الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم التداوي في الإسلام
إعداد
الدكتور علي محمد يوسف المحمدي
المدرس بقسم الفقه والأصول
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اهتم الإسلام بصحة المسلم اهتمامًا منقطع النظير، وظهر هذا الاهتمام في نواح شتى، فمثلًا: في الصلاة يبدأ بالطهارة التي يغسل فيها كل يوم خمس مرات الأعضاء التي تتعرض للأتربة والعرق، كما جعل من شروط صحتها نظافة الثوب والبدن والمكان فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) .
وفي الصحيح ((الطهور شطر الإيمان)) (2) . ولما كان الفم ممر العبور إلى البدن أوصى بنظافته فقال: ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) (3) . وأوصى بإزالة ما يساعد على تراكم الأوساخ على الجسم فقال: ((خمس من الفطرة: الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر)) (4) . كما دعا إلى تقوية الأبدان بالرياضة والعمل، وحذر من الكسل وأنكر على من حرم على نفسه الاستفادة من الطيبات، سواء كان تدينًا أو شحًّا، فقال:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (5) .
وفي مقابل ذلك حماه من الشره والإسراف في أنواع الملذات خوفًا من الإضرار بالبدن، فقال:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (6) .
كما نهى عن إرهاق البدن، ودعا إلى الاعتدال، وقال:((أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (7) . واعتنى بالرياضة، ومن صورها الصلاة التي تؤدى أركانها بأوضاع صحيحة تقي الجسم من المعصية الضارة بقوام الإنسان، إضافة إلى كونها عبادة خالصة لله تعالى.
كما اعتنى الإسلام بالصحة النفسية، لأن الإنسان في الإسلام روح وجسد، وأن كليهما يؤثر في الآخر قوة وضعفًا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه القوة الروحية في قوله لعمار حينما كان يحمل حجرين عند بناء مسجده صلى الله عليه وسلم قال له:((إن عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه)) (8) . وبهذه القوة الروحية كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل (9) الصوم أيامًا عديدة (10) .
(1) سورة البقرة: الآية 222.
(2)
رواه مسلم، انظر صحيح مسلم: 1/203، كتاب الطهارة.
(3)
رواه البخاري في صحيحه تعليقًا، انظر فتح الباري: 4/158؛ ورواه أحمد: 1/3، 47، 62، 146؛ وابن ماجه: 1/106، ويراجع مجمع الزوائد: 1/220.
(4)
رواه البخاري، انظر فتح الباري: 10/334؛ ومسلم: 1/221.
(5)
سورة الأعراف: الآية 32.
(6)
سورة الأعراف: الآية 31.
(7)
رواه البخاري، انظر فتح الباري: 9/104؛ وصحيح مسلم: 2/102.
(8)
قال في مجمع الزوائد: 9/295، رواه البزاز ورجاله الصحاح، وتراجع الإصابة: 2/512.
(9)
متفق عليه، انظر جامع الأصول: 6/379.
(10)
بتصرف، من كتاب شيخنا الدكتور القرضاوي (فتاوى معاصرة 587 - 593.
وقال الحموي:.. وكان يديم التطبب في حالة صحته ومرضه، أما في صحته فباستعمال التدبير الحافظ لها من الرياضة، وقلة المتناول، وأكله الرطب بالقثاء والرطب بالبطيخ، ويقول: يدفع حر هذا برد هذا، وبرد هذا حر هذا، وإكحال عينيه بالإثمد كل ليلة عند النوم، وتأخير صلاة الظهر في زمن الحر القوي، ويقول: أبردوا بها وأما تداويه في حالة مرضه فثابت بما روي من ذلك في الأخبار الصحيحة، منها عن عروة عن عائشة قالت:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه، وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه)(1) .
ولكن مع هذه العناية بصحة البدن، والتي منها التداوي، لأن التداوي وسيلة من وسائل المحافظة عليه، إلا أن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة وسنعرض لبيان موقف الفقهاء من حكم التداوي مع عرض أدلتهم ومناقشتها قصدنا في ذلك الوصول إلى الحق، والوقوف في صف من يؤيده الدليل، وبما أن مسألة التداوي متشعبة فإني سأبذل قصارى جهدي في عرض جميع جوانبها مع تجنب الاختصار المخل والتطويل الممل.
التعريف بالتداوي:
رأيت أن من المناسب أن أذكر تعريف المصطلحات الطبية لنكون على علم بما يرد منها أثناء البحث.
الطب:
جاء في ((المحكم)) الطب: علاج الجسم والنفس، ورجل طب وطبيب، وقالوا: إن كنت ذا طب بكسر الطاء وطب وطب فطب وطب لعينك، وفي الصحاح وجمع القلة: أطبة، والكثير أطباء، تقول ما كنت طبيبًا ولقد طببت بالكسر، والمتطبب الذي يتعاطى علم الطب وفلان يستطب لوجعه أي يستوصف الدواء لما يصلح لدائه وفي ((المحكم)) : والطب والطبيب: الحاذق من الرجال، الماهر بعلمه (2) .
وقال ابن مفلح الطب بكسر الطاء في اللغة على معان:
أحدهما: السحر والمطبوب المسحور.
والثاني: الإصلاح، يقال: طببته إذا أصلحته، ويقال: له طب بالأمور أي لطف وسياسة.
والثالث: الحذق، كل حاذق طبيب عند العرب، وأصل الطب الحذق بالأشياء والمهارة بها.
الرابع: يقال: الطب لنفس الدواء.
والخامس: العادة، يقال: ليس ذلك بطبي أي عادتي.
(1) التراتيب الإدارية: 1/455.
(2)
تخريج الدلالات السماعية: ص678؛ والنهاية في غريب الحديث: 3/110؛ وترتيب القاموس المحيط: 3/50.
والطب بفتح الطاء العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له: طب (1) .
والحاصل أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوي وللتداوي وللداء أيضًا فهو من الأضداد وهو علم يعرف به أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة.
وقال القسطلاني: الطب علاج الجسم والنفس والرفق والسحر، وبالكسر الشهوة والإرادة والشأن والعادة، وبالفتح الماهر الحاذق بعمله كالطبيب، والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص بها المعالج في العرف.
والطب نوعان:
طب القلوب ومعالجتها بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى.
وطب الأبدان ومنه ما جاء عن الشارع صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره، وأكثره عن التجربة.
وهو قسمان: ما لا يحتاج إلى نظر وفكر كدفع الجوع والعطش وما يحتاج إليهما كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال.
المرض: خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمرض يكون في البدن، وقد يطلق المرض على مرض القلب، إما للشبهة (في قلوبهم مرض) وإما للشهوة (فيطمع الذي في قلبه مرض)(2) .
اللدود: بفتح اللام الدواء الذي في أحد جانبي فم المريض وهما كديداه. وجمعه ألده، وقد لده به يلده لدًّا ولدودا بضم اللام ولده إياه (3) .
حكم التداوي:
اختلف الفقهاء في حكم التداوي على عدة أقوال:
القول الأول: لا يجوز التداوي وقال به غلاة الصوفية (4) .
وعللوا رأيهم: بأن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، فالواجب على المؤمن أن يترك التداوي اعتصامًا بالله وتوكلًا عليه وثقة به، وانقطاعًا إليه، فإن الله قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (5) .
(1) الآداب الشرعية: 3/94، 95؛ وزاد المعاد: 2/139؛ ومعالم القربة: ص254.
(2)
لامع الدراري: 9/444؛ وفي تعريف المرض والفواكه الدواني: 2/439.
(3)
تخريج الدلالات السماعية، للتلمساني: ص679.
(4)
صحيح مسلم بشرح النووي: 14/191؛ وطرح التثريب، للعراقي: 8/184.
(5)
سورة الحديد: الآية 22.
فما دام كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي (1) .
ويمكن أن يستدل لهم بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل)) (2) وبحديث المغيرة بن شعبة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لم يتوكل من أرقى واسترقى)) (3) .
كما استدلوا أيضًا بما روى ابن مسعود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) (4) وبحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أبالي ما أتيت إن شربت ترياقًا تميمة أو قلت الشعر من قبل نفس)) (5) .
وقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث بعدة أجوبة منها أن هذا فيمن فعل معتمدًا عليه لا على الله أو لخطر الاكتواء، أو يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قصد إلى نوع معين من الكي مكروه بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أبيًّا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي، أو يقصد به كى الصحيح لئلا يفعل، كما يرد على الصوفية بما سبق، وبقوله تعالى:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] فهو دليل على جواز التداوي بشرب الدواء، كما أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتداوي صريحة في التداوي، وحجة على أصحاب هذا القول (6) .
القول الثاني: يباح التداوي وتركه أفضل، وهو المنصوص عن أحمد (7)، ونقل عنه أنه قال: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره، وقد كانت تكون به علل فلا يخبر الطبيب بها إذا سأله.
وفي رواية المروزي: العلاج رخصة وتركه درجة أعلى منه (8) ، وبنحو هذا قال النووي (9) .
وعللوا رأيهم: بأن تركه تفضلًا واختيارًا لما اختار الله ورضي به وتسليمًا له.
(1) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 17/194، 10/139.
(2)
تحفة الأحوذي: 6/214، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال المباركفوري: (وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك
…
) ، وانظر جامع الأصول: 7/516؛ والسنن الكبرى، للبيهقي: 9/341؛ والمجموع، للنووي: 9/53؛ والآداب الشرعية: 2/359، وقال: وإسناده ثقات.
(3)
الآداب الشرعية: 2/359، وقال: إسناده جيد.
(4)
جامع الأصول: 7/574، وقال: أخرجه أبو داود رقم الحديث (3883) .
(5)
جامع الأصول: 7/516، وقال: أخرجه أبو داود رقم الحديث (3869) .
(6)
انظر الجامع لأحكام القرآن: 17/194، 10/139؛ فيض القدير: 6/82؛ وفتح الباري: 10/135، 155.
(7)
الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 21/564.
(8)
الآداب الشرعية، لابن مفلح: 2/358؛ وكشاف القناع: 2/76.
(9)
المجموع: 5/96؛ وانظر النووي على مسلم: 3/90؛ والروضة الندية: 2/329، 330؛ وإرشاد الساري: 8/33.
كما استدلوا بما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) (1) ولحديث ابن عباس عن الجارية التي كانت تصرع، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فقال:((إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك)) ، فقالت:(بل أصبر، ولكني أنكشف، فادع الله لي أن لا أنكشف، فدعا لها أن لا تنكشف)(2) .
كما استدلوا بأن خَلقا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض، كأبي بن كعب، وأبي ذر، ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي (3) .
ورد بأن ترك هؤلاء يعود - كما قال أبو طالب المكي - إلى الخشية من أن يهجس في نفوسهم أن الشفاء والنفع من فعل الدواء وذلك من الشرك (4) .
القول الثالث: هو القول باستحباب التداوي وأن فعله أفضل من تركه وبه قال الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف، وقطع به ابن الجوزي وابن هبيرة وهو قول الحنفية والمالكية (5)
(1) أخرجاه في الصحيحين، انظر فتح الباري: 11/305؛ واللفظ للبخاري، وصحيح مسلم: 3/88؛ ومجمع الزوائد: 10/406.
(2)
الحديث متفق عليه، نيل الأوطار: 8/208.
(3)
فتاوى ابن تيمية: 24/269؛ وقوت القلوب: 2/22.
(4)
قوت القلوب: 2/22.
(5)
الآداب الشرعية: 2/359؛ والنووي على مسلم: 3/90؛ والفتاوى الهندية: 5/354؛ والزرقاني على الموطأ: 4/329؛ والمجموع: 5/96؛ وكشاف القناع: 2/76؛ والتمهيد: 2/227، قال: وفي معناها (الحجامة) إباحة التداوي كله بما يؤلم وبما لا يؤلم إذا كان يرجى نفعه
…
وطرح التثريب، للعراقي: 8/182؛ وفتاوى ابن تيمية: 21/564، وقال الخطابي: وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب وأباح العلاج والتداوي، انظر معالم السنن: 4/229.
واحتج هؤلاء لرأيهم بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية والأطعمة كالحبة السوداء والقسط والصبر وغير ذلك، وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوى، وبإخبار عائشة رضي الله عنها بكثرة تداويه، وبما علم من الاستشفاء برقاه (1)، والأحاديث الدالة على التداوي كثيرة منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء)) (2) .
صحيح مسلم: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواءُ الداءِ برىء بإذن الله عز وجل)(3) .
وفي الحديث أن الصحابة قالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: ((تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير الهرم)) (4) .
القول الرابع: هو القول بأن التداوي مباح مطلقًا وبه قال جمهور العلماء ومنهم مالك حيث نقل عنه أنه قال: (لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه)(5) .
واستدلوا بما روي عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا)) ، فقالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: ((الهرم)) (6) .
وقالوا: إن في هذا الحديث إثبات الطب والعلاج، وأن التداوي مباح غير مكروه قاله الخطابي، وقال العيني:(فيه إباحة التداوي وجواز الطب)(7) .
وقال القرطبي: دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافًا لمن كره ذلك من جلة العلماء، ثم أورد عدة أحاديث في الجواز.. ثم ذكر تداوي بعض الصحابة، ثم قال: وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء (8) .
ويمكن حمل النقول المخالفة لهذا على حالة الاختيار، والجواز على حالة الاضطرار فيتفق النقلان (9) .
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 3/90.
(2)
فتح الباري: 10/134؛ واللفظ للبخاري، والسنن الكبرى للبيهقي: 9/343؛ وص349، باب ما جاء في إباحة التداوي وقال الشافعي: والأخبار
…
فيما تداوى به، وأمر بالتداوي به كثيرة.
(3)
النووي على مسلم: 14/191؛ واللفظ لمسلم؛ والتاج الجامع للأصول: 3/198؛ وجامع الأصول: 7/513، وعنوان الفصل بجواز التداوي.
(4)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، المجموع: 5:96؛ وجامع الأصول: 7/513؛ وتحفة الأحوذي: 6/190، كتاب الطب.
(5)
تحفة الأحوذي: 9/190، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(6)
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 10/199؛ والفواكه الدواني: 2/442؛ وانظر فتح الباري: 10/174 - 178؛ والنووي على مسلم: 14/19؛ ومعالم السنن: 4/216؛ والروضة الندية: 2/329.
(7)
تحفة الأحوذي: 6/190؛ وانظر نحو هذا المعنى في فتح الباري: 7/373.
(8)
الجامع لأحكام القرآن: 18/197 - 199.
(9)
الفواكه الدواني: 2/442؛ ومعالم السنن: 4/219.
القول الخامس: هو القول بالوجوب حيث ذهبت طائفة من أصحاب الشافعي وبعض الحنابلة إلى أنه واجب.
وزاد بعضهم: إن ظن نفعه (1)، وبنحو هذا قال الحنفية: إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعًا به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع، فتركه حرام عند خوف الموت (2) .
روى الخلال في كتاب الطب بإسناده عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه، فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه)(3) .
ولحديث أنس رضي الله عنه: (إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا)(4) .
الخلاصة والترجيح:
وبعد عرض تلك الأدلة يتبين لنا رجحان قول القائلين بوجوب التداوي أو على الأقل باستحبابه لورود الأمر بذلك وأقل مراتب الأمر الاستحباب.
ولا يمكن الأخذ بما ذهب إليه أصحاب القول الأول من القول بعدم جواز التداوي لأنه يخالف ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من عموم الأمر بالتداوي، وترغيبه في ذلك في مواضع كثيرة، وأن الأخذ بالتداوي هو من باب الأخذ بالأسباب وحصول الشفاء بالدواء كدفع الجوع بالأكل وكدفع العطش بالشرب، وأن التداوي لا ينافي التوكل على الله تعالى لأن المسلم حين يتناول الدواء فإنه يعتقد بقلبه أن الشفاء لا يكون إلا بإذن الله تعالى وبتقديره، وإن الأدوية لا تنفع بذاتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وإلا فكم من مريض انقلب دواؤه داء؟.
كما أنه يمكن حمل النهي على سبيل الاحتياط والتنزيه أو عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء.
ومما يشهد لعدم تنافي التداوي مع الإيمان بالقدر ما روى أبو خزامة عن أبيه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله)(5) .
فالحديث صريح في إثبات الأسباب والمسببات، ورد على المتعللين بمخالفته للتوكل لأن المؤمن ينطلق من معتقد أن المرض والشفاء بقدر الله تعالى وأن من أسباب الشفاء هو الأخذ بالتداوي.
(1) الآداب الشرعية: 2/361؛ وفتاوى ابن تيمية: 24/269، وفيه وإنما أوجبه طائفة قليلة كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد: 21/564.
(2)
الفتاوى الهندية: 5/355؛ إحياء علوم الدين: 4/276؛ والشرواني وابن القاسم: 3/182؛ وفتاوى ابن تيمية: 21/564.
(3)
تخريج الدلالات السماعية: ص677.
(4)
عون المعبود: 10/334؛ وجامع الأصول: 7/513، وقال رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وتحفة الأحوذي: 6/190، باب ما جاء في الدواء والحث عليه.
(5)
تحفة الأحوذي: 6/233، وقال: هذا حديث حسن. نيل الأوطار: 8/208.
وقد يكون مرد القائلين بأولوية ترك التداوي إلى ما عهدوه في عصرهم حيث كان التداوي بالوسائل البدائية والطرق التقليدية التي لم تصل إلى مستوى يثق به الناس، بل أغلبها كانت ظنية، لذا جاء التردد عنهم في الأخذ بها وكذا ما ورد عن بعض السلف في تركه التداوي يعود إلى ظنه أنه وصل إلى مرحلة لا تجدي معها الأدوية (1) ، أو لعلمه أن هذا المرض لم يصل فيه الطب بعد إلى دواء ناجح، أو تحمل أقوالهم على أنها قيلت كرد على من اعتقد الشفاء في الأدوية وعلق قلبه بها، وتناسى الشافي الحقيقي وهو الله فجاءت أقوالهم تذكيرًا لأمثال هؤلاء أو قد يكون هذا التارك للتداوي متألمًا لذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض.
وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم في كمال التوكل على الله، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، فقد ظاهر بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وخندق حول المدينة.. وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو أحق الخلق أن يحصل له ذلك.
فبين بسنته القولية والفعلية أن الاحتراز لا يدفع التوكل.
ونجد الأمر بالتداوي والمحافظة على الدين واضحًا في قوله صلى الله عليه وسلم تداووا لما فيه من الأخذ بالأسباب واقتداء به صلى الله عليه وسلم ويتأكد الأمر أكثر في حق من يقومون على مصالح العباد.
ولذا قال المباركفوري بعد إيراده الحديث (تداووا) فيه إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس، ونقل عن العيني قوله: فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد (2) على الصوفية: أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته، وهو خلاف ما أباحه الشارع، إذ إنه لم يخلق داء إلا وضع له شفاء أو دواء، وإنزال الدواء أمارة جواز التداوي، وفي حديث زيد بن أرقم قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت (3) .
(1) انظر الفتاوى الكبرى الفقهية، للهيثمي: 4/109.
(2)
بتصرف من فتح الباري: 10/135، 136، 155؛ والطب النبوي والعلم الحديث: 3/18؛ ونيل الأوطار: 8/209.
(3)
تحفة الأحوذي: 6/190، 352؛ وانظر الفواكه الدواني: 2/440.
ولله در النووي حينما رجح القول بالتداوي وأنه قول جمهور السلف قال: (وحجة العلماء هذه الأحاديث ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضًا من قدر الله، وهذا كالأمر بالدعاء، وكالأمر بقتال الكفار، وبالتحصن ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات)(1) .
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن علمها بالطب قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره فكانت تقدم إليه وفود العرب من كل وجه فينعت لهم الإنعات، فكنت أعالجه)(2) .
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ((كان يديم التطبيب في حال صحته ومرضه، وأمر بالمداواة في عدة أحاديث صحيحة كما أمر أبي بن كعب أن يأتي الطبيب فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه)) (3) .
وكان يراعي صفات الأطعمة وطبائعها، ويراعي استعمالها على قاعدة الطب.
وبلغ من اهتمامه بهذا الأمر أن منع صلى الله عليه وسلم من ليس أهلًا لهذا العمل من التطبيب وجعله ضامنًا لما يحدث من ضرر بالمريض (4) . وقد فهم الصحابة أن ضمان النفس مطلوبة ولذا امتنع عمرو بن العاص من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب خوفًا على نفسه منه وتيمم ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قرر قوله (5) .
ثم أورد ابن القيم جملة من الأحاديث الصحيحة وقال: في هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والبرد بأضدادها، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس المتوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا (6) .
(1) النووي على مسلم: 14/191.
(2)
صفة الصفوة، لابن الجوزي: 2/33؛ وتخريج الدلالات السماعية: ص677.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي: 14/191.
(4)
الطب النبوي، لابن القيم: ص40 - 41.
(5)
الجامع لأحكام القرآن: 5/156.
(6)
الطب النبوي: ص105.
وأرى أن التداوي يدخل في جملة ما أمر به المسلم من الحفاظ على بدنه، حيث أبيحت له الميتة وهي حرام - في سبيل الإبقاء على حياته حتى قال الفقهاء: إن الأكل منها واجب فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار، وهذا وإن لم ينطبق على جميع الأدوية إذ لا يعلم حصول الشفاء بها، ولكن ما ثبت بالعلم والتجربة لا يجوز للمسلم أن يمتنع عن التداوي به وإلا ارتكب ظلمًا في حق نفسه بمنعها من الشفاء وعرضها فريسة للأمراض.
ولا أوافق رأي الحنفية القائلين بأنه لو امتنع فمات لا يأثم لأنه مظنون (1) . لأن الدواء إذا تيقن طريقًا للعلاج تعين عليه حفظ صحته به، وقد يكون قولهم هذا مبنيًّا على ما كان عليه الطب في عصرهم حيث أن أغلب الأدوية كانت بدائية وكثيرًا منها كان وصفات متوارثة لا تعطي نتيجة فعالة في أغلب الأحيان وعلى هذا فلا أوافق ابن تيمية فيما ذهب إليه من أن (قول الأطباء: أنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعين. فهذا قول جاهل، لا يقوله من يعلم الطب أصلًا، فضلًا عمن يعرف الله ورسوله، فإن الشفاء ليس في سبب معين يوجبه في العادة كما للشبع سبب معين يوجبه في العادة، إذ من الناس من يشفيه الله بلا دواء) (2) .
بل أقول: إن كلامه مبني على ما كان عليه الطب في عصره، وفي قائمة الأدوية ما يقطع بكونها دواء لبعض الأمراض نتيجة التجربة والخبرة الطويلة، حتى أصبحت هذه الأدوية في حكم المقطوع بها والذي لا يعتبر تركه من التوكل، بل تركه حرام عند خوف الموت كما ذهب إليه كثير من الحنفية (3) والشافعية (4) ، ولذا أرجح ما ذهب إليه أصحاب القول الرابع وهم بعض الشافعية والحنفية لما ذكرت وأن المسلم في كل أحواله يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى ولن يكون في ملكه إلا ما يريد.
ولذا قال بعضهم: ولا ينقص التداوي توكل العبد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه، فقال صلى الله عليه وسلم:((ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه، وجهله من جهله إلا السام يعني الموت)) . وقال صلى الله عليه وسلم: تداووا عباد الله.. وكان يحتجم ويشرب الدواء، وربما كان المتداوي فاضلًا لمعنيين أحدهما: أن ينوي اتباع السنة والأخذ برخصة الله وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية.. وهو أعلى المتوكلين..
(1) حاشية ابن عابدين: 5/249.
(2)
فتاوى ابن تيمية: 24/274.
(3)
الفتاوى الهندية: ص335 وفيه أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع، وموهوم ثم قال:(أما المقطوع به فليس تركه من التوكل بل تركه حرام عند خوف الموت) .
(4)
الإحياء للغزالي: 4/276.
فإن قيل: إنما تداوى لغيره وليسن ذلك، قلنا: فلا نرغب عن سنته ولا نزهد في بغيته إذا كان فعل ذلك لنا لئلا يكون فعلًا لغوًا، وتكون الرغبة عن سنته إلى توهم حقيقة التوكل طعنًا في الشرع..
والمعنى الثاني الذي يفضل به المتداوي، أنه يحب سرعة البرء للطاعة، لأن العلل قاطعة عن التصرف في العمل ومشغلة للنفس، عن الشغل بالآخرة (1) .
وسأذكر عند الكلام على طرق العلاج المختلفة عشرات الأحاديث التي تحث على التداوي وتدلنا على طرق العلاج المختلفة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ومن ذلك أنشئت المستشفيات في حواضر العالم الإسلامي وجعلوا فيها مئات الأطباء ووقفوا الأموال الكثيرة على الأبحاث الطبية.
وقال بعضهم: الطب علم نظري وعملي، أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة ودفع العلل والأمراض عن هذه البنية الشريفة (2) .
وكأني بابن تيمية يقف حكمًا بين أصحاب الأقوال المختلفة حين حقق القول من أن التداوي منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره (3) .
حكم الاختلاف في الجنس أو العقيدة بين المريض والطبيب:
والحديث عن هذا الموضوع يتناول:
أولًا: عن حكم تطبيب الرجل للمرأة والعكس.
ثانيًا: حكم تطبيب غير المسلم للمسلم والعكس وهذا ما أعني به الاختلاف في العقيدة، وسأبدأ حديثي بالكلام على النوع الأول وهو:
حكم تطبيب المرأة للرجل:
رغم أن الإسلام فتح المجال أمام المرأة للتعليم وسهل لها طرق الوصول إليه بدءًا من ارتياد المساجد للصلاة وسماع القرآن ومجالس العلم، ضمن الحدود الشرعية التي تشترط سلامة الوسيلة والغاية، إلا أن المتقنات لعلم الطب وأصوله كن قلة ولعل سبب ذلك يعود إلى اندراج مهنة الطب في فروض الكفاية لذا اكتفوا بذلك العدد القليل الذي قام بها من النساء كما أن لمكانة المرأة في الإسلام دورًا كبيرًا في انصرافها عن هذه المهنة. وذلك لشرف القرار في المنزل وعدم العمل ودلالة على دلال الزوج وإعزاز المزوج لها.
(1) قوت القلوب: 2/21.
(2)
معالم القربة في أحكام الحسبة: ص253.
(3)
فتاوى ابن تيمية: 37/471.
فهذا الوضع الاجتماعي لم يكن يسمح لها أن تعرض نفسها إلى الصعوبات الموجودة في طلب العلم، كما أن تعلم المرأة لمثل هذه العلوم المختصة كان يتم عن طريق أحد ذويها أو على يد معلم خاص، وكلا هذين الأمرين لا يتيسران للجمهرة العظمى من النساء (1) ، ومع ذلك فقد برع في صناعة الطب عدد من النساء حفظ لنا التاريخ بعضهن ووجد في عصر النبوة طبيبات مسلمات، فقد كانت عائشة على علم بالطب، كما روى لنا عروة أنه كان يقول لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه لا أعجب من فقهك، أقول:(زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول:ابنة أبى بكر وكان من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، قالت: أي عرية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجه، فمن ثم)(2) .
كما عرفت بالطب رفيدة الأسلمية التي كانت تداوي الجرحى، وهي التي داوت جرح سعد بن معاذ حين أصيب في أكحله (3) ، ومن الطبيبات أيضًا الربيع بنت معوذ الأنصارية الصحابية، كانت تداوي الجرحى، وكذلك أم سنان وغيرهن كثيرات (4) ، واستمر إسهام الطبيبات المسلمات عبر عصور الحضارة الإسلامية (5) إلى اليوم.
وأما فيما يتعلق بالأحكام الفقهية من حيث مداواة المرأة للرجل، فقد ذهبوا في الجملة إلى الجواز في ظل قاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) مع اشتراط بعض القيود، كالأصل عدم جواز التداوي إلا بين المحارم، لما يترتب عليه من النظر المحرم أو الخلوة المحرمة بالأجنبية والأجنبي، لذا نص بعضهم على ذلك بقوله: (وإن لم يوجد من يطبه سوى امرأة فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره حتى فرجيه
…
) (6) . ويمكن أن يستدل لهؤلاء القائلين بجواز تطبيب المرأة للرجل بحديث الربيع بنت معوذ قالت: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلي)(7)، وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب مداواة النساء الجرحى في الغزو، ثم قال: وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة (8) .
ويستدل لجواز مداواة المرأة للمحرم بما صح من مداواة فاطمة عليها السلام للنبي صلى الله عليه وسلم حين أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم (9) .
(1) الطب عند العرب والمسلمين، د. محمود الحاج: ص88 - 89 نقلًا عن تاريخ التربية، للدكتور أحمد شلبي.
(2)
تخرج الدلالات السماعية، للتلمساني: ص677؛ والتراتيب الإدارية: 1/455.
(3)
الأكحل: عرق يبين في ذراع الإنسان، غريب الحديث لابن الجوزي: 2/282؛ وتهذيب التهذيب: 12/418 في ترجمة رفيدة.
(4)
الطب عند العرب والمسلمين: ص58.
(5)
الطب عند العرب والمسلمين: ص88.
(6)
الآداب الشرعية: 2/464.
(7)
فتح الباري: 6/80 كتاب الجهاد.
(8)
فتح الباري: 6/80 كتاب الجهاد.
(9)
فتح الباري: 7/372 كتاب المغازي.
كما يستدل لهم بما روي من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن)(1)، وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب المرأة ترقي الرجل.
وكذلك بما تقدم عن رفيدة الأسلمية وأنها كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كان به ضيعة من المسلمين (2) .
ومن هؤلاء المجيزين من خص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمتجالات (3) منهن، معللًا بأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، كما أضافوا أن تكون المداواة عند الضرورة بغير مس ولا مباشرة مستدلًا على ذلك بما اتفق عليه الفقهاء من أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها، أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم، وفي قول الأكثر منهم (4) .
ومنهم من لم يشترط تلك الشروط، ورد عليهم بأن هناك فرقًا بين حال المداواة وتغسيل الميت، وهو أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة والضرورات تبيح المحظورات قاله ابن المنير (5) .
وذكر التلمساني في باب الرقي ما يدل على اشتغال النساء بمداواة الرجال (6) .
(أ) مداواة المرأة للمرأة:
هناك أحاديث تدل على جواز مداواة المرأة للمرأة فمن ذلك ما رواه أبو داود عن الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال:(ألا تعلمين حفصة رقية النملة، كما علمتها الكتابة)(7) .
وفي الصحيحين أن أسماء كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها، أخذت الماء فصبت بينها وبين جيبها، وقالت:(كان رسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء)(8) .
(1) فتح الباري: 7/372 كتاب المغازي.
(2)
فتح الباري: 10/210 كتاب الطب.
(3)
يقال امرأة تجالت: أسنت وكبرت، النهاية لابن الأثير: 1/288؛ والمعجم الوسيط: 1/131.
(4)
فتح الباري: 6/80.
(5)
فتح الباري: 6/80.
(6)
تخريج الدلالات السماعية، للتلمساني: ص686.
(7)
سنن أبي داود - كتاب الطب - ما جاء في الرقي.
(8)
جامع الأصول: 7/528.
(ب) مداواة الرجل للمرأة:
وكذلك أجاز العلماء مداواة الرجل للمرأة وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل (1) .
ويستدل لهم بالقياس على ما سبق من حديث الربيع بنت معوذ، وإن النساء كن يداوين الجرحى
…
فيؤخذ من هذا الحديث حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس كما قال البخاري (2) .
وفي صحيح مسلم أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة أن يحجمها (3) .
ومن هؤلاء من قال بجواز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد (4) . وقال في الفتح (5) : يجوز كشف العورة للمداواة، وقال ابن مفلح: فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره حتى الفرجين، وكذا الرجل مع الرجل، وسئل أحمد عن وضع المجبر يده على يد المرأة للعلاج، قال: هذه ضرورة، ولم ير به بأسًا، وسئل عن الكحال يخلو بالمرأة، فقال: أليس هو على ظهر الطريق؟ قيل: نعم، قال: إنما الخلوة تكون في البيوت (6) .
وذكر الشوكاني في أبواب ستر العورة ما يفيد استثناء الطبيب من حرمة النظر (7) .
وكذا الزيدية أجازوا للطبيب النظر إلى موضع المعالجة من بدنها في أي موضع كان بشرط أن لا توجد امرأة تعالجها وأن يخشى عليها التلف أو الضرر، وأن يأمن الوقوع في المحظور (8)، وقال في البحر الزخار (9) :(وللطبيب نظر ما يحرم نظره في المداواة للضرورة إجماعًا فلا يتعداه، فإن وجد الجنس والمحرم، حرم غيره) وبنحو ذلك قال الحنفية (10) والمالكية (11) ، وأضافت الشافعية (12) ، أن يكون التداوي بحضور محرم أو زوج، وأن لا توجد امرأة تعالج المرأة، وأن لا يكون ذميًّا مع وجود مسلم.
ونخلص مما سبق أن الفقهاء قالوا بجواز نظر الطبيب إلى الأجنبية بقصد العلاج لما سبق من حديث أم سلمة وبشروط معينة، مثل الاقتصار في الكشف على قدر الحاجة، وأن لا توجد طبيبة تعالجها، وأن تتم المعالجة بوجود محرم أو امرأة ثقة، وأن لا يكون الطبيب ذميًّا مع وجود مسلم وأن يكون ثقة مأمونًا (13) .
(1) فتح الباري: 10/136، كتاب الطب، باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل.
(2)
فتح الباري: 10/136، كتاب الطب، باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل.
(3)
النووي على مسلم: 14/193.
(4)
النووي على مسلم: 14/193، وقليوبي وعميرة: 3/212.
(5)
فتح الباري: 10/341.
(6)
الآداب الشرعية: 2/464 - 465.
(7)
نيل الأوطار: 2/69.
(8)
شرح الأزهار: 4/114.
(9)
5/378.
(10)
حاشية ابن عابدين: 3/161.
(11)
الفواكه الدواني: 1/441.
(12)
قليوبي وعميرة: 3/212.
(13)
تربية الأولاد في الإسلام، د. عبد الله علوان: 1/524.
ثانيًا - الطبيب غير المسلم:
للعلماء في الاستعانة بالأطباء غير المسلمين رأيان:
الرأي الأول:
ذهب أتباع هذا الرأي إلى القول بجواز أن يستطب أهل الذمة فيما لا يتعلق بالدين. وهو قول الحنفية (1) ، والشافعية (2) والحنابلة (3) في رواية عندهم.
واستدلوا لرأيهم بأن ذلك نوع من الانتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، وأن هذا جائز، كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خبير، وكما استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هاديًا خريتًا وأتمنه على نفسه وماله، كما أن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن كما قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (4) .
ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة، نص على ذلك أحمد وغيره، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدينا، وائتمان لهم على ذلك وهو جائز، ولأن كتبهم الطبية لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة بل هي مجرد انتفاع بآثارهم (5) . وقد روي أن الحارث بن كلدة وكان كافرًا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستطبوه (6) .
وقد أيد ابن القيم اتجاه أصحاب الرأي الأول فقال بعد أن ذكر قصة استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط هاديًا وقت الهجرة وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والكتابة، والحساب والعيوب ونحوها، ولا يلزم من مجرد كونه كافرًا أن لا يوثق به في شيء أصلًا، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما مثل طريق الهجرة (7) .
واستدل أبو الخطاب من قصة صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عينًا له من خزاعة وقبول خبره، أن فيه دليلًا على جواز قول المتطبب فيما يخبر به عن صفة العلة، ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه، وكان غير مظنون به الريبة (8) .
(1) ابن عابدين: 2/116.
(2)
قليوبي وعميرة: 3/212؛ وفتح الباري: 10/197.
(3)
الآداب الشرعية: 2/462، 479.
(4)
سورة آل عمران: الآية 75.
(5)
فتاوى ابن تيمية: 4/114 - 115.
(6)
مختصر الفتاوي المصرية، للبعلي: ص560؛ والتراتيب الإدارية: 1/457 - 458.
(7)
بدائع الفوائد: 2/208، طبعة دار الكتاب العربي، والآداب الشرعية: 2/463.
(8)
الآداب الشرعية: 2/462.
وروى أبو داود في سننه أن امرأة ابن مسعود كانت تختلف إلى طبيب يهودي فيرقيها من ألم في عينها (1) ، ولذا ذهب الحنابلة في وجه إلى القول بجواز أن تستطب المسلمة ذمية إن لم تجد غيرها (2) .
والحنفية أجازوا للمريض أن يستطب بالكافر فيما عدا إبطال العبادة، وسئل الشافعي أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من ذكر الله، وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله (3) .
الرأي الثاني:
القول بالكراهة وهو مروي عن أحمد فقد روي عنه أنه كره شرب دواء المشرك، وقال المروزي: كان يأمرني أن لا أشتري ما يصف له النصارى ولا يشرب من أدويتهم.
وقد علل هؤلاء لرأيهم بأنه لا يؤمن أن يخلطوا بذلك شيئًا من النجاسات (4) .
وبالتأمل لا نجد فرقًا بين الرأيين إذ يحمل قول القائلين بالكراهة عند عدم الضرورة إلى الاستعانة بهم، وعدم الائتمان، أما عند الحاجة وثقة الناس في طبه فلا وجه للقول بالكراهة، ولذا قال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب، ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطب ثم ساق الأدلة السالفة الذكر من استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين، كما بين أن استطبابه ليس من باب ولاية اليهود والنصارى المنهي عنهما (5) .
(1) جامع الأصول: 7/574. وانظر الحديث في عون المعبود: 10/367 كتاب الطب.
(2)
الآداب الشرعية: 2/462.
(3)
ذكرها الحافظ في الشرح، انظر فتح الباري: 10/197.
(4)
الآداب الشرعية: 2/463.
(5)
الآداب الشرعية: 2/463.
التداوي والتوكل:
يرى البعض أن التداوي ينافي التوكل على الله تعالى فيرد عليه بأت التداوي لا يناقض التوكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به غير واحد من أصحابه. وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه فقال: "ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام" يعني الموت (1) . وقال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله" وسئل عن الدواء والرقي هل يرد من قدر الله؟ فقال: "هو من قدر الله"(3) . والتداوي رخصة وسعة وتركه ضيق وعزيمة والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وقد يؤجر المتداوي في ذلك إن نوى به اتباع السنة والأخذ برخصة الله وطلبًا لسرعة البدء للتفرغ لطاعة ربه سبحانه لأن العلل مشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة. لأنه علم من سنته صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقًا وكوى آخر وقال لعلي رضي الله عنه وكان رمد العين:"لا تأكل من هذا- يعني الرطب- وكل من هذا فإنه أوفق لك"(4) . يعني سلقًا قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من العقرب، وكان يغلف رأسه بالحناء (5) من الصداع، وهو أعلى المتوكلين وليس من شرط التوكل ترك التداوي، بل هو كصب الماء على النار لإطفائها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت، وليس من التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلًا.. وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر.
ويتبين من ذلك أن الله تعالى أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة، والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب
…
وعلم السلف ذلك حتى الذين تداووا منهم لا ينحصرون.
(1) نيل الأوطار: 8/208؛ ومجمع الزوائد: 5/84، وقال: رواه البزار والطبراني.
(2)
رواه البخاري وأحمد وابن ماجه، نيل الأوطار: 8/208.
(3)
تحفة الأحوذي: 6/360؛ ومجمع الزوائد: 5/85.
(4)
تحفة الأحوذي: 6/187.
(5)
تحفة الأحوذي: 6/212.
لكن يشكل على هذا ما ورد من أن جماعة من العلماء تركوا التداوي مما يظن أن التداوي نقصان في الدين، ومن هؤلاء الذين تركوا التداوي جماعة من الصحابة والسلف وغيرهم، فقد روي عن الصديق أنه قيل له: لو دعونا لك طبيبًا؟ فقال: الطبيب قد نظر إليَّ وقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء أندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، ونحو ذلك عن أبي ذر وابن خيثم.. وكذلك أحمد ابن حنبل كان به علل فلا يخبر الطبيب وكان يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره (1) .
ووجه الجمع بين ما سبق من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من التداوي والأمر به، وبين أفعال هؤلاء يكون بمعرفة الصوارف عن التداوي.
وقد حصر الغزالي أسباب تركهم للتداوي في ستة أسباب نوجزها فيما يلي:
السبب الأول: أن يكون المريض قد علم بنهاية أجله إما بمكاشفة أو برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن ويشبه أن يكون ترك الصديق (2) . التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة، ولكن كانت امرأته حاملًا فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضًا بانتهاء أجله وأن الدواء لا ينفعه وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.
السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولًا بحاله وبخوف عاقبته فينسيه ألم المرض، وعليه يحمل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول، وكلام أبي الدرداء.
السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الموصوف موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركها المتوكل لعدم الوثوق بالدواء، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم.
السبب الرابع: أن يترك التداوي استبقاء للمرض لينال ثوابه بحسن الصبر على البلاء، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر، وقد ورد في ثواب المرض أحاديث كثيرة.
السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرًا، فيترك التداوي خوفًا من أن يسرع زوال المرض.
(1) إحياء علوم الدين: 4/279.
(2)
عارضة الأحوذي: 8/205 قال: وإذا تحقق العبد الموت كره التداوي، وعليه يحمل فعل الصديق.
السبب السادس: أن يستشعر العبد في نفسه مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة، فيترك التداوي خوفًا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات. فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدًا فيها، لا من حيث رأوا التداوي نقصانًا، وكيف يكون نقصانًا وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
والحاصل أن التداوي لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب
…
(2) بل لا يتم حقيقة التوحيد - كما قال القيم - إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفها من حيث يظن معطلها: أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا (3) .
ومما يدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل - كما قال الغزالي - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به
…
ولأن القائلين باستحباب التداوي أوجبوا على المتعالج (أن يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى، وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتقدم ولا تتأخر عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات)(4) .
(1) بتصرف من الإحياء، للغزالي: 4/276 - 282، وانظر: قوت القلوب: 2/21 - 27؛ والفتاوى الهندية: 5/355؛ وزاد المعاد: 4/14، 15.
(2)
فتح الباري: 10/135، 136.
(3)
الطب النبوي، لابن القيم: ص 105، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، وانظر: المنار: 4/171 - 175، ونحو ذلك في زاد المعاد: 3/480.
(4)
طرح التثريب: 8/185.
والحاصل أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا، أمر مأمور به شرعًا لا ينافي التوكل على الله بحال، لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالًا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف، ومن ذلك قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة حرقه بالنار وكيف تحولت إلى برد وسلام، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه بسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله تعالى، كما في قوله تعالى عن يعقوب:{يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] .
حيث أمر بنيه بتعاطي السبب خوفًا عليهم من أذى الناس لهم، ومع هذا التسبب قال:{وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] .
فقد جمع بين التسبب {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67] وبين التوكل على الله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . [يوسف: 67] .
وفي قصة مريم عليها السلام (أمرها بهز الجذع مع أنه تعالى قادر على إسقاط الرطب إليها، لكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع)(1) .
وقد حسم الطبري مسألة التوكل والتداوي بقوله: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتزاز لا يدفع التوكل)(2) .
(1) أضواء البيان، للشيخ الشنقيطي: 4/250 - 253.
(2)
فتح الباري: 10/212.
هل يكره المريض على التطبيب؟
إن هذه المسألة - كما لا يخفى - متفرعة من الاختلاف السابق بين الفقهاء في حكم التداوي، وذلك لأن من قال بحرمة التداوي، لا شك أنه يقول بعدم جواز إكراه المريض على التطبيب، ومن قال بوجوب التداوي، فحينئذٍ لا يحتاج إلى الإذن، إذ أن عدم تداويه يكون محرمًا، وحينئذٍ يجب أن يعان على أداء الواجب، ومن هنا يأتي هذا السؤال على ضوء بقية المذاهب الأخرى.
ونرى من نصوص الفقهاء من يقول بعدم إكراه المريض على التداوي والتطبيب حيث يقولون: إن الأصل هو إذن المريض، ولذلك لا بد أن يكون التداوي بإذنه وأنه لا يكره على الدواء وغيره (فلو امتنع حتى مات لم يأثم)(1) .
وهذا القول نابع من أن التداوي مباح أو مستحب، ولذلك لا يأثم على ترك المباح أو المستحب كما هو معروف في الأصول.
ويمكن أن يستدل لهؤلاء بما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة رضي الله عنها لددناه في مرضه، فجعل يشير إلينا: لا تلدوني فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق، قال:(ألم أنهكم أن تلدوني؟ قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم)(2) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الحديث بأنه لا يدل على المطلوب، حيث يقول الحافظ ابن حجر (3) :(لكن اللدود كان نهى عنه، ولذلك عاتب عليه، بخلاف الصب، فإن كان أمر به فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفًا لا يكره على تناول شيء نهى عنه، ولا يمنع من شيء يأمر به)(4) .
وقال القسطلاني: (وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها ولم يكن به ذلك) .
وذهب آخرون إلى أن الدواء المقطوع به محرم عند خوف الموت (5) بناء على أنه بمثابة الانتحار المحرم الذي يمنع منه المسلم، بالإضافة إلى أنه إلقاء النفس في التهلكة دون تحقيق غرض منشود شرعًا:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وبناء على هذا القول لا عبرة بإذن المريض.
(1) المجموع: 5/103؛ والفتاوى الهندية: 5/354؛ وابن عابدين: 6/389.
(2)
فتح الباري: 10/166، واللدود هو الدواء يصب في أحد جانبي فم المريض، وانظر: النووي على مسلم: 4/199.
(3)
فتح الباري: 10/166، 167.
(4)
إرشاد الساري: 8/376.
(5)
الفتاوى الهندية: 5/355؛ والإحياء للغزالي: 4/276.
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول بأن الإذن هو الأصل في التداوي ما دام المريض لم يصل إلى حالة الخطورة القصوى، أما إذا بلغ ذلك فلا عبرة بإذنه عملًا بقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) وكذلك تدل نصوص الشرع ومقاصده على حماية النفس والبدن من المهالك، وأن الإنسان لا يملك نفسه.
وكذلك لا عبرة بإذن المريض في حالات كون مرضه معديًا خطيرًا ينتشر، ويعدي الغير، فحينئذٍ يجبر على التداوي حماية للمصلحة العامة والمجتمع الإسلامي ودفعًا للضرر، وحسمًا لمادة الأذى والضر، وكذلك في حالات الإدمان على المخدرات إذ تستوجب إنقاذه.
هل وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة ومخالفتها مخالفة للسنة:
هذه المسألة فرع عن مسألة اختلف الفقهاء فيها قديمًا، وهي: هل السنة كلها تشريعية أم لا؟ وقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: وهو قول من يرى أن من السنة ما ليس تشريعًا، وقد انتصر لهذا القول جمع من العلماء منهم ابن القيم حيث بين أن كثيرًا من تلك الأحاديث الواردة في الطب مخصوصة بظرف معين أو مكان مخصوص، بل ربما صدرت عنه بمحض رأيه وتجربته البشرية (1) .
والقول الثاني: وهو قول من يرى أن السنة كلها تشريعية، إذ الحديث وحي غير متلو:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) . ولقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) . وهي السنة كما قال الشافعي، وقد انتصر لهذا الرأي صديقنا العلامة الدكتور القره داغي، وأطال النفس في الرد على المخالفين، يجمل بمن أراد الاستفادة الرجوع إليه (4) .
(1) انظر: تفصيل القول فيه بحث أستاذنا الجليل الدكتور القرضاوي، في حولية مركز السنة والسيرة، العدد الثاني: ص362؛ والعدد الثالث: ص17 - 105؛ وتفسير المنار: 9/257؛ والشفاء لعياض: 2/418.
(2)
سورة النجم: الآيتان 2، 3.
(3)
سورة النساء: الآية 113.
(4)
حولية مركز السنة والسيرة العدد الثاني: ص315 - 377.
أنواع التداوي
إن الإسلام حافظ على صحة الإنسان من طريقتين:
أحدهما: الحمية، وذلك بتجنب الإنسان ما يضر بصحته، وتتبع قواعد الصحة عملًا بالحكمة القائلة: درهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه الوقاية التي وردت في السنة بأشكال شتى، منها كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يوردن ممرض على مصح)) (1) . ومنها على شكل تحذير من مخالطة أصحاب الأمراض المعدية كما عبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((
…
وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) (2) . ومنها ما يعمل على حصر المرض في موضعه والمنع من انتشاره بشكل جماعي، والذي إليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها)) (3) .
وثانيهما: أنه إذا ما قدر للإنسان أن تعتل صحته بعد تلك الاحتياجات فإنه يلجأ إلى التداوي لحماية النفس من المرض وتقصير طرقه وإعادة البدن إلى وضعه الطبيعي وذلك عن طريق التداوي، وهذا المرض الذي يصيب الإنسان نوعان (4) .
النوع الأول: مرض القلوب، وهو قسمان: مرض شبهة وشك وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (5) .
أما القسم الثاني منه فهو: مرض الشهوات وإليه الإشارة في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (6) .
وعلاج هذا المرض بنوعيه موكل إلى الرسل، لأن صلاح القلوب يتوقف على ربطها بخالقها لتتوفر لها أركان الإيمان، وما يتبع ذلك من اتباع الأوامر واجتناب مساخطه ولا صحة ولا حياة البتة إلا بذلك، فالمسلم يأخذ علاج هذا النوع بالرجوع إلى صيدلية الإيمان وهو القرآن الذي جعله الله شفاء لما في الصدور.
فإن اتصال القلب بخالق الداء والدواء من أكبر الأدوية على دفع الداء وقهره (7) .
(1) فتح الباري: 10/242؛ وصحيح مسلم: 4/1743، كتاب السلام.
(2)
فتح الباري: 10/158، باب الجذام.
(3)
فتح الباري: 10/178 - 192؛ والمصنف: 11/146، وانظر: الآداب الشرعية: 3/379 - 386؛ وابن تيمية: 24/284، وفيه حديث قول النبي صلى الله عليه وسلم للمجذوم:(ارجع فقد بايعناك) وكشاف القناع: 6/126، وفيه لا يصح للجذماء مخالطة الأصحاء.
(4)
الطب النبوي لابن القيم: ص85 - 99؛ والمفردات للأصفهاني: ص466، كما عرف المرض فإنه الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان.
(5)
سورة البقرة: الآية 10.
(6)
سورة الأحزاب: الآية 32.
(7)
إغاثة اللهفان: 1/44، وفيه القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه، وانظر كذلك: ص91 من نفس المصدر؛ وفتح القدير للشوكاني: 3/253، طبعة الحلبي.
وأما النوع الثاني: من الأمراض فهو: مرض الأبدان وإليه الإشارة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (1) .
وأما طب الأبدان فنوعان:
الأول: نوع فطر عليه الإنسان والحيوان، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها.
الثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل واستدعاء أهل الاختصاص لمعالجته ومن يتتبع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطبية يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان علاجه للمرض، ثلاثة أنواع (2) :
أحدها: بالأدوية الطبيعية وهي التي وضعها صلى الله عليه وسلم لصحابها أو استعملها لنفسه كوصف الماء البارد لعلاج الحمى (3) .
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركب من الأمرين، وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم:((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي)) .
ولكن ينبغي أن نعرف أن حصر طرق الشفاء في هذه الطرق الآنفة الذكر غير مراد للنبي صلى الله عليه وسلم لأننا ضرورة نعلم أن هناك طرقًا وأدوية كثيرة جدًّا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف في مناسبات أخرى غير هذه الثلاثة.
تؤيد هذا الرواية الثانية للحديث حيث وردت بلفظ: ((إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم، خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي)) .
ولذا قال النووي عن بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم: شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافا (4) .
النوع الأول: التداوي بالشراب ونحوه:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تداوى بالعسل، والماء والزيت وألبان الإبل وغيرها (5) .
(1) سورة النور: الآية 61.
(2)
الطب النبوي: ص155.
(3)
الطب النبوي: 117 - 128؛ وتخريج الدلالات السماعية: ص675.
(4)
النووي على مسلم: 14/192 - 197.
(5)
فيض الباري: 4/365 كما في قصة العرنيين؛ والنووي على مسلم: 14/192.
ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل) وقد ورد ذكر العسل في السنة كثيرًا وكذا في القرآن (1) واعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الأدوية الشعبية في العرب.
وأما الأطباء فقد أجمعوا على أنه ذو فوائد علاجية في عديد من الأمراض، لاحتوائه على مواد مثبطة للجراثيم ومضادة للفطور العفنية (2) .
وقد ثبت أن رجلًا استطلق بطن أخيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((اسقه عسلًا)) فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا. فسقاه فبرأ)) (3) .
وهذا بالنسبة لما كان موجودًا في عصره صلى الله عليه وسلم ويقاس عليه كل دواء شراب مما يصفه الطبيب بقصد العلاج.
ثانيًا - التداوي عن طريق العمليات الجراحية:
وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أو شرطة محجم. في حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (4) .
ففي قوله: ((شرطة محجم)) إشارة إلى الحجامة (وهي عبارة عن مص الدم بعد تشريط الجلد بالمشرط بواسطة آلة مجوفة ذات فوهتين كقرن الثور مثلًا) وكانت الحجامة من وسائل المعالجة الشائعة عند العرب منذ الجاهلية، ولقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه على المعالجة بها، فقد ثبت أنه احتجم وأوصى أصحابه بها ولكن نبههم إلى عدم المبالغة في استعمالهم للأدوية الشعبية، وأن تستعمل عند وجود الدواعي والحاجة إليها (5) . كما روي أن جابر بن عبد الله أوصى رجلًا كان يشتكي من خراج شق عليه فدعا له بحجام، فلما رأى تبرم الرجل من ذلك قال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أحب أن أكتوي)) ، قال: فجاء بحجام فشرطه فذهب عنه ما يجد (6) .
ومن تلك العمليات الجراحية ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع عرقًا ثم كواه عليه (7) .
ثالثًا - العمليات: ويلحق بتلك العمليات الجراحية الكي:
وقد كان التداوي بالكي من طرق المعالجة المعروفة عند العرب حتى جاء ذكرها في أشعارهم وأمثالهم، وطريقة التعالج بالكي أنهم يأتون بقضبان حديدية منتهية بأشكال مختلفة وبعد أن تحمى هذه القضبان على النار حتى تحمر، تكوى بها النواحي المختلفة، وقد تطورت المكاوي في عصرنا حتى اخترعت المكواة الكهربائية وهي أكثر تحكمًا فيها وأسهل استعمالًا (8) .
وقد استعمل الكي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطع النزيف الدموي كما في قصة سعد بن معاذ الذي أصيب في أكحله؛ فكوى النبي صلى الله عليه وسلم مكان النزيف لإيقافه (9) .
وكذلك بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه (10) .
كما استعمل أيضًا في معالجة الألم الجنبي، أو ما يسمى قديمًا (بذات الجنب) وقد استعملها الصحابة ومنهم أنس بن مالك حيث قال:(كويت من ذات الجنب ورسول الله حي، وشهدني أبو طلحة، وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني)(11) .
ففي هذا الحديث أن ذات الجنب عولج بالكي فهو نوع من الجراحة الصغرى، كما عولجت اللقوة بالكي، وهي شلل العصب الوجهي والغالب في أحداثها هو البرد (12) .
(1) سورة النحل: الآيتان 68، 69؛ وسورة محمد: الآية 15.
(2)
الطب النبوي والعلم الحديث: 3/70، وقد أطال الكلام فيه عن فوائد العسل واستخداماته الطبية، وذكر أخبارًا تدل على استشفاء الصحابة بالعسل.
(3)
الحديث في الصحيحين وغيرهما، انظر: فتح الباري: 10/139؛ وصحيح مسلم حديث رقم 2217.
(4)
فتح الباري: 10/154؛ ونيل الأوطار: 8/212.
(5)
انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: 3/91 - 104، وقد تحدث فيه عن أنواع الحجامة ودواعي استعمالها في الطب في الحديث.
(6)
النووي على مسلم: 14/192، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي؛ وفتح الباري: 10/154.
(7)
النووي على مسلم: 14/193.
(8)
الطب والعلم الحديث: 3/106.
(9)
النووي على مسلم: 14/194، واختلف في تداويه هو صلى الله عليه وسلم بالكي، انظر: فتح الباري: 10/156.
(10)
النووي على مسلم: 14/194.
(11)
فتح الباري: 10/172، باب ذات الجنب وهي وجع يحدث في الصدر أو الخاصرة.
(12)
الموطأ: 2/944، وفيه (أن ابن عمر اكتوى من اللقوة
…
) .
وروى أبو داود في سننه أن امرأة ابن مسعود كانت تختلف إلى طبيب يهودي فيرقيها من ألم في عينها (1) ، ولذا ذهب الحنابلة في وجه إلى القول بجواز أن تستطب المسلمة ذمية إن لم تجد غيرها (2) .
والحنفية أجازوا للمريض أن يستطب بالكافر فيما عدا إبطال العبادة، وسئل الشافعي أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من ذكر الله، وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله (3) .
الرأي الثاني:
القول بالكراهة وهو مروي عن أحمد فقد روي عنه أنه كره شرب دواء المشرك، وقال المروزي: كان يأمرني أن لا أشتري ما يصف له النصارى ولا يشرب من أدويتهم.
وقد علل هؤلاء لرأيهم بأنه لا يؤمن أن يخلطوا بذلك شيئًا من النجاسات (4) .
وبالتأمل لا نجد فرقًا بين الرأيين إذ يحمل قول القائلين بالكراهة عند عدم الضرورة إلى الاستعانة بهم، وعدم الائتمان، أما عند الحاجة وثقة الناس في طبه فلا وجه للقول بالكراهة، ولذا قال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب، ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطب ثم ساق الأدلة السالفة الذكر من استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين، كما بين أن استطبابه ليس من باب ولاية اليهود والنصارى المنهي عنهما (5) .
(1) جامع الأصول: 7/574. وانظر الحديث في عون المعبود: 10/367 كتاب الطب.
(2)
الآداب الشرعية: 2/462.
(3)
ذكرها الحافظ في الشرح، انظر فتح الباري: 10/197.
(4)
الآداب الشرعية: 2/463.
(5)
الآداب الشرعية: 2/463.
التداوي والتوكل:
يرى البعض أن التداوي ينافي التوكل على الله تعالى فيرد عليه بأت التداوي لا يناقض التوكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به غير واحد من أصحابه. وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه فقال: "ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام" يعني الموت (1) . وقال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله" وسئل عن الدواء والرقي هل يرد من قدر الله؟ فقال: "هو من قدر الله"(3) . والتداوي رخصة وسعة وتركه ضيق وعزيمة والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وقد يؤجر المتداوي في ذلك إن نوى به اتباع السنة والأخذ برخصة الله وطلبًا لسرعة البدء للتفرغ لطاعة ربه سبحانه لأن العلل مشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة. لأنه علم من سنته صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقًا وكوى آخر وقال لعلي رضي الله عنه وكان رمد العين:"لا تأكل من هذا- يعني الرطب- وكل من هذا فإنه أوفق لك"(4) . يعني سلقًا قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من العقرب، وكان يغلف رأسه بالحناء (5) من الصداع، وهو أعلى المتوكلين وليس من شرط التوكل ترك التداوي، بل هو كصب الماء على النار لإطفائها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت، وليس من التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلًا.. وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر.
ويتبين من ذلك أن الله تعالى أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة، والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب
…
وعلم السلف ذلك حتى الذين تداووا منهم لا ينحصرون.
(1) نيل الأوطار: 8/208؛ ومجمع الزوائد: 5/84، وقال: رواه البزار والطبراني.
(2)
رواه البخاري وأحمد وابن ماجه، نيل الأوطار: 8/208.
(3)
تحفة الأحوذي: 6/360؛ ومجمع الزوائد: 5/85.
(4)
تحفة الأحوذي: 6/187.
(5)
تحفة الأحوذي: 6/212.
لكن يشكل على هذا ما ورد من أن جماعة من العلماء تركوا التداوي مما يظن أن التداوي نقصان في الدين، ومن هؤلاء الذين تركوا التداوي جماعة من الصحابة والسلف وغيرهم، فقد روي عن الصديق أنه قيل له: لو دعونا لك طبيبًا؟ فقال: الطبيب قد نظر إليَّ وقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء أندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، ونحو ذلك عن أبي ذر وابن خيثم.. وكذلك أحمد ابن حنبل كان به علل فلا يخبر الطبيب وكان يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره (1) .
ووجه الجمع بين ما سبق من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من التداوي والأمر به، وبين أفعال هؤلاء يكون بمعرفة الصوارف عن التداوي.
وقد حصر الغزالي أسباب تركهم للتداوي في ستة أسباب نوجزها فيما يلي:
السبب الأول: أن يكون المريض قد علم بنهاية أجله إما بمكاشفة أو برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن ويشبه أن يكون ترك الصديق (2) . التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة، ولكن كانت امرأته حاملًا فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضًا بانتهاء أجله وأن الدواء لا ينفعه وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.
السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولًا بحاله وبخوف عاقبته فينسيه ألم المرض، وعليه يحمل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول، وكلام أبي الدرداء.
السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الموصوف موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركها المتوكل لعدم الوثوق بالدواء، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم.
السبب الرابع: أن يترك التداوي استبقاء للمرض لينال ثوابه بحسن الصبر على البلاء، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر، وقد ورد في ثواب المرض أحاديث كثيرة.
السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرًا، فيترك التداوي خوفًا من أن يسرع زوال المرض.
(1) إحياء علوم الدين: 4/279.
(2)
عارضة الأحوذي: 8/205 قال: وإذا تحقق العبد الموت كره التداوي، وعليه يحمل فعل الصديق.
السبب السادس: أن يستشعر العبد في نفسه مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة، فيترك التداوي خوفًا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات. فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدًا فيها، لا من حيث رأوا التداوي نقصانًا، وكيف يكون نقصانًا وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
والحاصل أن التداوي لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب
…
(2) بل لا يتم حقيقة التوحيد - كما قال القيم - إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفها من حيث يظن معطلها: أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا (3) .
ومما يدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل - كما قال الغزالي - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به
…
ولأن القائلين باستحباب التداوي أوجبوا على المتعالج (أن يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى، وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتقدم ولا تتأخر عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات)(4) .
(1) بتصرف من الإحياء، للغزالي: 4/276 - 282، وانظر: قوت القلوب: 2/21 - 27؛ والفتاوى الهندية: 5/355؛ وزاد المعاد: 4/14، 15.
(2)
فتح الباري: 10/135، 136.
(3)
الطب النبوي، لابن القيم: ص 105، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، وانظر: المنار: 4/171 - 175، ونحو ذلك في زاد المعاد: 3/480.
(4)
طرح التثريب: 8/185.
والحاصل أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا، أمر مأمور به شرعًا لا ينافي التوكل على الله بحال، لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالًا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف، ومن ذلك قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة حرقه بالنار وكيف تحولت إلى برد وسلام، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه بسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله تعالى، كما في قوله تعالى عن يعقوب:{يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] .
حيث أمر بنيه بتعاطي السبب خوفًا عليهم من أذى الناس لهم، ومع هذا التسبب قال:{وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] .
فقد جمع بين التسبب {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67] وبين التوكل على الله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . [يوسف: 67] .
وفي قصة مريم عليها السلام (أمرها بهز الجذع مع أنه تعالى قادر على إسقاط الرطب إليها، لكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع)(1) .
وقد حسم الطبري مسألة التوكل والتداوي بقوله: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتزاز لا يدفع التوكل)(2) .
(1) أضواء البيان، للشيخ الشنقيطي: 4/250 - 253.
(2)
فتح الباري: 10/212.
هل يكره المريض على التطبيب؟
إن هذه المسألة - كما لا يخفى - متفرعة من الاختلاف السابق بين الفقهاء في حكم التداوي، وذلك لأن من قال بحرمة التداوي، لا شك أنه يقول بعدم جواز إكراه المريض على التطبيب، ومن قال بوجوب التداوي، فحينئذٍ لا يحتاج إلى الإذن، إذ أن عدم تداويه يكون محرمًا، وحينئذٍ يجب أن يعان على أداء الواجب، ومن هنا يأتي هذا السؤال على ضوء بقية المذاهب الأخرى.
ونرى من نصوص الفقهاء من يقول بعدم إكراه المريض على التداوي والتطبيب حيث يقولون: إن الأصل هو إذن المريض، ولذلك لا بد أن يكون التداوي بإذنه وأنه لا يكره على الدواء وغيره (فلو امتنع حتى مات لم يأثم)(1) .
وهذا القول نابع من أن التداوي مباح أو مستحب، ولذلك لا يأثم على ترك المباح أو المستحب كما هو معروف في الأصول.
ويمكن أن يستدل لهؤلاء بما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة رضي الله عنها لددناه في مرضه، فجعل يشير إلينا: لا تلدوني فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق، قال:(ألم أنهكم أن تلدوني؟ قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم)(2) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الحديث بأنه لا يدل على المطلوب، حيث يقول الحافظ ابن حجر (3) :(لكن اللدود كان نهى عنه، ولذلك عاتب عليه، بخلاف الصب، فإن كان أمر به فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفًا لا يكره على تناول شيء نهى عنه، ولا يمنع من شيء يأمر به)(4) .
وقال القسطلاني: (وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها ولم يكن به ذلك) .
وذهب آخرون إلى أن الدواء المقطوع به محرم عند خوف الموت (5) بناء على أنه بمثابة الانتحار المحرم الذي يمنع منه المسلم، بالإضافة إلى أنه إلقاء النفس في التهلكة دون تحقيق غرض منشود شرعًا:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وبناء على هذا القول لا عبرة بإذن المريض.
(1) المجموع: 5/103؛ والفتاوى الهندية: 5/354؛ وابن عابدين: 6/389.
(2)
فتح الباري: 10/166، واللدود هو الدواء يصب في أحد جانبي فم المريض، وانظر: النووي على مسلم: 4/199.
(3)
فتح الباري: 10/166، 167.
(4)
إرشاد الساري: 8/376.
(5)
الفتاوى الهندية: 5/355؛ والإحياء للغزالي: 4/276.
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول بأن الإذن هو الأصل في التداوي ما دام المريض لم يصل إلى حالة الخطورة القصوى، أما إذا بلغ ذلك فلا عبرة بإذنه عملًا بقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) وكذلك تدل نصوص الشرع ومقاصده على حماية النفس والبدن من المهالك، وأن الإنسان لا يملك نفسه.
وكذلك لا عبرة بإذن المريض في حالات كون مرضه معديًا خطيرًا ينتشر، ويعدي الغير، فحينئذٍ يجبر على التداوي حماية للمصلحة العامة والمجتمع الإسلامي ودفعًا للضرر، وحسمًا لمادة الأذى والضر، وكذلك في حالات الإدمان على المخدرات إذ تستوجب إنقاذه.
هل وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة ومخالفتها مخالفة للسنة:
هذه المسألة فرع عن مسألة اختلف الفقهاء فيها قديمًا، وهي: هل السنة كلها تشريعية أم لا؟ وقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: وهو قول من يرى أن من السنة ما ليس تشريعًا، وقد انتصر لهذا القول جمع من العلماء منهم ابن القيم حيث بين أن كثيرًا من تلك الأحاديث الواردة في الطب مخصوصة بظرف معين أو مكان مخصوص، بل ربما صدرت عنه بمحض رأيه وتجربته البشرية (1) .
والقول الثاني: وهو قول من يرى أن السنة كلها تشريعية، إذ الحديث وحي غير متلو:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) . ولقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) . وهي السنة كما قال الشافعي، وقد انتصر لهذا الرأي صديقنا العلامة الدكتور القره داغي، وأطال النفس في الرد على المخالفين، يجمل بمن أراد الاستفادة الرجوع إليه (4) .
(1) انظر: تفصيل القول فيه بحث أستاذنا الجليل الدكتور القرضاوي، في حولية مركز السنة والسيرة، العدد الثاني: ص362؛ والعدد الثالث: ص17 - 105؛ وتفسير المنار: 9/257؛ والشفاء لعياض: 2/418.
(2)
سورة النجم: الآيتان 2، 3.
(3)
سورة النساء: الآية 113.
(4)
حولية مركز السنة والسيرة العدد الثاني: ص315 - 377.
أنواع التداوي
إن الإسلام حافظ على صحة الإنسان من طريقتين:
أحدهما: الحمية، وذلك بتجنب الإنسان ما يضر بصحته، وتتبع قواعد الصحة عملًا بالحكمة القائلة: درهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه الوقاية التي وردت في السنة بأشكال شتى، منها كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يوردن ممرض على مصح)) (1) . ومنها على شكل تحذير من مخالطة أصحاب الأمراض المعدية كما عبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((
…
وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) (2) . ومنها ما يعمل على حصر المرض في موضعه والمنع من انتشاره بشكل جماعي، والذي إليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها)) (3) .
وثانيهما: أنه إذا ما قدر للإنسان أن تعتل صحته بعد تلك الاحتياجات فإنه يلجأ إلى التداوي لحماية النفس من المرض وتقصير طرقه وإعادة البدن إلى وضعه الطبيعي وذلك عن طريق التداوي، وهذا المرض الذي يصيب الإنسان نوعان (4) .
النوع الأول: مرض القلوب، وهو قسمان: مرض شبهة وشك وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (5) .
أما القسم الثاني منه فهو: مرض الشهوات وإليه الإشارة في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (6) .
وعلاج هذا المرض بنوعيه موكل إلى الرسل، لأن صلاح القلوب يتوقف على ربطها بخالقها لتتوفر لها أركان الإيمان، وما يتبع ذلك من اتباع الأوامر واجتناب مساخطه ولا صحة ولا حياة البتة إلا بذلك، فالمسلم يأخذ علاج هذا النوع بالرجوع إلى صيدلية الإيمان وهو القرآن الذي جعله الله شفاء لما في الصدور.
فإن اتصال القلب بخالق الداء والدواء من أكبر الأدوية على دفع الداء وقهره (7) .
(1) فتح الباري: 10/242؛ وصحيح مسلم: 4/1743، كتاب السلام.
(2)
فتح الباري: 10/158، باب الجذام.
(3)
فتح الباري: 10/178 - 192؛ والمصنف: 11/146، وانظر: الآداب الشرعية: 3/379 - 386؛ وابن تيمية: 24/284، وفيه حديث قول النبي صلى الله عليه وسلم للمجذوم:(ارجع فقد بايعناك) وكشاف القناع: 6/126، وفيه لا يصح للجذماء مخالطة الأصحاء.
(4)
الطب النبوي لابن القيم: ص85 - 99؛ والمفردات للأصفهاني: ص466، كما عرف المرض فإنه الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان.
(5)
سورة البقرة: الآية 10.
(6)
سورة الأحزاب: الآية 32.
(7)
إغاثة اللهفان: 1/44، وفيه القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه، وانظر كذلك: ص91 من نفس المصدر؛ وفتح القدير للشوكاني: 3/253، طبعة الحلبي.
وأما النوع الثاني: من الأمراض فهو: مرض الأبدان وإليه الإشارة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (1) .
وأما طب الأبدان فنوعان:
الأول: نوع فطر عليه الإنسان والحيوان، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها.
الثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل واستدعاء أهل الاختصاص لمعالجته ومن يتتبع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطبية يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان علاجه للمرض، ثلاثة أنواع (2) :
أحدها: بالأدوية الطبيعية وهي التي وضعها صلى الله عليه وسلم لصحابها أو استعملها لنفسه كوصف الماء البارد لعلاج الحمى (3) .
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركب من الأمرين، وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم:((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي)) .
ولكن ينبغي أن نعرف أن حصر طرق الشفاء في هذه الطرق الآنفة الذكر غير مراد للنبي صلى الله عليه وسلم لأننا ضرورة نعلم أن هناك طرقًا وأدوية كثيرة جدًّا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف في مناسبات أخرى غير هذه الثلاثة.
تؤيد هذا الرواية الثانية للحديث حيث وردت بلفظ: ((إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم، خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي)) .
ولذا قال النووي عن بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم: شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافا (4) .
النوع الأول: التداوي بالشراب ونحوه:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تداوى بالعسل، والماء والزيت وألبان الإبل وغيرها (5) .
(1) سورة النور: الآية 61.
(2)
الطب النبوي: ص155.
(3)
الطب النبوي: 117 - 128؛ وتخريج الدلالات السماعية: ص675.
(4)
النووي على مسلم: 14/192 - 197.
(5)
فيض الباري: 4/365 كما في قصة العرنيين؛ والنووي على مسلم: 14/192.
ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل) وقد ورد ذكر العسل في السنة كثيرًا وكذا في القرآن (1) واعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الأدوية الشعبية في العرب.
وأما الأطباء فقد أجمعوا على أنه ذو فوائد علاجية في عديد من الأمراض، لاحتوائه على مواد مثبطة للجراثيم ومضادة للفطور العفنية (2) .
وقد ثبت أن رجلًا استطلق بطن أخيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((اسقه عسلًا)) فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا. فسقاه فبرأ)) (3) .
وهذا بالنسبة لما كان موجودًا في عصره صلى الله عليه وسلم ويقاس عليه كل دواء شراب مما يصفه الطبيب بقصد العلاج.
ثانيًا - التداوي عن طريق العمليات الجراحية:
وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أو شرطة محجم. في حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (4) .
ففي قوله: ((شرطة محجم)) إشارة إلى الحجامة (وهي عبارة عن مص الدم بعد تشريط الجلد بالمشرط بواسطة آلة مجوفة ذات فوهتين كقرن الثور مثلًا) وكانت الحجامة من وسائل المعالجة الشائعة عند العرب منذ الجاهلية، ولقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه على المعالجة بها، فقد ثبت أنه احتجم وأوصى أصحابه بها ولكن نبههم إلى عدم المبالغة في استعمالهم للأدوية الشعبية، وأن تستعمل عند وجود الدواعي والحاجة إليها (5) . كما روي أن جابر بن عبد الله أوصى رجلًا كان يشتكي من خراج شق عليه فدعا له بحجام، فلما رأى تبرم الرجل من ذلك قال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أحب أن أكتوي)) ، قال: فجاء بحجام فشرطه فذهب عنه ما يجد (6) .
ومن تلك العمليات الجراحية ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع عرقًا ثم كواه عليه (7) .
ثالثًا - العمليات: ويلحق بتلك العمليات الجراحية الكي:
وقد كان التداوي بالكي من طرق المعالجة المعروفة عند العرب حتى جاء ذكرها في أشعارهم وأمثالهم، وطريقة التعالج بالكي أنهم يأتون بقضبان حديدية منتهية بأشكال مختلفة وبعد أن تحمى هذه القضبان على النار حتى تحمر، تكوى بها النواحي المختلفة، وقد تطورت المكاوي في عصرنا حتى اخترعت المكواة الكهربائية وهي أكثر تحكمًا فيها وأسهل استعمالًا (8) .
وقد استعمل الكي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطع النزيف الدموي كما في قصة سعد بن معاذ الذي أصيب في أكحله؛ فكوى النبي صلى الله عليه وسلم مكان النزيف لإيقافه (9) .
وكذلك بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه (10) .
كما استعمل أيضًا في معالجة الألم الجنبي، أو ما يسمى قديمًا (بذات الجنب) وقد استعملها الصحابة ومنهم أنس بن مالك حيث قال:(كويت من ذات الجنب ورسول الله حي، وشهدني أبو طلحة، وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني)(11) .
ففي هذا الحديث أن ذات الجنب عولج بالكي فهو نوع من الجراحة الصغرى، كما عولجت اللقوة بالكي، وهي شلل العصب الوجهي والغالب في أحداثها هو البرد (12) .
(1) سورة النحل: الآيتان 68، 69؛ وسورة محمد: الآية 15.
(2)
الطب النبوي والعلم الحديث: 3/70، وقد أطال الكلام فيه عن فوائد العسل واستخداماته الطبية، وذكر أخبارًا تدل على استشفاء الصحابة بالعسل.
(3)
الحديث في الصحيحين وغيرهما، انظر: فتح الباري: 10/139؛ وصحيح مسلم حديث رقم 2217.
(4)
فتح الباري: 10/154؛ ونيل الأوطار: 8/212.
(5)
انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: 3/91 - 104، وقد تحدث فيه عن أنواع الحجامة ودواعي استعمالها في الطب في الحديث.
(6)
النووي على مسلم: 14/192، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي؛ وفتح الباري: 10/154.
(7)
النووي على مسلم: 14/193.
(8)
الطب والعلم الحديث: 3/106.
(9)
النووي على مسلم: 14/194، واختلف في تداويه هو صلى الله عليه وسلم بالكي، انظر: فتح الباري: 10/156.
(10)
النووي على مسلم: 14/194.
(11)
فتح الباري: 10/172، باب ذات الجنب وهي وجع يحدث في الصدر أو الخاصرة.
(12)
الموطأ: 2/944، وفيه (أن ابن عمر اكتوى من اللقوة
…
) .
ومما سبق يتبين لنا أن المعالجة بالكي جائزة للحاجة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان في شيء من أدويتكم شفاء.. أو لذعة نار..)) حيث نسب الشفاء إليه. والأولى تركه إذا لم يتعين لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((وما أحب أن أكتوي)) ، ولذا قال ابن حجر: وحاصل الجمع (بين أحاديث النهي والجواز) أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع، بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء (1) .
ونحو هذا قال الخطابي في تعليل الأحاديث التي ظاهرها النهي ومنها حديث عمران بن الحصين قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا)، وبيّن أن النهي يحتمل وجوهًا:
منها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون آخر الدواء الكي ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك، إذا كان على هذا الوجه، وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله سبحانه. فيكون الكي والدواء سببًا لا علة، وبين أن كثيرًا من الناس يخطئون في ظنونهم، فيقولون لو لم يخرج من بلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يسقم ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب، وتعليق الحوادث بها دون تسليط القضاء عليها، وتغليب المقادير فيها، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها، وقد بين الله عز وجل في كتابه حيث قال:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2) .
وقال حكاية عن الكفار: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (3) .
(1) فتح الباري: 10/155، وانظر: الكي واستخدامات الطب النبوي والعلم الحديث: 3/105 - 128؛ والطب النبوي، لابن القيم: ص189، 190، طبعة دار الوعي، حلب 1406هـ.
(2)
سورة النساء: الآية 78.
(3)
سورة آل عمران: الآية 156.
أو يكون معنى نهيه عن الكي هو أن يفعله احترازًا عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية، وذلك مكروه، وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة ودعاء الضرورة إليه، ألا ترى أنه إنما كوى سعدًا حينما خاف عليه الهلاك من النزف.
وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول فما أفلحنا ولا أنجحنا، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس كذلك في بعض الأعضاء فيشبه أن يكون النهي منصرفًا إلى النوع المخوف منه (1) . وعلل ابن العربي النهي لأنهم كانوا يعظمون أمره، ورأوا أنه يبرىء ولا بد، ولأنهم كانوا يستعملونه على العموم بينما الأصل أنه يستعمل في داء مخصوص (2) .
وهكذا يتضح أن الكي يعتبر طريقًا من طرق العلاج، وقد عالج به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند الحاجة، وعندما كان يتعين طريقًا للشفاء.
وأن النهي كان عن المغالاة في استعماله، أو أن يجري على يد غير الأطباء أو الاعتقاد بأنه يقي صاحبه من المرض أو التوهم بأنه يحسم العلة ويمنع تفاقمها أو لاعتقاد أن الشفاء يمنع النكس، ووضح لهم أن استعماله مشروط بموافقته للداء مع الاعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى (3) ، وبهذا الاعتبار أجازه الجميع (4) .
وقد أحسن ابن القيم في التوفيق بين أحاديث الكي حيث قال: (فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها، بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه. بل يفعل خوفًا من حدوث الداء)(5) .
ومن أنواع التعالج بالجراحات الصغرى أيضًا ما ثبت من أن فاطمة عليها السلام لما رأت الدم الذي ينزف من وجهه صلى الله عليه وسلم يزيد على الماء كثرة، عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقأ الدم (6) . وفي رواية للترمذي: فأخذ حصير فأحرق وحشي به جرحه.
(1) معالم السنن للخطابي: 4/216 - 219، وهناك تأويلات أخرى، انظر: بهجة النفوس: 4/128 منها عدم التشبه بالجاهلية وأهل الكتاب أو كرهه من طريق الفأل.
(2)
عارضة الأحوذي: 4/206 - 208.
(3)
بتصرف من الطب النبوي والعلم الحديث: 3/108 - 109، 112، 114.
(4)
انظر في جوازه ابن عابدين: 5/479؛ والفواكه الدواني: 2/440، 441؛ والمجموع: 9/53 - 54.
(5)
زاد المعاد: 4/65.
(6)
فتح الباري: 10/173، 6/69؛ وصحيح مسلم حديث 1790؛ والترمذي في الطب، باب التداوي بالرماد.
وسائل التداوي الروحي
في الجاهلية والبديل الإسلامي
نعلم أن البدن يمرض ووقايته تكون باتخاذ الأسباب التي تمنع طروء المرض من الخارج كما في المحاجر الصحية، وكذلك بتقوية البدن بالأغذية الجيدة والنظافة وبالأدوية إذا ألم به المرض.
وكذلك الأرواح تمرض، ويكون حمايتها بتقويتها بالإيمان بالله تعالى، لأن روح المؤمن بالله لا تؤثر فيه الوسوسة، وهذا هو معنى نفي سلطان الشيطان عنه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] كما أن الميكروبات لا تجد لها مأوى في الأجساد النظيفة القوية، وإذا مرضت النفس فإنها تعالج كما يعالج الجسد بعد حدوث المرض فيه بتأثير الميكروبات فيه، بالأدوية التي تقتلها وتمنع امتدادها، ومن طرق معالجة النفس الأدوية الإلهية.
غير أن أكثر المؤمنين بالطب الروحي لا يقفون فيها عند حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله، وما فهمه منه حملته من السلف الصالح بل زادوا عليه من الخرافات والبدع مثل اتباعهم الدجالين الذين يعتقدون بصلتهم بالشياطين وتأثيرهم على الروح والبدن وقدرتهم على شفاء المرضى وغير ذلك من الحب والبغض (1) بين الأزواج. ومثل هذه المعتقدات كانت شائعة عند العرب قديمًا ولما جاء الإسلام حارب كل هذه الوسائل من خلال العقيدة الحقة القائمة على تفويض الأمر كله خيره وشره إلى الله تعالى، وإن الجن أو الإنس ليسوا قادرين على النفع والضر إلا إذا كتب الله شيئًا من ذلك. فبذلك قضى على هذه الخرافات، وحرم الاستعانة بكل وسيلة تشم منها رائحة الشرك أو الاعتماد على غير الله.
ولكن مع ذلك أبقى الإسلام كعادته من الوسائل الروحانية ما لا يتعارض مع العقيدة الحقة، فأجاز الاستشفاء بالقرآن، وبأسماء الله تعالى وصفاته وبذلك أوجد بديلًا صحيحًا عن كل ذلك.
ونحن في هذه العجالة نتحدث عن هذين الأمرين وهما: وسائل التداوي الروحي المحرمة، والاستشفاء بالقرآن وذلك في فرعين:
الفرع الأول: وسائل التداوي المحرمة:
ونتحدث فيها عن المسائل الآتية:
(1) راجع ما سبق: تفسير المنار: 8/325 - 329.
المسألة الأولى:
الكهانة والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار (1) .
فكان الناس في الجاهلية يتعقدون أن الأمراض تحدث بسبب غضب الآلهة عليهم أو بسبب سيطرة الأرواح الشريرة عليهم، فكانوا يستعينون بمن لهم القربة من الآلهة أو لهم القدرة على طرد تلك الأرواح وهم الكهنة، وقال القرطبي: (
…
وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم) (2) .
ولما جاء الإسلام (جرد علم الطب من خرافاته وتعاويذه وسحرته وكهنته)(3) .
وجاءت آيات القرآن مقوية لإرادته مطمئنة لقلبه، دون أن نجد فيه ألفاظًا سحرية أو آيات تشير إلى اللجوء إلى التعزيمات وأقوال الكهنة لدفع الأمراض، وإنما بين لنا أن العلاج بالدواء لا بالكهان والمعزمين قال في وصف العسل:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (4) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء)) . وبينت السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتطبب، ويسأل عن أعلم الأطباء وأفضلهم، وشرع صلى الله عليه وسلم التداوي واستعمله في نفسه وأمر به غيره.
وهكذا ميز الإسلام بين الطب وبين الدجل الذي يدعيه بعض المشعوذين لاستدرار أموال الناس بالباطل (5) .
فمنع الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الطرق ومنها الكهانة، فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان فقال: ليس بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانًا بشيء فيكون حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة)) (6) ، فبين لهم بطلان قولهم وأنه لا حقيقة له. كما نهاهم عن التكسب بمثل هذه الطرق حيث نهى صلى الله عليه وسلم ((عن حلوان الكاهن)) (7) بل منعهم من التعلق بالطرق الوهمية والاعتماد عليها. واعتبر ذلك كفرًا بالله تعالى، كما في حديث أبي هريرة رفعه:(من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد)(8) . وفي رواية لمسلم بلفظ: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)(9) . وهذا دليل على أن إتيان الكهنة ومن شابههم مذموم شرعًا، إذ أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإثباتهم (10) . كما قال القرطبي:(وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم)(11) .
(1) النهاية لابن الأثير: 4/215، والكهانة أنواع منها ما يتلقونه من الجن ومنها ما يخبر به الجن من يواليه ومنها ما يستند إلى ظن وتخمين ومنها ما يستند إلى التجربة والعادة وقد يعتقد بعضهم بالطرق والزجر والنجوم. انظر فتح الباري: 10/217.
(2)
فتح الباري: 10/217.
(3)
الطب النبوي: ص39 - 41.
(4)
سورة النحل: الآية 69.
(5)
الطب النبوي: ص39 - 41.
(6)
فتح الباري: 10/216؛ والنووي على مسلم: 14/224؛ ومرقاة المفاتيح: 4/527.
(7)
فتح الباري: 10/216؛ والنووي على مسلم: 14/224؛ ومرقاة المفاتيح: 4/527.
(8)
أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم، ذكره الحافظ في الفتح 10/217، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد: 5/117؛ وعون المعبود: 10/398، كتاب الكهانة وحمل الكفر على المستحل أو على التهديد والوعيد.
(9)
النووي على مسلم: 14/227.
(10)
فتح الباري: 10/217، 219؛ والنووي على مسلم: 14/223.
(11)
فتح الباري: 10/219؛ وعون المعبود: 9/295.
المسألة الثانية:
العرافة والعراف هو المنجم الذي يدعي علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به - ويزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، من كلام من يسأله أو فعله أو حاله (1) .
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى عرافًا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)(2) .
المسألة الثالثة:
التميمة: وهي خرزات كانت العرب تعلقها على الصبيان يتقون بها العين بزعمهم (3) . ويقال: قلادة تعلق فيها العودة، ويرون أنها تدفع عنهم الآفات، فلما أرادوا دفع المقادير بذلك كان شركًا (4) .
وعن عقبة بن عامر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يعلق تميمة فلا أتم الله له)) (5) . وفي رواية: ((من علق تميمة فقد أشرك)) (6) . وعن عمران بن الحصين أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه حلقة من شعر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أيسرك أن توكل إليها؟ انبذها) (7) .
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق شيئًا وكل إليه)) (8) . وفي رواية: إن الرقي والتمائم والتولة شرك (9) .
وأما من تعلقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها وهو يعلم أن لا كاشف إلا الله ولا دافع عنه سواه فلا بأس بها (10) ، ولذا كان سعيد بن المسيب يأمر بتعليق القرآن، ويقول لا بأس به (11) . وكذا جاءت الرخصة بتعليقه على الصبيان عن الباقر وابن سيرين مطلقًا، وقال الألوسي: وهو الذي عليه الناس قديمًا وحديثًا في سائر الأمصار (12) .
وأما ما أجاب به الإمام مالك عندما سئل عن تعليق التمائم والخرز، وقوله بأن ذلك شرك، وقال: بلغني أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما يبالي ما أتى من شرب ترياقًا أو تعلق تميمة)) (13) . فإنه يحمل على ما كان بغير لسان العربية ولعله قد يدخله كفر، أو فيمن يعلقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلة منها كالتي في الجاهلية (14) .
(1) النهاية لابن الأثير: 3/218 و4/215؛ وغريب الحديث، لابن الجوزي: 2/86؛ والمفردات للأصفهاني: ص443، وعرفه بقوله: هو الذي يخبر بالأخبار المستقبلة بضرب من الظن ونحو ذلك عرفه الحافظ في الفتح: 10/217.
(2)
مجمع الزوائد: 5/117، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3)
غريب الحديث لابن الجوزي: 1/112؛ وفيض القدير، للمناوي: 2/342 ومثلها الرتيمة وهو خيط كان يربط في العنق أو في اليد في الجاهلية لدفع المضرة عن أنفسهم على زعمهم، ابن عابدين: 5/232.
(4)
السنن الكبرى: 9/350.
(5)
رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات، انظر: مجمع الزوائد: 5/103؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 9/350.
(6)
رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، مجمع الزوائد: 5/103.
(7)
المجموع: 1/57، رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي بإسنادين في كل منهما من اختلف فيه، مجمع الزوائد: 5/103.
(8)
تحفة الأحوذي: 6/239.
(9)
عون المعبود: 10/367؛ ومعالم السنن: 4/225؛ والسنن الكبرى: 9/350.
(10)
السنن الكبرى: 9/350.
(11)
السنن الكبرى: 9/350.
(12)
تفسير روح المعاني: 15/146؛ والمجموع: 9/56؛ وفيض القدير: 2/342، 6/107؛ وحاشية ابن عابدين: 5/232.
(13)
رواه أبو داود وأحمد وأبو نعيم وهو حديث حسن، جامع الأصول: 7/576. ويلحق بالتميمة الودع وهو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وإنما نهى عنها لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين، النهاية، لابن الأثير: 5/168؛ ومجمع الزوائد: 5/103، ومن ذلك أيضًا الخرز وهي التي تنظم في سلك ليتزين بها، وقد سئل مالك عن تعلق التمائم والخرز فقال ذلك شرك، المعجم الوسيط: 1/226 وقد تقدم رأي مالك فيها.
(14)
معالم السنن: 4/220؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 9/350 - 351.
المسألة الرابعة:
التولة: ما يحبب المرأة إلى زوجها وهي من أنواع السحر (1) .
قال أبو عبيد: وذلك لا يجوز (2) .
وفي حديث ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) .
قال القاري: والتِوَلَة بكسر التاء وبضم وفتح الواو نوع من السحر أو خيط يقرأ فيه من السحر، أو قرطاس يكتب فيه شيء من السحر للمحبة أو غيرها.
وسماها النبي صلى الله عليه وسلم شركًا لأنها قد تفضي إلى الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر، ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى، وإما لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودًا في الجاهلية وكان مشتملًا على ما يتضمن الشرك (4) .
المسألة الخامسة:
النشرة: وهي ضرب من الرقية والعلاج، يعالج من كان يظن أن به سحرًا أو مسًّا من الجن، سميت بذلك لأنه يكشف عنه المرض (5) . وعرفها ابن الجوزي: بأنها حل السحر عن المسحور. وقال ابن الأثير: النشرة كالتعويذ والرقية، يقال: نشرته تنشرًا: إذا رقيته وعوذته، وإنما سميت نشرة، لأنها ينشر بها عن المريض، أي يحل عنه ما خامره من الداء (6) .
ومن طرقها ما ورد في قصة اغتسال العائن وهناك طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (7) .
وممن صرح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري وغيرهما، وسئل سعيد بن المسيب عن رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له أن ينشر؟ قال:(لا بأس، إنما يريد به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه)(8) .
(1) غريب الحديث لابن الجوزي: 1/113؛ والنهاية لابن الأثير: 1/200، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وغيرهم.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي: 9/350.
(3)
عون المعبود: 10/367؛ وجامع الأصول: 7/575.
(4)
عون المعبود: 10/367.
(5)
النهاية لابن الأثير: 5/54، ونحو ذلك عرفها الحافظ في الفتح: 10/233.
(6)
جامع الأصول: 7/575.
(7)
انظر التفصيل، فتح الباري: 10/204، في قصة سهل بن حنيف عندما نظر إليه عامر بن ربيعة وأصابه بعينه وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ويصب ذلك الماء على سهل بن حنيف فبرىء، والحديث من رواية النسائي وأحمد وصححه ابن حبان، كذا في الفتح.
(8)
فتح الباري: 10/232، 234، وأضواء البيان: 4/465.
وممن قال بجوازها أيضًا الإمام أحمد (1) .
ويؤيد مشروعية النشرة حديث ((العين حق)) (2) . ولما في الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سحره لبيد بن الأعصم: هلا تنشرت؟ فقال: ((أما والله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرًا)) . والنفس تميل إلى رأي القائلين بأن ((استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك وإن كان بسحر أو ألفاظ عجمية، أو بما لا يفهم معناه أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع)) (3) . ومما أورده الحافظ في الشرح من قصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة وأنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل وأن يصب ذلك الماء على سهل، ففعل، فشفي سهل.
ثم نقل الحافظ قول المازري من أنه لا يجوز رد مثل هذا لعدم إمكان تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، وكذلك قول ابن العربي: إن توقف فيه متشرع، قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة، وصدقته المعاينة، أو متفلسف فالرد عليه أظهر، لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص (4) . وما ورد من النهي عن النشرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((النشرة من عمل الشيطان)) (5) ، فهو إشارة إلى أصلها (6) ، (أي النوع الذي كان عليه الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه وأما ما كان من الآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية والدعوات المأثورة النبوية فلا بأس به)(7) .
(1) فتح الباري: 10/233.
(2)
فتح الباري: 10/204.
(3)
أضواء البيان: 4/465.
(4)
فتح الباري: 10/204.
(5)
مجمع الزوائد: 5/102، وقال: رواه البزار والطبراني في الوسط.. ورجال البزار رجال الصحيح، ورواه أبو داود من حديث جابر، انظر: عون المعبود: 10/348؛ وجامع الأصول: 7/575؛ والسنن الكبرى: 9/351.
(6)
فتح الباري: 10/233.
(7)
عون المعبود: 10/348، وانظر: المجموع: 9/57؛ ومعالم السنن للخطابي: 4/219؛ ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري: 4/506؛ والسنن الكبرى: 9/351.
المسألة السادسة:
السحر: وهو صرف الشيء عن وجهه، وقال القسطلاني: أمر خارق للعادة، صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته، وهو بتأثيره نوع من الأمراض، كما قال القرطبي: الحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم (1) .
وفي قصة اليهودي الذي سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على حصول الضرر له صلى الله عليه وسلم بالسحر وأن ذلك الضرر ليس نقصًا فيما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما يجوز عليه من سائر الأمراض (2) .
وقد سبق أن قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التداوي بالمحرم سواء كان هذا العلاج روحيًّا أو بدنيًّا، ومن طرق العلاج الروحي المحرم ما كان بالاستعانة بالسحرة والشياطين والمشعوذين، ولما كانت هذه الطرق وسيلة لإفساد النفوس وتشويش العقيدة، وتشتيت الأذهان، حرم الإسلام هذا النوع من العلاج وما يلحق به مما كان معروفًا لدى العرب قديمًا من الكهانة والعرافة والطيرة (3) ، والطرق (4) ، والتنجيم (5) حماية لعقيدة المسلم من الدخل، وحفاظًا على عقله من أن يكون أسير الأوهام وإبعادًا لبدنه عن أن يكون موطنًا للشيطان، فحرم الإسلام السحر، وبين أنه من الكبائر (6) . وأن مستحله كافر، وأن المؤمن به محروم من الجنة وفي الحديث:(ثلاثة لا يدخلون الجنة) وعدَّ منهم: (ومصدق بالسحر)(7) ، ونفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الساحر من جماعة المسلمين وفي الحديث (وليس منا.. من تكهن له أو سحر أو سحر له)(8) . ولحديث (من أتى عرافًا أو ساحرًا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (9) وفي ذلك تحذير شديد للمسلم من إتيان الساحر وتصديقه ومنع له من الوقوع في شراكه، ولأن السحر عقد بين الشيطان والساحر، ويترتب عليه الكفر بالله تعالى، فالتعالج به حرام (10) .
(1) إرشاد الساري: 8/401.
(2)
إرشاد الساري: 8/403.
(3)
تقدم تعريف الكهانة والعرافة وأما الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن هي التشاؤم بالشيء، انظر: النهاية: 3/152؛ والنووي على مسلم: 14/220.
(4)
الطرق هو الضرب بالحصا. النهاية: 3/121.
(5)
أضواء البيان: 4/455، وفي بعض الأحاديث - سوف أذكرها - أن هذه الأشياء من السحر.
(6)
إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات ومنها السحر، فتح الباري: 10/232؛ وفتاوى ابن تيمية: 35/170. وقال: محرم بالكتاب والسنة والإجماع، انظر تفصيل الموضوع في زاد المعاد: 5/63، 4/124؛ والزواجر للهيثمي: 2/105؛ وأضواء البيان: 4/444؛ والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري: 5/389؛ والآداب الشرعية: 3/93 - 95؛ وحاشية ابن عابدين: 1/31، 5/75؛ والطب النبوي والعلم الحديث: 3/39، 146، 265، 297.
(7)
مجمع الزوائد: 5/74.
(8)
مجمع الزوائد: 5/117.
(9)
مجمع الزوائد: 5/118.
(10)
أحكام القرآن للجصاص: 1/50؛ وأضواء البيان: 4/455 - 458، 465؛ وإرشاد الساري: 8/405 - 410؛ والفتح: 10/239؛ وابن عابدين: 2/594؛ وإعلام الموقعين: 4/396.
كيفية التعالج منه:
فمنه ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تصبح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)) (1) وقد يكون باستخراجه وتبطيله كما في الخبر (2) فهو كإزالة المادة الخبيثة بالاستفراغ، في المحل الذي يصل إليه السحر (3) وكذلك يكون علاجه بالقرآن كالمعوذتين، وآية الكرسي، والدعوات والأدعية المأثورة ونحو ذلك فما يجوز الرقيا به، فلا مانع من ذلك (4)، وقال عنها ابن القيم: فهذا جائز بل مستحب (5) .
وقد تقدم في تعريف النشرة أنها ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرًا أو شيئًا من الجن، وأن ابن المسيب قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه، وعن قتادة: إنما نهى الله تعالى عما يضره ولم ينه عما ينفعه (6) . وفي حديث جابر عند مسلم مرفوعًا (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل)(7) .
وقال الحافظ قلت: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة (8) ، مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك، وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي (9) ، ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال (10) .
(1) فتح الباري: 10/238 - 240، باب الدواء بالعجوة للسحر، ورجح القسطلاني خصوصية ذلك بتمر المدينة لكونه غرسه بيده الشريفة، إرشاد الساري: 8/410.
(2)
فتح الباري: 10/232.
(3)
الآداب الشرعية: 3/95 - 96.
(4)
أضواء البيان: 4/465.
(5)
إعلام الموقعين: 4/396. وهناك طرق أخرى لعلاج المسحور لا يتسع المجال لذكرها فارجع إليها في الفتح: 10/233؛ وابن عابدين: 2/594؛ وإرشاد الساري: 8/405.
(6)
إرشاد الساري: 8/406.
(7)
النووي على مسلم: 14/186.
(8)
قصة سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم فتح الباري: 10/221.
(9)
إرشاد الساري: 8/407.
(10)
فتح الباري: 10/228؛ وإرشاد الساري: 8/407؛ نقله عن الفتح.
وأما الممنوع فهو حل سحر بسحر مثله وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من عمل الشيطان وعلى هذا النوع يحمل قول الحسن: (لا يحل السحر إلا ساحر)(1) .
وهناك طرق أخرى لعلاج المسحور ذكرها بعض المفسرين - تعتمد على المنامات - لم تقتنع نفسي إلى الأخذ بها (2) .
الفرع الثاني: الاستشفاء بالقرآن الكريم:
ثبت في الصحيحين (3) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عالج بالقرآن الكريم، لأنه شفاء ورحمة كما بين الله تعالى ذلك في قوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} (4) .
ولفظ ((شفاء)) مطلق لم يقيد بكونه شفاء للقلوب فقط.
والاستشفاء إما أن يكون من الأمراض الروحانية وإما أن يكون من الأمراض البدنية.
أما عن الاستشفاء بالقرآن من الأمراض الروحانية فقد اتفقوا جميعًا على ذلك (5) . وعللوا رأيهم بأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة والأخلاق المذمومة، أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادًا الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني، وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية (6) .
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فإن للعلماء في هذه المسألة اتجاهين:
الاتجاه الأول:
وهو رأي القائلين بأن القرآن يتضمن شفاء الأبدان كما تضمن شفاء الأرواح.
وقال الرازي في نصرة هذا الرأي (7) :
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرًا من الأمراض ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزايم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى)) (8) .
(1) أعلام الموقعين: 4/396.
(2)
فتح الباري: 10/233؛ وإرشاد الساري: 8/405؛ وابن عابدين: 2/594.
(3)
فتح الباري: 10/209؛ وصحيح مسلم: 4/727، حديث رقم (2201) .
(4)
سورة الإسراء: الآية 82.
(5)
انظر: جميع التفاسير متفقة على ذلك.
(6)
التفسير الكبير للرازي: 21/35؛ وانظر مدارج السالكين: 1/52 - 53.
(7)
التفسير الكبير للرازي: 21/35، ومع هذا الاتجاه كذلك الألوسي في تفسيره: 15/145؛ وأبو حيان البحر المحيط: 6/74؛ وتفسير ابن عطية: 9/175؛ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 9/316؛ وابن الجوزي في زاد المسير: 5/79؛ والشوكاني في فتح القدير: 3/253؛ والبرسوي في روح البيان: 5/194.
(8)
لم أقف على تخريجه في كتب الحديث، وقال القرطبي في تفسيره: 9/318: هو من كلام رجاء الغنوي.
وأكثر من أيد هذا الاتجاه ابن القيم حيث قال: وأما تضمنها لشفاء الأبدان: فنذكر منه ما جاءت به السنة، وما شهدت به قواعد الطب، ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري: ((أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب فلم يقروهم، ولم يضيفوهم. فلدغ سيد الحي فأتوهم. فقالوا: هل عندكم من رقية، أو هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم، ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم على ذلك قطيعًا من الغنم، فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب. فقام كأن لم يكن به قلبه. فقلنا: لا تعجلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه، فذكرنا له ذلك، فقال: ما يدريك أنها رقية؟ كلوا واضربوا لي معكم بسهم)) (1) . فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه. فأغنته عن الدواء. وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء.
هذا مع كون المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم. فكيف إذا كان المحل قابلًا. ثم بين أنه جرب هذا الدواء شخصيًّا حينما أقام بمكة واستفاد منه فقال:(فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني. وذلك في أثناء الطواف وغيره. فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط. جربت ذلك مرارًا عديدة، وكنت آخذ قدحًا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارًا. فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك. ولكن بحسب قوة الإيمان، وصحة اليقين، والله المستعان (2) . وقال في زاد المعاد (3) : فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وبنحو هذا ذهب البرسوي عند تفسيره هذه الآية ثم ذكر شواهد من التجربة تدل على ذلك، فقال:
واعلم أن القرآن شفاء للمرض الجسماني أيضًا روي أنه مرض للأستاذ أبي القاسم القشيري، قدس سره، ولدٌ مرضًا شديدًا بحيث أيس منه فشق ذلك على الأستاذ فرأى الحق سبحانه في المنام فشكا إليه فقال الحق تعالى: اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه واكتبها في إناء واجعل فيه مشروبًا واسقه إياه ففعل ذلك فعوفي الولد وآيات الشفاء في القرآن ست: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] ، {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] . (قال تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقاته (4) : ورأيت كثيرًا من المشايخ يكتبون هذه الآيات للمريض ويسقاها في الإناء طلبًا للعافية وقوله عليه السلام: ((من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله)) يشمل الاستشفاء به للمرض الجسماني والروحاني) .
(1) سبق تخريجه.
(2)
مدارج السالكين: 1/52، 57.
(3)
الجزء الرابع: ص352.
(4)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 5/195 بتحقيق محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلوط عيسى الحلبي.
قال الشيخ التميمي رحمه الله في خواص القرآن: إذا كتبت الفاتحة في إناء طاهر ومحيت بماء طاهر وغسل المريض وجهه عوفي بإذن الله فإذا شرب من هذا الماء من يجد في قلبه تقلبًا أو شكًّا أو رجفًا أو خفقانًا يسكن بإذن الله وزال عنه ألمه وإذا كتبت بمسك في إناء زجاج ومحيت بماء ورد وشرب ذلك الماء البليد الذي لا يحفظ بشربه سبعة أيام زالت بلادته وحفظ ما يسمع، فعلى العاقل أن يتمسك بالقرآن ويداوي به مرضه وقد ورد (القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما داؤكم فذنوبكم وأما دوؤكم فالاستغفار) فلا بد من معرفة المرض أولًا فإنه ما دام لم يعرف نوعه لا تتيسر المعالجة وأهل القرآن هم الذين يعرفون ذلك فالسلوك بالوسيلة أولى (1) .
واختار الألوسي أن تكون "مِنْ" في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ} [الإسراء: 82] للتبعيض أي أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض، ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة (2) ، ولكن الأكثرية على خلاف رأيه.
والطب النفساني أو الروحاني لا ينكر أهمية المعالجة الروحية، إذ هي فرع من الطب يبحث في العلاقات المتبادلة بين الجسم والنفس، لأن الحالة النفسانية كثيرًا ما تؤثر في البدن (3) . لذا قال سقراط: (
…
وأن الخطأ الكبير في معالجة الجسم الإنساني في أيامنا هذه، هو أن الأطباء يفرقون بين الجسم والنفس) (4) .
ولقد سمي علم الأمراض النفسية في تراثنا الإسلامي القديم ((بطب القلوب)) ووصف ابن القيم (5) هذا النوع في وصفه للطبيب قائلًا: (أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان) .
وهكذا نجد أن علماءنا يربطون بين علل القلب والبدن، أي العلاقة بين الأمراض النفسية والأمراض العضوية، بل أدركوا أن المصاب بعلة بدنية حقيقية تتحسن حالته إذا ما رفعنا روحه المعنوية، وبشرناه بالشفاء العاجل، ولذا جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئًا وهو يطيب بنفس المريض)) (6) . وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضي تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ورؤيتهم لهم ولطفهم ومكالمتهم إياهم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزور المريض ويسأله عن شكواه وعما يشتهيه ويضع يده الشريفة على جبهته ويدعو له ويصف ما ينفعه ويدخل السرور على قلبه.
(1) تفسير روح البيان للإمام إسماعيل حقي البرسوي: 5/194، 195 وإلى كون القرآن دواء للأمراض الروحانية والجسمانية ذهب المناوي، انظر: فيض القدير: 4/536. وذكر قصة القشيري مع ولده السبكي في طبقاته: 5/158.
(2)
روح المعاني للألوسي: 15/145 كما ذكر في نفس الصفحة قصة الإمام القشيري مع ولده المريض.
(3)
مدارج السالكين: 1/58 دار الكتاب العربي، بيروت؛ وفيض القدير: 1/341.
(4)
الطب النبوي والعلم الحديث: 3/131.
(5)
الطب النبوي لابن القيم: ص113.
(6)
فيض القدير: 1/341، وفي سنده مقال، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح، والطب النبوي: ص254.
وفي الدراسات النفسية الحديثة أثبت الدكتور تالبوت (أن هناك نسبة عالية من حالات الصداع سببها نفسي، ويكفي مثالًا لتلك الصلة بينهما أن تكون قرحة المعدة أو الاثني عشر بتأثير الانفعال ويبين الطب الحديث أن كثيرًا من أمراض التوتر العصبي؛ أو سوء الهضم أو الإمساك أو الصداع أو الشلل أو فقد حاسة ما، أو نوبات صرعية.. أو غيرها تعرف هذه الأعراض باسم ((الأعراض المحولة)) لأن أسبابها الحقيقية أسباب غير جسمية، بل انفعالية أو عقلية، ثم تحولت إلى أمراض جسمية) (1) . وهكذا نجد أن الأطباء - كما قال الألوسي - (معترفون بأن من الأمور والرقى ما يشفى بخاصية روحانية، ومن ينكر فلا يعبأ به)(2) .
وقد أجاز كثير من العلماء الاستشفاء بالقرآن بأن يقرأ على المريض أو الملدوغ الفاتحة، أو يكتب في ورق ويعلق عليه أو في طست ويغسل ويسقى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان يعوذ نفسه، وكذلك أجازوا أن يشد الجنب والحائض التعاويذ على العضد، إذ كانت ملفوفة
…
)) (3) . ومع هذا الرأي - كما سبق - ابن المسيب وابن سيرين ومالك وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها (فقد روي أنها كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء، ثم تأمر أن يصب على المريض)(4) .
وأما الاتجاه الثاني:
فقد ذهبوا إلى القول بأنه شفاء للقلوب فقط بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه، المقررة لشرعه (5)، ومع هذا الاتجاه الحسن والنخعي ومجاهد (6) وأيدهم من المعاصرين الشيخ شلتوت رحمه الله وقال:(إن القرآن لم ينزل دواء للأمراض البدنية، لأن الله خلق لها عقاقير طبية فيها خاصية الشفاء، وأرشد إلى البحث عنها والتداوي بها، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى أن التداوي من الأمراض البدنية إنما يكون من طريق الطب البشري الذي يعرف الدواء، أما القرآن فلم ينزله الله دواء لأمراض الأبدان، وإنما أنزله كما قال دواء لأمراض القلوب، لأنها أمراض معنوية، وشفاؤها بأدوية معنوية، والقرآن قد عالج هذه الأمراض المعنوية وما التداوي في الأمراض البدنية بالقرآن إلا كقراءة البخاري والختمات للنصر على الأعداء في ميدان القتال، وهو وضع للعلاج المعنوي مكان العلاج المادي، وهو قلب لنظام الله تعالى في خلقه، وعروج بالقرآن عما أنزل لأجله)(7) .
(1) الطب النبوي والعلم الحديث: 3/134.
(2)
روح المعاني: 15/145.
(3)
حاشية ابن عابدين: 5/232.
(4)
روح المعاني: 15/145؛ وتفسير البحر المحيط: 6/74.
(5)
نقل هذا الاتجاه الشوكاني في فتح القدير: 3/253؛ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 9/316؛ وابن الجوزي في زاد المسير: 5/79؛ وأبو حيان في البحر المحيط: 6/74.
(6)
روح المعاني: 15/145؛ والبحر المحيط: 6/74 وهو المفهوم من كلام ابن كثير في تفسيره: 4/342؛ والسيوطي في الدر المنثور: 4/199؛ والقرطبي في الجامع: 15/135.
(7)
الفتاوى للشيخ شلتوت: ص209، 210.
كما أنكر ما يفعله البعض من كتابة الآيات القرآنية في إناء، ثم تمحى بالماء ثم يؤمر المريض بشربه، أو تعلق حجابًا وقال: إن هذا عبث بالقرآن وبالعقول الضعيفة (1)، ويمكن أن يستدل لهم بما روى أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال حين سئل عن النشرة:((هي من عمل الشيطان)) (2) . وبما روي عن النخعي أنه كان يقول: أخاف أن يصيبه من شرب ما محى به القرآن بلاء.
وبما قاله الحسن من أنه سأل أنسًا عن ذلك، فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشيطان.
وقد تولى ابن عبد البر (3) الرد على ما استدل به هؤلاء، وقال:(وهذه آثار لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل: إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعن المداوة المعروفة، والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) (4) .
وإن النفس لتميل مع رأي القائلين يكون القرآن شفاء للأمراض الروحانية والجسمانية ولكن نقول كما قال المناوي: (لا يحسن التداوي به إلا الموفقون)(5) .
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول الأول لما ذكرناه من الأدلة، وذلك لأنه لا يلزم من هذا القول سلب كون القرآن كتاب هداية فهو بلا شك كتاب هداية للبشرية جمعاء، ولكنه مع ذلك لا مانع من أن يستشفى به لأمراض البدن.
ولكن ينبغي أن نعلم أن القراءة التي تشفي هي التي تكون مع الإخلاص وفراغ القلب من الأغيار والإقبال على الله تعالى بالكلية وعدم تناول الحرام، وعدم الآثام، فقراءة من هذا حاله مبرىء للأمراض وإن أعيت الأطباء، ولذا قال بعض الأئمة: متى تخلف الشفاء، (فهو إما لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المحل المنفعل أو لمانع قوي يمنع تخلفه أن ينجع فيه الدواء كما تكون في الأدوية الحسية شفاء لما في الصدور:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية لكن لا يحسن التداوي به إلا الموفقون ولله حكمة في إخفاء سر التداوي به عن نفوس أكثر العالمين كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم
…
) اهـ (6) .
(1) الفتاوى للشيخ شلتوت: ص207، 208.
(2)
عون المعبود: 10/348 وقد تقدم تخريجه بأبين من هذا.
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 9/318.
(4)
رواه مسلم وقد تقدم تخريجه.
(5)
تقدم قول المناوي آنفًا.
(6)
فيض القدير للمناوي: 4/536، 537.
التداوي بالمحظورات
اختلف الفقهاء في حكم التداوي بالمحرمات على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو القول بعدم جواز التداوي بالمحرمات - المطعوم والمشروب في ذلك سواء وهو قول المالكية (1) والحنابلة (2) والشافعية (3) في أحد القولين عندهم وفي وجه عند الحنفية (4) والزيدية (5) وهو قول جمهور العلماء (6) .
واستدلوا لقولهم بأدلة منها ما رواه مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء؟ فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) (7) . وفي الصحيح عن ابن مسعود أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم (8) . وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث (9) .
وتمسكوا بظاهر هذه الأحاديث في القول بمنع التداوي بالمحرم لعموم النهي ولأن بعضها يدعو إلى بعض حتى أجاب ابن تيمية بالمنع لمن سأله عن التداوي بالخمر عند الضرورة كما أنهم لم يجعلوا المرض من الضرورات التي تبيح المحظورات، كما في تناول المضطر للميتة في المخمصة معللين قولهم بالافتراق بينهما بأن المضطر في حالة المخمصة يتعين الأكل طريقًا لإنقاذ حياته بخلاف حالة المرض فإن هذه المحرمات لا يتعين تناولها طريقًا للشفاء، والحاصل أن الضرورة عندهم لا تتحقق هنا.
القول الثاني: وذهب أصحابه إلى القول بجواز التداوي بالمحرمات وبه قالت الظاهرية (10) وبعض الفقهاء (11) ، وفي الأصح عند الشافعية جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر (12) ومجمل تعليلهم أن التداوي يعتبر من حالات الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات واستدلوا بقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (13) .
فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه، كإباحته صلى الله عليه وسلم للعرنيين أبوال الإبل على سبيل التداوي من المرض وأول ما صح من أدلة خصومةٍ بأن المحرمات في حالى الاضطرار إلى التداوي بها تكون مباحة فلا تكون من الخبائث فلا يصدق عليها اسم الدواء الخبيث المحرم الممنوع التداوي به.
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/59؛ وحاشية الدسوقي: 4/353.
(2)
زاد المعاد: 4/154 - 158؛ وفتاوى ابن تيمية: 24/275؛ والإفصاح لابن هبيرة/ 2/270، وذكر أن أحمد ومالكًا من القائلين بالمنع.
(3)
المجموع: 9/42.
(4)
المبسوط: 24/21.
(5)
البحر الزخار: 4/351؛ وشرح الأزهار: 4/100.
(6)
نيل الأوطار: 8/211.
(7)
النووي على مسلم: 13/152؛ ومجمع الزوائد: 5/86؛ ومعالم السنن: 4/22.
(8)
نيل الأوطار: 8/211.
(9)
نيل الأوطار: 8/211؛ ومعالم السنن: 4/221.
(10)
المحلى: 11/372، 1/170، 1/124.
(11)
معالم السنن: 4/223؛ والفقه الإسلامي للزحيلي: 3/523.
(12)
نيل الأوطار: 8/211.
(13)
سورة الأنعام: الآية 119.
القول الثالث: وهو القول بجواز التداوي بالمحرم إذا تيقن طريقًا للشفاء وإلا فلا يباح التداوي به، وهو قول بعض الحنفية (1) وقول بعض الشافعية (2) وبعض المالكية (3) . ويستدل لهم بما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين أن يتداووا بأبوال الإبل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف شفاء أولئك بها على الخصوص، لذا قالوا بجوازه عندما يتعين المحرم طريقًا للشفاء، ولا يجد المريض دواء طاهرًا يقوم مقام الدواء المحرم، وأن يكون بإخبار الطبيب المسلم العدل (4) وبهذا يمكن الجمع بين أحاديث النهي وبين حديث العرنيين.
والراجح هو القول بجواز التداوي بالمحرم عند الضرورة وبالشروط التي ذكرها هؤلاء (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة إلا أنها لما كانت مما يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها)(5) .
الدكتور علي محمد يوسف المحمدي
(1) بدائع الصنائع: 1/61، 62؛ وابن عابدين: 5/224.
(2)
المجموع: 9/49؛ وقواعد العز بن عبد السلام: 1/81، 95؛ ونيل الأوطار: 8/211.
(3)
أحكام القرآن لابن العربي: 1/56؛ وتفسير القرطبي: 2/231.
(4)
وانظر ما سبق مجموعة بحوث فقهية د. عبد الكريم زيدان: ص150 - 175؛ ونيل الأوطار: 8/211.
(5)
معالم السنن: 4/223. ملاحظة: أوردت هذا البحث هنا إتمامًا للفائدة، وبما أن للعلماء تفصيلات كثيرة لا يسع المقام لذكرها فقد قررت أن أفردها ببحث مستقل أذكر فيه أنواع المحرمات من مطعومات ومشروبات ومسمومات وما استجد منها كالمخدرات وأنواعها، والتداوي بالنجاسات وسائر المحرمات الأخرى.
المصادر والراجع
1-
أحكام القرآن، للجصاص، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
2-
إحياء علوم الدين للغزالي، طبعة عيسى الحلبي، مصر.
3-
الآداب الشرعية لابن مفلح، طبعة بدون تاريخ.
4-
إرشاد الساري للقسطلاني، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
5-
الإصابة لابن حجر، طبعة دار صادر، بيروت.
6-
أضواء البيان للشنقيطي، طبعة من مطبوعات المدرسة السلفية، مصر.
7-
أعلام الموقعين بتحقيق محمد محيي الدين.
8-
الإفصاح لابن هبيرة، طبعة المؤسسة السعيدية، الرياض.
9-
البحر الزخار، للإمام أحمد بن المرتضي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
10-
البحر المحيط، لأبي حيان، الناشر مكتبة مطابع النصر الحديثة، الرياض.
11-
بدائع الصنائع للكساني، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
12-
بدائع الفوائد لابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
13-
بهجة النفوس للأندلسي، طبعة دار الجيل.
14-
التاج الجامع الأصول، للشيخ منصور على ناصف، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
15-
تخريج الدلالات السماعية للتلمساني، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة.
16-
تحفة الأحوذي للمباركفوري، الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
17-
التراتيب الإدارية للكتاني، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
18-
تربية الأولاد في الإسلام، د. عبد الله علوان، طبعة دار السلام، طبعة الثالثة.
19-
ترتيب القاموس المحيط، طبعة عيسى الحلبي.
20-
تفسير فتح القدير للشوكاني، طبعة مصطفى الحلبي.
21-
التفسير الكبير للرازي، طبعة دار الفكر، بيروت.
22-
تفسير المنار، طبعة الهيئة المصرية.
23-
التمهيد لابن عبد البر، طبعة وزارة الأوقاف المغربية.
24-
تهذيب التهذيب لابن حجر، طبعة دار صادر، بيروت.
25-
جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط.
26-
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
27-
حاشية ابن عابدين، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
28-
حاشية الدسوقي، طبعة عيسى الحلبي، مصر.
29-
حواشي الشرواني وابن القاسم، طبعة بدون.
30-
الدر المنثور للسيوطي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
31-
روح البيان للبرسوي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
32-
روح المعاني للألوسي، طبعة إحياء التراث العربي، بيروت.
33-
الروضة الندية للقنوجي، طبعة دار إحياء التراث الإسلامي، الدوحة.
34-
زاد المعاد لابن القيم، طبعة مؤسسة الرسالة.
35-
زاد المسير، لابن الجوزي، طبعة المكتب الإسلامي.
36-
الزواجر للهيثمي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
37-
سنن ابن ماجه، طبعة عيسى الحلبي.
38-
السنن الكبرى للبيهقي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
39-
سنن النسائي، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
40-
شرح الأزهار، لابن مفتاح، مكتبة اليمن، صنعاء.
41-
شرح الزرقاني على الموطأ، طبعة دار المعرفة، بيروت.
42-
الشفاء للقاضي عياض، طبعة مكتبة الفارابي، دمشق.
43-
صحيح مسلم بتحقيق فؤاد عبد الباقي، طبعة عيسى الحلبي، مصر.
44-
صفة الصفوة لابن الجوزي، نشر دار الوعي، حلب.
45-
صفوة البيان للشيخ مخلوف، طبعة دار الكتاب العربي، مصر.
46-
الطب عند العرب والمسلمين، د. محمود الحاج، الدار السعودية للنشر والتوزيع.
47-
الطب النبوي لابن القيم.
48-
الطب النبوي والعلم الحديث، د. محمود النسيمي، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت.
49-
طرح التثريب، للحافظ العراقي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
50-
عارضة الأحوذي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
51-
عون المعبود للمباركفوري، الناشر المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة.
52-
غريب الحديث لابن الجوزي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
53-
فتاوى الشيخ شلتوت، طبعة دار الشروق، 1980م.
54-
الفتاوى الكبرى لابن تيمية، مكتبة ابن تيمية، مصر.
55-
فتاوى معاصرة للقرضاوي، طبعة المطبعة السلفية، مصر، الطبعة الأولى.
56-
الفتاوى الهندية، طبعة باكستان.
57-
فتح الباري لابن حجر، طبعة المطبعة السلفية، مصر.
58-
الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي، طبعة دار الفكر.
59-
الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري، الناشر دار الإرشاد.
60-
الفواكه الدواني، طبعة مصطفى الحلبي.
61-
فيض القدير للمناوي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
62-
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، طبعة دار الجيل، بيروت.
63-
قليوبي وعميرة، طبعة عيسى الحلبي.
64-
قوت القلوب لأبي طالب المكي، دار صادر، بيروت.
65-
كشاف القناع للبهوتي، دار الفكر، بيروت.
66-
لامع الدراري، طبعة مكة المكرمة.
67-
المبسوط للسرخسي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
68-
مجمع الزوائد للهيثمي، طبعة دار مكتبة القدسي، مصر.
69-
مجموعة بحوث فقهية، عبد الكريم زيدان، طبعة مؤسسة الرسالة، 1976م.
70-
المجموع للنووي، توزيع المكتبة العالمية.
71-
المحلى لابن حزم، طبعة المكتب التجاري، بيروت.
72-
مختصر الفتاوى المصرية للبعلي، طبعة دار الجيل.
73-
مدارج السالكين لابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
74-
مرقاة المفاتيح للقاري، طبعة دار إحياء التراث.
75-
مسند أحمد، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.
76-
المصنف، لعبد الرزاق، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.
77-
معالم السنن للخطابي، طبعة الأولى، المكتبة العلمية، بيروت.
78-
معالم القربة في أحكام الحسبة، للشيخ محمد بن محمد القرشي، طبعة الهيئة المصرية للكتاب.
79-
الموطأ، طبعة عيسى الحلبي.
80-
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، الناشر المكتبة الإسلامية.
81-
نيل الأوطار للشوكاني، طبعة مصطفى الحلبي.