين، ولا يهتم بمخالفته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل روى الإمام أحمد في مسنده وذكر ابن حزم في المحلى رجوع عمر بن الخطاب عن هذا التصرف ـ وهو إيقاف الأراضي ـ وأنه قال: لو عشت إلى هذا العام المقبل، لا تفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر (5) .
فهذا ما كان من الحكم في الأرض التي تؤخذ أثناء الحرب أو بعده، وأما ما يتبع الآن استرشادا بما ذكر من أحكام فإن المجاهدين يحصلون في البلدان الإسلامية على رواتب ثابتة سواء حاربوا أم لم يحاربوا، وعلى ذلك فإن الغنيمة تدخل بيت المال لتجد طريقها إلى الإنفاق العام على الأمة كلها.
(1) الأموال: 62؛ والمحلى: 7/ 341؛ والمغني: 8/ 379؛ وموسوعة فقه عمر: ص 63
(2)
أموال أبي عبيدة: ص 61؛ وخراج يحيى: ص 45؛ والمحلى: 7/ 344؛ وسنن البيهقي: 9/ 135
(3)
الأموال: ص 61؛ وسنن البيهقي: 9/ 195؛ وموسوعة فقه عمر: ص 64
(4)
المحلى: 7/ 344
(5)
مسند أحمد: 1 /31؛ والمحلى: 7/ 343
وهذه الأحكام التي تتعلق بالآثار المترتبة على الجهاد وفي حالة انتصار المسلمين، أما إذا حدث تقصير من قبل المجاهدين في جانب من الجوانب وأصابهم القرح وحدثت فيهم الهزيمة؛ فإن الإسلام يوجه أتباعه بتوجيهات سبق ذكرها في خلق الجهاد من الثبات والصبر وعدم اليأس ومحاسبة النفس وتدارك التقصير، وجمع الشمل ومواصلة الجهاد.
وأما الجديد الذي يمكن أن يحدث فقد يقع في يد العدو أسرى من المسلمين، وفي هذه الحالة ينبغي أن يبذل الإمام كل الجهد في تخليص الأسرى حتى لا يفتنوا في دينهم، وحتى لا يتعرضوا للأذى وهم في قبضة عدوهم.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأن أستنقذ رجلًا من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب"(1) .
وقد يكون ذلك الإنقاذ بتبادل الأسرى، أو بالفداء، فإن اقتداه بالمال كان فداؤه من بيت مال المسلمين؛ لأنه كان يدافع عنهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"كل أسير في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه من بيت مال المسلمين "(2) .
(1) خراج أبي يوسف: ص 233
(2)
خراج أبي يوسف: ص 233؛ وموسوعة فقه عمر ص 76
الفصل الخامس
العلاقات الدولية في الإسلام
إذا كان الإنسان اجتماعيًّا بفطرته ولا يستطيع العيش وحده، فإن الجماعات البشرية التي تأخذ مسميات تدل على حجم كل جماعة من بطن وعشيرة وقبيلة ودولة؛ لا تستطيع كذلك العيش دون روابط تلتقي بها وتتبادل المنافع فيما بينها، فهذه سنة الله في خلقه، ولترشيد هذه العلاقات بين الأفراد والجماعات كانت التوجيهات والأحكام المفصلة في وحي الله لتكون الروابط قوية ولتتكامل المنافع في أحسن صورة.
ولهذا وجدنا عناية الإسلام بالأمة التي استجابت لوحي ربها، وأسلمت وجهها له تصل بالأمة إلى تحقيق الوحدة العضوية التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق تعبير في قوله:((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) (1) .
وقامت هذه الوحدة العضوية على الأسس الآتية:
ـ الأخوة في الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
وهي أخوة أقوى من أخوة النسب.
ـ ما يصحب هذه الأخوة من حقوق ومظاهر منها الحب في الله، ومنها التراحم والتكافل والتكامل الذي يحقق وحدة الأمة في أحسن صورها:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (2) .
وكما جاء في وصفها: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (3) .
(1) متفق عليه واللفظ لمسلم ، وعند البخاري بلفظ:" ترى المؤمنين.." أخرجه البخاري في كتب الأدب باب رحمة الناس والبهائم: 10/ 438؛ ومسلم في كتاب البر والصلة والأدب باب تراحم المؤمنين، وتعاطفهم وتعاضدهم
(2)
سورة الأنبياء: الآية 92، والمؤمنون: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
(3)
سورة الفتح: الآية 29
وعلى ذلك نقول: "إن الأسس التي جعلها الله تعالى في العلاقة بين الإنسان وغيره لا تمثل كما يزعم المغرضون "تكوين عنصرية جديدة تقوم على أساس العقيدة" ولكن تحقيق مفهوم الوحدة الحقيقية بين المؤمنين يأتي ثمرة طبيعية لاستجابة المؤمنين وليست تكوينًا عنصريًّا، وتتجه الأمة المؤمنة نحو غيرها من الجماعات البشرية الأخرى لتحقق معها علاقات يؤسسها الإسلام على ما يلي: "أسس العلاقات بين الجماعات البشرية".
1 ـ التذكير بالأصل الواحد الذي يرجع إليه البشر جميعا، فعلى الرغم من وجود هذه الحقيقة إلا أن الناس تطغى عليهم نزعات كثيرة نفعية تنسيهم هذا الأصل، ويتعاملون بمنطق العداوة والبغضاء، ولذلك فإن الإسلام يُذكر الناس بأنهم لآدم:((كلكم بنو آدم وآدم من تراب)) (1) .
ويأتي هذا التذكير مقرونًا بما يجعله تذكيرًا مؤثرًا إيجابيًّا فيصحب بالأمر بتقوى الله التي هي جماع كل خير فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} (2) .
فالخطاب ـ هنا ـ للناس جميعًا أن يتقوا الله، وتكرار التقوى مع ما يتبع الأمر بها في الموضعين له دلالة أخرى في أنه لن يستطيع هذا الإنسان أن يفيد من هذا التذكير بالانتماء إلى الأصل الواحد إلا إذا حقق هذه القيمة في نفسه واستجاب لهدي ربه.
فالتذكير الأول بالخلق بنفس واحدة، ومنها ليس بعيدا عنها كان الخلق لزوجها، تأكيدًا لوحدة الأصل، منهما كان البعث والانتشار. ولما كان هذا الانتشار نقيض التفرق المكاني في أرض الله الواسعة كان الأمر الثاني والذي سبق أيضا بتقوى الله أن تبقى الناس قطيعة الأرحام، ويجعل الإسلام صلة الرحم من الفرائض التي لا غنى للمجتمع عنها فيبشر الواصلين لأرحامهم بالوصل من الله لهم، ويحذر من القطيعة ويعدها فسادًا في الأرض قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (3) .
(1) أخرجه البزار في مسنده كتاب الأدب باب التفاخر ـ كشف الأستار للهيثمي: 2/ 434 و 435
(2)
سورة النساء: الآية 1
(3)
سورة محمد: الآيتان 22 و 23
2 ـ الحق: فيقيم الإسلام هذه العلاقة على هذا المبدأ العظيم الذي يقوم عليه أمر هذه العلاقة، فلا يسمح للباطل أن يتسرب إليها؛ لأن الباطل يتبعه مفاسد أخرى في علاقة الإنسان بغيره.
فالتصورات الباطلة، والعقيدة الفاسدة تقسم الناس على معايير ظالمة لا أساس لها من الحق والواقع، فمن هذه المعايير الباطلة: أن يميز الفكر البشري إنسانًا على آخر على أساس جنسه ـ مثلًا ـ كما حدث في الفكر الروماني الذي نظر إلى الجنس الروماني على أنه جنس مقدس، وما عداه فليسوا إلا عبيدًا له، وكذلك الحال مع الجنس الآري، وامتد هذا الباطل وهذا الفساد لنجد له صدى لدى ورثة الفكر الروماني واليوناني من الأوروبيين والأمريكيين حيث تقسم الجنسيات تقسيما يتفق مع التقسيم السابق في درجات الجنسيات، ولم تسلم من هذه النظرة الباطلة الديانات التي عبثت فيها أيدي البشر، فاليهود ـ مثلا ـ في مقولاتهم التي ابتدعوها بهذا المنطق الباطل يرون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم شعبه المختار، وما عداهم فإنهم من الأميين الذي يستباحون في كل شيء.
ومن العناصر الباطلة كذلك أن يقسم الناس على أساس بيئي أو قومي، فالذي ينتمي إلى أثينا ـ مثلا ـ انتماء أصيلًا كان يمثل العنصر السيد، ومن ينتمي إليها انتماء يقل عن ذلك يعد من الأجانب الذين لا يتمتعون بحقوق الطبقة الأولى.
ومنها اعتبار اللون أساسًا لهذا التقسيم الباطل فلا يسند هذا التقسيم واقع تشريعي، ولا نتائج لبحوث تفيد أن اللون يكسب الإنسان خصائص معينة.. وعلى هذا الأساس الباطل وجدنا من آثار الفكر البشري الوضعي التفرقة بين البيض والسود، بل بين البيض والملونين ـ قديمًا وحديثًا ـ إلى صورة مزرية، يسقط فيها الفكر البشري عندما يغلف بالباطل هذا التقسيم، فيقول "منسكيو":"حاشا لله أن يجعل في هذا البدن الأسود ذي الأنف الأفطس روحًا".
ومن هذه العناصر الظالمة التي لا سند لها ـ كذلك ـ من عقل نجد أرسطو الذي لقب بالمعلم من قبل الفلاسفة يبرر تقسيم البشر تبريرًا يدل على اتباع الهوى في الفكر فيرى: إن الله خلق الناس من فصيلتين: فصيلة مزودة بالعقل والإرادة، وفصيلة مزودة بالأجساد، ومقتضى هذا التقسيم أن الفصيلة الأولى تفكر، والفصيلة الثانية تنفذ، وامتد هذا الفكر السقيم لنجد أثره لدى الأوروبيين الذين يقسمون العالم هذا التقسيم بين عالم متقدم يمثل عالمه، وعالم متخلف، وقد يلقب تواضعا بالعالم النامي، فالعالم المتقدم هو الذي يفكر ويرسم السياسات، ويضع البرامج الاقتصادية، بل يفصل القيم الخلقية، وعلى العالم الآخر أن يستجيب وأن ينفذ وليس له أن يفكر، فضلًا عن أن يصدر فكرا، وهذا النظر الباطل يفسر لنا ظاهرة الإعراض العام من قبل هؤلاء عن التفكير في المبادئ التي يحملها أبناء هذا العالم المتخلف على الرغم من أنها وحي الله تعالى، ولا دخل بها للبشر.
3 ـ العدل: وهو من الأسس التي جعلها الإسلام ركيزة العلاقات بين الناس؛ لأن الظلم سبيل الشحناء والبغضاء وتمزيق هذه العلاقات.. وهذا العدل واجب التحقيق في التصور الإسلامي مهما اختلفت الجنسيات أو تباعدت الأماكن، أو اختلفت العقائد، وهذا ما يميز هذا التصور الإسلامي عن غيره من الأفكار البشرية التي تتورط في هذا الظلم نتيجة الوقوع في الباطل الذي سبق ذكره، فإن الظلم نتيجة حتمية للتصورات الباطلة، وتشقى البشرية عندما تصلى نار هذا الظلم ، ففي البيئة الجاهلية وجدنا شاعرها زهير بن أبي سلمى يصور هذه القاعدة من الظلم في العلاقات في قوله:"ومن لا يظلم الناس يظلم".
ولذلك تبع هذا الظلم كثير من التجاوزات نحو الضعفاء والفقراء ومن لا ينتمي إلى عصبية تدفع عنه هذا الظلم، والبيئات الأخرى ليست بأسعد حالًا من البيئة العربية في جاهليتها، فالتقسيمات السابقة في المجتمع اليوناني، والمجتمع الروماني، أوقعت هذا الظلم الفادح على طبقة المستضعفين، وقسمت الناس إلى سادة وعبيد، ووصل الأمر إلى حد التحريض من أرسطو على إحكام قبضة السادة على العبيد وألا تأخذهم الرأفة في إطلاق سراحهم إلا إذا حلت الآلة محلهم، كما لا يخفى أن الإنسان الذي يستعيد بسبب لونه أو بسبب انتمائه إلى جنس معين أو بيئة معينة قد وقع عليه ظلم كبير؛ إذ لا حيلة له في اختيار لونه أو جنسيته أو بيئته التي ولد فيها ، فكيف يكون هذا أساسًا للتمايز بين البشر؟!
4 ـ أساس التفاضل في الإسلام: وأما أساس التفاضل في الإسلام فهو أساس عادل يتمثل فيما يستطيعه الإنسان من أعمال تسعده وتقدمه في حياته، فالإسلام واقعي في نظرته إلى الأشياء؛ لأنه وحي الله فلا يلقى وجود التفاضل والتمايز بين الناس، فالناس في الواقع ليسوا سواء ، ولكن لا يجعل التفضيل قائمًا على الأسس السابقة الظالمة التي لا دخل للإنسان فيها، وإنما يجعله في قيمة جامعة لكل خصال الخير والبر ظاهرًا وباطنصا، وهي قيمة التقوى، فيقول جل شأنه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
فمن أراد أن يكون فاضلًا فإن فضله ورقيه وقربه من ربه بمقدار ما يحصل من معاني التقوى، ولا شك أن هذا الأساس يدفع البشرية إلى التسابق في الخيرات وترك المنكرات، وهذا في صالحها، وفي الوقت الذي يدعم فيه الإسلام هذه القيمة يرد على الادعاءات الباطلة في التفاضل الظالم ، مثال ذلك قوله تبارك وتعالى:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (2) .
ومن مجموعة هذه الأسس وغيرها يتضح لنا كيف يهدف الإسلام في علاقة الإنسان بغيره إلى تحقيق الأمن والسلم والحياة الطيبة للأفراد والجماعات ، فيحيل المجتمعات البشرية من العداوة والبغضاء إلى أن يكونوا بنعمة الله إخوانًا.
(1) سورة الحجرات: الآية 13
(2)
سورة النساء: الآية 123
السبيل العملي في بيان علاقة الدولة المسلمة بغيرها:
ولقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم السبيل العملي في بيان علاقة الدولة المسلمة بغيره من الدول المخالفة في الدين ليتضح أمام العالمين أن دولة الإسلام تتسع لعلاقات سلمية مع الدول المخالفة، بل وتتسع الدولة الإسلامية نفسها للتعايش مع المخالفين في الدين ما داموا مسالمين قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) .
وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهودًا وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم، وهاذ نص الكتاب:
((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانهيم (2) . بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين لا يتركون مقرحًا (3) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن لا يحالف مؤمن قول مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (4) ظلم أو إثم، أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء عدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يبنئ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط (5) مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم القيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله ، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم، وأنسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (6) إلا نفسه، وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن حفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا (7) ، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم أمرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا مَن نَصَرَها، وأن بينهم النصر على دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذا الصحيفة مع البر المحصن من أهل هذه الصحيفة)) .
(1) سورة الممتحنة: الآية 8
(2)
أسيرهم
(3)
المقرح المثقل بالدين، والكثير العيال
(4)
الدسيعة، العظيمة
(5)
قتل بلا جناية
(6)
يوتغ: يهلك
(7)
يعني على الرضا به
قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.
قال ابن إسحاق: "وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة، إلامن ظلم أو أثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1) .
فهذه الصحيفة التي كتبت عند قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وثيقة تحكم العلاقات بين جميع أفراد الأمة من ناحية، وبين الأمة المسلمة ورعاياها المقيمين داخل الدولة المسلمة، وبين الدولة المسلمة والدول الأخرى من المخالفين في الدين من ناحية أخرى.
لقد حددت الصحيفة عناصر قيام الأمة، وعناصر قيام الدولة، وبينت طبيعة الروابط التي يمكن أن تقوم بينها، وطبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن يعيشون معهم في المدينة وهم اليهود. كما اهتمت بتنظيم عنصر السلطة والسيادة في الدولة الناشئة وحددت معالم هذه السيادة (2) .
كما حددت الصحيفة في وقت مبكر العلاقات التي يجب أن تكون بين أهل الصحيفة وبين الوحدات الأخرى ذات الطبيعة الدولية ، وأن هذه العلاقات علاقات سلم ما عدا الأعداء من قريش لما كان منهم من محاربة وعداء وإصرار على فتنة المؤمنين عن دينهم، وسلب أموالهم، ولذلك منعت الصحيفة التعامل معهم، أو إجارتهم في المدينة.
(1) السيرة النبوية، لابن هشام: 2/ 106 ـ 108
(2)
انظر وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة، إعداد د. جعفر عبد السلام علي: ص 4
لقد بينت الصحيفة ـ باعتبارها أول وثيقة لتحديد صورة العلاقات بين عناصر الدولة المسلمة في داخلها وعلاقتها بالدول الأخرى ـ المكانة التي يتمتع بها المخالفون في الدين داخل الدولة المسلمة، وبعبارة أخرى مكانة الأقليات داخل المجتمعات المسلمة، فإن نصوص الصحيفة تذكر المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب وتذكر معهم من تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، وأنهم أمة واحدة من دون الناس. ويفهم من هذا النص أن اللحاق والتبعية تفي الدخول في الإسلام، وتتسع كذلك لتشمل من يلحق بهم ويتبعهم وإن لم يسلم، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيفة ـ أيضا ـ من أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وفصلت النصوص التالية لهذا التقرير المساواة بين فرق اليهود المذكورة ويهود بني عوف في كافة الحقوق.
فالطوائف التي تعيش بالمدينة تلحق بالأمة المسلمة ولها حقوقها وعليها واجباتها فما ذكر في الصحيفة:
ـ من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
ـ لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج من المدينة آمن، ومن قعد آمن، إلا من ظلم وأثم.
ـ أن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
فهذه النصوص تدل بصراحة على اتساع الدولة المسلمة للمخالفين لها بهذا البيان ما داموا مسالمين وليسوا ناقضين لما يتفق عليه مما لهم ومما عليهم.
ويبقى هذا الكلام مع ديار الإسلام جميعًا مع مراعاة التفصيل الذي ذكرناه في حكم مكة والمدينة (1) .
وإلى هذه النتيجة التي نقررها يصل الأستاذ عبد المجيد محمود في محاضرة قيمة ألقاها بقسم الثقافة الإسلامية تحت عنوان: تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين فيقول: " ومن هذا نرى أن الطوائف غير المسلمة تتمتع في الدولة الإسلامية، بما يتمتع المسلمون فيها من الحقوق المدنية، والدينية، يساسون بالعدل والرحمة ما وفوا بعهودهم، ولا تحول مخالفتهم في الدين دون العدل معهم والرحمة بهم، ومنحهم حريتهم الدينية والشخصية.
(1) وانظر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: ص 237
وقد روى البخاري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها، فأرسل إليهم عبد الله بن رواحة ليخرص النخل، ويقدر الأوساق الواجبة عليهم، فأراد اليهود أن يعطوا عبد الله بن رواحة هدية أو رشوة ليخفف عنهم، ويقلل ما يأخذه من خراج أرضهم فقال عبد الله مستنكرا صنيعهم: تطعمونني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنتم أبغض إلي من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم على ألا أن أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض)) (1) .
ويقول: "ومن هذا يتبين أن الذمي مواطن في الدولة الإسلامية تكفل له الدولة حفظ ماله ونفسه، وتضمن له حريته الدينية والشخصية، وسلامة أماكن العبادة التي يتعبد فيها".
وبلغ من الاهتمام بالمحافظة على حريته الدينية والشخصية أن تقررت بين الفقهاء قاعدة تقول: " أمرنا أن نتركهم وما يدينون ".
كما بلغ من عناية الإسلام بحريتهم الدينية أن ترك لهم نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث يتبعون فيه ما يعتقدونه دينًا لهم، ولو كان مخالفًا لأحكام الإسلام في نظام الأسرة.
لقد كتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري مستفتيًا: "ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هم عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير؟ " فأجابه الحسن البصري: "إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدونه، وإنما أنت متبع لا مبتدع".
وهذه الميزات التي يتمتع بها الذمي في دولة الإسلام لا يوجد لها نظير في قوانين العالم الحديث فضلًا عن القديم، فالمسلم المقيم في فرنسا أو إنجلترا أو روسيا أو غيرها ويتجنس بجنسيتها، يخضع في الأحوال الشخصية للقانون المحلي ـ هناك ـ فإن تزوج مسلم أكثر من واحدة فزواجه باطل، وقديحاكم على ذلك كمجرم.
والدول المعاصرة جميعًا لا تجعل لأي طائفة من طوائفها ميزة خاصة في تعاملها، وخصوصًا في نظام الأسرة؛ لأن نظم الأسرة فيها تتعلق بالنظام العام، لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، ولكن الدول الإسلامية لا تزال تعطي رعاياها حق التقاضي على مقتضى دينهم بالنسبة للأسرة، وهذه الميزة لا توجد إلا في البلاد الإسلامية والقوانين الإسلامية، ولا تعامل الدولة الإسلامية غيرها بالمثل في هذا الشأن؛ لأن نظامها ينبع من تعاليم الدين وسماحته لا من نزوات النفوس وحماقة العصبية (2) .
(1) المحاضرة رقم 12، للأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود
(2)
المحاضرة السابقة: ص 111
وأما علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى فإنها كذلك علاقات تقوم على أساس السلم، وتشهد الصحيفة على ذلك وأما ما ذكر من العداء لقريش فباعتبارها عدوًّا للمسلمين حاربتهم وصادرت أموالهم وتصر على دوام المحاربة، من أجل هذا كان النص في الصحيفة وأنه "لا يجير مشرك مالا لقريش، ولا يحول دونه على مؤمن".
وأما النص الذي في الصحيفة وفيه دلالة على ما نقول لهو: "
…
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين ".
ومعنى ذلك أن المسلمين عليهم أن يقبلوا التحالف مع اليهود وقبائل من غير المسلمين إذا ما وافق اليهود على محالفة حلفاء المسلمين من غير المسلمين، ولا يكون هذا التحالف إلا إذا كان الإسلام يجيز التعامل مع غير المسلمين ممن لا يقيمون في الدولة الإسلامية (1) .
وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا من أمراء الدول الكافرة، وبادل المسلمون والكفار الهدايا، فقد روى أحمد والترمذي عن علي رضي الله عنه قال:((أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل منه، وأدت له الملوك فقبل منها)) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال فيما رواه أبو داود: ((ألم تر إلى الركائب المناخات الأربع؟ فإن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعامًا، أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دَيْنَك)) .
وأهدى صاحب أيلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء.
وأهدى أمير القبط إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وبغلة، فكان يركب البغلة بالمدينة، وأخذ إحدى الجاريتين لنفسه فولدت له إبراهيم، ووهب الأخرى لحسان.
وكذلك تبادل المسلمون والكفار الهدايا.
((فقد رأى عمر حلة من حرير تباع، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد. فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة ، فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلتَ فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكسكها لتبسها، تبيعها أو تكسوها. فأرسل عمر بها إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم.)) [رواه البخاري] .
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: ((أتتني أمي راغبة في عهد قريش، وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أَصِلُها؟ قال: نعم)) متفق عليه.
وجاء في روايات أخرى أن أم أسماء قدمت بهدايا من أقط وخباب، وأن أسماء توقفت عن قبولها حتى تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لها (2) .
فهذا موقف الإسلام من العلاقات الدولية بين الدول المسلمة وغيرها؛ إنه يجعلها علاقات قائمة على السلم ومحققة للعدل والمساواة؛ لأن الإسلام ينظر إلى المخالفين على أنهم في حاجة إلى هداية وإرشاد وتوجيه، وخير سبيل لهذا التوجيه والإرشاد والدعوة أن تكون العلاقات آمنة وأن يكون السلم قائما.
(1) انظر وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة، د. جعفر عبد السلام: ص 36
(2)
انظر محاضرة، الأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود: ص 8، و9
موقف الإسلام من المنظمات الدولية:
وإذا كان الإسلام يؤسس العلاقات الدولية على الأسس العادلة السابقة فإنه يرحب ويشجع كل ما يحقق للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها الحقيقي فإذا أدرك الناس خطورة الحرب فيما بينهم ووجدوا أن السبيل إلى تحجمها في تكوين منظمات تضم مجموعة الدول التي ترتضي فيما بينها ما يحقق قواعد العدل والحق والمساواة فإن الإسلام يربط على أيديهم ويعينهم على ذلك بمنهجه الرشيد وكماله الذي لا يشوبه الهوى.
وننطلق في تقريرنا لهذه القاعدة من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام تجمع تحقق قبل الإسلام ليحقق أغراضًا يقرها الإسلام في نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، وشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيّن أنه لو دعي إليه في الإسلام لأجاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) (1) .
ويشترط لمثل هذه المنظمات أن تكون في أسس قيامها، وفيما ترتضيه من مبادئ وقيم تسير عليها موافقة لما جاء به الإسلام من مبادئ الحق والعدل والمساواة وما يحقق الأمن الحقيقي والسلم في حياة الناس دون استثناء.
ولهذا فكل عمل تلتقي فيه الجهود لتحقيق السلام العادل والتقدم المتوازن والسعادة للبشرية فإن الإسلام يمد يده إليه ويزيده ترشيدًا بما يحقق الخير في الدنيا والآخرة.
(1) السيرة النبوية، لابن هشام: 1/ 123، و 124
منظمة الأمم المتحدة:
وإذا كان حلف الفضول نتيجة بما تفشى في العصر الجاهلي من ظلم الأقوياء للضعفاء ، وشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، فإن الحروب التي صلى الناسَ نارها في العصر الحديث ومنها الحربان العالميتان جعلت الدول تفكر في إنشاء منظمة دولية عالمية تعمل على حفظ السلم والأمن الدولي، وإنما العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي في جميع المجالات، وجعل الأمم المتحدة مركزًا لتنسيق أعمال الأمم. فكانت هذه هي الأهداف التي أنشئت من أجلها منظمة الأمم المتحدة، وبدأ هذا التنظيم من التصريح الذي تم توقيعه في 12 يونيو 1941م في لندن بالمملكة المتحدة وفي أواخر عام 1941م أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية تصريحًا يحمل اسم تصريح الأمم المتحدة في صورة اتفاق دولي قامت بتوقيعه 1942م ست وعشرون دولة، وفي 31 أكتوبر 1947م قررت الجمعية العامة اعتبار 24 أكتوبر من كل عام العيد السنوي لميلاد الأمم المتحدة باسم يوم الأمم المتحدة (1) .
فإذا كانت نشأة الأمم الممتحدة مقترنة بالحروب الدامية، وقامت لتحقق الأهداف السابقة فإنها تجد من الإسلام التأييد والموافقة مع ترشيد عملها، وبيان منهجه الذي يزيد على ذلك ـ كما أشرنا ـ في أن الأخذ به يحقق خيري الدنيا والآخرة.
كما أن الإسلام يحذر من أن تكون المبادئ والأهداف المعلنة منفصلة عن التطبيق العملي فإذا كان من المبادئ المعلنة:
ـ المساواة في السيادة بين الدول.
ـ التسوية السلمية للمنازعات الدولية.
ـ خطر استخدام القوة في العلاقات الدولية.
ـ معاونة الأعضاء للأمم المتحدة.
ـ عدم التدخل في الشؤون التي تكون من السلطان الداخلي للدول الأعضاء (2) . وإذا كانت هذه المبادئ النظرية فإن الإسلام لا يفصل بين النظرية والتطبيق.
ولما كان واقع الدول البعيدة عن هداية الإسلام تغليب المصالح الخاصة وجدنا قصورًا في التطبيق في كثيرة من القضايا التي تتعلق بتحرير الشعوب الضعيفة والفقيرة من سيطرة الدول المستعمرة مما جعل منظمات دولية أخرى تنشأ لتحقيق مصالح تخص هذه المنظمات.
فمن هذه المنظمات:
1 ـ منظمة المؤتمر الإسلامي.
2 ـ منظمة الوحدة الأفريقية.
(1) انظر التنظيم الدولي ـ النظرية العامة للأمم المتحدة، د. بطرس غالي. ود. إبراهيم محمد العناني: ص 174 ـ 177
(2)
التنظيم الدولي، د. بطرس غالي: ص 181
منظمة المؤتمر الإسلامي:
ولقد نشأ التفكير في إنشاء منظمة تجمع الدول الإسلامية وسط المحاولات الجادة والمغرضة في احتواء العالم الإسلامي، وتكبيله وجعله تابعًا للقوى الكبرى في عالمنا المعاصر، فكانت الأهداف ـ التي جعلت التفكير ينمو حتى تم إنشاء المنظمة يتلخص فيما يلي:
ـ تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في المجالات المختلفة، والتشاور بين الدول الأعضاء في المنظمات الدولية.
ـ العمل على محو التفرقة العنصرية والقضاء على الاستعمار في جميع أشكاله.
ـ اتخاذ التدابير اللازمة لدعم السلام والأمن الدوليين القائمين على العدل.
ـ تنسيق العمل من أجل الحفاظ على سلامة الأماكن المقدسة وتحريرها ودعم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرجاع حقوقه وتحرير أراضيه.
ـ دعم كفاح جميع الشعوب الإنسانية.
ـ إيجاد المناخ لتعزيز التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء والدول الأخرى (1) .
وأما المبادئ التي قامت عليها منظمة المؤتمر الإسلامي فتتمثل فيما يلي:
ـ المساواة التامة بين الدول الأعضاء.
ـ احترام حق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
ـ احترام سيادة واستقلال ووحدة أراضي كل دولة عضو في المنظمة.
ـ حل ما قد ينشأ من منازعات فيما بين الدول الأعضاء في المنظمة بحلول سلمية.
ـ إقناع الدول الأعضاء في علاقتها عن استخدام القوة ضد وحدة وسلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة عضو.
فهذه الأهداف مع تلك المبادئ تتفق مع توجيهات الإسلام وينقصها الجمع بين النظرية والتطبيق.
وإذا كانت هذه المنظمة قد جمعت الدول الإسلامية على أساس أنها تلتقي جميعًا على الإسلام فكما رأينا ليست الغاية تحقيق عنصرية أو عصبية، ولكن كان من بين الأهداف تعزيز العلاقات بين الدول الإسلامية الأعضاء والدول الأخرى، وأن العلاقة تقوم على أصل السلم وهذا ما يتفق مع ما قررناه من منهج الإسلام في العلاقات الدولية.
(1) انظر المنظمات الدولية المتخصصة والإقليمية، د. مصطفى عبد الرحمن: ص 26، و 27
منظمة الوحدة الأفريقية:
وهناك منظمة أخرى تقوم على الرابطة الجغرافية إذ إنها تربط بين دول تقع كلها في قارة واحدة وهي قارة أفريقيا.
وتعود فكرة إنشاء هذه المنظمة إلى كون القارة الأفريقية قد وقعت فريسة للسيطرة الاستعمارية التي طمعت في ثرواتها وفرقت شعوبها، وكان من أهداف هذه المنظمة:
ـ دعم تضامن الشعوب الأفريقية والتشجيع على وحدة الدول الأفريقية.
ـ دعم وتشجيع التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
…
ـ الحفاظ على استقلال الدول أعضاء المنظمة وسلامة أراضيها.
ـ التعاون مع الدول غير الأفريقية والمنظمات الدولية الأخرى وبخاصة الأمم المتحدة (1) .
وأما المبادئ التي قامت عليها المنظمة فتتخلص فيما يلي:
ـ المساواة بين الدول الأعضاء.
ـ احترام سيادة كل دولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
ـ حل المنازعات بين الأعضاء بالطرق السلمية.
ـ دعم الجهود لاستقلال الدول الأفريقية.
ـ رفض أعمال الاغتيال السياسي وصور النشاط الهدام (2) .
وهكذا نجد أن أي تجمع يحقق مبادئ سليمة ويهدف إلى غايات فيها الخير للإنسان يلقى من الإسلام الموافقة مع ترشيده واكتمال منهجه، وهو يؤيد ـ دائمًا ـ العمل الجماعي ، فيد الله مع الجماعة وثمرات العمل الجماعي أعظم وأبقى، ولهذا اتجهت إليها أنظار الناس فقامت لهذا ـ أيضًا ـ جامعة الدول العربية.
كما نشأت المنظمات الدولية المتخصصة بمقتضى اتفاقيات بين الدول بقصد رعاية مصالح مشتركة دائمة بينها في مجال متخصص ، ومنها منظمة العمل الدولية لتحسين أحوال العمل ورفع مستوى معيشة العمال واستقرار أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية.
(1) المنظمات الدولية الإقليمية والمتخصصة، د. مصطفى عبد الرحمن: ص 39
(2)
المنظمات الدولية الإقليمية والمتخصصة، د. مصطفى عبد الرحمن: ص 43 و 44
الفصل السادس
شبهات في موضوع السلم والحرب في الإسلام
الحقائق في سرعة انتشار الإسلام:
لقد تناولنا في الفصول السابقة ما يبين حقيقة الإسلام في السلام ، وكيف يجعله أصلًا في حياة الناس، وكيف يقاوم من أراد تعكير صفو الناس مع سلمهم وأمنهم، ولو كان ببذل النفس والمال جهادًا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فإذا ما اضطر أبناء الإسلام إلى القتال لتحقيق هذه الغاية فإنهم يحرصون على أداء هذا الواجب بقدره وحجمه فإذا عاد المحاربون إلى الصواب أسرع المجاهد إلى قاعدة السلام وتوكل على الله. والمجاهد يحرص أثناء القتال على الالتزام بما ألزمه الإسلام من عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ، والحرص على العمران والأشجار، فإذا ما انتصر كان لله شاكرًا وللعدل محققًا، وعاش الناس في ظل سيادة الإسلام آمنين، من دخل في الإسلام، ومن بقي على ما كان عليه ليفكر في هدوء ويصل إلى القناعة الكاملة في أن الإسلام هو الحق الذي يتبع.
وهذا المسلك في دعوة الناس إلى الإسلام أثار في نفوس الحاقدين ضغنهم على الإسلام والمسلمين، وعدُّوا هذا المسلك نوعًا من المكر والدهاء يقول الدكتور حسين مؤنس في وصف هذه الحالة: "لقد كان العرب (1) يفتحون البلد من البلاد ويعرضون الإسلام على أهله ثم يدعونهم وشأنهم حتى يقتنعوا بفضائله الإنسانية على هينة، حتى لقد ذهب بعض الشانئين للعرب إلى أنهم لم يكونوا يهتمون بنشر دينهم، وأن الجزية كانت أحب إليهم من الإسلام وما إلى ذلك مما نجده مسطورًا في كتب أعاء الملة. وما كان ذلك من عدم حرص من العرب على نشر الإسلام، وإنما كان سيرًا على أسلوب الدعوة في عهدها الأول: أسلوب عرض الدين على الناس وتركهم بعد ذلك أحرارا إلى أن يهدي الله منهم من يشاء.
ومن غريب ما حدث في بلاد مثل مصر والأندلس أن كان مسلك العرب هذا أدعى إلى دخول الناس في الإسلام؛ لأنهم تعودوا ممن يتغلب على بلادهم أن يكون شديد الحرص على إدخالهم في دينه، فما بال أولئك العرب لا يلحون على الناس في الدخول في الإسلام، ولا يستخدمون القوة في ذلك كما كان رجال دولتي الرومان والروم يفعلون؟ قال "يولوج" الراهب القرطبي المبغض للإسلام:"فكان من مكر العرب أن تظاهروا بأنهم لا يهتمون بدخول الناس في الإسلام، فتطلعت نفوس الناس إلى ذلك الإسلام وودوا لو يتعرفون عليه لعلهم يعرفون السبب في اختصاص العرب أنفسهم به وضنهم به على غيرهم، فما زالوا يفعلون ذلك ويسألون عن الإسلام ويستفسرون حتى وجدوا أنفسهم مسلمين دون أن يدروا".
(1) الأولى استعمال "المسلمون" بل هو في الواقع الصواب
ولقد قال الراهب القبطي "يوحنا النقبوس" شيئا من ذلك، وكان متأسفًا؛ لأن العرب لم يلجأوا إلى القوة في فرض الإسلام، إذ لو أنهم فعلوا ذلك لزاد تمسك الأقباط بعقيدتهم ـ على مذهب العقائد ـ وإباء كل ما يفرضه بالقوة، ولما وجد الإسلام هذا الطريق السهل الميسر إلى القلوب في مصر والأندلس وإنك لتحاول أن تدرس كيف أسلم أقباط مصر، وكانوا من أشد الناس استمساكًا بعقيدتهم ، لقد استشهدت في سبيلها منهم جماعات بعد جماعات على أيدي عتاة الرومان من أمثال "دقلديانوس" وطغاة الروم من أمثال "قرس"، فلا تجد على تساؤلك جوابًا، لأن التحول إلى الإسلام في هذين البلدين ـ مصر والأندلس - تم في هدوء وسكون: انسابت العقيدة في قلوب الناس كما ينساب الماء في أرض الزرع فتخضر وتزهر وتثمر بإذن ربها.
وفي بلاد المغرب أسلمت قبائل البربر مبهورة بما رأت من روعة إيمان عقبة بن نافع وأصحابه، فهذا الرجل الفريد في بابه، الذي وهب نفسه للإسلام كان يلقى رئيس القبيلة ويحدثه ثم يدعو إلى الإسلام فيسارع إلى الإيمان ليكون من قوم عقبة، ثم يتبعه بعد ذلك قومه.
إن مداخل الإسلام إلى القلوب هي سماحته ويسره وإنسانيته، أنه يقدم للمؤمن به الاطمئنان وهدوء البال، ويفتح له إلى الله سبحانه بابًا واسعًا للمغفرة والأمل وثواب الآخرة، وكل ذلك دون مقابل. وفي أديان أخرى تعرض عليه أموال وهدايا وقرابين، ويلزم بطاعة رهبان وقساوسة، ويراقب ويعاقب ويحرم من نعمة الله بقرار من رئيس الكنيسة ، لا شيء من هذا في الإسلام ، من هنا كان مدخله إلى النفوس سهلًا ذلولًا (1) .
(1) الإسلام الفاتح، د. حسين مؤنس: ص 15 و 16
شبهة الإكراه والجزية:
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقائق نجد الشائنين على الإسلام يثيرون شبهاتهم أمام من لا يعرف هذه الحقائق ، ويلبسون ما يثيرونه أثوابا من الخداع الذي يصور الباطل وكأنه شيء، فمن هذه الشبهات التي أثيرت قولهم إن الإسلام انتشر بحد السيف ، ويقدمون لتبرير دعواهم قائمة بالحروب التي ذكرت أسماؤها حتى ليخيل للقارئ أو السامع أن الإسلام محب لسفك الدماء وأنه لا يستطيع الانتشار بغير القهر والإكراه.
وهذه الدعوى وتلك الشبهة مردودة بما تنطق به نصوص الإسلام أولا فـ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .
ثم من التطبيق العملي في مسيرة الدعوة فلا يستطيع هؤلاء أن يقدموا لنا أسماء من أكرهوا على دخول الإسلام، ولم يسجل لنا التاريخ حالة واحدة تسندهم في دعواهم بل كان العكس هو الذي يقع أن يلقى المسلمون العنت من الكافرين عندما يعلنون إسلامهم، ويواجهون بالفتنة في الأبدان والأموال ويواجهون السخرية والاستهزاء والمساومة والأغراء، وأما ما دار في حروب فقد عرفنا في الصفحات السابقة أهدافها وأخلاق المجاهدين.
ثم إن نتيجة هذه الحروب تكذب هؤلاء الشانئين في دعواهم ، فقد رأينا كيف يكون التعامل مع الأسرى، فإذا كان الإسلام ـ كما يزعمون ـ يفرض بالسيف فما كان النص القرآني الحكيم في شأن الأسرى يقول:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ، فالمن أو الفداء رد عليهم (1) .
كما أن وجود أهل الديانات الأخرى واستمرارهم في البلد المفتوحة رد واقعي عليهم كذلك.
(1) انظر الإسلام والمستشرقون ـ مجلة البعث الإسلامي المجلد السابع والعشرين: ص 160
ويذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} : أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرهًا مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا.
وقال ابن جرير: حديثنا ابن يسار حديثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدا أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا تدع أبناءنا ، فأنزل الله عز وجل:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة بن نحوه، وقد رواه ابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد عن ابن عباس قوله:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني ، كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلًا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:((ألا استكرهما ، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية)) فأنزل الله فيه ذلك [رواه ابن جرير] .
وروى السدي نحو ذلك، وزاد: وكانا قد تنصرا على أيدي تجار قدموا من الشام يحملون زبيبًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما فنزلت هذه الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسبق، قال: كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًّا لعمر بن الخطاب فكان يعرض على الإسلام فآبي فيقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ويقول: يا أسبق لو أسلمت لاستعنا بك في بعض أمور المسلمين.. (1) .
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 310 و 311
وأشار ابن كثير إلى ما ذهب إليه طائفة كثيرة من العلماء من أن هذه محمولة على أهل الكتاب، وذكر القرطبي في معنى الآية الكريمة ستة أقوال:(1) يرجح فيها ما رواه أبو داود عن ابن عباس في أنها نزلت في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار، قالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .
قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه. فنزلت:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع.
ودليل ترجيح القرطبي لقول ابن عباس رضي الله عنهما إيراده لقول النحاس: "قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي". (2) .
وذهب إلى هذا ـ أيضا ـ ابن جرير وكذلك الزمخشري في تفسيره والرازي.
(1) انظر تفسير القرطبي: 3/ 280و 281
(2)
انظر تفسير القرطبي: 3/ 280
ويرتبط بشبهة الإكراه ما قيل في أمر الجزية ، ولقد سبق الكلام عنها ولكن نضع في هذا المقام النقاط على الحروف دفعًا لما أثير فيها من دعاوى.
ليس القدر المالي الذي يؤخذ ممن يتمتع بحقوق الرعوية مع المسلمين الفاتحين مغريًا حتى يكون الغاية من الفتوحات الإسلامية، فمقاديرها ضئيلة ولا تقارن بما يؤخذ من أموال المسلمين من الزكاة.
كما أن هذا القدر الضئيل يراعى فيه قدرة من سيدفع ولذلك فهي على مستويات: أعلاها 48 درهما في السنة على الأغنياء مهما بلغت ثرواتهم (1) .
وقدرت بـ 240 قرش مصري تقريبًا.
وأوسطها 24 درهما في السنة على المتوسطين من تجار وزراع.
وأدناها 12 درهما في السنة على العمال المحترفين الذين يجدون عملًا.
كما يعفى من دفع الجزية تمامًا الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوو العاهات (2) . جاء في عهد خالد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد، القوي على قدر قوته والمقل على قدر إقلاله" ويدفع هذا القدر اليسير مع المقدرة عليه ليجد الدافع الحماية في ماله وعقيدته وعرضه وكرامته فقد جاء في عهد خالد بن الوليد لصاحب قس الناطف: " إني عاهدتكم على الجزية والمنعة.. فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم"(3) .
ولذلك رد خالد بن الوليد على أهل حمص، وأبو عبيدة على أهل دمشق، وبقية القادة المسلمين على أهل المدن الشامية المفتوحة ما أخذوه منهم من الجزية حين اضطر المسلمون إلى مغادرتها قبل معركة اليرموك؛ لأن الجزية أخذت منهم على المنعة والحماية فإذا لم تتحقق ردت الأموال.
فإذا قيل: ولماذا لا يكلفون بحماية أنفسهم؟ قلنا: إنه من الإكراه لهم أن نطلب منهم أن ينتظموا في صفوف جيش يدافع عن مبادئ لم يؤمن هذا الإنسان بها.
أما إذا رضي أن يتطوع في الجيش الإسلام قبل ذلك منه وسقطت عنه الجزية (4) .
(1) انظر هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 35؛ وانظر موسوعة فقه عمر: ص 183
(2)
انظر هذا هو الإسلام. د. مصطفى السباعي: ص 35، وانظر موسوعة فقه عمر: ص 186
(3)
هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 34؛ وتاريخ البلاذري.
(4)
هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 37
كما أن ما يدفعه الواحد منهم من الجزية يعود عليه عند حاجته ، فقد جاء في عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة: "أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وأعيل من بيت مال المسلمين وعياله (1) .
مر عمر بباب قوم وعليه سائل، شيخ كبير ضرير البصر، يسأل فضرب عضده من خلفه ، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم". (2)
كما يجوز للإمام أن يعفى عن الجزية جميعًا، كما فعل أبو عبيدة رضي الله عنه حين أسقط الجزية عن أهل السامرة بالأردن وفلسطين (3) . وكما أسقط عمر رضي الله عنه الجزية على ملك شهربراز وجماعته لقاء اتفاقه معهم على قتال العدو، وكما أسقط معاوية رضي الله عنه الجزية عن سكان أرمينية ثلاث سنوات.
ويحسن أن ذكر في هذه النقاط المتعلقة بأمر الجزية الفهم الذي يناسب التطبيق العملي الذي تم في أخذ الجزية، فقد فهم أن الجزية تحمل معنى الإذلال في قوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
ولكن الفهم الذي ينسجم مع ما ذكر من حقيقة التطبيق الصحيح لأخذ الجزية هو أن تفسير "يد" في الآية الكريمة يعني ما جاء في عهد خالد رضي الله عنه لصاحب قس الناطف والذي ذكر منذ قليل: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد، القوي على قدر قوته والمقل على قدر إقلاله" فاليد ـ هنا ـ تعني القدرة.
وأن تفسير قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
فإن الصغار ـ هنا ـ بمعنى الخضوع وليس الذلة والمهانة وقد ذكر الشافعي رحمه الله في قوله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} : أي يجري عليهم حكم المسلمين" (4) . فهو يفسرها ـ إذن ـ بمعنى الخضوع لحكم المسلمين. ويذهب إلى هذا الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله فيقول: "يتحتم تفسير الصغار هنا بالخضوع لا بالذلة والمهانة، ومن معاني الصغار في اللغة الخضوع، ومنه أطلق "الصغير" على الطفل لأنه يخضع لأبويه ولمن هو أكبر منه، والمراد بالخضوع حينئذ الخضوع لسلطان الدولة، بحيث يكون في دفع الجزية معنى الالتزام من قبل أهل الذمة بالولاء للدولة، كما تلتزم الدولة لقاء ذلك بحمايتهم، ورعايتهم واحترام عقائدهم، وليس في الخضوع لقوانين الدولة وسلطانها غضاضة على المواطنين مهما اختلفت عقائدهم (5) .
وإذا حدث نوع من التجاوز في زمن الأزمان في التطبيق فإن ملابسات التطبيق على مر العصور والتصرفات الخاصة من بعض المنفذين لا تحسب على الإسلام في نظامه العادل، وإنما تحسب على فاعليها.
(1) الخراج، لأبي يوسف: ص 144
(2)
خراج أبي يوسف: ص 150، وانظر موسوعة فقه عمر: ص 185
(3)
هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 38؛ وانظر: فتوح البلدان، للبلاذري
(4)
انظر لسان العرب: لابن منظور: 4/ 459
(5)
هذا هو الإسلام: ص 43
شبهة الرق:
وإذا وصلنا إلى تقرير أن الجزية ليست غاية من الجهاد فإننا نقرر كذلك حقيقة أخرى هي أن الرق ليس غاية من الجهاد في الإسلام كما يدعى المبطلون، بل إن هذا القول دليل على عدم الفهم لحقيقة الإسلام وغاياته ووسائله في الوصول على هذه الغايات.
فإن الإسلام هو الذي يقرر كرامة الإنسان وحريته فلا يعرف العبودية إلا لله سبحانه، وقد جاء الإسلام وكان الرق نظامًا متبعًا في العالم كله، ويعامل الرقيق معاملة لا تليق بالإنسان وتكريم الله له فقدم الإسلام للناس ما يعيد صوابهم في نظرتهم إلى الإنسان ليجتث الداء ويعالج المشكلة معالجة واقعية وموضوعية فقدم ما يحقق المساواة بين الناس "بعضكم من بعض" جاء ليقول:((من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه)) جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: ((أنتم بنو آدم، وآدم من تراب)) وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد وإنما الفضل للتقوى: ((ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى)) جاء ليأمر السادة أمرًا أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1) . وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة، فالسادة (أهل الجارية) يستأذون في زواجها:{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .
وهم إخوة للسادة: ((إخوانكم خولكم.. فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم: ((لا يقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي وليقل: فتاي وفتاتي)) . ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: "احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك"(3) .
والإسلام بهذه التوجيهات والتشريعات قد قدم التهيئة الواقعية للتحرير العملي الصحيح.
(1) سورة النساء: الآية 36
(2)
سورة النساء: الآية 25
(3)
انظر شبهات حول الإسلام. أ. محمد قطب: ص 37 و 38
ثم دعا وشجع على العتق والمكاتبة فأصبح العتق من كفارات الذنوب وإذا طلب الرقيق منح الحرية مقابل ما يتفق عليه من مال منح ذلك.
وسلك الرسول صلى الله عليه وسلم المسلك العملي مع أصحابه في تنفيذ ما سبق أخذًا بيد الناس إلى التحرير الكامل الصحيح ، فكان يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب فآخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر.
وزوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد، وأرسل مولاه زيدا على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب ، فلما استشهد ولي ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش وفيه أبو بكر وعمر ، فلم يعط المولى مجرد المساواة الإنسانية بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على "الأحرار"(1) .
وهو الذي قال: ((اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل علكيم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى) وعمر بن الخطاب يقول وهو يستخلف: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا لوليته".
وهكذا كانت الواقعية في التحرير الصحيح الذي تربى فيه فنوس الأرقاء وتهذب فيه نفوس السادة ليكون الجميع بهذه التربية إخوانًا.
والإسلام الذي سلك هذه المسلك حرم كل الصور التي تمثل مصادر الرق، ولكن بقي مصدر يضطر إليه المسلمون اضطرارًا لا يتعلق بهم وحدهم وهو الحرب وما يكون من أسرى الحرب ، وقد كان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام فتسلب حرياتهم ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب، يشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه ممن يبغي الاستمتاع منهم بلا ضابط ولا نظام ولا حترام لإنسانية أولئك النساء أبكارًا كن أو غير أبكار.
أما الأطفال ـ إن وقعوا أسرى، فكانوا ينشأون في ذل العبودية البغيض (2) .
فكان من باب المعاملة بالمثل أن يظل هذا الباب مفتوحًا ولكن مع فارق المعاملة على ما قدمنا في الصفحات السابقة من معاملة الإسلام للأسرى.
والذي ينبغي أن ننبه إليه مع ما سبق من أن الآية الكريمة التي تعرضت لأسرى الحرب قد ذكرت المن والفداء، ولم تذكر الاسترقاق للأسرى، حتى لا يكون هذا تشريعًا دائمًا للبشرية، وعلى ذلك يكون أخذ المسلمين بمبدأ الاسترقاق في الحروب خضوعًا لضرورة قاهرة لا فكاك فيها.
فالجهاد في سبيل الله سبحانه لم يكن رغبة في استعباد الناس أو أخذ أموالهم، أو التوسع والسيطرة الغاشمة إنما كان جهادا لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذه الغاية يضمن للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها وحريتها وكرامتها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
(1) شبهات حول الإسلام: ص 48
(2)
شبهات حول الإسلام: ص 51
الخاتمة
وبعد أن عشنا في مباحث هذا الموضع الخطير نبرز أهم نتائجه فيما يلي:
ـ لقد وقفنا على حاجة البشرية إلى تحقيق السلام في حياتها لما تحدثه الحروب من آثار مدمرة لا تستقيم حياة الإنسان بها، وقدمنا الأدلة على حرص الإسلام وضماناته لحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وأن الإسلام يتميز على قوانين البشر في ذلك بأنه يربي الناس على احترام القوانين احترامًا ذاتيًّا دون حاجة إلى رقيب بشري؛ لأن المسلم ينطلق في أعماله كلها من قاعدة الإخلاص لله سبحانه في كل شؤونه.
ـ كما تناولنا مفهوم السلام في الإسلام ، وأنه مبدأ من مبادئ التي برزت عناية الإسلام بها في اسمه الدال عليه، وفي مضمونه، وما يدعو إليه، وأنه يشيع هذا المبدأ ليشيع في النفس الإنسانية وفي الأسرة البشرية معاني المودة والرحمة.
وقد جعل الإسلام السلام أصل العلاقات البشرية، وإن ابتعدت عنه تصارعت، وأنه لا بد من إزالة أسباب الصراع لتحقق العودة إليه تحقيقًا للأمن وإرساءً للطمأنينة.
ولقد وعى سلف هذه الأمة هذه الحقائق فانطلق قادة الفتوح الإسلامية يطبقون هذه المبادئ تطبيقًا عمليًّا في ميادين الجهاد، وأن الوثائق التاريخية تشهد لهم بذلك.
ـ كما تناولنا ضمانات الإسلام لتحقيق السلام وجعله واقعًا يعيشه الناس ويجنون ثماره، وهي مجموعة التدابير التي تكفل هذا ووجدناها تنقسم إلى قسمين: ضمانات نفسية، ومعالجة الصراع إذا وقع بين البشر معالجة موضوعية.
فوضع الإسلام أيدينا على بداية الصراع في حياة البشر، وأهم العوامل المؤثرة على السلم في حياة الناس، وتتصل بالعامل النفسي كحب الاستعلاء في الأرض، واستغلال ثروات الآخرين، والنظرات العنصرية، والأثرة، وضعف التربية على الوازع الديني.
وأما العلاج فإن الإسلام يتناوله بمنهج متكامل يعالج المشكلة من جذورها فيعالج الأهواء النفسية كما يعالج الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية في: النظرة الصحيحة إلى الإنسان وإقامة العلاقات الإنسانية على المساواة الإنسانية، والعدل، والتكافل الإنساني، والأساس المنصف للتفاضل بين الناس ، والذي يدفع بالإنسانية إلى الخير والتنافس في مجالاته.
فهذه الضمانات تؤمن الفرد والجماعات وتحول بينهم وبين الصراعات الدموية، فإذا تغلبت نوازع السوء ووقع الصراع فإن الإسلام يتخذ الجهاد سبيلًا لتحقيق هذا السلم الذي يعده أصلًا في حياة الناس.
ـ كما تناولنا مدلولي الجهاد والحرب، وكيف يكون مصطلح الجهاد معبرًا عن المعنى الذي يريده الإسلام من القتال، وأن كتب التراث استعملت مصطلح الجهاد وكذلك المغازي والسير.
ـ ثم تناولنا حكم الجهاد ومراحل تشريعه، فهو فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن باقيهم، ولم يأثموا بتركه، ويتعين الجهاد في حالات تضطر فيها الأمة كلها إلى مواجهة العدو، إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، وإذا نزل الكفار ببلد، وإذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير.
كما وجدنا ابن عبد البر يتفق مع جمهور العلماء في حكم الجهاد والفرض بقسميه ، ولكنه يقرر هذه الفرضية بوصف عملي ينظر فيه إلى الأمة المسلمة باعتبارها أمة واحدة في عزتها ومنعتها، وكذلك ينظر في قوله إلى وجود الإمام للأمة والذي يحمل على كتفيه مسؤولية الدعوة ، وتبليغها للعاملين ، وإنقاذ الناس من الشرك ومظاهره ومن الظلم وآثاره، فيذكر غزوًا أخر يسميه غزو النافلة، ويتمثل في إخراج طائفة بعد طائفة، وبعث الرايات في أوقات العزة.
ووجدنا أن الحكم الذي ذكره العلماء للجهاد مرتبط بغايات الجهاد التي تجعل اللجوء إلى ضرورة وصولًا إلى الحق وتحقيقًا للعدل ودفعًا للفساد وتبليغًا لكل ما يحقق في الناس هذه القيم وهو الإسلام الذي ينقذ العالمين.
ـ كما رأينا كذلك أن حكم الجهاد مرتبط بمسيرة الدعوة حيث عاش المسلمون فترتها الأولى يواجهون تحديات شتى ويفتنون في أبدانهم وأموالهم، ويقابلون هذا بالصبر الجميل والدفع الفردي عند الاستطاعة وبالتحرك عن مواطن الفتنة بالهجرة، ثم الإذن بالقتال وأبيح لهم ردًّا للعدوان مع عدم الاعتداء، ثم فرض القتال تحقيقًا لغاياته.
ـ كما وجدنا ارتباط حكم الجهاد ببواعثه وأهدافه، فالهدف الأسمى من الجهاد والذي يقره الإسلام هو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذا الهدف يحقق للناس سلمهم الحقيقي ويضمن لهم سلامة أنفسهم وصيانة أعراضهم وحفظ أموالهم، كما أن الجهاد لرد الاعتداء الذي يقع من الظالمين الذين يقفون في طريق الدعاة.
وكذلك لرد العدوان على الديار والعرض والنفس والمال، فإذا أوقف المعتدي اعتداءه وجب وقف قتاله.
ـ وبعد أن وجدنا هذا السمو في البواعث والأهداف لبيان فضل الجهاد وطلبه فهو تجارة منجية من عذاب الله، وهو من أسباب المغفرة الذنوب، ودخول الجنان والمساكن الطيبة في جنات عدن، وهو الفوز العظيم، وبه يتحقق النصر والفتح القريب، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
ـ كما تناولنا منهج الإسلام في حقن الدماء، فهو يصون النفس الإنسانية ويحرم الاعتداء عليها إلا إذا استوجبت هذه النفس عقوبة تستحقها، كما يعد الإسلام الاعتداء على النفس اعتداء على الناس جميعًا.
ومن حرص الإسلام على سفك الدماء وجدنا توجيهات الإسلام في إعداد ما استطاع المسلمون من قوة لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء فلا تحدث مقاتلة.
كما يجعل الإسلام الرد على العدوان بقدره ولا يتمادى في إيقاع المزيد عليه.
كما يقصر القتال على المقاتلة فلا قتل للنساء، أو الشيخ الفاني أو الصبي أو الرهبان.
ومن باب تحجيم سفك الدماء كذلك ما اشترطه الإسلام من توجيه الدعوة أولا قبل القتال.
فإن أصر الأعداء على القتال فإن الإسلام يشرع كتمان الأمر والتورية لتحقيق المفاجأة التي تدعو العدو إلى التسليم دون سفك الدماء، وقد وجدنا التطبيق العملي في حروب المسلمين لهذه الضوابط.
ـ وتناولنا بعد ذلك خلق الجهاد في الإسلام، وكيف جعل الإسلام نظامه الخلقي يتناول السلم والحرب حيث جعل التخلق بمكارم الأخلاق من الغايات التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف تتجلى الصور الخلقية في القادة من رفق القائد بجنده ونصحه لهم ومشاورته لجيشه، وما يتعلق بالجند من الطاعة للقائد في المعروف.
ومن الصور الخلقية للمجاهدين جميعًا الصبر والمصابرة والثبات وعدم الفرار.
ومنها الظهور بالقوة مع عدم الغرور وذلك لإرهاب أعداء الله وتحجيم سفك الدماء.
ومنها الرحمة وما يتبعها من عدم المثلة والتحريق وقطع الأشجار وهدم العمران ومنها الوفاء بالعهود والمواثيق.
ومنها الشكر مع النصر وعدم اليأس عند الهزيمة ومحاسبة النفس ورأينا تطبيقات عملية لهذه الأخلاق في الغزوات.
ومن هذه الأخلاق الجامعة الطاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم والتنزه عن المعاصي التي تكون سببًا في سخط الله وغضبه.
وإذا كان الجهاد في الإسلام ملتزمًا بهذه الأخلاق الكريمة فكيف يقرن بالإرهاب؟!
ـ كما تناولنا الآثار المترتبة على الجهاد. ووجدنا أن الحرب إذا وضعت أوزارها تنتج مجموعة، من الآثار التي تتصل بالمجاهدين والمحاربين، وتناولنا من هذه الآثار ما يتعلق بدار الإسلام، ودار الحرب، والمعاهدين وما يجب عليهم من واجبات ليستمتعوا بما لهم من حقوق، والهدنة، والأمان الحربي، والصلح، والغنائم، وأحكامها (الأموال المنقولة ـ الأسارى ـ الأرض) وتوجيهات الإسلام في حالة وقوع الهزيمة بالمسلمين.
وقد وجدنا أن الدنيا كلها ـ بحسب الأصل ـ دار واحدة، وأرض الله الواسعة لخلق الله جميعًا واحدة، لا يحظر على أحد مكان منها إلا بسبب يوجب ذلك.
ومن هذه الأسباب قيام الحرب وما يتبعها من آثار فيحظر على المسلم أن يقيم في دار يقوم فيها القتال بينهم وبين المسلمين لما يترتب على ذلك من تعريضهم للمخاطر والقتل.
وتقسيم العلماء للأرض على قسمين نشأ من الآثار المترتبة على وقوع الحرب.
فيقصد من دار الإسلام البلاد التي تحكم بالإسلام تظهر فيها شعائره ويأمن فيها المسلمون.
وأما دار الحرب فهي البلاد التي لا تحكم بالإسلام ولا تظهر فيها شعائره ، فالسلطان فيها لغير المسلمين.
كما ينشأ من آثار الحرب دار ثالثة تسمى بدار العهد وهي التي لم يظهر عليها المسلمون ولكن أهلها دخلوا في عقد المسلمين وعهدهم على شرائط تشترط وقواعد تعين فهذه تسمى بدار العهد وهي دليل على الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه.
وفي بيان ما للمعاهدين وما عليهم وجدنا:
التحذير من نقض العهود بصورة عامة، كما يعامل المعاهدون الذين قبلوا شروط المسلمين ودخلوا في الطاعة قبل الحرب أو أثناء الحرب، يعاملون طبقا لشروط الصلح التي أبرمت معهم كما قدمنا نماذج من هذه المعاهدات.
فإذا ما نصح المعاهدون ووفوا والتزموا فلهم:
1 ـ حماية النفس والعرض من أي اعتداء سواء من المسلم أو غيره.
2 ـ إذا غزا العدو بلاد المسلمين فغنم شيئًا من أموال أهل الذمة ثم أظهر الله المسلمين على عدوهم واستردوا هذه الأموال فعليهم إعادتها إلى أصحابها من أهل الذمة دون مقابل.
3 ـ لهم المحافظة على عقائدهم وعباداتهم، وعلاقاتهم الشخصية.
4 ـ لهم أن يمارسوا من عاداتهم ما لا يتعارض مع آداب الإسلام العامة.
ـ كما رأينا من الآثار المترتبة على الجهاد كذلك الهدنة وهي أن يطلب الأعداء ترك القتال فترة من الفترات قد تنتهي إلى الصلح وهذا يسمى بعقد الهدنة والموادعة. إذا تم الاتفاق عليه فإذا طلب العدو ذلك فيجب أن يجاب إلى طلبه.
وكذلك إذا كانت الأشهر الحرم فلا يحل فيها البدء بالقتال إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال.
ـ وأما الأمان فهو كذلك من الآثار المترتبة على الجهاد ـ كذلك ـ وهو أن يطلب فرد من الأعداء المحاربين الأمان وعندئذ تقبل منه ولا يجوز الاعتداء عليه.
وطالب الأمان يطلبه لأغراض شتى ويعامل على حسب حاله وهذا الأمان الفردي أعطاه الإسلام للرجال والنساء، فمن حق أي فرد أن يؤمّن مِنَ الأعداء مَنْ يطلب الأمان باستثناء الصبيان والمجانين.
وأما الأمان الذي يعطى للجماعة فإنه من شأن أمير المؤمنين لتحري المصلحة.
ويبقى المستأمن مستمتعًا بحقه في الأمن ما دام محافظًا على الأمن والنظام العام ولم يخرج عليهما بأن يكون عينًا أو جاسوسًا، وتطبق عليه القوانين الإسلامية في المعاملات المالية والعقوبات.
ـ كما أنه يقعد الصلح بين المسلمين وبين أقوام دون حصار.
ـ ومن الآثار ـ كذلك ـ الغنائم وهي المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب وتشمل:
1 ـ الأموال المنقولة.
2 ـ الأسارى.
3 ـ الأرض.
وتسمى كذلك الأنفال.
وقد أحل الله لهذه الأمة الغنائم، وزعت توزيعا يحقق النفع للأمة جميعًا. وعرضنا للتجربة الأولى في تقسيم الغنائم في بدر، ومع تحقيق العدل في التقسيم يأتي التحذير من الغلول.
ومن هذه الغنائم الأسارى وهم المقاتلون الذين يقعون في أيدي المجاهدين أحياء، وقد يكون من الأسرى النساء والصبيان، فأما الرجال المقاتلون فللحاكم أن يتصرف معهم بما هو أنفع وأولى بالحق من المن أو الفداء، أو القتل لمجرمي الحرب، وأما النساء والصبيان فليس عليهم القتل.
وإذا كانت الحروب تتمخض عن وقوع أسرى لدى كل فريق من المتحاربين فإننا رأينا كيف تكون المعاملة الرقيقة الإنسانية الحانية من الإسلام نحو الأسارى رجالًا ونساء وذرية.
ـ وأما ما يتعلق بالأرض فإن الإمام مخير فيها بين أمرين:
الأول: أن يقسمها على المجاهدين.
الثاني: أن تصبح وقفا على المسلمين.
وإذا اختار الحالة الثانية فإنه يضرب على الأرض خراجًا مستمرًا، ويقدر الخارج اجتهادًا بما يناسب المكان والزمان.
هذا من جانب الآثار المترتبة على الجهاد في حالة انتصار المسلمين، أما إذا حدث تقصير من قبل المجاهدين في جانب من الجوانب وأصابهم القرح، وحدثت الهزيمة فإن الإسلام يوجه اتباعه إلى ما سبق ذكره من أخلاق المجاهدين، وإذا وقع في يد العدو أسرى من المسلمين ينبغي أن يبذل الإمام كل الجهد في تخليص الأسرى حتى لا يفتنوا في دينهم وحتى لا يتعرضوا للأذى وهم في قبضة العدو.
ـ وتناولنا في العلاقات الدولية في الإسلام ضرورة الاتصال بين الأفراد والدول وأن الإسلام أقام العلاقات الداخلية بين أفراد الأمة على المودة والرحمة لتتحقق معهم الوحدة العضوية والتي قامت على الأخوة في الله سبحانه، وما يصحب الأخوة من حقوق ومظاهر منها الحب في الله، ومنها التراحم والتكافل والتكامل.
والأسس التي جعلها الله سبحانه في العلاقة بين الإنسان وغيره لا تمثل ـ كما يزعم المغرضون ـ تكوين عنصرية جديدة تقوم على أساس العقيدة، ولكن تحقيق مفهوم الوحدة الحقيقية بين المؤمنين يأتي ثمرة طبيعية لاستجابة المؤمنين، وليست تكوينًا عنصريًّا، وتتجه الأمة المؤمنة نحو غيرها من الجماعات البشرية الأخرى لتحقق معها علاقات يؤسسها الإسلام على:
1 ـ التذكير بالأصل الواحد.
2 ـ الحق.
3 ـ العدل.
4 ـ أساس التفاضل في الإسلام فيما يستطيعه الإنسان من أعمال تسعده وتقدمه في حياته.
واتضح لنا من تناول هذه الأسس أن الإسلام يهدف في بيان علاقة الإنسان بغيره إلى تحقيق الأمن والسلم والحياة الطيبة للأفراد والجماعات.
ورأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك السبيل العملي في بيان علاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول المخالفة في الكتاب الذي كتبه عند قدومه المدينة بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم، وبين العلاقة بين الدول المسلمة، والمخالفين في الدين خارج الدولة، مما يبرهن على أن دولة الإسلام تتسع لعلاقات سليمة مع الدول المخالفة، بل وتتسع الدولة الإسلامية نفسها للتعايش مع المخالفين في الدين ما داموا مسالمين.
ـ كما تناولنا موقف الإسلام من المنظمات الدولية، ووجدنا أنه يرحب ويشجع كل ما يحقق للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها الحقيقي فإذا أدرك الناس خطورة الحرب بينهم ووجدوا أن السبيل إلى تحجيمها في تكوين منظمات تضم مجموعة من الدول التي ترضى فيما بينها ما يحقق قواعد العدل والحق والمساواة فإن الإسلام يربط على أيديهم ويعينهم على ذلك بمنهجه الرشيد وكماله الذي لا يشوبه الهوى.
وقد أشاد الرسول الكريم بحلف الفضول وآثاره وأنه لو دعي به في الإسلام لأجاب.
وقد قدمنا الظروف الدولية التي دعت إلى إنشاء المنظمة الدولية العالمية لتعمل على حفظ السلم والأمن الدولي، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي في جميع المجالات، وجعل الأمم المتحدة مركزًا لتنسيق أعمال الأمم، كما ذكرنا المبادئ المعلنة لها، وكيف يحذر الإسلام في مبادئه من الفصل بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي.
كما بينا الدوافع التي جعلت منظمات دولية أخرى تنشأ لتحقيق مصالح تخص هذه المنظمات، ومنها منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الأفريقية، والمبادئ والأهداف لهذه المنظمات.
ـ كما تناولنا الشبهات في موضوع السلم والحرب في الإسلام وقد بينا كيف كان العرض السابق لمباحث هذا الموضوع هو الرد الموضوعي لما أثير من شبهات مغرضة لا تستند إلى واقع ، بل هي من أوهام المشككين وحقد المغرضين على الإسلام والمسلمين.
وذكرنا من هذه الشبهات شبهة الإكراه في الدين ونشره بالسيف وكيف إنها متهافتة بتصريح النصوص في أنه (لا إكراه في الدين) . ومن الواقع العملي في مسيرة الدعوة والفتوحات، واستمرار وجود المعاهدين وأهل الديانات الأخرى إلى الآن في البلدان المفتوحة.
ـ كما تناولنا ما يتصل بهذه الشبهة من شبهة الجزية والرد عليها وهي القدر المالي الذي يؤخذ ممن يتمتع بحقوق الرعوية من المسلمين الفاتحين ولم يكن مغريًّا حتى يكون الغاية ـ كما يزعمون ـ من الفتوحات فأعلاها 48 درهما وأدناها 12 درهما وأوسطها 24 درهما ، ويعفى منها الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوو العاهات.
ويدفع هذه القدر اليسير مع القدرة عليه ليدافع عنه في ماله وعقيدته وعرضه وكرامته، وإن لم يستطع الفاتحون تحقيق هذا لسبب من الأسباب وردوا هذا القدر اليسير إليه وما يدفعه الواحد منهم يعود عليهم عند حاجته.
وقد ناقشنا ما معنى الإذلال في إعطاء الجزية وأنه ينصرف إلى معنى الخضوع للنظام وأن تكون عن قدرة.
ـ كما تناولنا شبهة أخرى في اعتبار الرق غاية من الجهاد في الإسلام، وكيف أن هؤلاء لم يفهموا حقيقة الإسلام الذي يقرر كرامة الإنسان وحريته فلا يعرف العبودية إلا لله سبحانه، وكيف عالج الإسلام الرق الذي كان شائعًا معالجة موضوعية صحيحة فقدم ما يحقق المساواة بين الناس وما بين النفوس على القيم والمبادئ التي تحقق للإنسان الشعور بكرامته ثم أغلق جميع المصادر للرق، ووسع طرق العتق، مع استمرار المعاملة الكريمة، معاملة الأخوة بين السادة وإخوانهم، كما آخى بين بعض الأحرار من سادة العرب وبين بعض الموالي ومنحهم الرسول مراكز قيادة لجدارتهم، وأمر بطاعتهم.
وأما المصدر الذي يضطر المسلمون اضطرارًا فهو يتعلق بغيرهم من الأعداء الذين يسترقون الأسرى من المسلمين فيسلبونهم حريتهم ويعاملونهم بالعسف والظلم، ولذلك فإن هذا الباب ظل مفتوحًا مع فارق المعاملة.
كما أن الآية الكريمة التي تحدثت عن الأسرى قد ذكرت المن والفداء فقط حتى لا يكون الاسترقاق للأسرى تشريعًا دائمًا للبشرية.
وعلى ذلك يكون أخذ المسلمين بمبدأ الاسترقاق في الحروب خضوعًا لضرورة قاهرة لا فكاك منها.
فالجهاد في سبيل الله سبحانه لم يكن رغبة في استعباد الناس أو أخذ أموالهم، أو التوسع والسيطرة الغاشمة، إنما كان جهادًا لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذه الغاية يضمن للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها وحريتها وكرامتها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
الدكتور محمد رأفت سعيد.
المصادر والمراجع
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ أحكام القرآن، للإمام أبي عبد الله بن إرديس الشافعي المتوفى سنة 204هـ، جمعه الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي صاحب السنن الكبرى المتوفى سنة 458هـ، عرف الكتاب الشيخ محمد زاهد الكوثري، كتب هوامشه الشيخ عبد الغني عبد الخالق، بيروت، دار الكتب العلمية.
3 ـ الإسلام الفاتح، للدكتور حسين مؤنس، سلسلة دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، العدد 4 سنة 1401هـ.
4 ـ الإسلام والمستشرقون، مقال، للدكتور محمود محمد الطنطاوي في مجلة البعث الإسلامي ندوة العلماء (الهند) عدد ممتاز 1402هـ ـ 1982م.
5 ـ الإفصاح عن معاني الصحاح، لأبي المظفر يحيى بن هيبرة المتوفى سنة 560هـ، المؤسسة السعيدية بالرياض توزيع مكتبة الحرمين بالرياض.
6 ـ كتاب الأموال، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ، تحقيق دكتور محمد خليل هراس، قام بطبعه ونشره الشيخ عبد الله الأنصاري إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر.
7 ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للإمام محمد بن رشيد القرطبي 520 ـ 595هـ، طبعة سابق 1405هـ ـ 1985م.
8 ـ البداية والنهاية في التاريخ، للإمام ابن كثير المتوفى 774هـ، مطبعة المتوسط، بيروت.
9 ـ تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، طبعة أولى، المطبعة الحسنية المصرية.
10 ـ تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي، طبعة أولى بالمطبعة الأدبية بمصر.
11 ـ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للحافظ المنذري 581 ـ 556هـ، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، طبعة أولى 1381هـ ـ 1961م.
12 ـ تفسير القرآن الكريم، للحافظ ابن كثير، المتوفى 774هـ، دار المعرفة، بيروت.
13 ـ التنظيم الدولي، دكتور بطرس غالي، القاهرة، 1956م.
14 ـ الجامع لأحكام القرآن الكريم، لأبي عبد الله القرطبي، مصورة من مطبعة دار الكتب، دار الكاتب العربي، القاهرة 1387هـ ـ 1967م.
15 ـ جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، للإمام محمد بن محمد بن سليمان، طبعة السيد عبد الله هاشم اليماني المدني بالمدينة المنورة.
16 ـ الحرب والسلام في الإسلام، للأستاذ عبد الكريم الخطيب، دار نجد للنشر والتوزيع، طبعة أولى 1301هـ ـ 1981م.
17 ـ الحرب والسلام في الفقه الدولي الإسلامي، د. محمد كمال الدين إمام ـ طبعة أولى 1399هـ ـ 1979م.
18 ـ الخراج، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (ضمن موسوعة الخراج) طبعة دار المعرفة ـ بيروت 1399هـ ـ 1979م.
19 ـ الخراج، ليحيى بن آدم القرشي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر (ضمن موسوعة الخراج) .
20 ـ الروض الندي شرح كافي المبتدي في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني، للإمام أحمد بن عبد الله البعلي، منشورات المؤسسة السعودية بالرياض، أشرف على تصحيحه الشيخ عبد الرحمن حسن محمود.
21 ـ رياض الصالحين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي 631 ـ 676هـ، تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للطباعة، طبعة رابعة 1401هـ ـ 1981م.
22 ـ سنن البيهقي لأحمد حسين، المتوفى سنة 458هـ، طبعة الهند 1355هـ.
23 ـ السيرة النبوية لابن هشام المتوفى 213هـ، تعليق طبعة عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية.
24 ـ شبهات حول الإسلام، للأستاذ محمد قطب، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية 1398هـ ـ 1978م.
25 ـ شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية، للأستاذ أبي الأعلى المودودي، طبعة أولى 1406هـ ـ 1985م، دار الصحوة، القاهرة.
26 ـ صحيح البخاري (بحاشية السندي) للإمام البخاري، دار إحياء الكتب العربية، مكتبة زهران.
27 ـ صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام مسلم، تحقيق وإشراف عبد الله أحمد أبو زينة، من كتاب الشعب.
28 ـ العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، للدكتور وهبة الزحيلي، طبعة أولى 1401هـ ـ 1981م مؤسسة الرسالة.
29 ـ فقه السنة، للأستاذ سيد سابق، دار الكتاب العربي، طبعة ثالثة 1397هـ ـ 1977م.
30 ـ فقه السيرة، للأستاذ محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، طبعة ثامنة 1402هـ ـ 1982م.
31 ـ قادة الشام ومصر، اللواء الركن محمود شيت خطاب، دار الفكر.
32 ـ القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، بيروت، المؤسسة العربية للطباعة والنشر.
33 ـ الكافي فقه أهل المدينة المالكي، للحافظ أبو عمر بن عبد البر، المتوفى سنة 463هـ، تحقيق د. محمد بن محمد أحيد الموريتاني 1399هـ ـ 1979م.
34 ـ اللباب في شرح الكتاب، على كتاب الإمام أبي الحسن القدوري في فقه السادة الحنفية، للعلامة الشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي، طبعة 1346هـ، سنة 1927م.
35 ـ لسان العرب، للإمام ابن منظور، دار صادر، بيروت.
36 ـ المبدع في شرح المقنع، لأبي إسحاق بن مفلح الحنبلي، المتوفى سنة 884هـ، المكتب الإسلامي 1980م.
37 ـ المجموع شرح مهذب الشيرازي، تحقيق وتكملة محمد نجيب المطيعي، طبعة أولى، توزيع المكتبة العالمية بالفجالة.
38 ـ مجموع المبدع: المطلع على أبواب المقنع ومعه معجم ألفاظ الفقه الحنبلي، للإمام أبي عبد الله محمد أبي الفتح البعلي الحنبلي، المتوفى سنة 709هـ، صنع محمد بشير الأدلبي، المكتب الإسلامي 1401هـ ـ 1981م.
39 ـ محاضرة: تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين، للأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود، قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1400هـ.
40 ـ المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للإمام مجد الدين أبي البركات، المتوفى سنة 652هـ، طبعة ثانية 1404هـ ـ 1984م.
41 ـ المحلى، لابن حزم، المتوفى سنة 456هـ، المطبعة المنيرية 1352هـ.
42 ـ المسند، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف بالقاهرة 1949م.
43 ـ المصنف، للحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة 211هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، طبعة ثانية 1403هـ ـ 1983م، المكتب الإسلامي، بيروت.
44 ـ المغني، لابن قدامة، المتوفى سنة 620هـ، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
45 ـ المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنه، لابن قدامة، طبعة ثانية، منشورات المؤسسة السعيدية.
46 ـ المنظمات الدولية المتخصصة والإقليمية، د. مصطفى سيد عبد الرحمن، كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
47 ـ موسوعة فقه عمر بن الخطاب، للدكتور محمد رواس قلعجي، مكتبة الفلاح، طبعة أولى 1401هـ ـ 1981م.
48 ـ الموطأ، للإمام مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار القلم، طبعة أولى.
49 ـ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، للإمام محمد بن علي الشوكاني، المتوفى 1255هـ.
50 ـ هذا هو الإسلام، سلسلة رسائل الدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، طبعة أولى 1400هـ ـ 1979م.
51 ـ وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة (بحث) مقدم لمؤتمر السنة والسيرة بالقاهرة، إعداد. جعفر عبد السلام علي، كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر.
52 ـ الوجيز في فقه الإمام الشافعي، للإمام الغزالي، مطبعة حوش قدم.
المناقشة
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحقوق الدولية في نظر الإسلام هي موضوع البحث في هذه الجلسة الصباحية. والعارض له الشيخ محمد علي التسخيري، والمقرر الأستاذ محمد الدسوقي. هل الشيخ محمد رأفت موجود؟ إذن هو المقرر. تفضل يا شيخ علي.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد وآله الطاهرين وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نرغب إليك في مستقبل كريم تعز به الإسلام وأهله، وتذل به النفاق وأهله، وتجعلنا فيه من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا به كرامة الدنيا والآخرة، وبعد.
فقد قُدمت في موضوع العلاقات الدولية في الإسلام تسعة بحوث تفاوتت في الطول والقصر إلا أنها والحمد لله بحوث قيمة ومفيدة، أحاول هنا أن أستعرضها بإيجاز شديد متبعًا المنهج المطروح في ورقة العمل.
فالشيخ محمد علي عبد الله ذكر في بحثه عن حقوق الدولة في الإسلام مقدمة استعرض فيها بعض خصائص قادة الأمة في صدر الإسلام، ثم أعطى المفهوم الإسلامي عن الدولة وأنماطها التطبيقية، وانتقل للحديث عن حقوق الدولة وواجباتها على ضوء القانون الدولي ثم على ضوء النظرة الإسلامية، فذكر منها حقوق المساواة، والبقاء، والصيانة، والأمن، والاستقلال، شارحًا إياها مؤكدًا على أن هذه الأمور لم تتحقق دوليًّا، وإنما نادى بها الإسلام بكل صدق وسعى لتطبيقها، وقد امتاز بحثه بذكر بعض المصاديق الحاضرة وتبرير ما حدث أخيرًا من أحداث في المنطقة.
أما الدكتور محمد الدسوقي في بحثه عن أصول العلاقات الدولية بين الإسلام والتشريعات الوضعية بعد أن قدم مقدمة تحدث فيها عن الصفة الواقعية للإسلام عرض تعريفًا للقانون الدولي العام الذي ينظم العلاقات بين الدول، وآخر للقانون الدولي الخاص والذي يحدد اختصاص محاكم الدولة إزاء محاكم الدول الأخرى، وعرض فكرة تاريخية عن تطور القانون الدولي، ثم أكد على أن كلًّا من العرف والمعاهدات هما المصدران المهمان للقانون الدولي العام، ثم استعرض أهم مواد مشروع إعلان حقوق الدول، وواجباتها الذي قدم إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1948م، فقررت صلاحيته وأحالته إلى الدول الأعضاء لتبدي رأيها فيه، إلا أن الدول جميعها أمسكت عن الرد عليه، ومن ثم انتقل إلى أصول القانون الدولي في الإسلام وقدم لها بالحديث عن الحرب في الإسلام وأنواع الديار وذكر بعض أحكامها، أما الأصول التي ذكرها فهي المساواة بين الناس، السلام أصل العلاقة بينهم، الحرب من أجل السلام، العدالة، احترام العهود، وأخيرًا قارن بين الإسلام والتشريعات الوضعية مبيِّنًا التفوق الإسلامي في هذا المجال.
أما الأستاذ الدكتور الخياط ذكر بدوره القواعد الإسلامية التي تحكم العلاقات الدولية بما يشمل المساواة، والعدالة، واحترام العهود، والإنذار قبل الحرب، وعدم السماح بإنشاء تكتلات ضد الدول، والمعاقبة بالمثل، وملاحظة مصلحة الأمة، وتقديم حقوق العباد على حقوق الله، واختيار أخف الضررين، والتركيز على الدعوة والتزام القيم الإسلامية العليا، وأن السلام أساس العلاقات، وأن الحرب مشروعة في الإسلام. ثم راح يتحدث عن العلاقات أثناء السلم رادًّا على من أكد أصالة الحرب بذكر الآيات الدالة على جعل السلام هو الأصل شريطة أن يسمح للدعوة الإسلامية أن تطرح رؤيتها بحرية. ثم انتقل حفظه الله إلى المعاهدات والاتفاقيات فبيّن تعريفها، ومشروعيتها، ولزوم الوفاء بها، وأنواعها فهي تجارية وسياسية وعسكرية، وما يترتب على ذلك من أحكام إسلامية مشترطًا أمرين: الأهلية، فلا يملك عقد المعاهدات إلا الإمام أو نائبه إلا لضرورة، ثم الرضا. وتعرّض إلى عقد الأمان الخاص الصادر من آحاد المسلمين، والعام الذي تعطيه الدولة وكنههما وحكمهما، وصفتهما ومدتهما وما يترتب عليهما. ومن أنواع الأمان التي تعرض لها: الموادعة وركنها اللفظ وشرطها الضرورة وحكمها الأمان على لنفوس والأموال والذراري والبلدان.
أما الأستاذ الشيخ رجب التميمي ـ حفظه الله ـ ركز في بحثه على أن الإنسانية أمة واحدة دعاها الإسلام إلى التعاون والتسامح والحرية والتمسك بالفضيلة والعدالة والسلام والوفاء بالعهد، أما المصالح الإنسانية العليا فتكمن في المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وقد استعرض الشيخ الآراء الإسلامية في مجالات السلم والحرب وذكر الديار التي عرفها الإسلام. كما تعرض لأحكام الذمة والاستئمان.
وفي مجال العلاقة بين المسلمين وغيرهم كتب الأستاذ محمد الحاج الناصر بحثه المفصل مقدمًا بذكر نبذة عن كلمات الدولة والأمة والشعب لينتقل لبيان معالم العلاقات السلمية بين المسلمين وغيرهم، وتتمثل في:
أولا: التمييز في التعامل بين حقوق المواطنة وبين مسألة الركون القلبي وله فيه بحث علمي مفصل.
ثانيا: ضبط قواعد ومبيحات للتعامل مع من لا يتعايش معهم مواطنًا أو جارًا.
وقد حدد الفرق بين المواطن والمجاور، وما يترتب عليه من أحكام مع الإشارة إلى الوثيقة التي واثق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة هجرته إلى المدينة بين سكانها ، وأخذ منها أحكام أهل الذمة، وقد تم خلال ذلك البحث التمييز بين المهادنة والمعاهدة والمواثقة. كما جاء الحديث عن قضية الحرب وأنها مما لا يلجأ إليه إلا لرد الاعتداء، وكذلك الحديث عن الديار التي يعرفها الإسلام والعلاقات بين المسلمين وغيرهم. وقد ذكر الأستاذ أن هذا البحث مقدمة لبحث أكثر تفصيلًا له في المستقبل مكانه.
أما الأستاذ محمد رأفت سعيد تحدث أولًا عن قضية السلام في الإسلام واعتبره أصلًا مع ذكر آراء علماء السلف، وتطبيقات القادة، ثم ركز على عنصر الجهاد ومراحله وبواعثه وأهدافه، مارًّا بأخلاق الجهاد ومنتهيًا إلى الآثار المترتبة عليه، ومنتقلا بعد هذا إلى موضوع العلاقات الدولية إذ أكد ضرورة الاتصال بين الأفراد والدول وأن الإسلام أقام العلاقات الداخلية على المودة والرحمة، كما وضع أسسًا للعلاقة بين الدولة المسلمة والدول الأخرى. وأخيرا كتب بحثًا يرد فيه شبهات الإكراه في الدين والجزية والرق.
هذا وقد جاء بحث الأستاذ الشيخ محمد عبده أيضًا مُركِّزًا على العلاقات بين المسلمين وغيرهم أثناء السلام ومؤكدًا على أن السلام في الإسلام هو الأصل، ومبيِّنًا أهداف الإسلام من الحرب والنظرة الإسلامية للمعاهدات على أنها عهد يجب الوفاء به، ومؤكدًا ـ أيضًا ـ على أن الحرب إنما شرعت لدفع الاعتداء وتأمين الدعوة الإسلامية، ومستعرضًا بعض المبادئ والأحكام التي تحكم عملية الحرب هذه ثم أحكام الأسرى بما فيها من جوانب للرحمة.
وهكذا بين الشيخ آدم عبد الله على - أيضًا - أحكام الأسرى كموضوع قتل الأسير وبعض تطبيقاته في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث لم يقتل من الأسرى إلا من أحدث أمرًا خطيرًا قبل أسره في إيذاء المسلمين، وموضوع المن على الأسير دون مقابل، وتطبيقاته أيضا، وحكم الفداء، وحكم الاسترقاق، وحكم من ادعى الإسلام من الأسرى، وحكم التفريق بين الأم وولدها، والأسير المتزوج، ثم التعامل مع الأسرى.
أما بحثي المتواضع، فقد ركز على هذا الجانب بالخصوص مؤكِّدًا على التوازن الحكيم الذي راعاه الإسلام بين عنصري الرحمة والمصلحة الإسلامية من خلال بيان نوع التعليمات الحربية قبل القتال والتركيز على عنصر الدعوة وعدم الهجوم المباغت ونوع الوسائل التي يختارها والموارد التي يجوز فيها التأسير، وكيفية وعملية إطلاق سراح الأسرى وحقوقهم التي تشمل العطف بهم وإطعامهم وسقيهم وتوفير ألبستهم واحترام مراتبهم وتوفير الدواء لهم والعمل على هدايتهم إلى الحق وعدم قتل الأسير من البغاة وأخذ البيعة من الأسير القوي ثم إطلاق سراحه، وعدم معاملة أسرى البغاة بالمثل، وعدم قتل الأسير إن أسلم قبل النصر. وقد أكدت في الختام على أن الموقف في النهاية يعود إلى قائد الدولة الإسلامية، وهو يتصف فرضًا بأسمى درجات الالتزام بالشريعة. كما لاحظت أن بعض الأحكام التي استنبطها الفقهاء رحمهم الله ربما لم يراع فيها نوعية الظروف التي جرت الحادثة فيها ، وأكدتُ على حقيقة هامة هي أنه متى تم التزاحم بين نزعتي الرحمة والمصلحة فالذي تشير إليه النصوص الإسلامية هو ترجيح النزعة الإنسانية مهما أمكن إلا أن يتوجه خطر كبير للمصلحة العليا وحينئذ فهي المقدمة.
هذا استعراض سريع للبحوث. وختامًا أود أن أبدي الملاحظتين التاليتين مُتْبِعًا ذلك باقتراح عام:
أولا: إن هذه البحوث رغم قيمتها العلمية لم تستوف في رأيي جوانب هذا الموضوع المهم، وربما كان ذلك لسعته في نفسه بحيث لا يمكن أن يستوعبه مقام حتى ولو كان ذلك بشكل مفهرس، فموضوع مبدأ تأليف القلوب هذا المبدأ له أثر كبير في العلاقات الدولية، ومبدأ التعامل بالمثل إلا قليل أشير إليه، ومبدأ تعبئة كل الطاقات {وَأَعِدُّواْ لَهُم} ومبدأ الموقف الإسلامي الموحد من القضايا الدولية، لم تجد مكانها اللائق في البحوث.
ثانيا: إنها لم تتحدث بشكل نظري عن المفروض في الصورة الإسلامية ثم الواقع القائم حيث تفترض في الأرض دوائر ثلاث هي: دار الحرب، ودار العهد، ودار الإسلام، ثم تنظم العلاقات العامة بينها وبشكل ينطبق والتعبيرات الحديثة والمستجدات ، ثم ينتقل بعد هذا إلى الواقع القائم الممزق في عالمنا الإسلامي لتنظم العلاقات بين الحكومات فيه كواقع استثنائي ، وهي علاقات تتفاوت عن غيرها.
وهنا أقترح تشكيل لجنة تضع لائحة للحقوق الدولية كما يتصورها الإسلام خلال العام الآتي لعرضها على الدورة القادمة بعد أن نرسم لها هنا الخطوط العريضة لعملها أو تقام ندوة متخصصة لذلك، فإذا أمكننا أن نقدم صورة متكاملة كان من الممكن أن نطرحها في مؤتمرات دولية ذلك أن الأمم المتحدة اعتبرت السنوات العشر الأواخر من القرن العشرين عَشْرَ العلاقات والحقوق الدولية ، لعلنا نعوض عن النقص الذي عانينا منه طويلًا نتيجة عدم اشتراكنا في تنظيم هذه الحقوق المعمول بها اليوم كأمة إسلامية ونظرية إسلامية إنسانية لها خصائصها.
والله الموفق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور معروف الدواليبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الرئيس، إخواني السادة العلماء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الذي أنزل عليه القرآن رحمة للعالمين، وبعد:
فإنه ليسرني أن تنتدبني الرئاسة الموقرة لأكون العارض الثاني بعد العرض الأول الهام الجامع الشامل من قبل فضيلة الأستاذ الجليل محمد علي التسخيري حول الحقوق الدولية في الإسلام، وأرجو أن يكون عرضي متمًّا لعرضه الأول، وذلك لأنني ألفت فيه النظر إلى الندوة التي أقيمت في الشهر الماضي في واشنطن تحت عنوان " أمريكا والسلام وتحديات التسعينيات" والتي أردت أن يطلع عليها مؤتمركم الآن؛ لأن الحدث كان في الشهر الماضي وهو خطير جدًّا ، وإليكم تلخيصه:
ففي هذه الندوة التي أقيمت في الشهر الماضي في واشنطن تحت عنوان "أمريكا والإسلام وتحديات التسعينيات" والتي نظمها معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي في واشنطن، وقد جاء فيها توصيات أعدتها لهذه الندوة لجنة العمل الأمريكية الإسرائيلية (EPC) وهي أعظم منظمة إسرائيلية تهاجم الإسلام والمسلمين في كل مكان، وقد اعتبرت ـ كما نشرت الصحافة هذه التوصيات وفي هذا الوقت بالذات الذي يدعو العالم إلى نظام عالمي جديد ـ اعتبرت تلك التوصيات تصعيدًا جديدًا مقصودًا لتشويه حقائق الإسلام العالمية الإنسانية، وذلك بالزعم بأن الإسلام يهدد الحضارة الغربية وأن الإسلام قد أصبح بعد سقوط الشيوعية هو العدو الأول بل التحدي الوحيد للغرب وليس هذا من عندي وإنما أنقل ما جاء في هذه الأخبار، وكما رفعت نسخة عن هذه النشرة الدولية إلى مقام الرئاسة، ولذلك لست أتكلم من عندي وإنما أنقل ما جاء بالحرف حيث قالوا: إن الإسلام قد أصبح بعد سقوط الشيوعية هو العدو الأول بل التحدي الوحيد للغرب، وقالوا: إن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون إلى المسلمن كأعداء وأنهم شعوب غير متحضرة وأنهم دمويون وأنهم غير منطقيين، كما نقلت كل ذلك جريدة الشرق الأوسط العربية الدولية بتاريخ الأحد الأسبق تمامًا في الأسبوع الماضي وذلك في اليوم السادس من الشهر الخامس الميلادي (مايو) 1992م، وقد جاء في هذه التوصيات الصراحة بالدعوة إلى مواجهة الدعاة المصممين على الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، والمصممين على أن الإسلام دين ودولة، وأضافت أيضًا بأنه يجب أن نساند الحركة العلمانية في هذه البلاد.
ولذلك فقد سارعت فور وصولي إلى جدة وما كنت أريد أن أتكلم في هذا الموضوع وإنما أكون مستمعًا ، ورفعت نسخة إلى الأمانة العامة الموقرة عما جاء في الأخبار العالمية عن هذه الندوة الأمريكية في واشنطن من تشويه حقائق الإسلام وشريعته الدولية الإنسانية العقلانية الخطاب والعلمية الحوار ليتخذ المجمع في دورته هذه ما يراه مناسبًا وحكيمًا تجاه تلك التشويهات والتوصيات المشوهة لحقائق الإسلام، وذلك لا بالرد الصحفي والإعلامي المثير للأحقاد، فالإسلام داعية للسلام وإنما فيما أرى بدعوة معهد الدراسات المذكور الذي أقام هذه الندوة وكذلك بعض الشخصيات الكبرى التي ساهمت في هذا التشويه للإسلام وذلك بدعوتهم جميعًا إلى حوار علني ودي ضمن أدب الحوار القرآني الإسلامي من أجل السلام العالمي الذي أمرنا به الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ، حيث قال:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
وحيث قال أيضا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
وذلك ـ يا سيدي ـ من أجل التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم بقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} .
ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وهذه الآية بالذات إنما نزلت بعد صلح الحديبية عندما وجد المسلمون بعد صلح الحديبية أنفسهم مع من سلبوا أموالهم وطردوهم، فكان في قلبهم شيء من الحقد على من أوجب عليهم أن يلتقوا بهم فنزل الله سبحانه وتعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
فانظروا هذا الجديد في الإسلام أعداء مشركون ولكن بعد إقامة الصلح قال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
هذا شيء جديد لم يكن قبل الإسلام وحتى الآن غير موجود فيما بين الأديان والأقوام، وندعوهم ـ أيضًا ـ من أجل التعريف بحقائق الإسلام السامية ورسالته العالمية الإنسانية العقلانية الخطاب والعلمية في الحوار والداعية لجميع الأمم والشعوب قبل أربعة عشر قرنًا إلى نظام عالمي جديد إنساني يقوم على التعاون والتكافل في شؤون الحياة الكريمة فيما بين جميع بني الإنسان على اختلاف الأعراق والأجناس والأوطان والأديان وكل ذلك جديد لم تعرفه الحقوق الدولية العالمية لا من قبل ولا حتى الآن. وعلى أساس أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، كما أعلنه رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ما لم يقاتلون في الدين أو يخرجونا من ديارنا.
ويسرنا أن نعلن أن كل ما عدا ذلك هو جهل بحقائق الإسلام بل افتئات عليه وداع إلى الإفساد في الأرض وإننا بدعوة معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن لهذا الحوار لمنتظرون إن كانوا لخير الأسرة البشرية عائدين: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .
ويسرني في هذا المقام أن أنوه بالمنهج الذي انتهجته المملكة العربية السعودية وعلماؤها في مثل هذه الحملات أن أذكر بما قد كان من استجابتهم عام 1974م. في وفد علمي رأسه المرحوم الشيخ محمد الحركان بعضوية الشيخ محمد بن جبير والشيخ راشد بن خنين وأحد كبار العلماء لا يحضرني الآن اسمه فقد شرفت بمرافقتهم في باريس وجنيف وروما والفاتيكان والمجلس الوزاري الأوروبي في سراسبو للحوار العلمي الهادئ الذي كان له أطيب الأثر في أوروبا كلها حينذاك.
ولقد استجاب وفد العلماء لبيان الحقائق حول جميع ما كان لدى الأوروبيين من معلومات خاطئة ومشوهة للإسلام، كما يسرني في هذه الكلمة أن أوجز هنا حقيقة الإسلام وشريعته الإنسانية العالمية العقلانية والعلمية وأنها - في جملة - نقلة من قومية الأديان المتناحرة سابقًا في كل أدوار التاريخ إلى عالمية الإسلام في شريعته التي قامت على دعوة إيمانية وفق مبادئها الإنسانية كما لخصتها صحيفة المدينة النبوية الدستورية والتي جاء فيها الدعوة الصريحة، وهذه صحيفة المدينة بحق أول دستور مكتوب ظهر في العالم لم يكن له مثل من قبل ولم يلحق به فيما بعد. ظهرت الدعوة في هذه الصحيفة إلى التعايش السلمي والتعاون الإنساني ما بين مختلف الأعراق والأجناس والأديان على أساس كلمة سواء ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، وعلى أساس أنه لا إكراه في الدين وعلى أساس البر بمن يخالفنا في الدين ما لم يقاتلون في الدين أو يخرجونا من ديارنا، وعلى أساس التعاون على البر والتقوى ما بين الجميع، وعلى أساس أنهم كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله ، وأن الله كرم بني آدم جميعهم من غير فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ، وكان الإسلام بذلك وحده الذي أقام السلام في الأرض عملا بمنهاجه ونظامه العالمي الجديد وشريعته التي احترمت حرية العقيدة لجميع من هم تحت راية الإسلام ، ولا ننسى صحيفة المدينة حيث جاء في هذه الصحيفة في هذا الموضوع: المسلمون من قريش والمسلمون من أهل يثرب ومن قاتل مع أهل يثرب قتالهم وجاهد جهادهم وعددهم. وكانوا تسع طوائف من اليهود فقال: لليهود دينهم ولنا ديننا، ولهم النَّصَفُ والمساواة بالمسلمين ولا أحد يلتفت إلى معنى النَّصَف هذه الكلمة كانت معروفة في ذلك الوقت ـ وقت البعثة النبوية ـ باعتبار أنني من جملة ما لخصت فيه بعض الدراسات الاختصاصية في الجامعات الغربية حول الحقوق الكنسية التي تتطلب من الدارس التعمق في دراسة الإنجيل والتوراة وتاريخ التشريع الكنسي مدى الأدوار حتى الآن، فكان علي وأنا المسلم ورغبت أن أدرس، فعندما رجعت إلى هذا التشريع فوجدت عجبًا، ففي إنجيل متى ونصه العالمي حيث جاء عن المسيح عليه الصلاة والسلام عندما كان يقوم بدعوته لبني إسرائيل وقد كفروا به رغم ما قام به من معجزات لم يشف المرضى بل أحيى أحيانًا الموتى فلحقته امرأة كنعانية عربية وتقول له ـ كما جاء في إنجيل متى ـ إن ابنها يموت وما عندها غيره وتبكي وتطلب منه أن يأتي ويساعدها وينقذ ابنها فلم يرد عليها المسيح ـ كما جاء في الإنجيل لا نقول كما هو الواقع، لا ندري ـ فلم يرد عليها والحواريون وراءه فرقت قلوب الحواريين فأخذوا يستنجدون بالمسيح عليه الصلاة والسلام ويقولون: يا سيدنا أجبها، وإذا بالمسيح ـ كما يقولون والعهدة عليهم فيما نقوله ـ يقول: إنما أرسلت لخراف بني إسرائيل الضالة، وإليه الإشارة في القرآن الكريم {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} .
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
وقوله: {وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} .
أما الإسلام فقد جاء فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ} .
ولأول مرة تخرج الدعوة في الدين من نطاق قوميتها التي قال عنها المسيح كما نقلوا عنه: إنما أرسلت لخراف بني إسرائيل الضالة، ثم نقلوا عنه الكلمة التالية: إننا لا نعطي خبزًا لأولاد الكلاب.
هذه هي الشرائع القومية الدينية المنتشرة حتى الآن ، وكلنا نعرف الآن المذابح ما بين الهندوس والمسلمين من أجل هدم المسجد البابري ، وكذلك اليهودية من أجل هدم المسجد الأقصى ، بينما الإسلام لأول مرة في تاريخ الأديان جاء في نص القرآن الكريم {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} .
لأول مرة ينتصب الإسلام على أساس حرية الأديان ليدافع عن الكنائس وتعلمون عهدة النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران بالمحافظة على كنيستهم وذلك بعد المحرقة التي عملتها اليهود كما اطلعت عليها في دراستي لتاريخ الكنيسة قامت في نجران وحرقوا ثلاثين ألف شخص فقام العالم المسيحي في الدولة الرومانية عندئذ بطبيعة الحال لم تكن لهذه الأخبار سرعة الفاكس والتلكس اليوم فأخذت سنوات حتى عرفت روما ما فعله اليهود الذين هودوا بعض ملوك اليمن فقتلوا فرقة كانت تؤمن ببشرية المسيح وبأنه رسول الله هاربة من نظام الكثلكة ، فحرقوا ولكن روما أرادت أن تنتصر لهم بأنهم مسيحيون ولم تكن تعرف الطريق من فلسطين إلى اليمن والمساحات الشاسعة في الصحراء فانتدبت ـ وكان أيضا في مصر الدولة الرومانية ـ الحبشة فقامت الحبشة وتعاونوا ضد الحبشة وقتلت اليهود ، ولكن العرب لم يكونوا كلهم يهودًا فقاموا وتعاونوا ضد الحبشة ، فعرفت أن لهم معبدًا وهو في مكة ، وأرادت أن تهدمه وإليه الإشارة في سورة الفيل بعد الإشارة الأولى في سورة البروج عن تلك المحرقة:{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} الآية.
فالإشارة الأولى إلى المحرقة المذكورة في القرآن، والإشارة الثانية نتيجة هذه الحرب الدولية اشتركت فيها روما مع الحبشة ضد اليهود فعندئذ جاءوا إلى مكة لهدم الكعبة وردوا عنها بمعجزة أشار إليها في سورة الفيل ، ولكن روما لم تقف فعندئذ افتتحت الحرب ما بين روما وما بين فارس التي انتصرت حينذاك لليهود فقامت الحرب ما بين الروم وبين فارس وإليه الإشارة:{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} .
فكان أول ما فعل اليهود بعد محرقتهم التي حرقوا فيها المسيحيين في نجران فجميع اليهود الذي كانوا في فلسطين وصلتهم الأخبار قبل أن تصل للحكومة الرومانية فإذا بهم يهربون قبل نحو قرن ونصف من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعتصموا فيها خشية من أن ينتقم منهم بالحريق، لذلك لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:((المسلمون من قريش والمسلمون من أهل يثرب ومن قاتل قتال أهل يثرب - وعددهم تسعة قبائل بالأسماء - من اليهود. وقال: لليهود دينهم ولنا ديننا ولهم المناصرة والمساواة بالمسلمين)) ، أفيدونا متى كان مثل هذا الاعتقاد في حرية الأديان على المستوى الدولي والإنساني والعالمي من قبل ومن بعد؟ هذه أشرت إليها في دراساتي ولو لم أكن درست حبًّا بالاطلاع على الشرائع المسيحية والعداء القائم بين المسيحية واليهود لما اطلعت على هذه القصة ولما استطعت أن أجد لها التفسير ـ كلمة المناصرة ـ المناصرة على من؟ وإذا بهم هاربون من فلسطين خشية أن ينتقم منهم، وهكذا كان الإسلام في ذلك وحده الذي أقام السلام في الأرض عملًا بمنهاجه ونظامه العالمي الحديث وشريعته التي احترمت حرية العقيدة لجميع من هم تحت راية الإسلام وضمنت لهم المساواة بالمسلمين في الحياة الكريمة فقد حمى نصارى نجران عندما خاف أن تتكرر عليهم المذبحة من اليهود، ولكنه من قبل حمى اليهود أيضًا من غزو الدولة الرومانية إلى المدينة وتقتيلهم، كما قد كان أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود اللاجئين إلى المدينة هربًا من مذابح دولة الرومان النصرانية في فلسطين حينذاك إذ قال لهم:((لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ولليهود المناصرة والمساواة بالمسلمين)) ، وهكذا يكون الإسلام هو أول نظام عالمي إنساني يقوم على الإيمان وضمان حقوق الإنسان.
واسمحوا لي أن أختم بكلمة خادم الحرمين الشريفين الذي توجه بها ، وأكرر على مسامعكم الكلمة القيمة التي وجهها إلى مجمعكم الكريم حيث قال بجرأة المسؤول والمؤمن الصادق: إن الإسلام يغزى اليوم في كل ميدان - هذه الكلمة جاءت بعدما انتشرت هذه الأخبار في الهجوم على الإسلام في قلب واشنطن - إن الإسلام يغزى اليوم في كل ميدان سياسيًّا وفكريًّا وعداوة أعدائه له عداوة شرسة دائمة لن تنقضي إلى يوم الدين مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} . ثم يضيف ـ حفظه الله ـ: فلا بد من حشد جميع القوى والطاقات لمواجهة أعداء المسلمين الحقيقيين لا إزهاقها في خلافات جانبية أو فتح جبهات في الصف الإسلامي تذهله عن معركته الكبرى وتغشي بصره عن عدوه الحقيقي الذي لا تغفو عيناه لحظة واحدة. وإلى أن قال: ونخشى أن تشتد ضراوة المسلمين بعضهم على بعض وأن يقسو بأسهم فيما بينهم إذا اختلفوا في رأي أو فتيا بل في أمر ثانويٍّ ليس من أسس العقيدة أو أركانها ونسمع عندئذ صيحات التكفير والتفسيق والتجهيل والتضليل والقذف والتبديع. وكما أشار إلى مثل ذلك أيضا منذ شهر تقريبًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عندما أشار بهذه المناسبة وأذاع بيان ودعا المسلمين إلى أن لا تؤدي السرعة في اختلافات الاجتهاد إلى التكفير والتضليل.
وإلى أن ختم خادم الحرمين كلمته: وإنا ندعو على بصيرة إلى ما فيه توحيد الأمة الإسلامية لا تفريق كلمتها وتشتيت رأيها وصدع صفها وندع الكلام فيما اختلف فيه ما دام ليس من جوهر العقيدة ونركز على مواطن الاتفاق أخذًا بقاعدة أولويات الدعوة، نحترم آراء الأئمة الكبار المشهود لهم منذ قرون الإسلام الأولى غير مغلقين باب الاجتهاد متى ما استوفيت شروطه ومؤهلاته. فإلى خادم الحرمين الشرييفين الشكر على هذه الكلمة؛ لأننا لا ننسى أن اختلاف المسلمين في القضايا الثانوية قد كانت نقطة ارتكاز لمهاجمي الإسلام وهذا ما يجب أن يأخذ ويلفت النظر إليه مجمعكم الكريم كما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين، واغفروا لي إن أطلت عليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
وعليكم السلام ورحمة الله. شكرًا، أحب أسأل الشيخ معروف هل الأسس التي تفضلتم بها تضمنت الإيمان بنسخ الإسلام لجميع الأديان وأن الإسلام هو آخرها كما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل؟
الدكتور معروف الدواليبي:
نعم، حرية الأديان تركت ولكن قلت دعوة إيمانية إلى الإسلام، دعوة الإيمان على أساس حرية العقيدة، لا نكره أحدا.
الرئيس:
المهم هو خير إن شاء الله تعالى.
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أريد أن أعبر عن أمر اختلج في نفسي ولا زال يختلج ويهز وجداني كما أراه يهز وجدان كل مسلم مخلص لربه ولدينه ولأمته، ولعل هذه الفرصة المناسبة للتعبير عن ذلك.
تعلمون يا سيادة الرئيس ويا أيها الإخوة العلماء ما حصل من محنة أليمة قاسية في خليجنا العربي أصابت أماتنا في الصميم وانتكست محاولات جادة طويلة بذلت من قبل لتوحيد هذه الأمة وجمع شتاتها، هذه الحادثة الأليمة وما تبعها من فرقة وانقسام أحدثت في نفوسنا آثارا سلبية مؤلمة للغاية.
كانت الحوادث سريعة وخطيرة للغاية جزعت لها النفوس وتحيرت إزائها الأفكار واختلطت بالمقاييس والمنطلقات والمعايير التي توزن بها الأمور، وهذا التشتت في الأفكار والمواقف أمر طبيعي متوقع إزاء مثل هذه الحوادث الخطيرة لما نعلم من قصور البشر وانفعالاتهم، واختلاف أفهامهم ومنطلقاتهم:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} .
إن الوضع الذي تعيشه أمتنا اليوم وضع انقسامي لا يرضي الله بحال من الأحوال، ولم يستفد منه إلا أعداء الله تعالى وهم أعداء هذه الأمة ودينها الذين حذر الله منهم في كتابه الكريم، وذكرهم سمو الأمير ماجد بن عبد العزيز ـ حفظه الله تعالى ـ في خطابه عندما قال: هم الذين لا تنام أعينهم لحظة واحدة عن الكيد للمسلمين.
بعد هذه الحادثة المفجعة هان أمرنا عند الأعداء وزالت هيبتنا من نفوسهم زوالًا كاملًا وأصبحوا لا يترددون ولا يتخوفون من الكيد لنا بما شاءوا وصاروا الآن يتناولوننا أمة بعد أمة، دولة بعد دولة، يدعون العالم للكيد لنا والقطيعة.
هذا الذي نعيشه اليوم يا سيادة الرئيس ويا أيها الإخوة، أمر محرم من أكبر المحرمات مخالف لما دعانا الله إليه حيث قال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .
وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
ونهانا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وفساد ذات البين)) . وهي الوحدة التي من الله تعالى بها على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام حيث قال: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
هذا الأمر، يا سيادة الرئيس، أخطر بكثير جدًّا من المسائل التي تكلمنا فيها وناقشناه باستضافة من خيارات وأسواق مالية والتداوي وما إلى ذلك. ولذلك أرى أنه ليس جديرًا بهذا المجمع أن يخرج من دورته هذه دون أن يبدي رأيه إزاء هذه المحنة ويدعو حكام المسلمين لما هو أحسن، لا أريد أن نلوم أحدًا بخطئه ولا نثني على من أصاب ، ولكن أريد أن يخرج هذا المجمع بعبارة جامعة شاملة تدعو حكام المسلمين إلى نبذ الخلاف وراءهم وأن يبدأوا فورا في توحيد الصف ، ورأب هذا الصدع الكبير وأن يفوتوا الفرصة على أعداء الله، أعداء الأمة.
ولذلك أقترح على هذا الجمع الكريم أن يكون لجنة عالية للخروج بصيغة هامة في هذا الأمر كما ذكرت وهذا يكون من صميم واجباتنا وهو تقديم النصح الهادئ، وكذلك تنوير الناس بحكم الله تعالى فيما يجِدّ من مثل هذه النوازل وفيما نحن فيه من فتنة ومحنة، ويقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
كما أرجو من إخواني العلماء عند مناقشتهم ومداخلاتهم في هذا الأمر أن يضعوا وحدة الأمة وما يرضي الله تعالى نصب أعينهم ، وأن ينبذوا كل دواعي الهوى والخلاف والأحقاد. ونحن، يا سيادة الرئيس، مع هذا الذي حصل، وحدة المسلمين بعد الذي حصل ليست مستحيلة، فهذه هي أوروبا التي تدعي اليوم أنها قد اتحدت مرت بأسوأ الحروب وأشنع الحروب في تاريخ البشرية ، والقرون الوسطى تشهد بأشنع الفعائل وأشنع الحروب ، فهذه الكنيسة تشن حملة وحروبًا مئات السنين على الدولة ويتحاربون بينهم قبائل، وجماعات حروبًا تخزي منها جبين البشرية. ولذلك بعد ذلك أمعنوا الفكر والعقل واستطاعوا أن يحققوا درجة من الوحدة.
فلذلك، يا سيادة الرئيس، أنا لا أرى أن هذا الذي حصل وأن الوحدة بعده وتماسك المسلمين واتحادهم ليس مستحيلًا، ولذلك أدعو هذا المجمع وأرى أن هذا من واجبنا أن نخرج بصيغة تدعو حكام المسلمين إلى الاجتماع وإلى التشاور وإلى التفكير في هذا الأمر؛ لأننا نحن كأمة مسلمة نتألم الآن أشد الألم وشعوبنا متألمة أشد الألم وتحيط بنا مخاطر لا حد لها.
يا سيادة الرئيس، هذه هي مثال ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، أعداء أشد العداوة وفي حرب شديدة عسكرية وفكرية سنحت لهم الفرصة فإذا بهم يتحدوا ويحققون الوحدة، ما كانت تخطر ببال أحد من الناس.
أنا، يا سيادة الرئيس، أقول هذا الحديث وأشهد الله تعالى أن هذا الأمر الذي تكلمت فيه لم تمله على دولة ولا أحد من الناس ولا جماعة من الجماعات ، إنما أعبر عنه برأيي كمسلم من المسلمين يحس ما يحسون وأدعو إلى ما يدعون إليه، ولنذكر قول الله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} .
وبالله التوفيق والهداية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكرًا فضيلة الرئيس، وبهذه المناسبة فقد قدمت بحثًا عرضه فضيلة أخي الشيخ محمد علي التسخيري مع البحوث الأخرى عرضًا وافيًا يشكر عليه ، ولكنني قبل أن أتساءل عن بعض الأسئلة التي لا بد أن أتساءل عنها في هذا المقام ونحن نبحث الحقوق الدولية أرجو أن يأذن لي فضيلة الرئيس وقد أثار دولة الرئيس الأستاذ معروف الدواليبي والأستاذ محمد عطا السيد أثارا في نفسي كوامن وكوامن وبعثا في من العواطف ما لا أستطيع كتمانه، نعم إننا نحن هنا في مجتمع فقهي ، ولكن الفقه في الإسلام والفقه الأكبر يقتضي منا أن نستجيب لدعوة الأستاذ محمد عطا فنوافق على أن نشكل لجنة، وبهذه المناسبة ونحن نبحث في الحقوق الدولية في الإسلام والحقوق الدولية الأخرى فأولى بنا أن نبحث في حقوقنا كأمة في وحدة الصف والكلمة واليد وأن نتأسى بما فعله المسلمون فيما مضى فقد اختلفوا ثم اتحدوا وكانوا في وجه العدو يدًا واحدة ولا سيما في أيام الحروب الصليبية التي اتحدت فيها كلمة المسلمين ، وقاد فيها نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي قادا الأمة الإسلامية إلى إنقاذ المسجد الأقصى المبارك.
وهذا يدعوني، أيضًا، إلى أن أطلب أن تكون كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله والتي ألقاها في هذا المجمع نيابة عنه سمو الأمير ماجد، وثقة لهذا المجمع يحتفظ بها كوثيقة لما فيها من الدعوة الكاملة إلى التناصر وأن تكون يدًا واحدة، وأن نقف صفًّا واحدا أمام الغزو الجديد، أو في ثوبه الجديد، للإسلام كما علمنا وعرفنا وأكد هذا ما ذكره دولة الأستاذ معروف الدواليبي من الندوة التي عقدت في واشنطن وصرحوا فيها في مؤتمر وندوة دولية عامة صرحوا فيها بعداواتهم ضد الإسلام وبتجديد الحرب ضد الإسلام، فأطلب وأقترح أن تكون وثيقة لهذا المجمع الفقهي لما فيها من معنى الفقه والفهم الأكبر للإسلام.
والأمر الثاني وقد أثار عواطفي وأثلج صدري أن يبادر خادم الحرمين الشريفين إلى تعمير قبة الصخرة، وقبة الصخرة مع المسجد الأقصى هي ثالث الحرمين الشريفين مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء العليا، فالمبادرة في إعمار قبة الصخرة في هذا الوقت الذي نذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه سلم:((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) .
وقد كانت مآثره الكبرى في توسعة الحرمين الشريفين فأضيفت إليها هذا المأثرة أيضا إلى إعمار قبة الصخرة فينضم مع الرعيل العظيم الذي قاموا بإعمارها أولًا ثم بترميمها وتجديدها بعد الحروب الصليبية ثم كذلك في إعمارها في أيام الانتداب البريطاني وفي أيام وحدة الضفة الغربية مع الشرقية، ولذلك تعتبر هذه مأثرة كريمة تمسح عن هلال المسجد الأقصى دمعة الأسى في الشقوق والتصدعات التي أصابت هذه القبة العظيمة درة الدنيا في البناء والمعمار؛ ولأنها قبلة المسلمين الأولى نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين دائما إلى الخير.
ثم بعد ذلك، أرجو وقد عرض الإخوة البحوث وهي بحوث وافية وإن لم تستوف ـ كما قال الأستاذ التسخيري ـ جميع أنواع البحث في هذا الأمر إلا أنني وقد تحدثت عن أن الأصل في الإسلام في العلاقات الدولية السلم لا يعني هذا أن الجهاد غير قائم، وأن الجهاد مطلوب، فنحن مطلوب منا أن نظل نجاهد ، وأن نبذل كل غال ونفيس في سبيل الله عز وجل وفي سبيل مقاومة العدوان المتكرر الجديد، ولا يزال من ورائه الصهيونية العالمية، ولا يمكن أن ننسى كما ذكر الإخوة فيما مضى في البحوث الماضية ما يفعل بالمسلمين في أنحاء العالم لكننا لا يمكن أن ننسى أطفال المسلمين في فلسطين وفي القدس وفي المسجد الأقصى والاعتداء عليهم كما تعلمون بالتكسير والتهشيم، والاعتقال والضرب والأذى ومصادرة الأموال وغير ذلك. هذا لا يمكن أن ننساه واليهود من طبيعة دينهم الموجود في كتبهم - ولا أقول الديانة الأولى - هي قتل الشعوب واستعبادها وأنهم شعب الله المختار، ومن يقرأ التوراة ثم شروح التوراة في التلمود يجد الكثير والكثير في اعتبارهم المتميزين وأن جميع الشعوب هم عبيد لهم وأنه تستباح أموالهم ونساؤهم وأطفالهم وأراضيهم وكل ذلك، ولا سيما عندما يكره الإنسان التوجيهات التي وجهت إلى يوشع في التوراة - وهي ليست طبعًا من دين الله في التوراة - عندما أبيح قتل الناس بقتل الأطفال بقتل الرجال بقتل النساء وباستبعادهم وبأسرهم وبتحريق بيوتهم وبتحريق مركباتهم إلى آخر ذلك. ولذلك ونحن نذكر هذا أيضًا نؤكد أن الإسلام يدعو إلى الجهاد ، ولكن العلاقات الدولية تقوم على أساس السلام {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
غير أني ولا أحب أن أطيل على الإخوة، فالبحوث بين أيديهم، أتساءل وقد تحدثت عن المعاهدات والاتفاقيات والأمان والموادعة، والموادعة تشمل الهدنة كذلك، أحببت أن أسأل عدة أسئلة لعلنا نخرج أيضًا برأي فقهي فيها أو نؤجلها إلى موعد آخر أو جلسة أخرى أو ندوة أخرى، وقد تحدثنا أقول: هل يجب أن تحدد للمعاهدة أيًّا كان نوعها مدة معينة؟ صلح الحديبية حدد بعشر سنوات لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد المدة ، وبعضهم أشار وذكر كذلك ما يتعلق بالنسبة إلى دوام المعاهدات والصلح الدائم فيها ما فعل النبي ـ صلى لله عليه وسلم ـ مع يهود بني قريظة وبني قينقاع ،وكذلك بني النضير في أنه لم يحدد في عهوده معهم مدة معينة، ثم كذلك صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل أيلة العقبة وأهل حربة جرباء وأذرع ومقنة في جنوب الأردن أو في جنوب بلاد الشام وكذلك معاهدته مع نصارى نجران وكذلك تجديد العهد من سيدنا أبي بكر رضي الله عنه للنجرانيين، لم يكن هناك مدة معينة للصلح والفقهاء ـ كما ذكرت في البحث وربما ذكر غيري أيضا في هذا كما قرأت لبعضهم ـ قالوا بجواز ذلك وبجواز أن تكون المدة غير محددة. هذا السؤال الأول. وذهب إلى عدم تحديد المدة عدد كبير من العلماء منهم الميرغناني في كتب الحنفية، ومن المحدثين الشيخ محمد أبو زهرة رحمهم الله جميعا.
السؤال الثاني: هل تكون معاهدة أو صلح مع من اغتصب أرض المسلمين وأزالهم عنها وشردهم وأخذ أموالهم كاليهود، هل يكون معهم صلح؟ أن أقول هنا الرأي الفقهي ولا أريد أن نخوض في أمر سياسي كما هو حاصل الآن وإن كان هذا ربما يكون للإنسان رأي يستند فيه إلى أدلة، فصلاح الدين الأيوبي ـ مثلًا وليس دليلًا وإنما يستأنس به ـ عمل صلحًا مع ريتشارد قلب الأسد وقد احتل في الحملة الصليبية الثاثة عددًا كبيرا من مدن فلسطين وعمل صلحًا معه على أن يتنازل له عن عكا ويأخذ بدل عكا اللد، وهكذا كان رحمة الله عليه قد دمر عسقلان حتى لا يأخذها ريتشارد تدميرًا كاملًا وأرسل أهلها إلى مصر والسودان وكان عددهم ينوف عن خمسين ألفا من السكان كما أنه غور المياه في طريقه إلى القدس حتى لا يستولي عليها الأعداء ومع ذلك كان رأيه هو عدم الصلح لكن القادة والفقهاء في ذلك الوقت رأوا الصلح لتعب المسلمين وعدم قدرتهم على مواجهة هذه الحملة. على كل حال هذا استئناس لكن نريد رأيًّا في هذا الأمر، هل إذا اغتصبت أراضينا وذهبت أموالنا وشرد أهلنا واستولى اليهود على أرض فلسطين وأقاموا فيها دولة ـ كما تعلمون ـ هل يجوز الصلح معهم أم لا؟ هل يجوز الصلح لمدة مؤقتة؟ أنا أعتقد أنه ليس هناك سلم دائم أبدًا حتى ولو عقدت معاهدات دائمة مع الناس؛ لأن الدنيا تتغير والأحوال تتبدل:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .
والله سبحانه وتعالى أخبرنا من طريق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام حتى في نص القرآن في فهم بعض آيات القرآن أننا سنقاتل اليهود وأننا سندمر اليهود ولكن متى؟ وأين؟ وكيف؟ هذا علمه عند الله سبحانه وتعالى، بعد أن نرجع إلى ديننا والعمل بالجهاد في سبيل الله ومن أجل استرداد المسجد الأقصى.
السؤال الثالث: هل يجوز أن تعقد اتفاقات مع الدول الأجنبية ضد دولية إسلامية أي بمعنى دولة تطبق الإسلام أما إذا كانت دولة تتظاهر بالإسلام أو لا تطبق الإسلام فالأمر والشأن فيها شأن آخر. السؤال هنا هل يجوز أن تعقد اتفاقات يعني هل يجوز أن نستضيء بنار المشركين ضد المسلمين؟ هل يجوز أن نستعين بهم؟ هذا تعرضت له في بحثي بعض التعرض وفصلت بعض التفصيل في هذا الأمر وإن كانت القاعدة أننا إذا اعتدي على أراضينا وكنا أمة إسلامية واحدة فينبغي أن نتعاون ضد العدو ولكن نرد العدوان بعضنا عن بعض ولا نقبل بالأذى والعدوان من دولة أو من شعب أو من فئة في بلد من بلاد المسلمين على فئة أخرى لغايات ومصالح ليست هذه المصالح مما دعا إليه الإسلام أو أدى إليه الإسلام. هذا هو السؤال الثالث، ويتبعه هل إذا كانت الدولة الإسلامية معتدية يجيز ذلك عقد المعاهدات العسكرية مع الدولة الأجنبية لدفع الاعتداء؟ هذا أيضًا سؤال ينبغي أن نخرج فيه أيضًا برأي واضح وألا نتحرج من ذكر الآراء فنحن في مجمع فقهي وكلكم علماء بارك الله فيكم ولكن النظرة الإسلامية والفقهية في هذا الأمر. أشكر فضيلة الرئيس وأشكركم على حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
أيها الجمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لأول مرة آخذ الكلمة وأشكر سيادة الرئيس لإعطائي هذه الفرصة والمشاركة في هذه الندوة الكريمة. الموضوع المعروض علينا هو موضوع " الحقوق الدولية في الإسلام"، وشخصيًّا اعتبرت أن هذه الحقوق لا تكتفي فقط في النظر الإسلامي لأن الإسلام حاليًا في هذه المدة الأخيرة يتعرض إلى تهديدات عالمية وهجمات من الدول غير الإسلامية يهودية ومسيحية حتى الوثنية، ولهذا أردت في بحثي أن أبلوره في نظر القانون الدولي اعتمادًا على الأصول الإسلامية، ولقد طلب المجمع الكريم ببحث هذا الموضوع منذ سنتين وهذا يدل على قوة النظر في المجمع الكريم؛ لأننا لم نكن ننتظر أن هناك حوادث مؤثرة خلال هاتين السنتين، ولقد هز العالم عدة حوادث تتمثل في المعركة التي دارت بين دولتين إسلاميتين إحداهما الحرب الإيرانية العراقية، وقد خرجت إيران من طغيان عدوان الإمبريالية وعدوان القوة المضادة للإسلام ، خرجت وهي ضعيفة مما وقع عليها من اعتداء من طرف دولة إسلامية أخرى. وسيكون جوابي على السؤال الذي طرحه المتحدث السابق وذلك ما يخص الاتفاقات مع دولة إسلامية، بقول الله عز وجل:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
فدستورنا السماوي كافٍ وكل ما نحتاج إليه نجده في كتاب الله العزيز وفي سنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((أمتي، أمتي)) ، ولا شك أنه يقول إلى الآن أمتي أمتي. فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف علينا فما بالنا فنحن المسلمون، لا ننسى، نحن المسلمون أمة واحدة وإخوة كأسنان المشط وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، فإذا اختل سن المشط اختلت العزيمة والتوازن.
أقول إننا مررنا بقضيتين هما قضية إيران وقضية الكويت ثم مسألة تحرير أفغانستان، لهذا تعرضت في بحثي لمسألة الحرب، وأرى أنه من واجب الدول الإسلامية أولًا فيما يخص الحقوق وحاولت الإبقاء على الاستقلال، الاستقلال لا يتم إلا بأشياء عديدة منها: ألا تكون السياسة الخارجية تحت أي ضغط كان، وأن تكون معاملتنا للشعوب وفقا لما جاء في خطبة الوداع والتي تعتبر أول دستور وتشريع لحقوق الإنسان في الإسلام وأظن أن الدول الأوروبية اقتبست من هذه. ولهذا لا بد أن نشعر بالعزة؛ لأننا أول أمة تنادي بحقوق الإنسان. ولهذا، المسلم دائما لا بد أن يعتز بما أعطاه الله وبما أعطاه إيانا هذا الدين الحنيف من قوة. أقول إن من واجب المسلمين قبل أن نتودد إلى الكفار ـ صحيح أنها دول عظيمة نحتاج إليها من الناحية الاقتصادية ولكن عملًا بما جاء في القرآن الكريم ـ لا بد أن نساعد الدول الإسلامية حتى ولو كان ضعيفة؛ لأن الاتحاد قوة، لا مانع أن نحاول إيجاد ما يجعلنا أن نتحد في منظمة إسلامية حتى نقوم حتى نقوم نحن بحل مشاكلنا الإسلامية ، لا عن طريق الدول غير الإسلامية والتي لا تعرف شيئا عن شؤوننا أو أنها تتجاهل ذلك ، وبالعكس فإنها تحاول وضع العقبات لكي لا نصل إلى حل؛ لأن هذا يسعدها ، وسمعنا ما قيل في هذا الموضوع وما قاله الشيخ الآن من أن أمريكا رغم مساعدتها للدول العربية؛ فإنها لم تتردد ولا دقيقة واحدة في إعلان الحرب صريحًا على الإسلام.
ثانيا: أقول لابد للدول الإسلامية من أن تحاول عدم الاعتداء ـ وهذا واجب؛ لأن القرآن صريح في هذا الشأن ـ على الدول الإسلامية الأخرى؛ لأن لنا أعداء من الكفار كثيرون فكيف يكون الاعتداء بيننا؟ ولهذا لا بد أولًا من التسليم بهذه القاعدة فإذا كان هناك مشاكل بين دولتين إسلاميتين فنجد أن الإسلام أعطانا الشورى فعندنا مجلس شورى وعندنا منظمة المؤتمر الإسلامي لكي يتم الاحتكام إليها. فإذن لا بد من تتبع العقبات الناشئة قبل وصول إعلان الحرب.
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، نستغفره ونستعينه ونستهديه ونصلي ونسلم على سيدنا محمد خاتم رسل الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
في بداية حديثي هذا أود أن أنوه بطريقة عرض البحوث فلأول مرة يشهد المجمع عارضًا يلخص أبحاث جميع الباحثين ويدرج بحثه ضمن أبحاثهم ويكون عارضًا أمينًا وهو الشيخ التسخيري ـ جزاه الله خيرًا ـ وكنقطة نظام أرجو أن أقترح على مقام الرئاسة أن تنبه سائر العارضين لأن يأخذوا بهذا المنهج فلا يحمل الباحثين الآخرين على أن يقرأوا أبحاثهم كتعليقات؛ لأنهم يشعروا بأن بحوثهم قد غبنت.
الأمر الثاني: عرض دولة الدكتور الدواليبي اشتمل على خبر واقتراح وتعليق وملخص محاضرة ولي عليه عودة.
أما الكلمة الطيبة التي تفضل بها الدكتور محمد عطا السيد فهي كلمة طيبة تستحق الالتفات وكذلك الأمنية والأسئلة الثلاثة التي تقدم بها معالي الدكتور الخياط.
الذي أود أن أشير إليه هنا في نقاط: أن المؤتمر الذي أشار إليه دولة الدكتور الدواليبي هو واحد من سلسلة مؤتمرات تعقد أحيانًا سنويًّا وتعقد أحيانا كل ستة أشهر ويحضرها عدد كبير من أبناء العالم الإسلامي وأساتذة الجامعات فيه، وتقوم المناقشات في الغالب على بحوث ودراسات تعد محاورها مسبقًا من قبل أساتذة وخبراء من الموجودين في الجامعات الأمريكية والمستضافين من الخارج. والغربيون لا تنقصهم معرفة الإسلام والمسلمين إطلاقًا فهم يعرفوننا أكثر بكثير مما نعرف أنفسنا، وأذكر أن الرئيس الأمريكي كارتر حين سمع إلى تعليق من أحد القيادات الإسلامية المشهورة بأن أمريكا تحتاج إلى توبة وما لم تتب أمريكا فإن العالم الإسلامي لن يستطيع الصفح عنها، دعا مجموعة من علماء المسلمين، وأساتذة الدراسات الإسلامية في الجامعات الأمريكية ليقضي معهم يومًا كاملًا يشرحون له فيه مفهوم التوبة في الإسلام، ما هي التوبة؟ ما شروطها؟ كيف تتم؟ ما هو الذنب؟ إلى غير ذلك. فهم من هذه الناحية ليسوا بحاجة إلى محاضرات نقدمها عن الإسلام وفضائل الإسلام وحقوق الإنسان في الإسلام وغير ذلك، هم يعرفوننا معرفة دقيقة جيدة بقدر ما نجهلهم. فيعرفون أن الإسلام دين عالمي لا يمكن أن يحده إقليم، ولا يمكن أن ينحصر في دائرة ضيقة، وأنه عقيدة وشريعة، وإن عقيدته نابذة لشركهم كله وَضْعِيِّهِ والسماوي الذي حرفوه، وخلطوه، ويدركون هذا حق الإدراك وحين يقول لهم عالم مسلم أو باحث شيئًا غير ذلك يستهينون به ويعتبرونه إنسانًا مجاملًا يحاول أن يقدم لهم كلمة مجاملة لا أكثر ولا أقل.
ثانيا: بالنسبة للشريعة الإسلامية هم يعرفون أنها شريعة ناسخة لغيرها من الشرائع وأنها شريعة مهيمنة لا تقبل غير الهيمنة ، وأنها ديانة مهيمنة على ما سبقها من الديانات ، وأن الإسلام قد احتضن الديانات الإبراهيمية وحافظ على أصالتها ، واعترف بسائر النبوات قبله وحافظ على نقائها وتوحيدها ، وهو يريد أن يقدمها من خلال الإسلام الذي لا يقبل سواه التقديم الصحيح. هذه أمور تعتبر بديهية ومدركة إدراكًا تامًّا، فأما أن نخاطبهم بمنطق من يجهلهم ويجهل أنهم يعرفون ونقدم لهم كلمات مجاملة لن تعدو أن تجعلهم يستهينون بنا أكثر ويدركون أننا إنما نتحدث من حالة ضعف ولأننا في حالة ضعف نحاول أن نتحدث بهذا، وهم لديهم بحوث ودراسات في هذا المؤتمر وفي غيره، درسوا قضية ديار الحرب وديار الإسلام، كيف يقسم الفقهاء المسلمون الدار إلى دارين: دار حرب، ودار إسلام، ودار عهد، وهل لدى المسلمين استعداد لأن يتنازلوا عن هذه القسمة ويعترفوا بالنظام العالمي الجديد؟
ثالثا: الشريعة الإسلامية في نظرهم تنافي حقوق الإنسان، هي شريعة فيها حدود وفيها تعازير، وهذه الحدود والتعازير تعتبر مهينة في نظرهم للإنسان المعاصر. هل لدى المسلمين استعداد؛ لأن يتنازلوا عن الشريعة ويعلنوا ذلك صراحة؟ وقد طالبوهم فعلًا بهذا وقد أجابهم بعض من لا خلاق له بأن الإسلام على استعداد لأن يتفاهم حول هذه القضايا كلها وأنه يمكن أن تعاد قراءة الإسلام قراءة جديدة وتقرأ نصوصه قراءة جديدة ويعاد تفسيرها بشكل يجعل المسلمين قادرين على أن ينضموا إلى النظام العالمي الجديد، النظام العالمي الجديد ليس نظامنا إنه نظام الحضارة الغربية المهيمنة المسيطرة التي تريد أن تضم كل شيء تحت جناحيها وتريد أن تنفي كل ثقافة غير ثقافتها وأن تنبذل كل فكر غير فكرها فهي لا تقبل عملية مهادنة ولا تعترف لسواها إلا بأن يكون تابعًا تستفيد منه كما تستفيد من سائر الحضارات والتراث والفلكور الشعبي، هذه حقيقة لا بد من الوعي عليها لكي نتعامل مع الغربيين حين نريد التعامل معهم من منطلقات واضحة مهفومة.
رابعًا: طبيعة الحضارة الغربية هي طبيعة صراعية تنابذية تقوم على ثنائيات متقابلة لا تفهم إلا الطرد والنبذ للآخر، وإن هي احتوته فإنما تحتويه فردًا، هي على أتم استعداد لأن تتقبل دعاتنا يذرعون أمريكا طولًا وعرضًا بل تدعوهم في بعض الأحيان لإلقاء محارات عن الإسلام في السجون الأمريكية وفي غيرها وتوعية هؤلاء الذين أدمنوا المخدرات وسواهم على القيم الإسلامية ، ولا مانع لديها أيضًا بأن يسلموا أو يدخلوا الإسلام، ولكن في هذا الإطار، الإطار الذي يغير من أخلاقهم ومن طبيعتهم بحيث يوظف الإسلام توظيفًا في إطار حضاري شامل يشمل كل وسائل التربية بما فيها الإسلام ، فإذا اغتررنا بهذا وشعرنا بأن هذا يعني أننا سوف نحول أمريكا بعد سنوات أو عقود إلى دولة إسلامية كما يحلم البعض فإن ذلك تجاهل لأبسط خصائص الحضارات ولأبسط خصائص الأمم.
إن عالمية الغرب المعاصرة لها جذور تاريخية لا يمكن أن تتخلص منها، أهمها: أنها بنيت على الحضارتين الهيلينية والرومانية، الهيلينية قد استوعبت كافة حضارات الشرق التقليدية الإقليمية وشمال المتوسط منذ غزوات الإسكندر المقدوني عام 356 إلى 322 قبل الميلاد، ثم ورثتها العالمية الرومانية إن صح التعبير والتي بلغ توسعها حوض البحر الأبيض المتوسط وسيطرت على الشرق كله. الحضارتان الهيلينية والرومانية تراثهما الديني تراث وثني غير سماوي ، وما دخل إليهم من تراث سماوي حرفوه وطوعوه وحولوه إلى جزء من الوثنية، وهذا النظام العالمي الجديد بحضارته الفكرية وتراثه هو عبارة عن وريث لتلك الحضارات ومشتمل عليها ويقوم على أساس منها، هم قد بدأوا بناء عالميتهم المعاصرة منذ سقوط عالميتنا الإسلامية سواء في بغداد إثر الاجتياح المغولي عام 656م، أو في الأندلس إثر الاجتياح الأوروبي لها أو ما تلا ذلك من حروب ونزاعات بيننا وبينهم حتى فرضوا هيمنتهم الجديدة على أرض الإسلام كلها ما بين المحيطين ـ الأطلسي غربًا والهادي شرقًا ـ وانتشروا إلى ما وراء ذلك وسادوا العالم بأكمله فأصبحت الحضارة الغربية المعاصرة ذات الجذور الوثينة الرومانية من بعد الهيلينية هي عالمية العالم الجديد، تكاد تستوعبه في تفاصيله الحياتية والعقائدية، إنها تريده عالمًا على صورتها ـ صورتها الفكرية وصورتها العقائدية وصورتها النظمية ـ وهي تعرف الإسلام وما فيه وتحاول أن تطوعه عقيدة وفكرًا وثقافة وحضارة وشريعة ونظامًا لكي يصبح المسلمون بعد كل ذلك التحول أو لنسميها الردة ليمكن أن يصبحوا جزءًا مما يسمى بهذا النظام العالمي الجديد.
فأحبذ أن يكون لدينا نوع من الوعي على أن المسألة ليست مسألة حوار نقوله ولا مسألة مديح نكيله إلى الإسلام ، وإنما مسألة وعي على الآخر. إن هناك آلاف المستشرقين الذين درسوا كل شيء يتعلق بنا، فكرنا، ديننا، معتقداتنا، عاداتنا، تقاليدنا في كل شيء، وخبروا كل شيء فينا وعرفوا كيف يخاطبوننا، لكن لا نجدد في العالم الإسلامي كله مُسْتَغْرِبًا واحدًا خبر الغرب وعرفه وعرف نواياه واطلع على خططه ويعرف كيف يتعامل معه أو كيف يتخاطب معه في هذه الحالة.
إننا في حاجة إلى إدراك لهذا إلى أن يكون عندنا جمع من الخبراء من العلماء الذين يعرفون الخلفية التاريخية والواقع المعاصر وأهداف هذه الحضارة، وأساليبها، وكيف تتعامل مع كل جزئية. إنها بالفعل اليوم لم يعد لها من خصم إلا الإسلام ولم يعد لهم من هدف إلا المسلمون، وهي ماضية في طريق تجريدهم من إسلامهم وإيجاد فصامٍ بينهم وبين الإسلام كاملٍ، وهم يعتمدون في ذلك شتى الوسائل ولديهم هذه الأجهزة العملاقة، هم من خلال الغزو الإعلامي الذي ينتهجونه والذي سوف يدخل إلى بيت كل منا تسعين قناة تلفزيونية تبث كل شيء كالإذاعات التي نستمتع إليها في الراديو، سوف يحولون ويغيرون كل أجهزة التربية والتعليم ، وهم ماضون في محاولة إقناع الجميع بقبول برامجهم ونموذجهم في الحياة والتربية والتعليم ، هم أحيانًا يعقدون ندوة ويتنادون لمؤتمر فقط لأنهم شاهدوا فتاة قد ارتدت غطاء رأس في حارة من حواري أية مدينة إسلامية ، قد يتنادون إلى ندوة لمجرد أنهم رأوا شابًا جامعيًّا قد أطلق لحيته في أي ركن من أركان الأرض، لماذا؟ لأنهم أناس يعرفون من هو العدو ويعرفون حقيقة هذا المنافس الخطر الذي يؤمن كل واحد من حملته بأن الله قد حتم ظهوره على الدين كله، فالله سبحانه وتعالى صحيح قد طمأننا في آيات ثلاث إلى حتمية ظهور هذا الدين لكن أن يشرفنا بالجندية لتحقيق هذا الأمر هو ما ينبغي السعي إليه. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد ـ وهو الصادق المصدوق ـ في عشرة أحاديث صحاح بظهور هذا الدين على الدين كله تأييدًا لما في القرآن الكريم وتوضيحًا له، وهذا أمر مسلم لا بد منه ويعرفه الغربيون كذلك ويعرفون أننا نؤمن به ويريدون أن يحطموا هذا الشعور فينا أو هذا الإيمان فينا، ولكن نحن مطالبون بشيء أكثر من هذا، مطالبون بدراسات متعمقة، مطالبون بمراكز أبحاث كثيرة لو أحصينا ما في ثلاثة آلاف جامعة أمريكية في طول أمريكا وعرضها مخصصة في الدراسات الإسلامية لوجدنا أن هناك ما يزيد عن مائتي مركز دراسات إسلامية متخصصة في هذا. فنحن نحتاج إلى هذا النوع من الوعي لكي نتمكن من مواجهة هذا التيار وليست المسألة مسألة حوار وليست المسألة مسألة محاضرات أو شيء نقدمه لهم، إنهم على وعي كامل بنا ، فعلينا أن نكون على وعي وإدراك لأنفسنا ولهم. والله سبحانه وتعالى هو مولانا، نعم المولى ونعم النصير.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
مع تقدير البالغ للمداولات التي حصلت لكن منها ما يتعلق بأكمله في موضوع الغزو الفكري وسيكون الموضوع المسائي ـ إن شاء الله تعالى ـ ومنها ما هي أحاسيس متبادلة لدينا جميعًا ولله الحمد، لكن الذي أرجوه أن يكون طلب الكلمة يتعلق في الموضوع ذاته.
الشيخ البيهقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة في الإسلام:
نحن في الحقيقة نتحدث عن العلاقات الدولية في الإسلام، ونحن ننظر إلى عالمنا ـ عالم اليوم ـ وأنا شخصيًّا حسب ما ألاحظه أن في هذا العالم ليست فيه علاقات قائمة على القانون ولكن فيما يخص العالم الإسلامي، كل العلاقات الموجهة إلى العالم الإسلامي علاقات قوة وجبروت وقد رأينا دولة كبرى الآن هي التي ترى أنها تسيطر على العالم تقوم بتصرفات لا أظن أن أحدًا في العالم ولا في التاريخ يمكن أن يربطها بالقانون، وقد رأينا في سنة 1988م، أو في هذه السنة رأيناها قد هاجمت على دولة عربية إسلامية فقتلت الأبرياء وقتلت حتى الأطفال أنها ادعت أن هذه الدولة وراء تفجير مكان ما في ألمانيا وفيها جنودهم، ثم اتضح بعد ذلك أن هذه الدولة لا علاقة لها بهذه الحادثة التي مات ضحيتها كثير من أبناء تلك الدولة العظيمة، ثم نراها في هذه الأيام تعيد الكرة بنفس الدولة وتحاصرها وتهددها ، والشيء الذي يحزنني في هذا الأمر كله أننا نحن المسلمين نرى الأمور كلها ونتفرج عليها وكأن الأمر لا يعنينا.
تحدث السيد الرئيس بأن التعليقات التي جرت الآن هي متعلقة بالغزو الثقافي، وهذا في اعتقادي صحيح، ولكن أريد أن أقول شيء واحد هو أن بيننا وبين الغرب صراع حضاري ، وهذا الصراع الحضاري لا يقصد دولة معينة وإنما يقصدها باستراتيجية، يريد أن يقضي عليها ثم بعدما تنتهي الضجة يأتي إلى دولة أخرى أيضًا ويقضي عليها. الهدف منها القضاء على العالم الإسلامي، الصراع القائم الآن خصوصا بعد سقوط الشيوعية وما لها من ضلالات الآن من موسكو إلى واشنطن كل هؤلاء ضد الإسلام، وهذا كل ما أريد أن نتنبه له، وأنا أثني على الاقتراح الذي قدمه الأخ محمد عطا السيد من أنه ينبغي تكوين لجنة دائمة للمتابعة، والمسألة في غاية الخطورة، وينبغي عليكم أنتم علماء الإسلام أن تنبهوا المسلمين بما يواجههم من الخطر وهذا الخطر لا يعني دولة واحدة ولا مجموعة دول ولكن يعني كل المسلمين جميعًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة، كما أشكر رئيس الندوة على حسن إدارته لهذه الجلسات، فجزى الله الجميع خيرًا.
موضوع مداخلتي لاأدري هل يدور حول هذا الموضوع وهو أن العلاقات ربما تكون علاقات مسيحية إسلامية، إن هناك حوارًا يقع بين رجال الكنيسة النصرانية وبين رجال المسلمين، وحسب ما علمت أن هذا الحوار لم يستفد منه المسلمون أي نتيجة، إذ لم يبلغنا أن أي أحد من رجال الكنيسة اعتنق الإسلام إثر هذا الحوار بعدما أوضح لهم المسلمون أن الدين الذي ينجي البشرية ويسعدها في الدنيا والآخرة إنما هو دين الإسلام:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
وإن الكتاب الذي أنزل على سيدنا عيسى عليه السلام الذي تعتقد النصرانية أنهم على ملته أخبرهم أن سيدنا عيسى عليه السلام مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فهم يعلمون ذلك وإن كانوا قد بدلوا وحرفوا، ولا يزيدهم الحوار إلا تمسكًا بالنصرانية وبغضًا للإسلام، والإسلام ذكر ذلك. ذكره الله عز وجل فقال عز وجل:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} .
وهذا الحوار قد تستفيد منه النصرانية للتغلغل في بلاد المسلمين لنشر أفكارهم مستعملين جميع الوسائل المادية فيأتون بأموال سخية ، لِمَ لا يتم محاربتهم بنفس الطريقة؟ فيطلب من الدول الإسلامية أن تتخذ أموالًا سخية لهذا لغرض ، فالتغلغل النصراني - أو التبشير النصراني كما يسمونه هم - أصبح خطرا عظيما يهدد الأمة الإسلامية، ونرجو الله تعالى أن ينجي المسلمين من هذه الكارثة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد الحاج الناصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أود بادئ الأمر أن أشكر الصديق العزيز الأخ الغالي فضيلة الأستاذ الشيخ محمد علي التسخيري على المنهج الذي رسمه لمن سيأتي بعده في الدورات المقبلة للمجمع الذي نأمل له عُمْرًا طويلًا حافلًا بالإنجازات ليقتدي به ويهتدي، فذلك الذي صنعه اليوم هو العرض وما كان يصنع من قبل ليس بعرض، فحبذا لو تعلمنا المنهجية ونحن نعمل في عمل علمي وليس في عمل إعلامي. ومن هذه المنهجية أننا إذ نعقب نعقب في الموضوع ولا خارج الموضوع ونعقب ما يقتضيه العلم لا بما يريده الإعلام، إذا كنت أحسن الفهم فهذا مجمع الفقه الإسلامي، والفقه علم وليس إعلامًا، وكم نوفر من وقت لو استطعنا أن نقف عند حدود ما نعقب عليه أو نعقب به.
ثم كم نوفر علينا من متاعب عاطفية لو تذكرنا أننا جميعا شركاء في أشجان وشجون لكن ما كان ينبغي ونحن نواجه واقعًا يثير أشجانًا ماضية تنكأ قروحًا في القلب ما تزال تثغب دمًا دون أن يكون من نكثها ما يفيد في الواقع أو في المستقبل.
أشياء كثيرة ينبغي أن ننساها أو نتناساها على الأقل، ونواجه مستقبلنا إخوة متضامنين متعاونين، فإن لم نفعل فسنفشل وتذهب ريحنا. وأخرى حيث المجمع مجمع فقهي وموضوع اليوم موضوع العلاقات الدولية في الإسلام أو الإسلام والحقوق الدولية.
ومسائل قد تكون قريبة من هذه العلاقات أو الحدود مما تناوله الفقهاء والمجتهدون من قبل بل وفيه نصوص قرآنية وحديثية لكن ليس من الحكمة أن تثار في هذا الواقع ، فلماذا نحاول إثارتها وقد جاءت فيها نصوص صريحة حاسمة لا تقبل الاجتهاد وليست بحاجة إلى متفقه؟ فإن يكن قد وقع بعض التجاوز فما كان ينبغي أن يتخذ ذريعة إلى إثارة أشجان، إنما هو السماح، إنما هو العفو بين الإخوة وإلا فلن تعود الوحدة، ثم إن الذي نريده أن نبحثه اليوم هو كيف نواجه بواقعنا الراهن التوفيق بين مقتضيات الأحكام الإسلامية في العلاقات الدولية ومقتضيات ما تقوم عليه العلاقات بين الدول اليوم؟ ينبغي أن ندرك أننا في حالة ضعف صنعناها لأنفسنا لأننا لم نقف حيث يريد الله أن نقف، إنما اندفعنا وراء المحاكاة والتقليد وحسبنا الإسلام هوية سياسية ونسينا أنه صبغة الله، وشتان بين الصبغة والهوية نحن إذن في حالة ضعف وعلينا أن نواجه وضعًا دوليًّا خطيرًا صنعناه بأنفسنا، فعلينا أن نواجه أخطاءنا ، وأن نحاول أن نجد من تعاليم الإسلام ما يكيف مسارنا المتطور مع هذه العلاقات أو الأوضاع إلى أن نتبوأ المقام الذي يريده الله إن نصرناه فنصرنا، ولن ينصرنا إن لم ننصره، ليس من نصرنا له أن نخلط الوثنية بالله ، فإن جاهدنا في سبيل الله حقًّا نَصَرَنَا ، وإن خلطنا بسبيله أخرى فالله أغنى الشركاء عن الشركة. أوضاعنا الضعيفة في الفقه الإسلامي القديم ما يواجهها أوما يوجد فيه مَعْلَم لما نريد أن نتخذه اليوم لمواجهتها.
لقد أباح بعض الفقهاء أن يعطي إمام المسلمين مالًا كالجزية لمن غلبه إذا كان لا مناص من ذلك، بيد أن عليه أن يستعد ويعمل إلى أن يتحرر من هذه الرقة وأن يصبح نِدًّا ثم أن يعمل بسلم أو بحرب على هيمنة الإسلام. فنحن اليوم في مثل هذه الحالة، لا نعطي الدنية من أنفسنا ولا نرضى الدنية في ديننا، لكن ألم يوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقية الحديبية وفيها الكثير مما جعل مثل عمر رضي الله عنه يوشك أن يرتاب لولا أن رده أبو بكر رضي الله عنه إلى صوابه؟ إن اتفاقية الحديبية باءت بالنصر على الإسلام والمسلمين، فلنا فيها العبرة لنواجه اليوم ما نواجه ونحن في مثل الوضع الذي كان عليه المسلمون محاصرين في الحديبية أو في الخندق حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي نصف تمر المدينة لبعض القبائل، لنواجه اليوم مثل ذلك الموقف، فعلينا أيضًا أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بعد ذلك الموقف والاقتداء به عملًا وليس قولًا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينشئ الصحابة ويقويهم ولم يكن يبث الدعايات وحدها هنا وهناك عند خصومه من المشركين، بل كان العمل الأول هو صناعة المسلم القوي الذي يستطيع أن يواجه به، أما الدعوة إلى الإسلام فكانت منطلقة من صناعة المسلم القوي الذي إذا بعثه سفيرًا له كان بسلوكه داعية أكثر منه بلسانه.
إن الذي يجب أن نعمله اليوم هو أن نصنع أنفسنا، قلوبًا وأرواحًا وتقنية، يجب أن نتعلم كل ما نستطيع وأن نستعين بكل إخواننا المسلمين في كل مكان أيًّا كانت علاقتنا سابقًا بهم وأيًّا كان رأينا سابقا بهم، ما كانت لديهم معارف نحن بحاجة إليها، وأن نعمل بقدر ما يمكننا أن نعمل وأن ننتهز الفرص ونتحين المناسبات، لكن دون أن نعطي الدنية. إن نصالح اليهود اضطرارًا فهم ليسوا بإخوة لنا ولابني عمومة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
وإن نصانع غيرهم محالفة أو معاهدة أو تعاونًا فاضطرارًا إن كانوا ممن أخرجونا من ديارنا أو ظاهروا على إخراجنا اضطرارًا إلى أن نستطيع، أما أن نبرهم ونقسط إليهم بقلوبنا، وأن نركن إليهم ونسكن إليهم فذلك ما يجعلنا منهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .
لا مناص من المواجهة نقولها صريحة جاهرة ساطعة شادخة لبعض القلوب والنفوس، لا مناص من المواجهة بين الإسلام وبين الصليبية والوثنية ، وللمواجهة ألوان منها السيف أو ما في مقام السيف ، ومنها الدعوة القوية المنطلقة من السلوك ثم من الإقناع. فلنسلك السبيل التي تتيسر، ولنتهيأ لتتيسر تلك التي لم تتيسر لكن دون خنوع أو خضوع {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .
أيها الأخوة، هذا منطلقنا إلى علاقات بين المسلمين وغيرهم في هذا الوضع الذي نحن فيه وييسر الله لنا أوضاعًا أحسن إن انطلقنا من كتابه وسنة نبيه. هذه واحدة. وأخرى أرتد بها قليلًا إلى الوراء، ما كان أكثر ما نقوله اعتمادًا على خرافة (الضرورة والاضطرار) واعتمادا على خرافة (عموم البلوى) ، وما كان أكثر ما نعتمد فيما نستنبط على مقالات بشر، وكان حقًّا علينا ولزامًا ألا نعتمد إلا على قول الله وقول رسوله وعلى فعل رسول الله وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام، أما مقولات البشر أيًّا كانوا فنستأنس بها ولا نتخذها منطلق الاستنباط. وحكاية الضرورة والاضطرار. وخرافة ما يعتمد عليه البعض من مقولة (الضرورة تبيح المحظورة) فقد بينها الله سبحانه وتعالى:{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وللضرورة حدود ولها أسباب تنطلق منها حتى لقد منعوا التقصير، منع بعض الفقهاء التقصير في السفر والإفطار في السفر والتقوت بالميتة أو الدم أو لحم الخنزير عند الاضطرار على من سافر في معصية، فكيف نلجأ في أقل الأشياء إلى دعوى الضرورة فكيف بدعوى الحاجة؟
أيها الناس، إننا هنا مسؤولون على كل كلمة نقولها وعلى كل قرار نقرره، فاتقوا الله أن تأتي الأجيال المقبلة فتقرأ ما نتركه أو نقرره وتتخذه أيضا كما اتخذناه نحن أساسًا للاستنباط فنتحمل وزرًا ما كان أغنانا عنه، أخشى أن ينطبق علينا قوله، سبحانه وتعالى:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} .
أيها السادة تذكروا ثقل المسؤولية واتقوا الله في أنفسكم وأجيالكم، وفقنا الله إلى كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد الأمين الإسماعيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما ننظر إلى نوع العلاقات الدولية التي ينظمها الإسلام أو القوانين المسنة في ضوء الشريعة الإسلامية نجد قرارات هيئة الأمم المتحدة أمامنا ونجد النظام الذي أسسه العالم ووافق عليه في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة، ونجد نظامًا متكاملًا متميزا الذي هو التشريع الإسلامي كذلك في الطرف الآخر، ولكننا نجد قواسم مشتركة ما بين ما وافق عليه هذا العالم وما بين ما هو مثبت في شريعتنا، وإذا نظرنا إلى الأسس الأربعة التي هي أساس التجمع الغربي وما قام عليها أساس تشريعه ونظرنا إلى أساس التشريع في الشريعة الإسلامية نجد في الطرف الآخر أركان أربعة: الأرض، الجنس، اللغة، الآمال المشتركة. هذه الأسس الأربعة تنظر إليها شريعتنا ولكن تجعل من أساس وحيد هو لب تشريعها وهو العقيدة الإسلامية، عقيدتنا الإسلامية عندما تنظر إلى هذه الأسس الأربعة لا تجافيها، ولكنها تنظمها فهي تعترف بالأرض وتعترف بالجنس وتعترف باللغة وتعترف بالآمال المشتركة ولكنها عندما تتحول هذه القضايا الأربع إلى حدود وتتحول هذه الأسس الأربعة إلى سدود آنذاك تتدخل العقيدة الإسلامية لتقف موقفها بالنسة لهذه القضايا. إذن معنى هذا أن هناك أساسًا وحيدًا في شريعتنا الذي هو العقيدة الإسلامية. هذه العقيدة التي هي أساس تكوين الأمة المسلمة وأساس تجمعها ، وهي الأساس الذي تنظر به من وراء الحدود وتتعامل مع الناس به.
إذن هناك أهل الكتاب ومن يدور في فلكهم وهناك العقيدة الإسلامية الصافية البعيدة عن الشوائب التي ترتكز على الكتاب والسنة وترتكز على السماحة وترتكز على القدرات التي أسسها عليها الوحي. إذن نحن أساس تجمعنا الشرعي هو العقيدة الإسلامية وحدها، هو الأساس الذي يجتمع عليه الطرف الآخر هي القواعد الأربع. إذن نحن عندما ننظر إليها ننظرإليها بهذا المنظار، وهذا المنظار هو وحده الذي يمكمن أن يساعدنا في وجود تشريعات تقوم عليها علاقتنا مع النظام العالمي الجديد والذي يمكننا أن نتعامل معه بناء على هذه السماحة العقدية. وقديمًا كان علماء الغرب الإسلامي عندما يكتبون في الفقه يبدأونه بباب التوحيد (باب العقيدة) فكأنهم يريدون أن يقولوا للعالم: إن هذه التشريعات ما لم تخالف هذه العقيدة فهي سليمة وإذا خالفتها فليست سليمة، إذن معنى هذا ينبغي أن ننظر إلى تشريعنا وأن ننظر إلى النظام الدولي من خلال هذه العقيدة ، وإذا نظرنا إليه من خلال هذه العقيدة فسوف نجد القواسم المشتركة التي تساعدنا على التفاهم بناء على النظام العالمي الجديد. وشكرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عابد السفياني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما تحدث به كثير من الإخوة الفضلاء كان حديثًا جيدًا، ولي تعليق على بعض البحوث لكنني لا أحدد منها شيئًا وإنما أذكر بعض المسائل التي تحتاج إلى تنبيه.
وهذا الموضوع تختلط كثير من أموره بموضوع الغزو الفكري، وذلك ما تحدث به سعادة الدكتور طه جابر العلواني هو في الحقيقة من صميم الموضوع لأن الغزوالفكري قد دخل إلى قضية العلاقات وأفسد جانبًا من التصور الإسلامي الصحيح في هذا الأمر. لعلنا ـ إن شاء الله ـ نخرج في هذه المرحلة الجديدة بالتعاون مع ما يسمى بالنظام العالمي الجديد على الأصول الثابتة العلمية ولذلك ستكون كلمتي مهتمة بالتقعيد الذي ذكره الفقهاء في هذا الباب، ولست أحجز نفسي في الواقع المعاصر فإننا إذا اجتمع أهل العلم والفكر فإنهم إنما يتحدثون عن ثوابت الإسلام وأصوله؛ لأننا نتحدث عن تصحيح مسار هذه الأمة، وأما الحالات الاستثنائية فهي موضع نظر وبحث ولكنها ليست هي الأصل، والحديث عن الحالات الاستثنائية لا يجيز لنا بحال من الأحوال أن نغفل الأصول التي هي الطريق الوحيد لتصحيح مسارنا. المرحلة السابقة وصل الكلام فيها في حرية الأديان ـ كما هو معلوم ـ وفي التقارب بينها وتمكن من ذلك الغزو الفكري حتى صرح كثير من المشتغلين بالدراسات الإسلامية، كما صرح جمال الدين الأفغاني بأن الأديان يكمل بعضها بعضًا مع أن المعلوم من إجماع علماء المسلمين في جميع القرون أن الأديان لا يكمل بعضها بعضًا وإنما فيها شيء منسوخ ومنها شيء مبدل محرف، والغزو الفكري قد تمكن من هذا الباب، ولذلك نحن بحاجة إلى وعي بالغ في هذه القضية حتى نضع للمسائل الاستثنائية حكمها ونثبت القواعد دون تغيير لعل الأجيال القادمة تأتي وتجد قواعد ثابتة لا يحكم علينا فيها بتزييف أو تضييع لها.
نريد أن نقول دائمًا ـ ومن حقنا أن نقول ـ: إن الإسلام أو نقول: لا إكراه في الدين، ومن حقنا أن نقول: إنما القتال هو لرفع البغي والظلم، ومن حقنا أن نتحدث عن الجهاد وأهدافه السامية، لكن ليس من حقنا أن نتحدث في خارج الأطر الثابتة الشرعية التي قررها علماء الإسلام.
القانون الدولي وتحقيق مقاصده العامة كما يراها الذين وضعوه مع الناحية الواقعية التطبيقية لا يحتاج إلى كثير من الكلام، ومقاصد القانون الدولي الوضعي ـ أيضًا ـ لا يحتاج إلى كثير من الكلام فقد صرح أحد الكبار وهو (جب) في كتابه:(وجهة الإسلام) فقال: المقصد من الغزو الفكري هو إبعاد سلطان الدين عن النفوس. والغزو الفكري قد اختلط بالقانون الدولي والقوانين الوضعية.
أما مقاصد الشريعة الإسلامية فهي معلومة لدى الجميع، لكن ما هو المدخل الصحيح لدراستها؟
دراسة منهج الفقهاء ، وهو موضوع هذه الجلسة يحتاج أن ندخل له أولا بتحديد صحة النقل عنهم. الأمر الثاني: الاستقلال في الانطلاقة وعدم الالتزام أو الخضوع للواقع المرير. الأمر الثالث: ملاحظة مقاصد الإسلام جميعًا دون تفريق.
وفي هذه الأطر والثوابت نستطيع أن نتحدث ونخرج الصورة الصحيحة. من هذه الأطر ـ وأشير إليها بإيجاز.
أولا: لا ولاء بين الكفار والمسلمين ولا مودة، وهذه قضية أشار لها بعض الإخوان لكنها تختلط عند بعضهم في بعض البحوث فيخلطون المودة بما جاز في الشرع من البر والقسط والتعامل. والفرق بين المودة واضح وبين البر والقسط والتعامل. ولذلك أشار الأستاذ محمد الناصر إلى ملاحظة جيدة في هذا الباب وبينها وبين أنه لا مودة في نصوص الإسلام ولا يمكن أن تكون هناك ـ كما يقال ـ أمور نفسية أو شيء من المودة أو المودة كما تطلق في بعض الأحيان ولا يمكن أن يختلط هذا المصطلح بمصطلح البر والقسط والتعامل.
فالبر والقسط والتعامل مع الكفار شيء آخر غير المودة وغير الآمال المشتركة.
الأمر الثاني: الإطار الذي بنى عليه الصحابة والفقهاء والأئمة والتابعون ومن بعدهم من أئمة الإسلام أن الجهاد مع كل بر وفاجر خلافًا للقول بأن الجهاد إنما يكون مع العادل أو إنما يكون مع الإمام المعصوم.
الأمر الثالث: أن مقصد الجهاد كما ذكر أيضا الشيخ محمد الناصر في بحثه وهو كلام الفقهاء وإنما أشرنا إليه؛ لأنه نبه إلى ذلك، مقصد الجهاد هو إخضاع دور الكفار للإسلام، وقد يتعجب الناس من هذا القول ويقولون: تتكلم في أي واقع أنت؟! فنقول إن الإسلام تحدث عن عالميته وهو في شعاب مكة وتحدث عن قضاياه الأصلية الصحيحة دون تلبيس وكان ذلك أمرًا واضحًا ثم يستطيع المسلمون بمشيئة الله بما يبذلونه من جهد وصدق لتحقيق أصول الإسلام وشرائعه.
من المقاصد التي نص عليها الفقهاء وهي من خصوص بحثنا ـ في الجهاد ـ قولهم كما نص علماء الحنفية أن الجهاد المقصود به إخلاء العالم من الفساد يساوي قولهم: رفع الفتنة، وقولهم: إن الدين كله لله.
الأمر الرابع: الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن القرآن من أوله إلى آخره والسنة النبوية ونصوص الفقهاء دالة على أن الأصل والقاعدة أن تقوم هذه الأمة بنصرة الدين وتحكيم الشريعة ونصرة العقيدة وتخيير الكفار عند القدرة في ثلاثة خصال: الإسلام، أو الجزية وهي الخضوع لسلطان الإسلام، أو القتال.
الأمر الخامس: الفقهاء تحدثوا عن المهادنة وجعلوا لها شروطًا، وجملة شروطهم تعود أنه لا يجوز أن يكون العهد والمهادنة موجب أو يعود على الجهاد بالإبطال، ونصوص الفقهاء واضحة في هذا ولا يمكن أن يضرب بعضها ببعض ولذلك لم يقولوا بشرط دوام المدة، والقول بعدم تحديد العهد لا يعني دوام المدة، فإن العهد إذا لم يكن محدَّدًا حققت شروطه فلا يعني أنه مؤبد. دع عنك مسائل السلام والتطبيع وغير ذلك.
الأمر السادس: وهو إطار مهم جدًّا ونحن نتحدث عن الإسلام والمسلمين ونتحدث للأجيال القادمة أن تقسيم الدور الأصلية ثابت عند الفقهاء ومحل إجماع وليس له علاقة بقضية الحرب والسلم حتى يمكن أن تتغير الأوصاف فإن الأوصاف التي تتغير من الحرب إلى السلم هي الأوصاف التبعية أما الأوصاف الأصلية وهي دار الإسلام ودار الكفر، فلا تزال ما دام هناك مسلمون وهناك كفار. فلا يجوز أن تخلط هذه المفاهيم بعضها ببعض ولا مكان لما يسمى بالنظام العالمي الجديد أمام هذه القسمة الثابتة التي تجعل للمسلمين دارهم وشريعتهم وولاءهم وتميزهم وتوجههم.
وأما الحديث عن العمومات من الأمال المشتركة ومعروف أن ضحية ذلك هم المسلمون، والواقع المرير لا يمكن أن نتحدث عنه في هذه العجالة، فالمسلمون هم الضحية، كما أشار الدكتور طه العلواني في مقدمة ضافية ووعي واضح جدًّا أن المسلمين هم الضحية الوحيدة لمسألة ما يقال بالنظام العالمي الجديد. من الأسباب التي أدت إلى اختلاط المصطلحات بعد الغزو الفكري وما أشرنا إليه من ترك المنهجية العلمية الثابتة في هذا الباب وقد استفاد من المنهجية العلمية كثير من الباحثين وثبت هذه الأمور.
من الأسباب الأخرى الخلط بين كلام الفقهاء في العلة في الجهاد والعلة في القتل، ولذلك لا يجوز أن نضع مكان الجهاد الحرب لأن الحرب جزء من الجهاد فينبغي أن تكون القاعدة هي الجهاد. والجهاد بالثلاثة الأمور التي يخير فيها، وأما الخلط بين قضية مقصد الجهاد عند الفقهاء ومقصد القتل أو العلة في القتل هذا خلط كبير أدى ضياع الصورة الصحيحة ونحن نتحدث وننقل كلام أهل العلم في هذا الباب، فإن العلة في الجهاد هي مقاصد الجهاد التي سبق ذكرها والتي أشرت إليها وقد أشير أيضًا في نهاية حديثي عن شيء منها لم أشر إليه من قبل. وأما تحديد العلة في القتل فهي المقاتلة فنقلت العلة في القتل إلى العلة في الجهاد أو العلة في القتال، وفرق بين العلة في الجهاد ومقاصد الجهاد وبين العلة في القتل؛ لأنه لا يقتل إلا من قاتل وعلى ذلك تخرج نصوص الفقهاء في هذا المجال. ومما ينبغي التنبيه إليه أن هناك رسالة اعتمد عليها بعض الباحثين منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية اعتمد عليها الدكتور عبد العزيز الخياط، وهذه الرسالة من أولها إلى آخرها مبنية على الفرق بين العلة في القتال والعلة في القتل ، والتسوية عدم إدراك الفرق بينها والتسوية بين هذا وهذا حتى قالوا: إن العلة في القتل هي المقاتلة ونقلوا هذه العلة إلى مسألة الجهاد، وبنيت هذه الرسالة على هذا الأساس ومقارنتها بكتب شيخ الإسلام مجتمعة تدل على أن هذه الرسالة لا يصح نسبتها إليه، ولذلك العلة في الجهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المقاصد الكبرى التي تحدث فيها كثير من الإخوان، وهذه الرسالة بحثها بعض الباحثين وأثبت عدم نسبتها وهو الشيخ سليمان بن حمدان.
من الأمور المهمة أيضًا ونحن نتحدث عن العلاقات بين المسلمين والكفار أن نستنقذ المسلمين إلى المفاهيم الصححية؛ لأن هذا هو الحل وهذا هو الصحيح. سنعيش فترة معينة لا ندري كم تطول في حالة التيه والغثاء الذي نحن فيه، لكن لا بد من إبراز الصورة الصحيحة للإسلام والمفاهيم الإسلامية لعلنا ـ إن شاء الله ـ نستطيع أن نخرج من هذا الذي نحن فيه ونسلم للأجيال القادمة تراجم للعلماء الذين يتحدثون عن قضايا الإسلام في هذا العصر الآن فيجدون تراجمهم وهم يتحدثون عن الإسلام بصورته الصحيحة.
لا بد من حديث مختصر عن مقاصد الشريعة والكليات الإسلامية والعقيدة الصحيحة لنعيش بالحق وللحق، وهو مقصود الإسلام الذي نعيش له وبه.
من الأمور المهمة في دراستنا للعلاقات الدولية وفي نظرنا أيضًا إلى أمورنا الداخلية، أولا: أن نثبت المقاصد المشار إليها في العلاقات بين المسلمين وغيرهم. وقد سبق شيء منها.
والأمر الثاني: وهو مهم أيضا تبغيض عبادة غير الله للناس عامة.
الحديث عن الآمال المشتركة أو ـ كما تفضل الدكتور طه العلواني ـ عدم فهمنا لأعدائنا وما يريدونه منها لا يجعلنا نوقف المسلمين على الإسلام الصحيح تبغيض عبادة غير الله سواء من الأديان المبدلة أو من المظاهر المنحرفة عن الشريعة الإسلامية ، ومعلوم أن الأديان منسوخة ، وأن الموجود الآن في العالم إما قديم منسوخ وإما قديم مبدل وإما جديد شرع من دون الله، والتشريع من دون الله هو أفة البشرية، فإن التشريع من دون الله هو الذي جعلهم يختارون غير الإسلام أو يبدلون الذي اختار الإسلام يبدل في داخل الإسلام حتى يكون تبديله قد غير حقيقة الإسلام. وخطر التشريع من دون الله يكفي فيه قول الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
وهي قضية تتصل بالأمور الإجماعية عند العلماء وهو أنه لا يجوز نقل الحكم المحرم عن صورته المشروع للممنوع ولا الممنوع للمشروع، وشأن التشريع من دون الله هو نقل المشروع ليكون ممنوعًا والممنوع ليكون مشروعًا في جميع المجالات أو في أكثر المجالات سواء ما يتعلق بالأمور الضرورية أو الحاجية أو التحسينية.
الأمر الثالث: وهو مهم جدًّا، الدعوة إلى تمييز المسلمين عن غيرهم وهذا أمر لا غبار على المسلمين أن يطلبوه، وليست مهمتنا هي إدخال هذه الأمة في الأمم الأخرى حتى كما هو الحال، فالشريعة الإسلامية بدلها القوانين الوضعية ـ والولاء لله ولرسوله والمسلمين واعتصامهم بحبل الله الميتن بدله ـ والعياذ بالله ـ الولاء للكفار والدخول في مناهجهم، ليست مهمتنا هي إدخال هذه الأمة في الأمم الأخرى وإنما مهمتنا هو تثبيت هذه الأمة على أساسياتها العقائدية والتشريعية ثم بعد ذلك الانتقال لدعوة الأمم الأخرى.
والدعوة إلى تمييز المسلمين عملًا بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
تمييزهم بشريعتهم وولائهم واجتماعهم على ذلك وأخذ حقوقهم وجمعهم على شريعة الله واستقلال توجههم واجتماعهم على كلمة سواء هو الأمر الذي ينبغي أن يعتني به المسلمون ويدرسون من خلاله التأصيل الصحيح للعلاقات الدولية ، ويكون للمسائل الاستثنائية كلامها الخاص الذي لا يعود على الأمور الأصلية بالتشويش أو الإبطال.
المناهج الموجودة في العالم مناهج محادة لله ولرسوله، فلا يمكن أن يطوع المسلمون ليتعايشوا مع هذه المناهج أو تكون بينهم وبين هذه المناهج آمال مشتركة.
لا أطيل في هذا الموضوع ولكنني أعود فأقول: إن المنهجية العلمية وهي التي ينبغي أن تحكم دراستنا لقضايا الإسلام وهي التي ينبغي أن نقدم بها قضايا الإسلام، كما هي واضحة جلية ويكون للأصل حكمه وللاستثناء حكمه ونقدم الإسلام بصورته من خلال مقاصد الشريعة مجتمعة لتصحيح الاعتقاد وإقامة الشريعة وجمع المسلمين على ذلك وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام في جميع المجالات سواء في العلاقات الدولية أو غيرها. وألا نكون نهبًا لمبادئ الكفار ونِحَلِهم وضلالاتهم وخططهم التي ما جنى المسلمون منها إلا الشر والفساد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله وأتوب إليه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ محمد الزياني:
بسم الرحمن الرحيم. أحمدك ربي وأصلي وأسلم على خير خلقك محمد وعلى آله وصحبه.
أبدأ بأن أؤكد على ذلك الاقتراح القيم الذي تقدم به الأخ من السودان الشقيق وأتمنى وآمل من الله العلي الكريم أن يشرف مجمع الفقه الإسلامي بأن يكون الباديء في هذه الخطوة الكبيرة التي نراها بداية الطريق لتضميد جراح العالم الإسلامي الذي أصبح يعاني الآن من حالة الفقدان.
أيها الأخوة، كان بودي ونحن نتحدث عن الحقوق الدولية في الإسلام أن نستشعر هذه الخطوة التي سار عليها المجمع في طرح هذه القضايا وهذا يدل ـ كما اعتقد ـ على وعي كبير بأهمية هذه القضايا وعلى تقدير لها، وعلى حرص المجمع على أن يناقش العالم الإسلامي في مختلف مستوياتها، كان بودي أن نؤكد على هذا التوجه لهذا المجمع وفي هذا الإطار أشكر كل الشكر القائمين على هذا المجمع لما أثاروا هاتين القضيتين: قضية الغزو الفكري، وقضية الحقوق الدولية في الإسلام.
أما ما يخص قضية الحقوق الدولية في الإسلام فإني أقول: إنه هناك الكثير مما يجب أن يقال ولكني شخصيًّا، حرصًا على مهابة هذا المجمع، وحرصًا على توجهاته، فإني سأختصر مداخلتي في بعض النقاط البسيطة. هذه النقاط تتوجه نحو الأبحاث، والسؤال على أي شكل وبأي منهج تم بحث الحقوق الدولية في الإسلام في هذا الوقت؟ أهو من خلال ما تفضل به الشيخ التسخيري من خلال المفترض أم من خلال الواقع؟ أهو من خلال التراث أم من خلال الواقع المعاش؟
أعتقد أن معظم الأبحاث قد توجهت إلى معالجة هذا الموضوع من خلال التراث، من خلال ما هو موجود في النظام الإسلامي حول الحقوق الدولية أو العلاقات الدولية في الإسلام. وأعتقد ـ كما أنت أعلم ـ أن هذا الموضوع يمثل أنصع نقطة في نظامنا الإسلامي ذلك أن الإسلام شهد مرحلة حياة مزدهرة أدت إلى وجود نظام للعلاقات الدولية يمكن لنا نحن المسلمين أن نفتخر به وأن نقول إننا نملك النظام الأمثل في هذه العلاقات. والصور الكثيرة في التاريخ الإسلامي التي تدل على نصاعة وقوة وعظمة هذا النظام أنتم أعلم بها ولا أريد أن أشوش وقتكم أو آخذ من وقتكم في ذكرها، لكن المشكلة هي أن هذا النظام ظل طوال الوقت رهين مجتمعاتنا الإسلامية وحتى إن تناولته ندواتنا أو مجامعنا أو مؤسساتنا فإنما تتناوله من خلال تقديم ورقات تحاول أن تعيد ما اشتملت عليه الكتب والندوات والأبحاث من علوم ومعارف تفسر هذا النظام ولكن المشكلة لم نتوجه بهذا التراث الناصع الجيد، وبهذا النظام القوي إلى الغرب، لم نحاول أن نترجم ما عندنا ليفهم الغرب ما هو موجود في النظام الإسلامي. وهنا أود أن أشير إلى نقطة اختلف معها مع الدكتور طه جابر العلواني في المعرفة الإسلامية للغرب صحيح أن الغرب يعرف الإسلام أكثر من المسلمين أنفسهم، ولكن هناك مستويين من المعرفة: المستوى الرسمي والمستوى الشعبي، أم المستوى الرسمي فقد سخرت له كل الظروف وكل الإمكانيات من أجل معرفة أشياء دقيقة قد لا تتصورون أن يكون هناك البحث فيها خاصة إذا جئنا للتوجهات البحثية عند النظام الصهيوني لو كشف لنا ما عندهم من توجهات بحثية لرأينا عجبًا أن هناك قضايا دقيقة وجزئية يبحثها هؤلاء حول الإسلام ولا نعير لها اهتمامًا. أما المستوى الآخر من المعرفة الغربية للإسلام وهو المستوى الشعبي فأنا أؤكد وأعتقد جازمًا أن الغرب في مستوياته الشعبية لا يعرف عن الإسلام إلا كل شرٍّ؛ لأن الآلة الإعلامية الغربية قد سخرت لتقديم المسلم في صور متعددة أنتم أعلم بها، ولو وجد إعلام إسلامي بمعنى الكلمة لاستطاع أن يقنع الغربيين في مستوياتهم الشعبية بما هو الإسلام؟ ما هي عظمة الإسلام؟ وفي هذا الإطار يحضرني مثال واحد. فيلم واحد عن جهاد شيخ مجاهد من مجاهدي الإسلام شد أنظار الغربيين لأشهر متعددة وهم يتدافعون حول دول العرض من أجل مشاهدة هذا الفيلم وأثره حتى في أطفالهم، فماذا لو نحن امتلكنا آلة إعلامية غربية تحاول أن تقدم كتابًا أو فيلمًا عن نظام الحقوق في الإسلام، الحقوق الدولية في الإسلام ما هي؟ حقوق الفرد، حقوق المجتمع، حقوق الدولة ما هي؟ الغرب يجهل كل شيء في مستوياته الشعبية. أما المستوى الرسمي فهم صحيح أنهم يعلمون كل شيء. وفي هذا المجال أود أن يقترح على المجمع أن يتبنى فكرة ترجمة كتاب عن الحقوق الدولية في الإسلام، عن حقوق الفرد، عن حقوق المجتمع، عن حقوق الدول في الإسلام وفي تعاملها وفي هذا الإطار أيضًا أرجو أن يتوجه المجمع لنقطة لم تتناولها البحوث على الرغم من أهميتها وهي حقوق الأقليات في النظام الدولي الإسلامي، حقوق الأقليات في المجتمعات الإسلامية تلكم القضية التي أعتقد أنها هي القنبلة الموقوتة التي سيكون محاربة الإسلام من خلالها في الأشهر القريبة القادمة وستعلمون ذلك إن شاء الله، هذه الأقليات ستستخدم ضد الإسلام والمسلمين، وما أحوجنا إلى أن نوجه أنظار العالم إلى أن المجتمع الإسلامي له أمثل النظم في معاملة الأقليات في مجتمعاته الإسلامية.
أما على صعيد ما توجهت إليه الأبحاث من ناحية الواقع ـ ذلك من خلال التراث ـ أما من خلال الواقع فلا أعتقد أن الأبحاث قد تناولت ذلك باستفاضة ، ولعلي ربما لم أطلع عليها ولكنني سمعتها من خلال العرض الذي تفضل به الشيخ محمد علي التسخيري.
هل هناك حقوق دولية معاصرة الآن؟ هذا سؤال يجب أن نتوقف عنده. ومن وضع هذه الحقوق الدولية؟ وله نحن المسلمون لنا مساهمة في وضع هذه القوانين؟ من الذي يمثل هذا القانون الدولي؟ هل هي الأمم المتحدة أم مجلس الأمن، أم من؟ بمعنى ما هو الإطار الذي نجد فيه الحقوق الدولية في المجتمع المعاصر وخاصة في ظل هذا الوضع الذي نحن فيه الآن، في ظل انهيار الشيوعية وانحسار الحكم في العالم إلى قطبية آحادية نتج عنها شرعية دولية تغيرت فيها المفاهيم وتغيرت فيها الأوضاع رأسًا على عقب وأصبحنا نحن المسلمين ـ كما تفضل بعض الإخوان ـ بأننا المستهدف الوحيد في النظام العالمي الجديد؟ ثم هل ترك النظام العالمي الجديد إمكانية لأن نتحدث نحن المسلمين على الأقل على حقوق دولية؟ هذه بعض أسئلتي كان بودي لو تناولها الباحثون وفي هذا المجال وكنت أود وكنت حريصًا جدًّا على ألا أثير أي قضية تتعلق ببلدي ولكني ومن خلال ما سمعت من آراء برز في ذهني الآن تساؤل وفق الحقوق الدولية في الإسلام، ووفق المعاصرة للحقوق الدولية وفق الشرعية الدولية الجديدة، نطالب الآن بتسليم مسلمين اتهما على فرض أنهما أذنبنا، فهل يجوز لنا شرعًا أن نقدم هذين المسلمين إلى بلد كافر ليحاكما فيه وفق قانون بعيد عن شريعتنا؟ طولبنا ـ وهذا كلام بعيد عن أزمة الخليج هو معاصر ـ طولبنا بأن ندمر أسلحتنا فهل هذا مشروع لنا وفق حقوقنا الدولية في الإسلام؟ هل هذا يتوافق مع قول الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .
هل يصح لنا شرعًا أن ندمر أسلحتنا؟ هذه بعض الملاحظات وددت أن أتوجه بها إلى البحاث لا إلى المجمع. ولكن الشكر كل الشكر وللمجمع كل التقدير.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
لعل جلستنا اليوم كانت جلسة متميزة كما أحس كلنا بذلك إذ أنها تناولت قضايا يحس بها كل واحد منا إحساسا ذاتيًّا، إحساسًا خاصًّا، وتناولت جلستنا هذه مواضيع وبحوثًا مؤصلة ومركزة ليست شخصية وإنما هي أصلية. وكلمتي مع تقديري لكل ما استمعت هي موجهة للأمانة العامة ثم لرئاسة المجلس هو أن هذا المجلس نتكلم فيه بكل حرية في كل ما يختلج في نفوسنا ولكنه من ناحية أخرى هو مضبوط بقواعد وبأطر وبأسس في إنشائه، وفي أهدافه ويحدد له غاياته ووسائل بلوغ تلك الغايات، ولذا فإني أريد فقط بالنسبة للذين سيتولون صياغة القرارات أو التوصيات أن يلائموا دومًا بين هذه المبادئ التي قام عليها المجمع والتي هي خط لا يجوز الخروج عنه وبين القرارات المتخذة. وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
نظرًا لانتهاء الوقت بل لتجاوزه نأتي على اختتام هذه الجلسة ونقول: إنه في الدورة الخامسة لهاذا المجمع صدر قرار بشأن النظام للجنة الإسلامية للقانون الدولي الإسلامي وأنه يكون من مهام هذا المجمع حسب ما أحالته إليه المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية. وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة من كل من: الشيخ طه العلواني، الشيخ عابد السفياني، الشيخ معروف الدواليبي، الشيخ محمد على التسخيري، والمقرر الشيخ رأفت سعيد لصياغة قرار ويكون من مشمولاته أن يعهد للأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بأن تؤلف لجنة على مستوى الإدراك والفقه والعلم والتخصص في مجال الحقوق الدولية لتضع صياغة معينة ومحاور رئيسة تعدها إعدادًا وصياغة للحقوق الدولية في الإسلام ثم تعرض على المؤتمر في دورة لاحقة ـ إن شاء الله تعالى ـ موافقون؟
وبهذا نرفع الجلسة والشيخ الحبيب له كلمة.
الدكتور محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس أنا تقدمت باقتراح لتكوين لجنة معينة وأظن ثُنِّي هذا الاقتراح ولا أدري لماذا تجاهلت الرئاسة هذا الاقتراح؟
الرئيس:
ليس اقتراحك هو الوحيد وإنما هناك مجموعة اقتراحات والمقرر يكتب يا شيخ عطا جميع الاقتراحات ولجنة الصياغة تعد ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يمكن التوصل إليه.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 70/ 6 / 7
بشأن
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 ـ 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الحقوق الدولية في نظر الإسلام".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، رأى ما يلي:
أولا:
يثني المجلس على الجهود المشكورة التي بذلت في البحوث التي قدمت ونوقشت في دورته السابعة حول هذا الموضوع، وقد رأى أن الموضوع من الأهمية والسعة بحيث يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة في الجوانب المتعددة التي ما زال الموضوع في حاجة إليها.
ثانيًا:
يتقرح المجلس تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد ورقة عمل لندوة متخصصة تعقد لمعالجة تفاصيل هذا الموضوع والخروج بمشروع لائحة للحقوق الدولية في الإسلام تعرض على المجلس في دورته القادمة.
ثالثًا:
يقترح المجلس أيضًا أن يكون من محاور ورقة العمل ما يلي:
1 ـ مصادر القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتطبيقات العملية عند الخلفاء الراشدين، كما يستفاد من اجتهادات الفقهاء في هذا.
2 ـ المقاصد والخصائص العامة للشريعة الإسلامية، والتي تترك أثرها العملي على المواقف كلها:
(أ) المقاصد الشرعية.
(ب) الخصائص العامة.
3 ـ مفهوم الأمة ووحدتها في الإسلام.
4 ـ مذاهب الفقهاء في أقسام الديار.
5 ـ الجذور التاريخية للحالة القائمة في العالم الإسلامي.
6 ـ علاقات الدولة الإسلامية في داخلها (الشعب والأقليات) .
7 ـ علاقات الدول الإسلامية بالدول الأخرى.
8 ـ موقف الدولة الإسلامية من المواثيق والمعاهدات والمنظمات الدولية.
رابعا:
يقترح المجلس على اللجنة التحضيرية أن تقوم بوضوع أوراق شارحة يسترشد بها الباحثون في تفصيل هذه المحاور وأن يكون ذلك في خلال الأشهر القادمة.
والله ولي التوفيق.