المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

‌الاستصناع والمقاولات

في العصر الحاضر

إعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستصناع

مقدمة:

الاستصناع هو عقد من العقود، كالبيع، ينعقد بالإيجاب والقبول، وصورته: أن يقول إنسان لنجار، مثلًا: اصنع لي خزانة، أو يقول لحداد اصنع لي شباكًا، ويبين نوع ما يريد وقدره وصفته، فيستجيب الصانع لإنجاز ما طلب هذه بثمن معين.

والاستصناع كان موجودًا منذ القدم، لحاجة أعضاء المجتمع إلى هذا النوع من الجهد، وتلبية رغباتهم ورغبات غيرهم، وتعامل الناس به في مختلف البلدان. واستمر العمل به في الجزيرة العربية قبل الرسالة، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه الوحي بما أحله الله وحرمه.

ذلك لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت لتقضي على كل عادات الناس ومعاملاتهم قبل الإسلام، بل أقرت البعض مما هو صالح، ويتماشى مع مبادئ الشريعة وأهدافها ومنعت البعض الآخر، واشترطت شروطًا قومت بها اعوجاجه، فأصبح بها يسير طبق نصوص الشريعة ومنهجها.

فكان الاستصناع من العقود التي أقرها الإسلام، بعدما قيده بشروط تقي المجتمع من الضرر والضرار.

ص: 979

الصناعة والاستصناع في الشريعة الإسلامية:

الصناعة والاستصناع عمل يقره القرآن، وتؤيده القواعد والمبادئ الإسلامية.

أما القرآن فقد عني بتوجيه الناس إلى الصناعة بمختلف أنواعها، وجاءت آيات كثيرة من القرآن تحث المؤمنين على ممارسة الصناعات، واستخراج خيرات الأرض، وجعلها صالحة لتلبية حاجيات الإنسان المتعددة. قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . (1)

وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} . (2)

وقال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3)

ولقد وردت هذه الآيات تستعرض العناية الربانية بالأمم التي قبلنا، واستمرار هذه العناية بالإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض، عملًا بالقاعدة المقررة في الشريعة الإسلامية: أن (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ) ، لاسيما إذا كان السياق في معرض المدح والتحسين.

(1) سورة الحديد: الآية 25.

(2)

سورة الأنبياء: الآية 80.

(3)

سورة هود: الآية 38، 39

ص: 980

موقف الشريعة الإسلامية من إنشاء العقود:

الأصول العامة الإسلامية تعطي الحرية لكل مكلف أن ينشئ ما شاء من عقود، ولو لم يرد نص من الشرع في إباحته، للقاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن "الأصل في الأشياء الإباحة "، ومنها العقود والشروط، إلا إذا ورد نص من الشارع يفيد التحريم أو المنع.

وقد ذكر الشاطبي في الموافقات أن القاعدة المستمرة بين العلماء هي: التفرقة بين العبادات والمعاملات، فالأصل في الأولى ألا يقدم عليها المكلف إلا بإذن من الشارع، إذ لا مجال للعقول في اختراع العبادات، والأصل في الثانية الإباحة، حتى يدل دليل على خلافه (1) ، فالعقود والشروط هي من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، لقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (2) ، فإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، بل كانت جائزة ومباحة.

وعلى هذا الأساس صرح الإمام الشافعي في الأم: إن أصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضى المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلَّا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه، داخل في معنى المنهي عنه، وما فارق ذلك - أبحناه بما وصفناه من إباحة البيع في كتاب الله تعالى (3)

وقد ذهب الإمام ابن تيمية في نفس هذا الاتجاه، إذ يقول:(ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا)(4)

وتماشيًا مع هذا الرأي قال الكاساني في باب الشركات: (إما العنان فجائز بإجماع فقهاء الأمصار، لتعامل الناس بذلك في كل عصر، من غير نكير، ولأن هذه العقود شرعت لمصالح العباد وحاجاتهم إلى استنماء المال، وهذا النوع طريق صالح للاستنماء، ولم يرد نص في تحريمه، فكان مشروعًا (5)

وقال الزيلعي في باب الربا: ولا نسلم أن حرمة البيع أصل، بل الأصل هو الحل، والحرمة إذا ثبتت إنما تثبت بالدليل الموجب لها، وهذا لأن الأموال خلقت للابتذال فيكون باب تصليحها مفتوحًا، فيجوز ما لم يقم الدليل على منعه (6)

وهناك رأي ثان في موضوع إنشاء العقود. وهو يقول بأن الأصل في العقود والشروط الحظر، إلا ما ورد من الشارع إباحته، وهو مذهب الظاهرية، وقلة من العلماء في المذاهب الأربعة.

ولقد رد على هذا المذهب ابن القيم عندما قال في هذه المسألة (7) : القول بأن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان خطأ، ما لم يقم عندهم دليل على دعواهم، وجمهور الفقهاء على خلاف هذا الاعتقاد، إذ يرون أن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع، أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح.. وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه (الله) .

(1) الموافقات، للشاطبي: 1/284

(2)

سورة الأنعام: الآية 119

(3)

الأم، للشافعي: 3/3

(4)

القواعد النورانية ص184

(5)

بدائع الصنائع: 6/86

(6)

تبيين الحقائق: 4/87

(7)

إعلام الموقعين: 1/384

ص: 981

الاستصناع لغة وشرعًا:

(أ) الاستصناع في اللغة:

جاء في لسان العرب: صنعه يصنعه صنعًا فهو مصنوع، وصنع عمله، ومن ذلك قوله تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . (1)

ثم قال: ويقال اصطنع فلان خاتمًا إذا سأل رجلًا أن يصنع له خاتمًا.. روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب.

فقوله (اصطنع) أي أمر أن يصنع له، كما تقول اكتتب أي أمر أن يكتب له، والطاء في اصطنع بدلًا من تاء الافتعال، أي أبدلت التاء طاء لوجود الصاد.

ثم قال: واصطنع الشيء، أي دعا إلى صنعه. والصناعة: حرفة الصانع، وعمله الصنعة، والصناعة ما تستصنع من أمر (2)

وقال في القاموس المحيط: والصناعة ككتابة: حرفة الصانع، وعمله الصنعة. وصنعة الفرس حسن القيام عليه، والصنيع السيف الصقيل والمجرب، والسهم كذلك. وصنيعتي أي اصطنعته وربيته وخرجته.

ثم قال: ورجل صِنَع اليدين (بالكسر وبالتحريك) : حاذق في الصنعة (3)

وفي الصحاح: الصنع (بالضم) مصدر قولك صنع إليك معروفًا، والصناعة حرفة الصانع، وعمله الصنعة، وسيف صنيع أي مجلو. وامرأة صناع اليدين أي امرأة حاذقة ماهرة بعمل اليدين (4)

وفي المعجم الوسيط: صنع صنعًا: مهر في الصنع فهو صنع، استصنع فلانًا كذا طلب منه أن يصنعه له، والتصنيع: جعل الأمة صناعية بالوسائل الاقتصادية. الصانع من يصنع بيديه، ومن يحترف الصناعة. والصناعة حرفة الصانع، وكل علم أو فن يمارسه الإنسان حتى يمهر فيه ويصبح حرفة له (5)

وبهذا ندرك إجماع علماء اللغة على أن (الاستصناع) هو: طلب عمل من الصانع فيما هو من خصائص حرفته ومهارته.

(1) سورة النمل: الآية 88.

(2)

ابن منظور، مادة: صنع 2/481 - 482

(3)

الفيروز آبادي: 3/52.

(4)

الجوهري: ص1245

(5)

المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية: 1/527

ص: 982

(ب) الاستصناع في اصطلاح الفقهاء:

لقد كان هذا العقد مثار خلاف بين المذاهب، وحتى داخل المذهب الحنفي: هل هو بيع السلم فتجب فيه شروط السلم؟ أو هو بيع عادي فيجب فيه ما يجب في البيع من شروط؟ أو هو وعد بالبيع وليس بعقد بيع، فيتم بالتعاطي؟

ثم هل المبيع هو العين التي ستصنع؟ أو المبيع هو العمل؟

وهل يجري فيه خيار الرؤية، بعد الصنع كما في البيع العادي؟ أو لا يجري فيه الخيار، كي لا يتضرر الصانع، لأنه صنعه خصيصًا للمستصنع؟ (1)

وهذا ما سنحاول بيانه عندما نبين وجهة نظر كل مذهب بانفراده. ويجدر أن نشير هنا إلى أن الاستصناع عند الحنفية هو بيع، لا وعد بالبيع، وهو عقد من العقود أجازوه استحسانًا لا قياسًا، وبسطوا فيه القول في كتبهم، ببيان حقيقته وصفته وشروطه وحكمه، بينما بقية المذاهب الأخرى منعت هذا العقد، واعتبرته من بيع المعدوم، وألحقوه بالسلم في الصناعات.

اختار جانب كبير من فقهاء الحنفية تعريف هذا العقد بذكر وصفه وصورته، وهو المعروف عندهم: التعريف بالرسم (2) ، واختار جانب آخر تعريف هذا العقد ببيان طبيعته.

(1) المدخل الفقي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/205.

(2)

الرسم: هو لفظ مميز للمخبر عنه مما سواه دون أن ينبئ عن طبيعته، (الأحكام، لابن حزم: 1/34)

ص: 983

(أ) تعريف الاستصناع بالرسم:

فقد مثل السرخسي للاستصناع بقوله: (فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني، بكذا درهم، وقبل الصانع ذلك انعقد استصناعًا عند الحنفية، كما إذا استصنع الرجل عند الرجال خفين أو قلنسوة، أو طستًا، أو كوزًا، أو آنية من النحاس (1)

ومثل الكاساني لصورة الاستصناع بقول الإنسان لصانع خفاف أو صفار: اعمل لي خفًّا أو آنية من أديم أو نحاس، من عندك، بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل وقدره ووصفه، فيقول الصانع: نعم (2)

ومثل العلامة نظام (3) للاستصناع: بقوله: جائز في كل ما جرى التعامل فيه، كالقلنسوة والخزف والأواني المتخذة من الصفر والنحاس وما أشبه ذلك، استحسانًا.

ويقول الكمال بن الهمام: الاستصناع: طلب الصنعة، وهو أن يقول لصانع خف أو كعب أو أواني الصفر: اصنع لي خفًّا طوله وسعته كذا، أو دستًا أي برمة تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا (4) ويبدو أن الصور التي تعرض لها الفقهاء في الاستصناع كانت لا تتعدى حدود الخف والقلنسوة والأواني والآلات النحاسية والحديد والزجاج.

فإذا اقتصرت حاجاتهم في ذلك العصر على هذه الأشياء، فلا مانع من أن يتناول الاستصناع أشياء أخرى اقتضتها حاجات العصور المتأخرة، كالأسلحة الحربية والسيارات والأرتال والطائرات والسفن، وكل المحركات على اختلاف أنواعها، ومواد البناء، وكل المعدات التي يحتاج إليها في هذا العصر.

(1) المبسوط: 12/138

(2)

بدائع الصنائع: 5/2

(3)

الفتاوى الهندية: 3/207

(4)

فتح القدير: 6/242

ص: 984

(ب) تعريف الاستصناع عند الحنفية بالحد:

(1)

وقد اختارت الموسوعة الفقهية تعريف الكاساني للاستصناع وهو: عقد على مبيع في الذمة، شرط فيه العمل على الصانع (2)

وقال ابن عابدين: هو: طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص (3) أي يكون العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع فإن العقد يكون إجارة لا استصناعًا (4)

ولو لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، بل يسمى: سلما.

فإذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، رضي بها المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو: التعاطي، بتراضيهما (5)

وبهذا نعلم أن الاستصناع هو غير السلم وغير الإجارة عند الحنفية، لأن السلم هو بيع آجل بعاجل، أي بيع شيء غير موجود بثمن حال، والإجارة هي عقد على المنافع بعوض، أما الاستصناع فهو: الاتفاق على عمل الصانع بأن يصنع شيئًا نظير عوض معين بخامات من عنده.

وهو يشبه السلم لأنه بيع المعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم به عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن، ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق.

ويشبه الإجارة أيضًا، لكنه يفترق عنها من حيث أن الصانع في الاستصناع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله. (6)

وبما أن الفقهاء كغيرهم اشترطوا في كل حد أن يكون جامعًا مانعًا، فلا يكون التعريف الذي اختير للاستصناع حدًّا إلا إذا كان جامعًا لجميع أفراده، ومانعًا من دخول أي عقد من العقود هو خارج عن الاستصناع، فقولنا: هو عقد، إخراج لقول من قاله: إنه مواعدة، أي وعد بالبيع، إذ الوعد ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلب، ولكنه لا يلزم به قضاء، لأنه ليس بعقد، بينما الاستصناع عقد يجري فيه التقاضي، ويجب الإيفاء به (7)

القاعدة المعروفة عند الفقهاء أن التقاضي لا يكون في الموعود، وإنما يكون في الواجب.

وكذا أثبت الفقهاء في الاستصناع خيار الرؤية، وهذا الخيار يختص بعقد البيع.

والاستصناع إنما جاز اعتباره عقدًا بالقياس والاستحسان، والوعد بالبيع لا يتوقف إثباته على دليل (8) وهذه الفوارق هي التي وجه بها محمد الاستصناع.

وقولنا: على مبيع يدل على أن شيئًا مخصوصًا ذكرت مادته ومواصفاته، يباع، وهذا القيد أخرج الإجارة أنها عقد على عمل من الأجير.

وقولنا: في الذمة يدل على أن المقصود هو بيع خاص لا البيع المطلق، لأن من شروط البيع المطلق أن يكون المبيع مقبوضًا في المجلس.

وقولنا: شرط فيه العمل، قيد أخرجنا به السلم، لأن السلم هو بيع عاجل بآجل، ويشترط فيه قبض المال قبل افتراق العاقدين، أما الاستصناع فلا يشترط فيه القبض.

وقولنا: على الصانع، قيد يميز الاستصناع إذ السلم لا يشترط فيه الصنع، بينما الاستصناع قائم على الصنع.

وجاء في البدائع: أن الصانع إذا أتى بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع، جاز وجواز هذا لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر هو التعاطي، بتراضيهما (9)

وبهذا أخرج هذا الحد: الوعد بالبيع، والإجارة، والسلم، والبيع المطلق، والتعاطي، فكان تعريفًا جامعًا مانعًا.

(1) الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه، (الأحكام، لابن حزم: 1/34)

(2)

بدائع الصنائع: 5/2

(3)

حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار: 5/223

(4)

الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي: 4/631

(5)

بدائع الصنائع: 5/2

(6)

الفقه الإسلامي وأدلته: 4/631

(7)

بدائع الصنائع: 5/2

(8)

موسوعة جمال عبد الناصر: 7/91

(9)

الكاساني: 5/2

ص: 985

حكم عقد الاستصناع عند الحنفية:

لقد كادت تجمع كلمة فقهاء الحنفية على جواز عقد الاستصناع ومشروعيته واعتمدوا في جواز هذا العقد على الاستحسان، قال صاحب الهداية:(1) : إذا استصنع شيئًا بغير أجل جاز، استحسانًا، للإجماع الثابت بالتعامل، وفي القياس لا يجوز، لأنه بيع المعدوم لا على وجه السلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم خاصةً، وإلى هذا ذهب زفر.

وقال الكمال بن الهمام: ولكنا جوزناه (أي الاستصناع) استحسانًا، للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وقد استصنع رسول الله خاتما (2)

وقال الكاساني (3) : أما جوازه، فالقياس أن لا يجوز، لأنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وقال:"ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح"، والقياس يترك بالإجماع ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي قطعة الشارب للسقاء من غير بيان قدر المشروب، وفي شراء البقل لأن الحاجة تدعو إليه. وقال الكمال ابن الهمام: واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير لازم (4) .

وقد قصر الحنفية تجويز بعض الأشياء على غير قياس على ما جرى فيه التعامل بين الناس وأقره المسلمون وقال السمرقندي (5) : والقياس أنه لا يجوز، وفي الاستحسان جائز.

ولم يشذ من علماء الحنفية عن القول بجواز الاستصناع إلا زفر الذي لا يقول بالاستحسان، ولا يقدمه على القياس، ولهذا قال بعدم جواز بيع الاستصناع (6) .

ووجه تقديم الاستحسان على القياس في الاستصناع، هو تعامل الناس بهذا العقد، وإجماعهم على ذلك منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى اعتبروه دليلًا من أدلة الشريعة، يقابل القياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام، وهو عدم جواز بيع المعدوم، ولذلك كان الاستحسان عند علماء الأصول من الحنفية والحنابلة قياسًا خفيًّا، رجح على القياس الجلي، للمصلحة.

(1) شيخ الإسلام برهان الدين: شرح بداية المبتدئ: 3/85

(2)

فتح القدير: 5/242

(3)

البدائع: 5/2

(4)

فتح القدير 6/242

(5)

تحفة الفقهاء: 2/528

(6)

فتح القدير: للكمال ابن الهمام: 6/242

ص: 986

أما الشافعية فإنهم لا يقولون بالاستحسان، ولذا استنكر الشافعي العمل بالاستحسان، وقال:(من استحسن فقد شرع) .

على أن من قال بالاستحسان لا يقول به اعتباطا، بل لابد له من مستند يستمد منه حجيته، وهو ما يعبر عنه بوجه الاستحسان، وهو في الغالب حاجة الناس الملحة إلى ذلك، لأنه قلما يوجد في السوق ما يتطلبه الإنسان على وجه المطلوب، فيحتاج أن يستصنع، فلو لم نقل بالجواز لوقع الناس في حرج، والدين يسر وليس بعسر، والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)

وحكم الاستصناع إنما يضاف ثبوته إلى السنة أو الإجماع أو القياس، أما الاستحسان فإنما يراد به، في الغالب: قياس خفي يقابل قياسًا جليًّا.

وقد عده عدد آخر من الفقهاء من العرف العام. قال مصطفى الزرقاء: العرف العام هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور، وذلك كالاستصناع في كثير من الحاجات واللوازم، من أحذية وألبسة وأدوات وغيرها، فإن الناس قد احتاجوا إليه، ودرجوا عليه من قديم الزمان، ولا يخلو اليوم من التعامل به مكان، وقد أصبح جاريًا في جميع الحاجات (2) ، والحقيقة أنه لا منافاة بين كل هذه الأقوال.

فاعتباره من الاستحسان، لأننا قدمنا فيه العمل بالقياس الخفي على القياس الجلي، وهو مسمى الاستحسان عند الحنفية.

واعتباره من العرف العام، لأن تعامل الناس به من أقدم العصور هو مبني على استحسان بعض الأعراف التي تحل حاجات المجتمع، وهو الذي فسره الغزالي في المستصفى (3) ،وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع بالقبول، والذي سماه فقهاء المسلمين: إجماعًا.

(1) سورة الحج: الآية 78

(2)

المدخل الفقهي: 2/838

(3)

المدخل الفقهي العام: 2/838

ص: 987

أما الشافعية فإنهم لا يقولون بالاستحسان، ولذا استنكر الشافعي العمل بالاستحسان، وقال:(من استحسن فقد شرع) .

على أن من قال بالاستحسان لا يقول به اعتباطا، بل لابد له من مستند يستمد منه حجيته، وهو ما يعبر عنه بوجه الاستحسان، وهو في الغالب حاجة الناس الملحة إلى ذلك، لأنه قلما يوجد في السوق ما يتطلبه الإنسان على وجه المطلوب، فيحتاج أن يستصنع، فلو لم نقل بالجواز لوقع الناس في حرج، والدين يسر وليس بعسر، والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)

وحكم الاستصناع إنما يضاف ثبوته إلى السنة أو الإجماع أو القياس، أما الاستحسان فإنما يراد به، في الغالب: قياس خفي يقابل قياسًا جليًّا.

وقد عده عدد آخر من الفقهاء من العرف العام. قال مصطفى الزرقاء: العرف العام هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور، وذلك كالاستصناع في كثير من الحاجات واللوازم، من أحذية وألبسة وأدوات وغيرها، فإن الناس قد احتاجوا إليه، ودرجوا عليه من قديم الزمان، ولا يخلو اليوم من التعامل به مكان، وقد أصبح جاريًا في جميع الحاجات (2) ، والحقيقة أنه لا منافاة بين كل هذه الأقوال.

فاعتباره من الاستحسان، لأننا قدمنا فيه العمل بالقياس الخفي على القياس الجلي، وهو مسمى الاستحسان عند الحنفية.

واعتباره من العرف العام، لأن تعامل الناس به من أقدم العصور هو مبني على استحسان بعض الأعراف التي تحل حاجات المجتمع، وهو الذي فسره الغزالي في المستصفى (3) ،وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع بالقبول، والذي سماه فقهاء المسلمين: إجماعًا.

(1) سورة الحج: الآية 78

(2)

المدخل الفقهي: 2/838

(3)

المدخل الفقهي العام: 2/838

ص: 988

السنة القولية تجيز الاستصناع:

ويرى بعض فقهاء الحنفية أن الاستصناع لم يكن دليله الاستحسان فقط، وإنما كان دليله السنة القولية، واستشهدوا بحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

الحديث الأول:

ما رواه نافع عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فصه إلى باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه وقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل، فرمى به ثم قال: لا والله لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم (1)

وقد استشهد بهذا الحديث الفقهاء وأهل اللغة في حديثهم عن الاستصناع (2) وفي تفسيرهم مادة صنع (3) ، مع أنه حديث لم يرو في الصحاح، وإنما روى في كتاب النهاية في غريب الحديث (4) وعقب عليه صاحب الاعتبار بأنه حديث صحيح ثابت، وله طرق في الصحاح، وهو حديث نص في معنى الاستصناع.

الحديث الثاني:

الحديث الذي رواه البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم استصنع المنبر رواه عن أبي حازم بن دينار:(إن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر مم عوده فسألوه عن ذلك، فقال: والله لا أعرف مم هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة (امرأة قد سماها سهل) : مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا علَّمت الناس. فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها فوضعت ها هنا) (5)

إن حديث المنبر وإن استشهد به فقهاء الحنفية (6) إلا أنه لا يعتبر نصًّا صريحًا يدل على تجويز الرسول للاستصناع، لأن الروايات مختلفة في الصنع: أهو رغبة من الرسول وإنجاز من المرأة والغلام؟ وهذا لا يدل على أنه عقد استصناع أو هو عقد استصناع من الرسول نفسه نفذته المرأة؟

(1) كتاب الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ: أبو بكر محمد الحازمي الهمداني: ص231

(2)

فتح القدير: 6/242؛ ومجمع الأنهر: 2/106

(3)

ابن منظور: 2/481

(4)

النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير: 3/56

(5)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: 2/397، وعمدة القاري: 6/214

(6)

فتح القدير: 6/242، ومجمع الأنهر: 2/106

ص: 989

إجماع المسلمين على التعامل بالاستصناع:

وعلى كل فإن الاستصناع عند الحنفية لم يثبت بالسنة وحدها، بل ثبت بالإجماع، وإقرار الرسول لهذا النوع من العقود الذي اصطلح عليه العرب وتعاملوا به من الجاهلية، وجاء الإسلام فأقره، وتنوقل إقرار الرسول باستمرار المسلمين على التعامل به في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا، بدون نكير، وقد قال رسول الله:"إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"(1)

وقد ذكر مصطفى الزرقاء (2) أن بعض فقهاء الحنفية أطلقوا على هذا النوع من الإجماع: (استحسان الإجماع) وهو عدول عن مقتضى القياس إلى حكم آخر انعقد عليه الإجماع.

وتعامُلُ المسلمين بهذا النوع من العقود يسمى عندهم: إجماعًا عمليًّا، اعتبره الحنفية حجة، استنادًا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه. فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيِّء)) (3)

وكادت كتب الفقه الحنفي تجمع على جواز الاستصناع، مستندة في ذلك إلى السنة، والإجماع العملي، والاستحسان، إلا أن الإمام الكاساني زاد شيئًا آخر، مستندًا في ذلك إلى قاعدة، فقال: لأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا (4)

وبهذا نعلم أن المذهب الحنفي حل مشكلة الصناعات التي تطورت تطورًا غريبًا، واحتيج إليها في هذا الزمان أكثر من كل الأزمنة الماضية، لأن السلم والإجارة لا يحلان كل حاجيات هذا العصر في الصناعة والاستصناع، فهذا العقد بما أحيط به من شروط ومواصفات، قد سهل على الناس أبواب التعامل، ووفر لهم كل مقومات الحياة بلا مشقة ولا ضرر ولا غرر، مع اجتناب كل ما حرمه الله، ونصت الشريعة على بطلانه.

ولما كان هذا العقد يتماشى مع ما جاءت به الشريعة من حفظ الحاجيات، ورفع المشقة على الناس، تماشيًا مع قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5)

كان الحكم بجوازه لا يخالف منهج الشريعة الإسلامية، ولا يناقض أهدافها.

ومن الحنفية - كالحاكم الشهيد، والصفار، ومحمد بن سلمة - من ذهبوا إلى أن الاستصناع ليس عقدًا من عقود المعاودة، وإنما هو مواعدة تقوم على بيان ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلب، فإذا أنجز المطلوب منه وسلمه إلى الطالب فقبله، انعقد عند ذلك عقد البيع، بالتعاطي، لا قبله (6)

أما جمهور الحنفية فإنهم يعتبرون الاستصناع عقد بيع بعد الإيجاب والقبول، اعتمادًا على ما ذكره الإمام محمد رحمه الله من أنه عقد بيع وليس بمواعدة (7)

(1) سنن ابن ماجه: 2/1202.

(2)

المدخل الفقهي العام: 1/85

(3)

مسند الإمام أحمد: 1/379

(4)

بدائع الصنائع: 5/3

(5)

سورة الحج: الآية 78

(6)

موسوعة جمال عبد الناصر: 7/91

(7)

انظر في توجيه ذلك ما ورد في ص565

ص: 990

التعاقد على المعدوم وموقف الفقهاء منه وخاصةً الحنفية:

لما كان الاستصناع قائمًا على أساس التعامل بشيء غير موجود وقت العقد، والقاعدة المقررة في العقود اشتراط وجود المعقود عليه، لأن بيع المعدوم لا ينعقد، كان الاستصناع مثار جدل بين العلماء.

فمن اعتبر تعامل المسلمين بالاستصناع من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، من غير نكير، دليلًا على الجواز، اعتبر الاستصناع عقدًا مستثنى من القاعدة، كالسلم، لتعامل الناس به، استحسانًا، وهذا هو مذهب الحنفية.

ومن قال: إن الاستصناع عقد بيع اختل فيه شرط من شروط عقد البيع، وهو وجود المعقود عليه، حكم بعدم جوازه، لعدة أمور:

أولًا: لأنه بيع غرر يؤدي إلى المنازعة، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، للحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (1) واعتبروا الاستصناع، كبيع الثمرة التي لم تخلق، وبيع السمك في الماء: بيعًا فاسدًا.

ورد هذا من طرف من أجاز الاستصناع بأن الرسول لم ينه عن المعدوم، وإنما نهى عن الغرر، ومن المعدوم ما لا غرر في بيعه، لأنه ضبطت أوصافه في العقد، وفي الإمكان وجوده عادةً، وتعامل الناس به في السلم والاستصناع بلا نزاع، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان،فقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي عن حكيم ابن حزام، أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم ابتاعه له من السوق، ثم أبيعه: فقال لا تبع ما ليس عندك (2)

ورد هذا الاستدلال على المنع، من طرف المجيزين للاستصناع، فأنه: ليس بيع معدوم، لأن المادة الخام للمبيع تكون موجودة عادةً عند البائع، والمواصفات التي طلبها المشتري من الصانع هي سهلة التنفيذ عند الصناع عادةً، ولا ينجر بهذا النوع من التعامل غرر أو نزاع، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل الناس به، وأجمع المسلمون على جوازه.

وقال ابن قدامة من الحنابلة (3) : لا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه، رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا.

والاستصناع ليس من باب بيع، المعدوم، ولا من باب بيع غير المملوك وإنما ينطبق عليه حكم تأجيل قبض المبيع، كما إذا تم الاتفاق على أن يسلم البائع المبيع بعد مدة من الزمن، مع أن الاستصناع عقد أجازه أحد مصادر التشريع وهو الاستحسان، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع العقود التي جرى تعامل الناس بها، ما دامت محققة لمصالح المسلمين، وغير جالبة للنزاع والضرر، مستجيبة للكليات العامة التي نادت الشريعة بالمحافظة عليها.

(1) رواه مسلم: مختصر مسلم، للحافظ المنذري: رقم 939

(2)

نيل الأوطار، للشوكاني: 5/252، باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه [رواه الخمسة، وأخرج هذا الحديث ابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح]

(3)

الشرح الكبير مع المغنى: 4/19

ص: 991

الاستصناع في المذاهب الأخرى

المالكية:

يرى المالكية أن الاستصناع هو عقد سلم، تشترط فيه جميع شروط السلم. ولا يرونه عقدًا مستقلًّا بعنوان الاستصناع، ولكنهم يتكلمون عنه في حديثهم عن السلم، بعنوان السلم في الصناعات. قال الدردير: إن استصناع سيف أو ركاب من حداد، وسرج من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار، على صفة معلومة، بثمن معلوم، يجوز، وهو سلم تشترط فيه شروطه (1)

أما خليل في مختصره، فيقسم الاستصناع إلى قسمين:

الأول: هو ما كان العمل فيه دائمًا، ومثل له بقوله:(والشراء من دائم العمل كالخباز، هو بيع فهو استصناع ملحق بالبيع)(2)

الثاني: هو ما كان العمل فيه غير دائم، ومثل له بقوله:(وإن لم يدم، فسلم، كاستصناع سيف أو سرج، وهو عندئذ استصناع ملحق بالسلم تشترط فيه جميع شروط السلم)(3)

وإن عين المعمول منه (أي المصنوع) أو العامل (أي الصانع) فسد العقد، لأنه حينئذ صار معينًا لا في الذمة، وأصبح دينًا بدين، وشرط صحة السلم كون المسلم فيه دينًا في الذمة.

(1) الشرح الصغير: 3/287

(2)

كتاب مواهب الجليل (مختصر خليل) : 4/538 - 540

(3)

كتاب مواهب الجليل (مختصر خليل) : 4/538 - 540

ص: 992

وقال في المدونة: وإن اشترط أن يعمله هو بنفسه، أو اشترط عمل رجل بعينه؟ قال: لا يكون هذا سلفًا لأن هذا الرجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل، واشترط عليه عمل نفسه، وقدم نقده، فهو لا يدري أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أم لا؟ فهذا من الغرر: إن سلم عمله له، وإن لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا، فيكون هذا الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلًا.

ثم قال: وإن اشترط أن يعمل له من حديد قد أراه إياه أو ظواهر أو خشب أو نحاس قد أراه إياه؟ قال: لا يجوز ذلك لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الظواهر أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا. ولا يكون السلف في شيء بعينه، فذلك لا يجوز في قول مالك (1)

فالمالكية يعتبرون هذا العقد بيعًا معينًا، والحنفية يعتبرون بيعًا موصوفًا في الذمة.

وبهذا ندرك أن الأصل في هذا الموضوع هو اتفاقهم على صحة هذا النوع من التعامل الذي كان موجودًا من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الخلاف بينهم في تخريج هذا العقد: هل هو بيع، فتجري عليه أحكام البيع؟ أو هو سلم فتجرى عليه أحكام السلم؟ أو هو إجارة فتجرى عليه أحكام الإجارة؟

فالمالكية لم يخرجوا بهذا النوع من التعامل عن العقود المتعارفة والتي ضبطت شروطها وأركانها.

أما الحنفية فإنهم اعتبروا الاستصناع عقدًا جديدًا غير البيع والسلم والإجارة. وحاولوا أن يضبطوه بشروط من شأنها أن تحقق المصلحة المرجوة منه بدون مساس بأصول الشريعة وقواعدها، متجنبين كل ما من شأنه أن يكون سببًا في غرر أو ضرر أو مفسدة.

أما ابن رشد فقد ذكر في المقدمات أن ابن القاسم يقسم السلم في الصناعات إلى أربعة أقسام:

الأول: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله (أي الصانع) ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل، وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.

الثاني: أن يشترط عمله. ويعين ما يعمل منه، فليس هذا العقد بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة بالعمل في الشيء المبيع.

الثالث: أن لا يشترط عمله بعينه. ويعين ما يعمل منه، فهو أيضًا من باب البيع والإجارة في المبيع.

الرابع: أن يشترط عمل الصانع بعينه، ولا يعين ما يعمل منه، فلا يجوز على حال، لأنه عقد يجتذبه أصلان متناقضان: لزوم العقد، لكون ما يعمل منه مضمونًا، وامتناعه، لاشتراطه عمل المستعمل بعينه (2)

ويبدو أن ابن القاسم كان أكثر فقهاء المالكية وضوحًا في بيان أن المالكية لا تمنع تعامل الناس بالاستصناع، وإنما تسميه، حسب نوع التعامل: سلمًا، أو بيعًا، أو إجارة. وإذا كان هذا التعامل لا تتوفر فيه شروط السلم أو البيع أو الإجارة فإنها عند ذلك تمنع هذا النوع من التعامل.

(1) الشرح الصغير، للدردير: 3/233

(2)

المقدمات، لابن رشد: 2/32

ص: 993

في المذهب الشافعي:

الشافعية: ألحقوا الاستصناع بالسلم، كالمالكية، فيؤخذ تعريفه وأحكامه من السلم عند الكلام عن السلف في الشيء المسلم للغير من الصناعات، فإن كانت المادة من المستصنع فهي من باب الإجارة، وإن كانت من الصانع فهي من باب السلم

وغالب كتب الشافعية لم تفرد الاستصناع بحديث خاص، وإنما تحدثت عما يصنع ضمن حديثها عن مسائل باب السلم، وأكدوا على صفات المطلوب صنعه حتى لا يؤدي التعامل بها إلى الجهل المفضي إلى النزاع والخصومة والغرر.

فقد جاء في المهذب (1) : ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، وتضبط صفاته، ومثل لها بأشياء، من ضمنها ما يصنع، كالفخار والورق المصنوع وصبغ الغزل ونسجه.

ويقول النووي (2) ويجوز السلم في الزجاج والطين والجص والأبنية والأواني فيذكر نوعها وطولها وعرضها وغلظها.. كما يجوز السلم في الكاغد عددًا، ويبين نوعه وطوله، كما يجوز في الآجرّ على الأصح، وفي وجه لا يصح (لتأثير النار، لأن النار لا يمكن ضبطها في طبخ الآجرّ) .

وبهذا نعلم أن الشافعية يجيزون التعامل بالاستصناع على شروط معينة إذا ضبطت صفات المستصنع ضبطًا يزيل كل جهالة مفضية إلى النزاع، ولهذا أطال الشيخ النووي (3) في ذكر الأمثلة والأشياء التي يجوز فيها السلم، وما لا يجوز فيه السلم، معتمدًا في كل ذلك على ما تعورف ضبط صفاته، وقبل في التعامل بين الناس بدون نزاع. أما ما أفضى إلى نزاع أو غرر أو جهالة فقد منعه.

وهم لا يسمون هذا النوع من التعامل بالاستصناع، وإنما يسمونه، سلمًا.

وما اشتهر في كتب الفقه من أن المالكية والشافعية لا يجيزون الاستصناع يوهم بأنهم عطلوا هذا النوع من التعامل بين الناس وإباحة غيرهم، بينما القضية هي قضية تخريج، والتزام بمصطلحات معينة لكل مذهب لا تزيد عن تقييد هذا العقد بقيود جديدة، وتغير التسمية.

وإذا كان الشافعي لا يقول بالاستحسان الذي بموجبه أجاز الحنفية الاستصناع بل اعتبر أن "من استحسن فقد شرع" فليس معنى ذلك أنه لا يجيز هذا النوع من التعامل بل خرج هذا النوع من التعامل على أنه سلم بشروطه.

(1) المهذب، للشيرازي: 1/297

(2)

روضة الطالبين: 4/27 و 28

(3)

روضة الطالبين: 4/25 - 29

ص: 994

عند الحنابلة:

إن الحنابلة لم يقدموا الاستصناع في باب مستقل كما فعل الحنفية، وإنما تعرضوا إليه ضمن حديثهم عن السلم في الصناعات، كما فعل المالكية والشافعية.

فقد ذكر ابن قدامة عدة فصول بين فيها ما يصح فيه السلم مما يوزن ويكال، ومما يضبط بالصفة التي تختلف أثمانها بقيمتها حسب الصفات والمواصفات، ومن ضمنها الأشياء التي تصنع، وقال (1) : وتضبط الثياب بستة أوصاف: النوع: كتان أو قطن، والبلد، والطول والعرض، والصفاقة والرقة، والغلظ والدقة، والنعومة والخشونة.

ويوصف غزل القطن والكتان بالبلد واللون والغلظ والدقة والنعومة.

وقد أطلق الحنابلة التعامل بالسلم في كل الصناعات، متي توفرت شروط السلم المعروفة.

فإن فقد شرطٌ من الشروط المقررة في السلم عند الحنابلة، بطل العقد كما لا يصح اعتباره بيع استصناع لأنه يعتبر بائعًا ما ليس عنده على غير وجه السلم، وهو باطل كذلك (2)

فالحنابلة لا يمنعون تعامل المجتمع الإسلامي بالاستصناع. بل يبيحونه ولكن على اعتباره عقد سلم، يصح بما تصح به كل عقود السلم عندهم.

(1) المغني مع الشرح الكبير: 4/334

(2)

كشف القناع على متن الإقناع: للبهوتي: 3/133، والإنصاف، للمردوي: 4/300، والموسوعة الفقهية الكويتية: 3/321، وموسوعة جمال عبد الناصر: 7/92.

ص: 995

مقومات عقد الاستصناع عند الحنفية:

لقد ذكرنا فيما سبق أن الحنفية هم الذي يجيزون عقد الاستصناع، وهو عندهم عقد مستقل عن عقود البيع (1) ، ولكنه فقد بعض مستلزمات البيع، لأنه أشبه السلم من جهة، إذ هو كالسلم: بيع آجل بعاجل، لكنه يفترق عن السلم بأمور:

أولًا: لا يجب في الاستصناع تعجيل الثمن، بينما يجب في السلم التعجيل.

ثانيًا: لا يجب في الاستصناع بيان مدة الصنع والتسليم، بينما يجب ذلك في السلم.

ثالثًا: لا يجب كون المصنوع مما يوجد في الأسواق، بينما هو مشروط في السلم.

ويشبه الاستصناع الإجارة من جهة أخرى، من حيث أن الاستصناع بيع عمل كالإجارة، ويفترق عن الإجارة بشيئين:

الأول: أن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله، وهو محل البيع، بينما الأجير مكلف بخصوص العمل.

الثاني: الإجارة على الصنع محل العقد فيها هو العمل، بينما في الاستصناع محل العقد هو العين الموصوفة في الذمة (2) .

وقد عد السرخسي الاستصناع نوعًا من أنواع البيع، إذ قسمه إلى أربعة أنواع، قال: اعلم بأن البيوع أربعة:

الأول: بيع عين بثمن، وهو البيع المطلق.

الثاني: بيع دين في الذمة بثمن، وهو السلم.

الثالث: بيع عمل، العين فيه تبع، وهو الاستئجار.

الرابع: بيع عين، شرط فيه العمل، وهو الاستصناع (3)

والكاساني اعتبر الاستصناع بيعًا، فقال (4) : هو بيع، لكن للمشتري خيار الرؤية. وبهذا نعلم أن للاستصناع شبهًا بالإجارة من حيث أن فيه طلب الصنع، وهو العمل، وشبهًا بالبيع من حيث أن المقصود منه العين فلشبهه بالإجارة قلنا: يبطل بموت أحدهما، ولشبهه بالبيع وهو المقصود أجرينا فيه القياس والاستحسان، وأثبتنا خيار الرؤية (5) .

ولهذا قال في الذخيرة: هو إجارة ابتداءً، بيع انتهاءً، لكن قبل التسليم، فإذا مات الصانع قبل التسليم يبطل، ولا يستوفي المصنوع من تركته (6) .

وقد ذكر البابرتي صاحب العناية: أن أبا سعيد البردعي يقول: إن المعقود عليه هو العمل، وهو إجارة محضة (7) . واستدلوا بفعل الصباغ، فإن في الصبغ العمل والعين، وهو إجارة محضة.

(1) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/246، والكفاية، لجلال الدين الخوارزمي: 6/16

(2)

فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/246، والكفاية، لجلال الدين الخوارزمي: 6/16

(3)

المبسوط: 15/84

(4)

بدائع الصنائع: 5/3، والمبسوط: 15/85

(5)

العناية: للبابرتي: 6/243

(6)

العناية: للبابرتي: 6/243

(7)

فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/244 - 245

ص: 996

الاستصناع والمقاولات:

هذا وإن الاستصناع هو ضرب من ضروب ما يعرف في زماننا بالمقاولة، إذ المقاولة هي أن يتعهد أحد المتعاقدين بأن يصنع شيئًا للطرف الثاني، مقابل ثمن معين، فإن تعهد المقاول بتقديم العمل والمادة كان مقاولة في العرف، واستصناعًا في الشرع، وإن تعهد بتقديم العمل، كان مقاولة في العرف، وإجارة في الشرع.

وهكذا تكون المقاولة في القانون الوضعي أعم من الاستصناع في الشرع.

شروط الاستصناع العامة:

لما كان الاستصناع نوعًا من أنواع البيع اشترط فيه الفقهاء ما اشترطوا في عقود المعاوضات من شروط عامة، سواء منها ما يتفق بالانعقاد، أو بالنفاذ أو باللزوم، أو بالصحة. ومن ذلك (1)

1 -

التراضي به لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراضٍ" وهو أن يأتيا به اختيارًا، فإن كان أحدهما مكرهًا لم يصح (2)

2 -

أهلية المتعاقدين: وهو العقل والبلوغ عند الشافعية والحنابلة، مما يكون به مكلفًا رشيدًا، وهو العقد فقط عند الحنفية والمالكية، لأنهم جوزوا تصرف الصبي الذي يعقل. وكذلك جوز الحنابلة تصرف الصبي المميز، بإذن وليه (3)

3 -

أن يجري العقد بين اثنين فأكثر، لأن الواحد لا يصلح أن يكون عاقدًا من الجانبين (4)

4 -

أن يكون المبيع مالًا مملوكًا أو مأذونًا في بيعه، والمال هو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة كالكلب إذ منفعته مباحة للضرورة (5) . وقال الكاساني إنه منتفع حقيقة من مباح الانتفاع به شرعًا (6)

5 -

أن يكون القبول موافقًا للإيجاب.. بأن يقبل المشتري ما أوجبه البائع.

6 -

أن لا يفصل بين القبول والإيجاب فاصل يدل على الإعراض وعدم الرضا. وعند الحنفية يقيد بخيار المجلس، وأيٌّ قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب (7)

7 -

أن يكون المبيع موجودًا، مقدورًا على تسليمه، لنهي النبي عن بيع ما ليس عند الإنسان خلافًا لمن قال: إن بيع المعدوم جائز إذا لم يكن فيه غرر، واستحال تسليمه، لأن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض الحالات، إذا أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه في السلم.

8 -

أن يكون المبيع معلوما، برؤية، أو صفة تحصل بها معرفته، وكذلك الثمن يشترط فيه أن يكون معلومًا (8)

(1) رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين: 4/5

(2)

المقنع لابن قدامة: 2/4

(3)

المقنع، لابن قدامة: 2/4، ومواهب الجليل، للحطاب: 4/241، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي: 4/124، ورد المحتار على الدر المختار: 4/5

(4)

البدائع، للكاساني: 5/135

(5)

المقنع، لابن قدامة: 2/7، والكاساني: 5/143 و 146

(6)

البدائع، للكاساني: 5/147، والمغنى، لابن قدامة: 4/3

(7)

تبيين الحقائق: 4/4، والكاساني: 5/135 وما بعدها

(8)

البدائع للكاساني: 5/156، والمقنع: 2/11 و 16

ص: 997

شروط الاستصناع الخاصة:

ينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المتعاقدين، وهما المستصنع والصانع، ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللمعقود عليه: مصنوع.

أما الإيجاب والقبول فهو ما يتلفظ به العاقدان من عبارات تفيد رغبة مشتركة في تحقيق العقد (1)

فما صدر أولًا من أحد المتعاقدين فهو: الإيجاب، سواء كان بائعًا أو مشتريًا، وما صدر ثانيًا، فهو: القبول.

ولا يشترط في الصيغة عبارات معينة، بل كل ما يدل على رضا الجانبين، وقد مثل الفقهاء للصيغ بكلمة: اعمل لي أو أصنع لي، فيقول الصانع: قبلت، أو رضيت، أو كل لفظ يدل على الرضا عرفًا.

وهل يصح الاستصناع بالتعاطي، وهو: الأخذ والعطاء، بدون كلام؟

ظاهر المذهب الحنفي يقر التعاطي في العقود، في الخسيس والنفيس، إذا لم يصرح أحد المتعاقدين بعدم الرضا، وقد أفتوا بصحة التعاطي في الإقالة والإجارة والصرف (2)

والذي يظهر أن الاستصناع لما كان من شروطه بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره (3) ، والتعاطي لا يتحقق به هذا الشرط، فإن الاستصناع لا يصح بالتعاطي.

(1) البدائع: للكساني: 5/3

(2)

رد المحتار على الدر المختار: 4/12

(3)

البدائع، للكاساني: 5/3

ص: 998

وشرائط جوازه ثلاثة:

الأول: بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره ووصفه، لأنه لا يصير معلومًا بدونها (1) وزاد البعض (2) : وبكل ما يصير به معلومًا علمًا لا يؤدي إلى نزاع، مع العلم أن المعقود عليه في الاستصناع شيئان: العين والعمل، وعليهما انبنى هذا العقد. والبيان المقصود من هذا الشرط يكون في كل شيء بحسبه، ومن شأنه أن يزول به كل غموض، ويبعد به شبح النزاع.

والمقصود الأصلي في هذا العقد إنما هو العين، وهو مشهور المذهب الحنفي، وهو ما صرح به في الهداية (3) فقال: والمعقود عليه العين دون العمل. وقال الكمال بن الهمام: وهذا نفي لقول سعيد البردعي، إذ أن المعقود عليه العمل، لأن الاستصناع ينبئ عنه (4)

وقال السرخسي: والأصح أن المعقود عليه: المستصنع فيه، أي العين، وذكر الصنعة، أي العمل (5) ، لبيان الوصف، فإن المعقود عليه إنما هي العين بعد تكييفها بالعمل، حسب المواصفات التي طلبها المستصنع.

الثاني: أن يكون المراد صنعه مما يجري فيه التعامل بين الناس، ومثل له الكاساني بأواني الحديد والرصاص والنحاس والزجاج والخفاف والنعال ولُجم الحديد للدواب ونصول السيوف والسكاكين والقسي، ونحو ذلك.

ثم قال: ولا يجوز في الثياب، لأن القياس يأبى جوازه (6) ، أي أن هذه الأشياء جرى فيها التعامل بإجماع المسلمين، فأجيزت استحسانًا لا قياسًا، تيسيرًا على الناس، والثياب لم يثبت تعامل الناس به استصناعًا، فلا يثبت بالقياس.

والقاعدة فيما جرى فيه التعامل قد عبر عنها الكمال بن الهمام بقوله: فقصرنا جواز الاستصناع على ما فيه تعامل، وما لا تعامل فيه رجعنا فيه إلى القياس كأن يستصنع حائكًا أو خياطًا لينسج له أو يخيط قميصًا بغزل نفسه (7)

ومثل هذا المعنى ورد في الفتاوى الهندية (8)

وقال ابن عابدين: ما فيه تعامل استصناع، لأن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح (9) وهو مذهب الإمامين.

(1) بدائع الصنائع، للكاساني: 1/3، والموسوعة الفقهية: 3/328

(2)

موسوعة جمال عبد الناصر: 7/92

(3)

الهداية، للمرغيناني: 6/243

(4)

فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/243

(5)

المبسوط، للسرخسي:12/39

(6)

الكاساني، بدائع الصنائع: 5/3

(7)

فتح القدير: 6/242

(8)

الفتاوى الهندية، للعلامة نظام: 3/203

(9)

حاشية ابن عابدين: 4/212

ص: 999

وقال في مجمع الأنهر (1) : والاستصناع بلا أجل يصح استحسانًا فيما تعورف فيه. كخف وطست وغير ذلك من الأواني، وهو بيع، والقياس أن لا يصح لأنه بيع المعدوم، ووجه الاستحسان أن المستصنع فيه المعدوم يجعل موجودًا حكمًا، كطهارة المعذور. فنزل منزلة الإجماع للتعامل به من زمن النبي إلى يومنا هذا.. ولا يصح الاستصناع فيما لم يتعارف كالثوب، بحيث لو أمر حائكًا أن ينسج له ثيابًا بغزل من عنده، بدراهم، لم يجز، إذ لم يجر فيه التعامل، فيبقى على أصل القياس، وهو فساد بيع المعدوم. فإن شرط فيه الأجل فحينئذ يجوز بطريق السلم.

ولهذا لما ذكرت المجلة العثمانية في مادتها 389 شرط التعامل قالت: كل شيء تعومل باستصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضًا.

فكانت هذه المادة يناقض آخرها أولها، إذ جعلت قسمًا مما لم يتعامل باستصناعه مما لم تبين فيه المدة استصناعًا، مع أن تطبيق شرط التعامل يوجب الحكم بالفساد (2)

ولذلك ذكر شارح المجلة علي حيدر: إن ما جاء في آخر المادة 389 غير موافق لما في الكتب الفقهية، لأن الاستصناع إنما يجري في البلاد التي يكون فيها التعامل به، فلا يصح في غيرها، وهو ما اتفقت عليه كتب الفقه الحنفي بموجب شرط هو أن يجري فيه التعامل، فلا يصح في غيرها.

ويظهر أن تعامل الناس يتطور وينتشر من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، فلا يمكن أن نقف على ما يجري فيه التعامل عند قرن معين أو بلد معين أو بضاعة معينة، ما دامت حاجات الناس متطورة متغيرة، وإذا كان التعامل بالاستصناع في الماضي مقصورًا على بعض الحاجات فإنهم اليوم أصبحوا في أشد الحاجة إلى تعميم الاستصناع في حاجات جديدة، حتى استصناع السيارات والبواخر والأبنية.

(1) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، دمات أفندي: 2/107، وكذلك بدر المنتقى بشرح الملتقى: 2/107

(2)

درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/360

ص: 1000

وإذا كانت هذه الحاجة قد دفعت الفقهاء في الماضي إلى القول بتقديم القياس الخفي على القياس الجلي، وسموا هذا: استحسانا، وما ذهبوا إلى الاستحسان تشهيًا، بل راعوا فيه تيسير وسائل التعامل بين الناس، وقدروا حاجة التجار إلى هذا النوع من التعامل، واستخدموا قواعد أقرها الفقهاء أنفسهم: المشقة تجلب التيسير - إذا ضاق الأمر اتسع - الحاجة تتنزل منزلة الضرورة، عامة أو خاصة - العادة محكمة (1) فإن حاجة الناس إلى ذلك في عصرنا هذا أشد.

وفي نفس هذا الاتجاه يمكن أن نقر أشياء جديدة لم يجر التعامل بها في الماضي، ولكنها أصبحت في هذا الزمان مما يجري فيها التعامل بين الناس، بل عمت بلدانًا كثيرة نتيجة انتشار المصانع في كل مكان، وتزايد حاجات الناس، وسهولة الاتصال بين الشعوب. وسرعة التنقل.. على أن الأشياء التي مثل بها الفقهاء لم تذكر على سبيل الحصر، وإنما ذكرت لشرح ما يجوز فيه الاستصناع مما تعامل فيه الناس، ولذلك كانت الأمثلة تتغير في كتب الفقه من زمان إلى زمان.

ولهذا مثلت مجلة الأحكام العدلية بأشياء جيدة لم تذكر من قبل في كتب الفقه، واعتبرتها من الاستصناع الذي جرى به عمل الناس، فمثلت لذلك بالزورق وبالسفينة والبندقية (2) . كما مثلت موسوعة جمال عبد الناصر (3) .. بقطع الموبيليا والثياب والأحذية.. مع أن القدماء نصوا على أن الثياب لا يجوز فيه الاستصناع، وعللوا ذلك بعدم التعامل.

وهنا يجب أن يقول المجمع الفقهي كلمته في الأشياء المستحدثة التي لم يجر فيها التعامل من قبل، وعم التعامل فيها بين الناس حديثًا، كالآلات والمعدات والسفن والثياب وغيرها:

هل نحكم فيها بفساد العقود، اعتبارًا لأنها لم تكن مما تعامل الناس فيه، ونلتزم فيها ما قاله الفقهاء في الماضي إلى أبد الدهر، بدون التفات إلى تغير الزمان والأعراف والعادات، وأنه لا عبرة بما جرى عليه تعامل المسلمين في القرون الأخيرة.

ولماذا لا نقول إن الشرط في الاستصناع هو تعامل المسلمين في أي زمان من الأزمنة، وقول الرسول:"لا تجتمع أمتي على ضلالة" لا يتقيد بأي عصر من العصور، وأنه مهما تحقق تعامل الناس مع توفر بقية الشروط كان استصناعًا وما ذكر من الأشياء التي يجوز فيها الاستصناع إنما هو مجرد أمثلة. وهذا الاتجاه هو الذي يحقق ازدهار الصناعات التي انتشرت وعمت كل حاجيات الإنسان، وأصبح الحكم فيها بعدم الجواز لأن الناس لم يتعاملوا فيها من قبل حرجًا لا موجب له، ومنافيًا لما قامت عليه الشريعة من سد حاجيات الإنسان، وتيسير أموره، ما دامت مجموع شروط الاستصناع متوفرة فيها، ولا تتضمن غررًا ولا ضررًا.

(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: 1/126، والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص97، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر: 1/360

(2)

شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر - المادة 388

(3)

الموسوعة: 7/93

ص: 1001

الثالث: أن لا يكون فيه أجل:

وقد اختلف الحنفية في هذا الشرط: فأبو حنيفة (1) يقول بهذا الشرط لأنه يرى أنه إذا ذكر الأجل في عقد الاستصناع صار سلمًا، والأجل من شرائط السلم، مع العلم أن مراد الحنفية بالأجل عند إطلاقه هو شهر، والشهر يعتبر أقل أجل السلم.

فالذين يشترطون في الاستصناع أن لا يكون فيه أجل إنما يريدون الشهر فما فوق فإذا ذكر أجل دون الشهر فهو استصناع عند أبي حنيفة وصاحبيه، لأنه لا يصح أن يكون سلمًا.

وقد علل مذهب أبي حنيفة بأمرين:

الأمر الأول: أن السلم عقد على مبيع في الذمة مؤجل، فإذا ضرب الأجل في الاستصناع صار بمعنى السلم، ولو كانت الصيغة استصناعًا (2) والسلم بالأجل ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والاستصناع بالأجل ثابت في عرفهم فلا يحمل عليه (3)

الأمر الثاني: أن التأجيل يختص بالديون، لأنه وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه المطالبة، وليس ذلك إلا في السلم، إذ لا دين في الاستصناع (4)

وقال أبو يوسف ومحمد: عدم ضرب الأجل ليس بشرط، وهو استصناع على كل حال ضرب الأجل فيه أو لم يضرب، لأن اللفظ حقيقة فيه، فيحيط على مقتضاه (5) وذلك لأن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع. وإنما جاز للتعامل، لأن القصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة من المستصنع، فلا يخرج عن كونه استصناعًا، بينما القصد من السلم التأجيل فيه لتأخير المطالبة.

هذا ما عبر عنه البابرتي عندما قال: أما المذكور على سبيل الاستعجال بأن قال: على أن يفرغ غدًا أو بعد غد، فلا يصير سلمًا، لأنه ذكره حينئذ للفراغ لا لتأخير المطالبة بالتسليم (6)

وقد ذكر الهندواني قاعدة في التفرقة بين الآجال الاستعجالية والآجال الاستمهالية. فقال: إن ذكر المدة في الاستصناع: إن كان من قبل المستصنع فهو للاستعجال فلا يصير به سلمًا، وإن كان من قبل الصانع فهو سلم، لأنه يذكره على سبيل الاستمهال. وفيما إذا صار سلمًا يعتبر شرائط السلم (7)

(1) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/3

(2)

تحفة الفقهاء، للسمرقندي: 2/539

(3)

مجمع الأنهر، لدمات أفندي: 2/106

(4)

المبسوط، للسرخسي: 12/140

(5)

مجمع الأنهر، لدمات أفندي: 2/106

(6)

العناية، للبابرتي: 6/244

(7)

العناية، للبابرتي: 6/244

ص: 1002

ويبدو أن هذه التفرقة التي ذكرها الهندواني صحيحة إلى أبعد مدى، لأن ما تعارف عليه الناس في هذا العصر، وفي العصور الماضية أيضًا، أن الذي يطلب تحديد الأجل في الاستصناع إنما هو المستصنع الذي له رغبة في إحضار المصنوع والانتفاع به في أقرب وقت، فهو إذًا من الآجال الاستعجالية أما الصانع فليس من منفعته التعجيل، بل بالعكس، فهو لا يرغب إلا في الإمهال. وبذلك كانت الآجال الاستعجالية من خصائص الاستصناع، فلا تصير بها عقود الاستصناع سلمًا. أما إذا كانت الآجال من الصانع قصد الإمهال. فإن عقود الاستصناع تنقلب بها سلمًا، لأن الأجل في السلم إنما اشترط لإمهال المسلم إليه وهو ما شرع إلا ترفيهًا وتيسيرًا عليه من الاكتساب في المدة.

فمقصد الأجل في الاستصناع والسلم مختلف، فيمكن أن يوجد الأجل في كليهما ويبقى الاختلاف بارزًا بينهما، وهذا ما يرجح، في نظري، مذهب الإمامين في عدم اشتراط الأجل، وصحة الامتناع بذكر الأجل أو عدمه.

وقد لخص شارح المجلة العدلية علي حيدر مسائل الاستصناع في خمس صور ضبطها على الصورة التالية:

الأولى: إذا لم تبين المدة في الأشياء التي جرى التعامل باستصناعها، فالعقد عقد استصناع بالإجماع عند الحنفية.

الثانية: إذا كانت المدة أقل من شهر، أي لم تبلغ المدة التي يصح بها السلم، والأشياء مما جرى التعامل بها على الاستصناع، فهو كذلك عقد استصناع بالإجماع.

الثالثة: إذا كانت المدة المبينة في الأشياء التي تستصنع عادةً شهرًا أو أكثر من شهر، فهو عقد استصناع عند الصاحبين، وعقد سلم عند الإمام.

الرابعة: إذا كانت المدة لأقل من شهر، أي للأجل الذي يصح به السلم، والأشياء مما لم تستصنع عادةً، فهو سلم بالإجماع.

الخامسة: إذا لم تبين المدة في الأشياء التي لم يجر التعامل بها على وجه الاستصناع فهو عقد استصناع فاسد.

ص: 1003

الاستصناع في القانون الوضعي

لم يفرد القانون الوضعي مباحث خاصة بعقدي السلم والاستصناع، بل أدخلهما ضمن الأحكام العامة للبيع المطلق، إذ القانون أجاز للبائع أن يشترط تأجيل تسليم المبيع، كما أن بيع المعدوم الذي ينتظر وجوده في المستقبل جائز، لأنه في حكم الموجود ومن ذلك السلم والاستصناع.

أما الشريعة الإسلامية فقد أفردت لهما مباحث خاصة حيث أن السلم وارد بالنص أما الاستصناع فقد ثبت بالاستحسان عند الحنفية، وهو عقد له خصائص تميز بها عن غيره من العقود.

ولكن القانون الوضعي تكلم عن المقاولة بصفة تفصيلية والمقاولة في القانون الوضعي أعم من الاستصناع، لأن المقاولة كما تكون بتقديم المقاول العمل والمادة معًا وهو ما يسمى عند الحنفية بالاستصناع، كذلك تكون بتقديم الصانع العمل فقط، وهو ما يسمى في عرف الفقه بالإجارة عند عامة الفقهاء.

وقد ذكر السنهوري (1) عند حديثه عن المقاولة معايير تميز الفرع الثاني من المقاولة عن عقد العمل (الإجارة) فقال:

وتطبيقًا لهذا المعيار الأخير يكون كل من النجار والنقاش والحداد والسباك ومن إليهم مقاولًا، إذا هو تَعَاقَدَ مع صاحب العمل على صنع شيء معين يقوم بصنعه مستقلًّا عن رب العمل، ولا يخضع لإشرافه فيه، ولا يتلقى منه تعليمات، غير ما هو مذكور في العقد.

أما إذا قام بإشراف رب العمل وتحت إدارته، ويتلقى منه تعليمات يقوم بتنفيذها، فهو عقد عمل لا عقد مقاولة (2)

وذلك لأن تعريف (عقد العمل) في القانون المدني هو الذي يتعهد فيه أحد المتعاقدين أن يعمل في خدمة الآخر وتحت إرادته وإشرافه، مقابل أجر يتعهد به المتعاقد الآخر.

وتتميز المقاولة عن البيع في القانون الوضعي، بأن الأصل في عقد المقاولة هو العمل، والبيع يقع على الملكية، فالمقاولة على العمل فقط، هي الأصل، وهي مقاولة لا شبهة فيها.

أما إذا قدم الصانع المادة مع العمل، فهي اختلاط المقاولة بعقد آخر يقع على المادة، ويكون للصانع دوران: دور البائع الذي قدم المادة، وفي هذه الحالة يكون مسؤولًا عن جودة المادة، ودور المقاول الذي قدم العمل فالمادة إنما جاءت تابعة للعمل وتكون المقاولة ملزمة للصانع يصنع الشيء المطلوب، فتقع على العمل (3)

وهذا الرأي جعل الاستصناع عقد مقاولة على العمل يتماشى مع رأي أبي سعيد البردعي أحد فقهاء المذهب الحنفي، الذي يقول بأن الاستصناع يقع على العمل دون المادة، مع أن الرأي الصحيح عند الحنفية أن الاستصناع بيع لا إجارة (4)

(1) الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من 7/12

(2)

الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من: 7/12

(3)

الوسيط للسنهوري، الكتاب الأول من 7/25

(4)

العناية، للبابرتي، شرح الهداية: 6/243

ص: 1004

والإجارة المقصودة في هذا الباب المقاولة على خصوص العمل واعتبار الاستصناع عقد مقاولة واقعًا على العمل هو أحد آراء علماء القانون.

أما الرأي الثاني: فيرى أن الاستصناع (عقد المقاولة) هو بيع شيء مستقبل فهم يرون أن القصد من عقد المقاولة ليس هو العمل المكلف به الصانع، وإنما هو الشيء المصنوع، ولا يدخل في الاعتبار أن المقاول إنما تعاقد على العمل (1) وهذا الرأي يتفق مع وجهة نظر فقهاء الحنفية عند تقريرهم الاستصناع.

قال السنهوري: ولو كان المقاول قصد أن يبيع شيئًا مصنوعًا لجاز له أن يقدم لرب العمل شيئًا يكون قد صنعه قبل العقد، وهو إذا فعل وقبل منه رب العمل ذلك فإن ملكية هذا الشيء المصنوع من قبل لا تنتقل بموجب العقد الأصلي، وإنما تنتقل بموجب عقد جديد يكيف على أنه بيع لا لشيء مستقبل بل لشيء حاضر (2)

وقد علل الكاساني كما سبق (3) بنفس التعليل فقال: وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما.

الرأي الثالث: يرى أن الاستصناع يكون مقاولة وبيعًا بحسب نسبة قيمة المادة إلى قيمة العمل فإذا كانت قيمة المادة تفوق كثيرًا قيمة العمل كما إذا تعهد شخص بتوريد سيارة بعد أن يقوم فيها ببعض إصلاحات طفيفة، فالعقد بيع.

أما إذا كانت قيمة العمل تفوق كثيرًا قيمة المادة، كالرسام يورد القماش أو الورق الذي يرسم عليه، والألوان التي يرسم بها وهذه الخامات أقل بكثير من قيمة عمل الرسام، فالعقد مقاولة عمل، وبذلك أصبح هذا العقد عقدًا مختلطًا بين البيع والمقاولة.

وأما إذا تقاربت المادة والعمل، فيصبح العقد مزيجًا من بيع ومقاولة عمل، ويقع البيع على المادة وتسري أحكامه فيما يتعلق بها، وتقع المقاولة على العمل وتنطبق أحكامها عليه (4)

ويترتب على أن العقد مزيج من البيع والمقاولة: أن الشيء المصنوع تنتقل ملكيته إلى رب العمل بمجرد تمام صنعه، فإذا استولت عليه الإدارة مثلًا كان مستحقًّا لرب العمل لا للصانع، وإذا هلك الشيء المصنوع قبل التسليم فالهلاك على الصانع، وذلك تطبيقًا لأحكام البيع، ولكن الصانع يضمن العمل الذي أنجزه ضمان المقاول، وتسري هنا أحكام المقاولة لا أحكام البيع (5) ، ويبدو أن أصحاب هذا الرأي ابتعدوا عن معنى الاستصناع المتعارف، لأننا إذا غلبنا جانب البيع على جانب العمل فقد أهملنا كل ما يقتضيه العمل من مستلزمات، والعكس بالعكس وهذا من شأنه أن يحدث بعض الصعوبات في التطبيق عندما نهمل أحد جوانب العقد.

(1) الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من 7/26

(2)

الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من 7/26

(3)

بدائع الصنائع: 5/2

(4)

الوسيط، للسنهوري: 7/27

(5)

الوسيط، للسنهوري: 7/27

ص: 1005

نظرية القانون الوضعي في شروط الاستصناع:

قدمنا سابقًا أن القانون الوضعي جعل الحدث عن الاستصناع وأحكامه وشروطه ضمن الحديث عن المقاولة.

والمقاولة قائمة فيه على ثلاثة أركان شأنها شأن بقية العقود، وهي التراضي والمحل والسبب (1)

أما شروط التراضي فيقسمونها إلى قسمين:

الأول: شروط الانعقاد في التراضي.

والثاني: شروط الصحة في التراضي.

أما شروط الانعقاد فهي:

أولًا: توافق الإيجاب والقبول، بحيث يجب أن يتطابق الإيجاب والقبول على عناصر المقاولة، فيتم التراضي بين رب العمل والمقاول على ماهية العقد، والعمل الذي يؤديه المقاول لرب العمل، والأجر الذي يتقاضاه منه.

الثاني: التصميم والمقايسة ودفتر الشروط:

ومعنى هذا أن يكون عقد المقاولة مصحوبًا بتصميم يجري على مقتضاه العمل، والمقايسة ببيان مفصل عن الأعمال الواجب القيام بها، والأجرة الواجب دفعها، ودفتر الشروط.

والملاحظ أنه ليس من الضروري أن توجد كل هذه الوثائق منفصلة بعضها عن بعض بل الواجب وذكر كل المواصفات للأعمال المطلوبة بصفة واضحة (2)

وكل هذه الشروط يتفق فيها القانون الوضعي مع الشروط التي أثبتها علماء الفقه في الاستصناع، كما تقدم بيانه.

وأما شروط الصحة في التراضي فهي شروط صحة أي عقد آخر (3) وهي توافر الأهلية الواجبة، وسلامة التراضي من عيوب الإرادة، فإذا كان التراضي صادرًا عن ناقص الأهلية رب العمل، أو المقاول أو كليهما، كالقاصر أو المحجور عليه لسفه أو غفلة فليس أهلًا لإبرام عقد المقاولة، وإذا أبرم العقد من أحدهما أو كليهما كانت المقاولة قابلة للإبطال.

كل هذه الشروط تتفق في روحها ومعناها مع شروط الصحة التي اشترطها علماء الفقه الإسلامي في الاستصناع وبقية عقود البيع.

(1) الوسيط، للسنهوري: 7/36

(2)

الوسيط، للسنهوري: 7/39

(3)

الوسيط، للسنهوري: 7/47 - 48

ص: 1006

شروط المحل:

أما شروط المحل في المقاولة، فهي مزدوجة بين المقاول ورب العمل، فالنسبة إلى المقاول هو العمل المتعاقد على تأديته.

وبالنسبة لرب العمل: الأجر الذي تعهد بدفعه للمقاول.

والشروط الواجب توافرها في العمل هي:

1-

أن يكون العمل ممكنًا.

2-

أن يكون معينًا أو قابلًا للعيين.

3-

أن يكون مشروعًا.

أما الأجر فهو المال الذي يلتزم رب العمل بإعطائه للمقاول في مقابل قيام هذا الأخير بالعمل المعهود إليه.

ويشترط في الأجر شروط ثلاثة:

أولًا: أن يكون الأجر موجودًا في عقد المقاولة، وإلا كان العقد من عقود التبرع.

ثانيًا: أن يكون الأجر معينًا أو قابلًا للتعيين حسب ما يتفق عليه المتعاقدان.

وقد يحدد أنه بموجب مقايسة، أو على أساس وحدة القياس (1)

وبقية الشروط والتفاصيل الواردة في القانون الوضعي لا تختلف عن الأركان أو الشروط التي ضبطها الفقه الإسلامي، سوى في طريقة العرض، والاستشهاد بأمثلة من واقعنا المعين، وكيفية تطبيق القواعد عليها، مما جعل القانون الوضعي في خصوص باب الاستصناع أو المقاولة أكثر شمولًا ووضوحًا في ضبط مسائل هذا الباب.

(1) الوسيط، للسنهوري: 7/59 - 63

ص: 1007

عقد الاستصناع بين الإلزام وعدمه

الالتزام أثر عام لجميع العقود فما من عقد صحيح إلا وينشئ التزامًا معينًا على أحد عاقديه أو التزامات متقابلة معينة بينهما، وموزعة عليهما، هي من الآثار الخاصة للعقد (1)

وهناك فرق بين اللزوم والالتزام:

فاللزوم أمر يقرره المشروع إذا توفرت شروط معينة في التصرف.

أما الالتزام فهو ما يقرره الشخص باختياره ابتداء. وأثره المباشر شغل ذمته بأمر (2)

وقد قسم الفقهاء العقود إلى نوعين: عقود لازمة، وعقود غير لازمة.

أما العقود اللازمة فأنواع ثلاثة:

الأول: عقود لازمة بحق الطرفين، ولا تقبل الفسخ بطريق الإقالة كالزواج.

الثاني: عقود لازمة بحق الطرفين، وتقبل الفسخ بطريق الإقالة، كالبيع والصلح.

الثالث: العقود اللازمة بحق أحد الطرفين، كالرهن والكفالة.

أما العقود غير اللازمة فهي تسعة عقود قسمت إلى ثلاثة أنواع بحسب كون عدم اللزوم فيها مطلقًا أو مقيدًا، وكونه أصليًّا أو استثنائيًّا (3)

النوع الأول: عقود غير لازمة مطلقًا في حق كلا الطرفين، وهي ثلاثة: الإيداع والإعارة والمضاربة والشركة. (4)

فالإيداع مثلًا عقد يرد على حفظ الشيء لدى غير صاحبه، فلكل من الطرفين، أعني: المودع والوديع المكلف بالحفظ، أن يفسخ عقد الإيداع بمحض إرادته. ذلك لأن المودع مستعين بغيره على الحفظ، فله أن يترك هذه الاستعانة متى شاء. ولأن الوديع متطوع بالمعونة في هذا الحفظ، فله أن يتخلى عن هذه المعونة متى شاء.

النوع الثاني: عقود الأصل فيها عدم اللزوم، ولكنها تلزم في بعض الأحوال، وهي أربعة: الوكالة والتحكيم والوصية والهبة (5)

فالوكالة مثلًا عقد يفوض به الإنسان غيره وينيبه عن نفسه في التصرف. فلكل من الطرفين أن يفسخ عقدها متى شاء، إلا إذا تعلق بها حق شخص ثالث فتصبح لازمة.

ويمتنع فيها العزل والفسخ بلا رضا ذلك الشخص.

(1) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/436

(2)

نظرية الالتزام، للعطار: ص18

(3)

المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457

(4)

المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457

(5)

المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457

ص: 1008

النوع الثالث: عقود الأصل فيها اللزوم ولكن في طبيعتها شيئًا من عدم اللزوم في ظروف محدودة. وجملة عقوده اثنان هما الإجارة والمزارعة.

فالإجارة مثلًا الأصل فيها اللزوم في حق المتعاقدين فيجبر الطرفان على تنفيذها غير أن فقهاءنا قرروا فيها جواز العدول والفسخ بالأعذار الطارئة، إذ يكون تنفيذ الإجارة عندئذ إهدارًا ماليًّا أو إصرارًا غير معقول. وعندئذ يلزم، المستأجر تعويض الضرر على الطرف الآخر إذا فوجئ بالفسخ بعد أن كلفه ما كلفه التهيؤ للعمل من مال ووقت أو تعطيل (1)

وقد عد مصطفى الزرقاء عقد الاستصناع عقدًا عاشرًا منفردًا عن بقية العقود المتقدمة غير اللازمة، لأن الاستصناع يعتبر في أصل المذهب الحنفي غير لازم، وأصبح بمقتضى نصوص مجلة الأحكام العثمانية لازمًا حسب المادة 392، في حق الطرفين، منذ انعقاده (2)

ويبدو أنه لا خلاف بين الحنفية في أن عقد الاستصناع غير لازم في مرحلة ما قبل الصنع، وكلام صاحب البدائع (3) صريح في هذا المعنى، حيث قال: إنه عقد غير لازم قبل العمل في الجانبين جميعًا بلا خلاف، حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل، وقد علل عدم لزوم العقد قبل العمل (4) بأن الاستصناع جاء على خلاف القياس، فلم يشترط فيه اللزوم الذي اشترط في العقود التي جاءت على أصل القياس. وزاد في موسوعة جمال (5) عبد الناصر تعليلًا آخر وهو أن إلزام الصانع بالمضي، فيه ضرر له من ناحية أنه إتلاف لماله في عمل المطلوب، وقد لا يرضى المستصنع، فكان له أن يفسخ ولا يمضي، أما المستصنع فلأنه قد اشترى ما لم يره فكان له الخيار في الفسخ قبل الرؤية.

ونفس هذا التعليل الأخير ذكر في الموسوعة الفقهية (6)

وأما مجلة الأحكام العثمانية فإنها أقر في فصلها 392 (7) لزوم العقد مطلقا، فقالت: وإذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة كان المستصنع مخيرًا.

ويبدو أن ما ذهبت إليه المجلة أصبح هو المتعارف في عقود الاستصناع والمقاولات المدنية، اعتمادًا على رأي أبي يوسف، مع الملاحظ أن المذكور في كتب الفقه أن رأي أبي يوسف خاص بما إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المشروطة. ولم يتعرض إلى لزوم العقد قبل العمل.

وقد علق مصطفى الزرقاء على هذا التعميم (8) بأن المجلة اتخذت رأي أبي يوسف أساسًا، وتوسعت فيه بتعميم اللزوم حسب المصلحة الزمنية، وهذا ما أيدته لجنة الموسوعة الفقهية (9) التي قالت:

(1) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457

(2)

المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/456

(3)

البدائع، الكاساني: 5/3

(4)

البدائع، للكاساني: 5/3

(5)

موسوعة عبد الناصر: 7/93 - 94، والموسوعة الفقهية: 3/329

(6)

الموسوعة الفقهية: 3/329

(7)

مجلة الأحكام العثمانية: 1/361

(8)

المدخل الفقهي العام، للزرقاء: 1/457

(9)

الموسوعة الفقهية: 3/329

ص: 1009

واللجنة ترجح رأي أبي يوسف الذي أخذت به المجلة، وترى لزوم عقد الاستصناع، لما يترتب على استقلال أحد الطرفين بفسخه من المضار، إلا إذا جاء على خلاف الوصف.

وهذا نفس التعليل الذي ذكره شارح المجلة علي حيدر حيث قال (1) : لأنه لو جُعل خيار للمستصنع لَلَحِقَ بالبائع أضرار، لأنه قد لا يرغب في المصنوع أحد غير المستصنع.

وقد جاء في التقرير الهمايوني للمجلة العثمانية (2) التنبيه على ترجيح قول أبي يوسف في الاستصناع، وعند الإمام الأعظم للمستصنع الرجوع بعد عقد الاستصناع. وعند الإمام أبي يوسف رحمة الله عليه أنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمن قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها البواخر والمدافع ونحوها بالمقاولة. وبهذا صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة، لذلك لزم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله في هذا مراعاة لمصلحة الوقت.

ورأيي أن ما اعتمدته المجلة هو الذي يحقق المصلحة المرجوة من تجويز عقد الاستصناع، وأن إبقاء الخيار لهما ربما كان في الماضي يحقق مصلحة الطرفين، عندما كان الاستصناع يتوجه إلى أشياء صغيرة وقليلة الأهمية، وهذا يظهر من أمثلة عقود الاستصناع التي أشارت إليها كتب الفقه في الماضي.

أما وقد أصبحت هذه العقود تجري في أشياء ذات أهمية كبيرة، وتمثل مبالغ مالية طائلة، وتحقق أهدافًا اقتصادية في أعلى مستوى فلا يجوز أن تبقى على الخيار بين الطرفين.

أما إذا فرغ الصانع من عمله، فلذلك حالتان:

(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/361

(2)

مجلة الأحكام العثمانية: 1/12

ص: 1010

الأولى: ما قبل الرؤية: فقد ذكر في الأصل للإمام محمد عدم لزوم العقد بالنسبة للطرفين أيضًا. ذلك لأنه بالنسبة إلى المستصنع يرى أنه شراء لما لم يره، فكان له الفسخ وبالنسبة إلى الصانع، يرى أن العقد لم يقع على هذا المصنوع عينًا، إنما وقع على المبيع في الذمة، وإنما يتعين المصنوع محلًّا للعقد إذا ما رآه المستصنع فرضي به، ألا ترى أن الصانع لو باع المصنوع إلى غير المستصنع جاز بيعه وليس للمستصنع أن يعترض أو ينقض البيع؟.

وهذا الرأي هو الذي اعتمد في التحفة (1) وفتح القدير (2) والبدائع (3) وعلله الكاساني بأن العقد ما وقع على عين المعمول، بل على مثله في الذمة لأنه لو اشترى من مكان آخر وسلم إليه جاز، ونسب هذا القول لأبي حنيفة وصاحبيه.

الثانية: إذا قدم الصانع العمل إلى المستصنع:

فإما أن يقدمه موافقًا لكل المواصفات أو لا: فالأول يسقط معه خيار الصانع ويبقى خيار المستصنع.

أما سقوط خيار الصانع فلأنه بإحضار المصنوع إلى المستصنع على الصفة المشروطة تعين أن يكون بائعًا وليس للبائع خيار رؤية.

وهذا بخلاف حال المستصنع فإن له الخيار لأنه لا يزال مشتريًا لما لم يره وجاء في البدائع: أما إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة، فقد سقط خيار الصانع وللمستصنع الخيار، لأن الصانع بائع، فلا خيار له، أما المستصنع فمشتري ما لم يره، فكان له الخيار.. ولأن الصانع بالإحضار أسقط حق نفسه فبقي خيار صاحبه على حاله.

ثم قال الكاساني (4) وهذا ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وصاحبيه.. وروي عن أبي حنيفة أن لكل واحد منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعًا.

(1) التحفة: 2/629

(2)

فتح القدير: 6/243

(3)

الكاساني: بدائع الصنائع: 5/3

(4)

بدائع الصنائع، للكاساني: 5/4

ص: 1011

ووجه رواية أبي يوسف أن الصانع قد أفسد متاعه، وقطع جلده، وجاء بالعمل على الصفة المشروطة، فلو كان للمستصنع الامتناع من أخذه لكان فيه إضرار بالصانع، لأن غيره لا يشتريه بمثله.

ويظهر أن مذهب أبي يوسف هو الذي عليه عمل الناس في هذا الزمان في أكثر بلاد العالم، وهو نفس ما ذهبت إليه المجلة العثمانية، وهو ما جاءت به القوانين الوضعية وسارت عليه عقود المقاولين في كل المعاملات.

وعلى رأي أبي يوسف يمكن أن تستمر هذه العقود وتتطور وينجر من وراء ذلك أن تنشط الصناعات، وتنمو وتزدهر، وأن يقوم إنتاجها على تخطيط مدروس، حسب طلبات ملزمة للجانبين.

أما إثبات الخيار للطرفين على مذهب أبي حنيفة، فمن شأنه أن يؤدي إلى عرقلة النمو الاقتصادي، وقد يصبح حجر عثرة في تطور عجلة الإنتاج، مهما التمس الفقهاء من مبررات لتأييد مذهبه.

وقد علل صاحب بدائع الصنائع (1) رواية أبي حنيفة التي تعطي التخيير للجانبين بأنها: دفع الضرر عن الصانع، وأنه واجب.

وجاء في فتح القدير (2) : أما بعدما رآه المستصنع، فالأصح أنه لا خيار للصانع، بل إذا قبله المستصنع أجبر على دفعه، لأنه بالآخرة بائع.

وبمثل هذا المعنى صرح صاحب العناية (3) فقال: ومن هو كذلك فله الخيار كما تقدم، ولا خيار للصانع، كذا ذكر في المبسوط فيجبر على العمل لأنه بائع باع من لم يره.

ومن هو كذلك لا خيار له وهو الأصح، بناء على جعله بيعًا لا عدة.

والثاني: وهو أن يكون العمل غير موافق للمواصفات التي وقع التعاقد عليها، فالمستصنع غير ملزم بالاستلام، ولا هو ملزم بدفع الثمن، لأن العقد إنما كان تلبية لرغبة المستصنع، ودفعًا لحاجته، لثبوت خيار فوات الوصف قال في شرح مجلة الأحكام: وإذا كان المصنوع غير موافق للأوصاف المطلوبة.

فإن كان النقص الموجود فيه من قبيل العيب فللمستصنع خيار العيب.

وإن كان من قبيل الوصف، فله خيار الوصف، إن شاء قبله وإن شاء رده، ومتى قبله بعد رؤيته فليس له رده (4)

(1) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/4

(2)

فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/244

(3)

العناية، للبابرتي: 6/244

(4)

درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/321

ص: 1012

خيار الرؤية

شرعية خيار الرؤية:

لقد تقدم أن الصانع إذا قدم المصنوع للمستصنع فله خيار الرؤية على مذهب أبي حنيفة، خلافًا لأبي يوسف الذي لا يثبت له هذا الخيار ما دام متمتعًا بخيار الوصف إذا كان المصنوع غير موافق للأوصاف المطلوبة، وخيار العيب إذا كان النقص من قبيل العيب.

وقول أبي يوسف هذا يشبه كثيرًا قول المالكية بجواز بيع الغائب على الصفة، إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير صفته قبل القبض فإذا جاء على الصفة المذكورة كان البيع لازمًا، إذ أن هذا يعتبر من الغرر اليسير وإن خالف الصفة المتفق عليها فللمشتري خيار الصفة (1)

وقلنا فيما مضى: إن العين في الاستصناع لم تكن معدومة، ولكنها مملوكة للبائع، وتسلم له حسب الأوصاف التي طلبها المستصنع.

والحنفية يجوزون بيع العين الغائبة من غير رؤية ولا وصف، فإذا رآها المشتري كان له الخيار، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده.

وكذلك المبيع على الصفة يثبت فيه خيار الرؤية.

وإذا كان للمشتري خيار الرؤية فلا غرر عليه، ولا تؤدي الجهالة إلى النزاع مطلقًا.

واستدلوا بالحديث الذي أخرجه الدارقطني في سننه مسندًا.. عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار، إذا رآه)) ورواه البيهقي والدارقطني في سننيهما بزيادة: ((إن شاء أخذه وإن شاء رده)) (2) مرسلًا.

ويؤيده ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه باع أرضًا بالبصرة من طلحة بن عبيد الله، فقيل لطلحة بن عبيد الله: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره، وقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار، لأني بعت ما لم أره فحكما بينهما جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، أخرجه الطحاوي،وفي رواية البيهقي عن علقمة بن أبي وقاص زاد ولا خيار لعثمان. انتهى (3)

(1) بداية المجتهد، لابن رشد: 2/154، الشرح الكبير، للدردير: 3/35

(2)

نصب الراية لأحاديث الهداية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي: 4/9

(3)

نصب الراية لأحاديث الهداية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي: 4/9،10

ص: 1013

وجاء في فتح القدير: "من اشترى شيئًا لم يره فله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع ثمنه، وإن شاء رده سواء رآه على الصفة التي وصفت له أو على خلافها (1)

وقال في الفتاوى الهندية (2) نقلًا عن الجوهرة النيرة: وخيار الرؤية يثبت حكمًا لا بالشروط. ثم قال: وخيار الرؤية لا يمنع ثبوت الملك في البدلين، ولكن يمنع اللزوم. كذا في محيط السرخسي.

ومن باع ما لم يره، كأن ورث عينًا من الأعيان في بلدة أخرى، فباعها قبل أن يراها، فلا خيار له (3) ، لأن المالك يعرف ما يملكه عادةً، فلا ضرورة لثبوت الخيار له.

فإذا باع ما لم يره، وهو أمر نادر، كان مقصرًا في حقه نفسه، فلا يستحق المطالبة بفسخ العقد، أما المتملك إن لم يتمكن من رؤية محل العقد ولم يجد سبيلا إليه، كان من المصلحة منحه الخيار (4)

وخيار الرؤية يثبت في أربعة مواضع: البيع الصحيح والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال على شيء بعينه، لأن كلًّا منهما معاوضة فليس في ديون النقود عقود لا تنفسخ كالمهر وبدل الصلح (5) والاستصناع نوع من أنواع البيوع.

(1) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 5/530

(2)

الفتاوى الهندية، للعلامة نظام: 3/58

(3)

فتح القدير، للكمال بن الهمام: 5/533

(4)

الفقه الإسلامي وأدلته، لوهبة الزحيلي: 4/269

(5)

ابن عابدين: 4/63

ص: 1014

وقت ثبوت الخيار:

يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه لا قبلها، فلو أجاز العقد قبل الرؤية لا يلزم العقد ولا يسقط الخيار، وله أن يرد المعقود عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية.

أما لو فسخ العقد قبل الرؤية صح الفسخ، لا من أجل الخيار وإنما لأن العقد غير لازم وغير اللازم يجوز فسخه، كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (1) . وقد تقدم أن الاستصناع عقد غير لازم عند أبي حنيفة، فيجوز فسخه، وهو عقد لازم عند أبي يوسف فلا يجوز فسخه. كما لا يثبت فيه خيار الرؤية.

شروط ثبوت الخيار:

الأول: أن يكون المبيع مما يتعين بالتعيين أو مشخصًا عن الأعيان، كالأرض والدار والدابة والسيارة، إذا وصفت بما ينفي عنها الجهالة المفضية إلى النزاع، لأن للناس أغراضًا خاصة في الأعيان فيثبت الخيار لينظر المتملك هل يصلح له أم لا. ويظل له الخيار ولو وافق الوصف عند الحنفية (2)

فإن كان مما لا يتعين بالتعيين لا يثبت فيه الخيار، حتى أنهما لو تبايعا عينًا بعين يثبت الخيار لكل واحد منهما، ولو تبايعا دينًا بدين لا يثبت الخيار لواحد منهما، ولو اشترى عينًا بدين فللمشتري الخيار ولا للبائع (3)

الثاني: عدم الرؤية أي أن تكون العين التي بيعت لم يرها المشتري عند البيع، فإن اشتراه وهو يراه فلا خيار له، لأن الأصل هو لزوم العقد وانبرامه، لأن ركن العقد وجد مطلقًا عن شرط.

وإن كان المشتري لم يره وقت الشراء ولكن قد رآه قبل ذلك، نظر في ذلك:

إن كان المبيع وقت الشراء على الحالة التي كان عليها لم تتغير، فلا خيار له، لأن الخيار ثبت معدولًا به عن الأصل بالنص الوارد في شراء ما لم يره، وهذا قد اشترى شيئًا قد رآه فلا يثبت له الخيار.

وإن كان قد تغير عن حالته، فله الخيار، لأنه إذا تغير عن حالته فقد صار شيئًا آخر، فكان مشتريًا شيئًا لم يره، فله الخيار إذا رآه (4)

(1) البدائع: 5/295 والفقه الإسلامي وأدلته: 4/269

(2)

الفقه الإسلامي وأدلته: 4/270

(3)

بدائع الصنائع، للكاساني: 5/292

(4)

بدائع الصنائع، للكاساني: 5/292 - 293

ص: 1015

كيفية الرؤية:

الرؤية قد تكون لجميع المعقود عليه، وقد تكون الرؤية لبعضه والضابط فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (1) . وذلك بأي حاسة من الحواس، حسب طبيعة محل العقد، فإن كان من المطعومات يكون العلم به بالذوق، وإن كان من المشمومات كانت معرفته بالشم، وإن كان من المرئيات فيكتفي بوصف الشيء وصفًا كافيًا.

ويجوز عند الحنفية للبصير والأعمى التوكيل بالنظر والرؤية (2)

وقال الكمال بن الهمام: والمراد بالرؤية في الحديث: العلم بالمقصود.. فلا يكتفي بالرؤية في مثل ما إذا كان المبيع ما يعرف بالشم كمسك اشتراه وهو يراه، فإنه إنما يثبت الخيار له عند شمه، فله الفسخ عند شمه بعد رؤيته، وكذا لو رأى شيئًا ثم اشتراه فوجده متغيرًا، لأن تلك الرؤية غير معروفة للمقصود الآن، وكذا اشتراء الأعمى يثبت له الخيار عند الوصف له، فأقيم الوصف مقام الرؤية (3)

وبناء على ذلك لا يكفي رؤية بيت من دار بل له حق الخيار حتى يطلع على الدار كلها ولا يكفي رؤية شاة من قطيع بل له الخيار حتى يرى القطيع كله.

وإذا كان المبيع عدديًّا كالثياب والنعال فلا يكفي رؤية البعض، بل له الخيار إلى أن يرى الكل.

وإذا كان المبيع من المثليات التي تباع كيلًا أو وزنًا أو كان مغيبًا في الأرض كالثوم والبصل فيكتفي برؤية بعض الأجزاء والوحدات ويرونه بعض النماذج.

(1) البدائع: 5/293، والدر المختار: 4/68

(2)

البدائع: 5/295

(3)

فتح القدير: 5/332

ص: 1016

وقت ثبوت خيار الرؤية ومدته:

سبق أن وقت ثبوت الخيار هو وقت الرؤية لا قبلها، حتى لو أجاز قبل الرؤية ورضي به صريحًا، بأن قال: أجزت أو رضيت أو ما يجري هذا المجرى، ثم رآه فله أن يرده (1)

أما مدته فالأصح عند الحنفية أن خيار الرؤية يثبت مطلقًا في جميع العمر إلى أن يوجد ما يسقطه، أي أنه لا يتوقت بوقت، بل متى ثبت فإنه يستمر إلى أن يحدث ما يسقطه، لأنه حق من الحقوق، والحقوق لا تسقط إلا بإسقاطها، أو بانتهاء الأمد المحدد لها، ولأن سببه اختلال الرضا، والحكم يبقى سببه.

مسقطات خيار الرؤية:

ما يسقط به الخيار بعد ثبوته ويلزم البيع في الأصل نوعان:

اختياري وضروري:

الأول: الاختياري نوعان: صريح وما يجري مجرى الصريح (2)

1-

الصريح: يكون التصريح بالرضا والاختيار ممن له خيار الرؤية أو ما يقوم مقام التصريح سواء علم البائع أو لم يعلم، لأن الأصل في البيع المطلق اللزوم والامتناع عن اللزوم لخلل في الرضا فإذا أجاز ورضي فقد زال المانع (3)

2-

ما يجري مجرى الصريح، وهو الدلالة على الرضا بأن يوجد من المشتري تصرف في المبيع بعد الرؤية دليل الرضا، بلزوم البيع، لأن القبض شبهًا بالعقد، فكان القبض بعد الرؤية كالعقد بعد الرؤية وذلك الرضا (4) .

وهذا كأن يعرض المشتري السلعة للبيع أو يبيع بعضها، فعندئذ يسقط خياره عن الباقي، ويلزم البيع فيه كله.

الثاني: الضروري في خيار الرؤية:

كل ما يسقط به الخيار ويلزم البيع من غير صنعه، نحو موت المشتري وكذا أجازه أحد الشريكين فيما اشترياه دون صاحبه عند أبي حنيفة.

وكذا إذا هلك بعضه أو انتقص، بأن تغيب بآفة سماوية أو بعمل أجنبي أو بفعل البائع، أو ازداد في يد المشتري زيادة منفصلة أو متصلة (5)

(1) البدائع: 5/295

(2)

البدائع: 5/295

(3)

البدائع: 5/295

(4)

البدائع: 5/295

(5)

البدائع: 5/296

ص: 1017

أثر خيار الرؤية:

يكون العقد الوارد على العين الغائبة أو غير المرئية غير لازم لمن ثبت له الخيار فيخير بين الفسخ والإجازة عند رؤية المعقود عليه، لأن عدم الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف المعقود عليه تؤثر في رضا المتملك فيثبت له الخيار، سواءً كان المعقود عيه موافقًا للوصف المتفق عليه أو مخالفًا له، وهذا مذهب الحنفية (1)

ولا أثر لخيار الرؤية في نقل الملكية في البدلين، أي لا أثر لخيار الرؤية على العقد، فتنتقل ملكية المعقود عليه للمتملك، وملكية العوض للممالك، فور تمام العقد بالإيجاب والقبول.

اختلاف المتعاقدين في الرؤية:

ولو اختلفا في التغير وعدمه، فقال البائع: لم يتغير، وقال المشتري: قد تغير، فالقول قول البائع، لأن الأصل عدم التغير، والتغير عار، فكان البائع مستمسكًا بالأصل، والمشتري مدعيًا أمرًا عارضًا فكان القول قول البائع مع يمينه إلا إذا طالت المدة فالقول للمشتري، بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية والمشتري ينكرها فالقول للمشتري مع يمينه (2)

اختلاف المتعاقدين في الاستصناع:

يجري في عقد الاستصناع ما يجري في بقية عقود البيع من أحكام، سواء ما يتعلق بأصل العقد، أو ما يتعلق بالالتزامات التي تحدث بين المستصنع والصانع. ويسري على الاستصناع ما يسري على كل المعاوضات المالية من أحكام إلا ما نص عليه الفقهاء من خصوصيات.

فإن اختلفا في المصنوع، فقال المستصنع: لم تفعل ما أمرتك، وقال الصانع: بل فعلت، قالوا: لا يمين لأحدهما على الآخر، ولو ادعى الصانع على رجل: إنك استصنعت إلي في كذا، وأنكر المدعى عليه لا يحلف (3)

والقول قول المستصنع، لأن الإذن يستفاد من جهة المستصنع (4)

وإن قال المستصنع: بهذا أمرتك، ولكن لا أريده، كان له ذلك، لأن الخيار ثابت له بعدم الرؤية عند أبي حنيفة، وهو ملزم به عند أبي يوسف، لأنه أتى به طبق المواصفات.

(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/272، والبدائع: 5/292

(2)

فتح القدير: 5/544، والفتاوى الهندية: 3/56 - 57، والبدائع: 5/293، ومجمع الأنهر: 2/39

(3)

الفتاوى الهندية للعلامة نظام: 3/208

(4)

المبسوط، للسرخسي: 12/93

ص: 1018

خيار الوصف

قدمت الحديث عن خيار الرؤية لما للاستصناع من مساس بهذا الخيار، لأن عدم الرؤية في هذا العقد يعتبر مانعًا يمنع تمام الحكم، إذ الرؤية تمكن المستصنع من قبول المتعاقد عليه أورده عند تقديمه إليه، سواءً كان مطابقًا للأوصاف المطلوبة أو لا، في مشهور المذهب الحنفي، وكما للاستصناع مساس بخيار الرؤية فله مساس قوي أيضًا بخيار الوصف.

وخيار الوصف هو خيار ثان يثبت للمستصنع إذا قدم الصانع المصنوع المتعاقد عليه. وقد فات وصف مرغوب فيه اشترطه المستصنع عند العقد (1) ، وغياب الوصف يمكن المستصنع من الخيار بين أن يقبل المصنوع بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع، وهو المسمى بخيار الوصف، وهو غير خيار الرؤية وإنما جاز له فسخ البيع لأن الوصف أو الأوصاف التي اشترطها المستصنع مرغوب فيها، فإذا فاتت أوجبت التخيير، لأن المشتري ما رضي به دونه، فصار كفوات وصف السلامة في خيار العيب.

وأبو يوسف الذي لا يثبت للمستصنع خيار الرؤية، إذا جاء المصنوع مستكملًا للأوصاف، فإنه يثبت خيار الوصف إذا جاء المصنوع فاقدًا للأوصاف التي وقع الاتفاق عليها.

وأما سبب أخذه بجميع الثمن في رأي الحنفية فهو: لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن، لكونها تابعة في العقد ويعده الشافعية والحنابلة داخلًا في خيار العيب وله حكمه.

وشروط خيار الوصف ثلاثة:

أولًا: أن يكون الوصف المشروط مباحًا شرعًا. فإذا كان حرامًا لم يصح.

ثانيًا: أن يكون الوصف مرغوبًا فيه عادةً. فإذا لم يكن مرغوبًا فيه في العرف ألغي الشرط وصح البيع ولا خيار.

ثالثًا: ألا يكون تحديد الوصف المرغوب فيه مؤديًا إلى جهالة مفضية إلى المنازعة، فإن فعل فسد البيع والشرط كأن يشترط في البقرة الحلوب أن تحلب كذا رطلًا يوميًّا، فهذا شرط فاسد لأنه لا يمكن ضبطه.

أحكام خيار الوصف:

1-

يورث خيار الوصف فلو مات المشتري الذي له خيار الوصف فظهر المبيع خاليًا من ذلك الوصف، كان للوارث حق الفسخ.

2-

إذا تصرف المشتري أو المستصنع الذي له خيار الوصف تصرف المالك، بطل خياره، لأن تصرفه مشعر بالرضا.

3-

إذا هلك المبيع في يد المشتري أو تعيب في يده فله الرجوع على البائع بمقدار نقص المبيع بسبب فوات الوصف المرغوب فيه، ويعرف ذلك بتقويم المبيع مع الوصف وبدون الوصف، ويضمن البائع الفرق بينهما (2) ، ويظهر أن المستصنع إذا بنى في أرض المشتري وأخل بأوصاف لا يمكن تداركها يعامل نفس معاملة هلاك المبيع أو تعيبه في يد المشتري، لأنه يتعذر على المستصنع في هذه الحالة أن يفسخ البيع، ما دامت الأرض أرضه، ورد المصنوع مستحيل، كما يمكن اعتبار الإخلال بالوصف عيبًا من التغرير بالوصف. ومذهب أبي حنيفة لا يوجب إرجاع المعيب بل يرجع المشتري بنقصان قيمته إن كانت أنقص مما اشتراه به (3) .

(1) رد المحتار (ابن عابدين) : 4/49، وفتح القدير: 5/528، ومجمع الأنهر: 2/23

(2)

الفقه الإسلامي وأدلته: 4/522

(3)

مدخل الفقه الإسلامي: 1/383

ص: 1019

خيار العيب

البيع المطلق من شرط البراءة من كل عيب يقتضي سلامة المبيع من العيب لأن الأصل هو السلامة وهي وصف مطلوب مرغوب عادةً وعرفًا والمطلوب عادةً كالمشروط نصًّا (1) فإذا لم تتوفر السلامة يتأثر العقد في لزومه وفي أصل حكمه. وصفة حكم البيع لشيء معيب هو أنه يفيد أن الملك غير لازم، لأن سلامة البدلين مطلوبة عادةً في عقد المعاوضة، لأن غرضه الانتفاع بالمبيع ولا يتعامل انتفاعه إلا بقيد السلامة لأنه لم يدفع الثمن إلا ليسلم له جميع المبيع فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة ولذلك كان العاقد بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء رده (2)

مشروعية خيار العيب:

الأصل في مشروعية هذا الخيار أحاديث وردت عن رسول صلى الله عليه وسلم منها:

1-

ما رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه له)) (3)

2-

ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعامًا فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال:((من غشنا فليس منا)) (4)

3-

ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر)) (5)

4-

وروي عن أحمد في مسنده (من اشترى شاة محفلة مصراة فهو بخير النظرين) .

5-

وقال الكاساني: الأصل في مشروعية هذا الخيار ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من اشترى شاة محفلة فوجدها مصراة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام)) ، وفي رواية:((فهو بأحد النظرين إلى ثلاثة، إن شاء أمسك وإن شاء رد ورد معها صاعًا من تمر)) . ثم قال: والنظران المذكوران هما نظر الإمساك والرد، وذكر الثلاث في الحديث ليس للتوقيت بل هو على الغالب المعتاد، والصاع من التمر كأنه قيمة اللبن الذي حلبه المشتري (6) ، وجمهور الفقهاء يعتبرون تصرية الإبل والغنم تغريرًا فعليًّا في الوصف يوجب للمغرور خيارًا في إبطال العقد ولو لم يصحبه غبن وهو من باب التغرير في الوصف (7)

(1) مجمع الأنهر: 2/40

(2)

مجمع الأنهر: 2/23، 40، الفقه الإسلامي وأدلته: 4/355، وفتح القدير: 6/2، والكاساني: 5/274

(3)

نيل الأوطار، للشوكاني: 5/211

(4)

جامع الأصول: 1/419، ونيل الأوطار: 5/212

(5)

مختصر مسلم رقم الحديث: ص 928

(6)

بدائع الصنائع، للكاساني: 5/274، محفلة، تجمع اللبن في ضرعها - مصراة: ترك حلبها حتى يجمع لبنها فيكثر بعد ربط أخلاف حلماتها.

(7)

بدائع الصنائع، للكاساني: 5/274

ص: 1020

العيوب الموجبة للخيار:

والعيب الموجب للخيار هو كل ما يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصانًا فاحشًا أو يسيرًا، وما لا يوجب ذلك فلا يعتبر عيبًا (1)، وذلك كالعمى والعور والحول والشلل والزمانة والحنف والصدف والجرد والجماح. قال الكاساني بعد أن ذكر عدة عيوب: والتعويل في هذا الباب على عرف التجار، سواء كان يوجب نقصان جزء من المبيع أو تغييرًا أو نقصانًا من حيث المعنى دون الصورة (2)

شروط ثبوت الخيار:

1-

أن يكون العيب قديمًا، لذلك يشترط ثبوت العيب عند البيع أو بعده وقبل التسليم. حتى لو حدث بعد ذلك لا يثبت الخيار، لأن ثبوته لفوات صفة السلامة المشروطة في العقد.

2-

ثبوت العيب عند المشتري بعد قبض المبيع، ولا يكتفي بالثبوت عند البائع لثبوت حق الرد في جميع العيوب.

3-

جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالمًا به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضيًا به دلالة.

4-

عدم اشتراط البراءة عن العيب في البيع، ولو شرط الخيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حقه.

5-

أن لا يزول العيب قبل الفسخ.

6-

أن لا يكون العيب طفيفًا يمكن إزالته دون مشقة، كالنجاسة في الثوب الذي لا يضره الغسل (3)

(1) مجمع الأنهر: 2/41، وفتح القدير: 6/3، وبدائع الصنائع، للكاساني: 5/274

(2)

بدائع الصنائع، 5/278؛ ومجمع الأنهر: 2/45 - 47، والفتاوى الهندية 663 - 74؛ ورد المحتار على الدر المختار: 4/76.

(3)

بدائع الصنائع: 5/278

ص: 1021

طرق إثبات العيب:

لا يمكن الوصول إلى معرفة أقسام العيوب لأن طريق إثبات العيب يختلف باختلاف العيب.

1-

عيب ظاهر مشاهد: كما إذا أحضر الصانع نعلًا أصغر من رجل المستصنع أو شباكًا من خشب أصغر من النافذة.

2-

عيب خفي لا يعرفه إلا أهل الذكر: سواء كان في مادة المصنوع أو في أي نوع الصنعة التي قام بها الصانع.

3-

عيب لا يعرفه إلا النساء.

4-

عيب لا يعرف بالمشاهدة وإنما يحتاج إلى التجربة والاختبار:

أ- فإن كان مشاهدًا فلا حاجة لتكليف القاضي المشتري بإقامة البينة على وجود العيب عنده، لكونه ثابتًا بالمشاهدة والعيان وللمشتري حق خصومة البائع بسبب هذا العيب (1)

ب- أما إذا كان العيب باطنًا: لا يعرفه إلا أهل الذكر كالأمناء والأطباء، فإنه يثبت لممارسة حق الخصومة بشهادة رجلين مسلمين منهم أو رجل عدل، وبعده تجري الخصومة عند القاضي على قاعدة: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.

ج- أما إذا كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء فيرجع القاضي إلى قول النساء، وهن أهل الذكر فيما لا يطلع عليه إلا هن. ولا يشترط العدد منهن بل يكتفي بقبول امرأة واحدة عدل وثنتان أحوط.

د- أما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولا يعرف إلا بالتجربة فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وتجري الخصومة عند الإنكار على قاعدة البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (2)

(1) بدائع الصنائع: 5/278، ورد المحتار: 4/92

(2)

بدائع الصنائع: 5/279

ص: 1022

كيفية الفسخ والرد:

إذا ظهر العيب في المشتري أو المصنوع فالمشتري بالخيار بين أمرين:

1-

إمضاء العقد، وفي هذه الحالة يلتزم بأداء العقد كاملًا.

2-

فسخه واسترداد الثمن إذا كان قد قدمه، وعليه أن يرد العين المعيبة إن كان قد استلمها (1)

إذا كان المبيع في يد البائع، يفسخ البيع بقول المشتري ما يفيد الرد.

أما إذا كان في يد المشتري فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي عند الحنفية، وإذا رد المبيع انفسخ العقد (2) .

مسقطات الخيار:

1-

الرضا بالعيب من المشتري.

2-

التصرف في المبيع تصرفًا يدل على الرضا بالعيب كبيعه وهبته واستعماله بأي وجه من الوجوه، كلبس الثوب وركوب الدابة، والسكنى في المنزل.

3-

هلاك المعقود عليه قبل القبض لفوات المحل سواء كان الهلاك بأفة سماوية، أو باستعمال المشتري، كأكل الطعام، وقطع الثوب فيمنع الرد ويثبت للمشتري حق الرجوع على البائع بنقصان العيب (3)

4-

نقصان المبيع يوجب إسقاط خيار العيب، سواء كان النقصان في المبيع قبل القبض أو بعده، وسواء كان بآلة سماوية أو بفعل المشتري. وكل منها له حكم يعرف في كتب الفروع.

5-

الزيادة في المبيع سواء كانت الزيادة منفصلة متولدة عن البيع، بعد القبض أو قبله، أو غير متولدة، أو كانت متصلة متولدة أو غير متولدة وكل نوع من هذه الأنواع له حكم يوجد في كتب الفروع (4)

(1) فتح القدير: 6/22 إلى 26

(2)

بدائع الصنائع: 6/282، ورد المحتار على الدر المختار:4/86 إلى 94

(3)

بدائع الصنائع: 5/282، ورد المحتار على الدر المختار:4/86 إلى 94

(4)

بدائع الصنائع: 5/82، إلى 84

ص: 1023

إخلال الصانع أو المستصنع بالتزامات العقد

لقد ذكر في أول البحث أن المشهور عند الحنفية أن عقد الاستصناع عقد غير لازم، وأن أي خلل يطرأ يمنع الصانع من تنفيذه ما تعاقد عليه، فلكل واحد من الطرفين الخيار في فسخ العقد.

أما المتأخرون من الحنفية فقد اعتمدوا القول الذي يقول بلزوم العقد فإذا ظهرت موانع خارجية عن إرادة الصانع، كحرق المصنع، أو غرق السفينة، أو قطع علاقات مع بعض الدول الموردة للمادة الخام المطلوب صنعها، فالمستصنع هنا بالخيار إن شاء انتظر الصانع حتى يتمكن من الإنجاز، وإن شاء فسخ العقد.

أما إذا كانت الموانع ناشئة عن إرادة الصانع، كسوء التنظيم والعجز عن إدارة الحضيرة أو التقاعس في احترام المواعيد فإن هذا يسبب تأخيرًا في إنجاز المشروع وضررا ماديًّا يلحق المستصنع.

يقول مصطفى الزرقاء: (وقد ازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية، فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرًّا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل) .

فلو أن متعهدًا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد الضروري لتعطل المعمل وعماله، وكذا لو تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته لتضرر المستصنع بخسارة وقد تكون فادحة.. ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الصانع بتنفيذ التزامه الأصلي، لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونًا منه أو امتناعًا.

وأصبح ما ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه. ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي الشرط الجزائي (1)

وأصبح الشرط الجزائي متعارفًا بين الصناع وفي كل المقاولات وحافزًا قويًّا يدفع الصانع على احترام المواعيد وخير معين على تنظيم سير الحركة الاقتصادية في كل بلد.

(1) المدخل الفهقي العام: 2/714، فقرة 376

ص: 1024

مفهوم الشرط الجزائي في القانون المدني:

الشرط الجزائي: هو اتفاق يقصد منه المتعاقدان سلفًا التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه، أو تأخر في تنفيذه. (1)

وقد فسر الزرقاء الشرط الجزائي بأنه اتفاق الناس على أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه (2)

موقف الشريعة الإسلامية من الشرط الجزائي:

لقد جاءت في الشريعة الإسلامية نصوص من الكتاب والسنة في حرية التعاقد، وفي رضائيته المطلقة.

1-

أما الكتاب: قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . (3)

وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4)

فهذه النصوص وأمثالها تفيد أن الأصل في استحقاق مال الغير، أو استحلال شيء من حقوقه، إنما هو رضا صاحبه. إما على سبيل التجارة والتبادل، أو على سبيل المنحة والتنازل عن طيب نفس واختيار (5) .

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (6)

وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (7)

فهذه النصوص وأمثالها تفيد أن عقد الإنسان وتعهده الذي باشره بإرادته الحرة ملزم له بنتائجه، كي تتولد الثقة والاطمئنان إلى نتائج التعامل الاقتصادية (8)

2-

أما السنة: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون على شروطهم"(9) وقال أيضًا: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (10) . أي كل شرط ليس في حكم الله وشرعه فهو باطل، وذلك بأن يكون الشرط منافيًا لقواعد الشريعة أو مقاصدها.

وثبت أيضًا في السنة العملية أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى في السفر من جابر بن عبد الله بعيرًا وشرط لجابر ظهره إلى المدينة أي أنه اشترط له حق ركوبه بعد البيع حتى يصل عليه إلى المدينة (11) . قال ابن شبرمة: البيع جائز والشرط جائز (12) وما روي في صحيح البخاري بسند عن ابن سيرين أن رجلًا قال لكريه: (أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين أن رجلًا باع طعامًا وقال: إن لم آتك يوم الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضى عليه (13)

وهذه كلها نصوص تدل دلالة واضحة على أن ما أطلقنا عليه شرطًا جزائيًّا وهو الذي يجري اشتراطه في العقود هو شرط صحيح يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام به.

(1) مجلة البحوث الإسلامية، المجلد 1، العدد 2: ص62

(2)

المدخل الفقهي العام الجزء الثاني: ص714

(3)

سورة النساء: الآية 29

(4)

سورة النساء: الآية 4

(5)

المخل الفقهي العام: 1/467

(6)

سورة المائدة: الآية 1

(7)

سورة الإسراء: الآية 34

(8)

المدخل الفقهي العام: 1/468

(9)

رواه أبو داود والحاكم في المستدرك، وأحمد في البيع ورمز السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته. وقد حسنه الترمذي وضعفه النسائي، وروي بطرق أخرى: المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك.

(10)

حديث صحيح أخرجه البزار في مسنده، والطبراني في الكبير كلاهما عن ابن عباس واعتمده الفقهاء

(11)

أخرجه الطبراني في معجمه الوسيط

(12)

فتح القدير 6/76

(13)

صحيح البخاري مع فتح الباري: 5/262

ص: 1025

رأي فقهاء المذاهب في حرية الشروط العقدية

ومن هنا نعلم أن هناك شروطًا تعتبر ميدانًا لإرادة العاقدين أطلق فيها الشرع حرية إرادة المتعاقدين ضمن حدود حقوقهم في أحكام والتزامات تثبت بالعقد مبدئيًّا ويعتبر العقد المسمى قائمًا بين الطرفين على أساسها.

وأن هناك من جهة أخرى شروطًا ممنوعة شرعًا لا سلطان لإرادة العاقدين فيها لأنها تمس أحكامًا أساسية تعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام.

رأي المذهب الحنبلي:

ويقول الزرقاء: وهذا هو مبنى الاجتهاد الحنبلي بحسب نصوص فقهائه المختلفة وهو أوسع الاجتهادات الفقهية الإسلامية وأرحبها صدرًا بمبدأ سلطان الإرادة ويتفق جوهر نظريته فيه مع النظريات القانونية الحديثة في الفقه الأجنبي. ومثله مذهب شريح القاضي ومذهب عبد الله بن شبرمة الكوفي. وعلى هذا الرأي بعض فقهاء المذهب المالكي (1)

رأي بقية المذاهب الأخرى:

أما الحنفية فإنهم وإن توسعوا في مفهوم الاستصناع وسايروا تطور الصناعات والعمران وأجازوا استصناع السلعة على مذهب أبي يوسف، وعلى مذهبه استقر عمل الأحناف على القول بصحته وأدرجوه في مجلة الأحكام العثمانية وجرى عرف الناس في سائر الأمصار على العمل به وكأنه السبب الذي جعل الناس تؤمن بأن المذهب الحنفي قادر على التطور ويستجيب لمقتضيات الزمن وللمعاملات الحديثة.. إلا أنه في الآن نفسه، وقف المذهب الحنفي أمام عقبة كأداء وهي الشروط الجديدة التي اقتضاها تطور الميدان الصناعي والمقاولات عمومًا فليس للمتعاقدين في هذا المذهب أن يشترطا من الشروط ما يخالف مقتضى العقد، وهي الأحكام الأساسية التي نص عليها الشرع مباشرةً أو استنبطها الاجتهاد حفظًا للتوازن بين العاقدين في الحقوق.

وعلى نفس هذا الاتجاه نظر جمهور الفقهاء المالكية ثم الاجتهاد الشافعي (2)

(1) المدخل الفقهي العام: 2/480

(2)

المدخل الفقهي العام: 1/476، فقرة 218

ص: 1026

الغرامات فيما زاد على المدة المتفق عليها:

مما يجدر ذكره أن العقود والشروط والمعاملات في البنايات وسائر الصناعات هي من الأمور العادية وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع إذ الأصل في العقود هو رضا المتعاقدين، ونتيجتها هو ما أوجباه على نفسيمها بشرط أن يكون هذا العقد خاليًا من كل ربا أو ما نص الشارع على تحريمه أو بطلانه، ووضع الغرامة فيما زاد على المدة المحدودة في المقاولات وبناء العمارات والفنادق والمؤسسات مما تعارفه المقاولون، وضبط ضبطًا محكمًا في كراس الشروط، وهو جائز من الوجهة الشرعية حسب المذهب الحنبلي ومشهور مذهب شريح.

مشاكل كراسة الشروط وأسبابها:

إن هذه المشاكل إنما تحصل عند التطبيق لأن الساهرين على المقاولات في بعض البلدان حديثة العهد بهذه النظم التي أصبحت عالمية يغفلون عن التحري في إعداد التصاميم التي يجري على مقتضاها إنجاز العمل والتحري في المقايسة ودفتر الشروط وضبط حقوق كل طرف وواجباته وبيان كل جزئية قد يحتاج إليها المتعاقدان دفعًا لكل لبس أو سوء تأويل. مع العلم أن إعداد الملف فن خاص يحتاج إلى كفاءات كثيرًا ما يتساهل المقاولون في إعداده فيكون ذلك سببًا في تشكيات ونزاعات سواء فيما زاد على المدة المحدودة أو عدم تطبيق ما تعهد به المقاول.

والمعروف عند أهل الاختصاص أن إعداد ملف المقاولة هو المرآة الصادقة للمقاول الكفء الذي يستطيع أن يقدم عملًا نظيفًا متقنًا في آجاله، وتطبيق كل المواصفات التي اقتضاها العقد ووضع الأشياء في مواضعها، إلا أن الطمع في الربح الكثير هو الذي دفع كثيرًا من البعيدين عن هذا الميدان إلى ولوج باب المقاولات فكانوا سببًا في إثارة خصومات ومنازعات شككت الناس في قيمة القوانين وصلوحتها.

ص: 1027

خاتمة

هذا ما انتهيت إليه في بحثي عن الاستصناع والمقاولات في العصر الحاضر، فقد حاولت فيه أن أتعرض إلى بعض المقارنات بين مذاهب الفقه الإسلامي، وقانون الالتزامات والعقود المعمول به في المحاكم المدنية، حتى أتمكن من إبراز أوجه التقارب والتباين بين هذه الآراء في خصوص عقد الاستصناع وما اتصل به من عقود.

إن هذا العقد تطور كثيرًا في هذا العصر وأخذ أبعادًا كثيرة، وكبيرة حتى صار من أكثر العقود انتشارًا في الحياة التجارية والصناعية، سواء في الميدان الداخلي أو الخارجي. وهذا ما فرض على الدول الإسلامية أن لا تكتفي بما وصلت إلى مجلة الأحكام العثمانية التي واكبت النهضة الصناعية إلى سنة 1296هـ تاريخ صدورها ثم صدور الأمر السلطاني بلزوم العمل بها في كافة الدول الإسلامية.

ومن ذلك التاريخ أصبحت الأحكام المدنية تتطور في كل بلد، إذ تولدت أنواع من الحقوق لم تكن معهودة من قبل، كامتياز المؤلف والمخترع والملكية الأدبية والصناعية والاسم التجاري وتطور العلائق الاقتصادية، كما تطورت الطرق التجارية كتجارة التوصية والتأمين.

والحاجة إلى اعتبار الشروط العقدية التي يمنع منها الاجتهاد الحنفي المعمول به في مجلة الأحكام وازدياد الزمن قيمة في الحركة الاقتصادية حتى أصبح تأخر المستصنع في دفع الثمن أو تأخر الصانع في تسليم ما تعهد بصنعه مضرًّا بالطرف الآخر، فوجب التفكير في مخرج لكل هذه الأمور وغيرهم في نطاق الفقه الإسلامي من مجموع المذاهب الإسلامية.

كل ذلك اجتنابًا لما جرى به العمل حتى الآن، إذ سارت كل دولة إسلامية حسب نظرة خاصة أو إقليمية، فعدلت أو نسخت ما أملت عليها ظروفها ومصالحها التصرف فيه وصاغته في قوانين وضعية ربما خالفت الشريعة الإسلامية.

والذي ندعو إليه هو صياغة هذه القوانين الجديدة صياغة إسلامية عامة لا تلتزم مذهبًا معينًا وتتماشى مع التطور وتلبي حاجات الناس الجديدة في هذا الزمن.

واعتقادنا أن "مجمع الفقه الإسلامي" هو المؤهل اليوم للاضطلاع بهذه المهمة وذلك بتكوين لجنة أو لجان تنجز مثل هذا المقترح بالاعتماد على ما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات الدينية من أحكام وقوانين وفتاوى في كل باب.

عسى ذلك أن يساعد المسلمين في عامة بلدانهم على الخروج من الحرج الذي يقعون فيه يوميًّا في معاملاتهم، ويصير مرجعًا يعتمدونه إذ يدلهم على حكم الله تعالى فيما استجد أو يستجد من الأحداث.

الشيخ مصطفى كمال التارزي

ص: 1028