المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

‌عقد الاستصناع

وعلاقته بالعقود الجائزة

إعداد

الدكتور محمد رأفت سعيد

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد.

فإن جهود فقهائنا مازالت متابعة لكل جديد من وجوه التعامل بين الناس، لتكييف هذا التعامل وتوصيفه، ومعرفة موافقته أو مخالفته للأصول الشرعية، وتأسيسه على ما عرف من أدلة الأحكام، ومدى تحقيقه للمقاصد الشرعية. وقد يكون الوجه الجديد جامعًا لوجوه معروفة من قبل، ومنها يكون هذا الوجه، وقد يضاف إلى هذه الوجوه القديمة بعض الأمور التي لم تعرف من قبل. وهنا - تظهر - العقلية الفقهية في دقة التوصيف، التي تتبع بإعطاء الحكم المناسب لكل وصف.

وهذا مجال لاتجاهات فقهية متعددة، تدل على خصوبة الفكر، وهي اتجاهات معتبرة ما دام الحال يتسع لأكثر من وجه، وليس مقيدًا بدلالة قطعية واحدة لنص من النصوص.

ومن وجوه التعامل التي يتحقق فيها هذا القول " عقد الاستصناع "، فإن حاجة الإنسان إلى السلع التي تستصنع من الحاجات المتجددة، وذلك لتطور الحياة البشرية، بل وبصورة سريعة، يكون المستصنع اليوم قديمًا في الغد، وما صنع هذا العام ليس هو ما صنع في العام السابق، فقد يحتاج الأمر إلى إضافات جديدة تحتاجها طبيعة الآلة، أو الجهاز المصنع، وتقضيه ضرورة الاستعمال.

كما أن الصانع في إطار هذا القفز السريع في التطور قد يحتاج إلى مال يدخل في تهيئة هذه المصنوعات، وكذلك في نفقاته الخاصة. وعلى ذلك فإن تحقيق حاجة المستصنع والصانع تجعل بينهما هذا الوجه الذي يمثل عقدًا بينهما يدفع فيه المستصنع مالًا للصانع ليصنع له ما يريد. فكيف يكيف هذا العقد؟

ص: 1065

هل هو مواعدة أم بيع؟

وهل يكون بيعًا لما ليس عند البائع؟ فلا يجوز؟

وهل يستثنى من هذا نظرًا لحاجة الناس إليه كما استثني السلم، مع تحقيق ما يشترط في السلم من تحديد الصفة والقدر والأجل؟

وهل تحقق هذه الشروط يجعلنا نسميه سلمًا، ولا حاجة إلى استحداث اسم آخر هو الاستصناع؟

ولكن لوحظ أن هذا الاستصناع يختلف عن السلم في أن عقد الاستصناع يتضمن عمل عامل في الصناعة، فهل هذا العنصر يجعلنا نطلق عليه عقد إجارة؟ أم أن عقد الاستصناع فيه من جوانب هذه العقود ما يكون عقدًا خاصًّا يسمى بعقد الاستصناع، وأن تضمنه لهذه الجوانب من العقود الجائزة يمنحه قوة الحكم بالجواز؟

هذه التساؤلات هي عناصر بحثي عن "عقد الاستصناع وعلاقته بالعقود الجائزة " لتكون خطة البحث على النحو الآتي:

بعد هذه المقدمة أتناول المباحث التالية:

- تعريف الاستصناع.

- حكم عقد الاستصناع.

- هل الاستصناع مواعدة أم بيع؟

- هل هو عقد بيع ما ليس عنده؟

- عقد الاستصناع، وعقد السلم.

- السلم.

- عقد الاستصناع، وعقد الإجارة.

- الإجارة.

- الخاتمة.

- ملخص البحث.

- المراجع.

وأسأل الله التوفيق للوفاء بهذه المباحث دراسة، ومناقشة، واستنتاجًا، فهو حسبي ونعم الوكيل.

ص: 1066

تعريف الاستصناع

الاستصناع في كتب اللغة يعني طلب الصنع، والصنع هو العمل، ومن ذلك قوله تعالى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1) .

والصناعة: حرفة الصانع وعمله (2) .

ومعنى الكلمة - إذن - أن يطلب إنسان من صانع أن يعمل له عملًا معينًا، فإذا أضفنا إلى ذلك ما يجعل هذا الطلب محققًا لمراد الطرفين - دون منازعة بينهما - قلنا: ينبغي أن يحدد الطالب نوع ما يعمل، وقدره، وصفته، وكل ما يريد أن يكون عليه العمل دون إبهام لشيء، وكذلك تحديد الزمن الذي يتناسب مع العمل وحاجته إلى هذا المصنوع، فإذا اتفق الطرفان على هذه المواصفات في العمل والزمن، واتفقا على تحديد الثمن الذي سيدفعه الطالب، وقال الصانع: نعم. فهذه صورة عقد الاستصناع.

ويستوي هذا الشكل للاستصناع في أن يكون بين فرد وفرد، أو بين فرد ومؤسسة أو مصنع.

أما تعريف الاستصناع لدى الفقهاء فإنه يخضع لموقف كل فقيه منه، فأكثر الحنفية - كما سنرى من تعريفهم له من تعريفهم له - يرونه عقدا مستقلًّا، وأما غيرهم من المالكية والشافعية والحنابلة، فإن كثيرًا منهم يلحقونه بأبواب السلم، سواء كان على سبيل القول بجوازه كما عند المالكية والشافعية، أو بمنعه كما عند الحنابلة. وسنتعرف على ذلك من خلال ذكر تعريفات العلماء.

يذكر الكاساني في البدائع (3) قول بعض الفقهاء: إن الاستصناع هو: (عقد على مبيع في الذمة)، ويزيد السمرقندي على التعريف السابق فيقول:(عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع) . (4) .

ويذكر ابن عابدين في تعريف الاستصناع أنه: (بيع عين موصوفة في الذمة لا بيع عمل)(5) .

(1) سورة النمل: الآية 88

(2)

انظر لسان العرب مادة "صنع"، ومختار الصحاح: ص371

(3)

بدائع الصنائع: 6/2677

(4)

بدائع الصنائع: 6/2677

(5)

حاشية ابن عابدين: 5/225

ص: 1067

وفي المجلة العدلية نجد الجمع بين ذكر البيع والعقد في وصف الاستصناع وتعريفه بأنه: (إذا قال شخص لأحد من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا، قرشًا، وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استصناعًا)(1) .

كما ذكر الكاساني ما قيل من تعريف الاستصناع لدى بعض الفقهاء بأنه (عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعملوا شيئًا)(2) . أي عقد تفاوض بين المستصنع والصانع.

وإذا كان الإمام العيني قد ذكر صورة الاستصناع بقوله: (أن يطلب من الصانع أن يصنع له شيئًا بثمن معلوم)(3) .

وكذلك ابن عابدين: هو (طلب العمل منه في شيء خاص على وجه مخصوص)(4) . فإن طلب العمل مع المادة التي يصنع منها، وبالثمن المعلوم يستدعي مبادلة مال بمال بالتراضي عند الحنفية (5) ، وهو البيع، وعند إطلاقه يكون عقدًا.

وبذلك يتوافق الأمر لدى الفقهاء المذكورين من اعتبار الاستصناع عقد بيع، ويكون التعريف الجامع المانع لدى فقهاء الحنفية أنه (عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على وجه مخصوص)(6) .

ولو اكتفى بما قيل في تعريفه من أنه (عقد على مبيع في الذمة) لدخل في التعريف عقد السلم.

(1) انظر درر الحكام: 1/99

(2)

انظر درر الحكام: 1/99

(3)

رمز الحقائق: 2/56 و57.

(4)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 5/223.

(5)

انظر فتح القدير، لابن الهمام: 5/73.

(6)

عقد الاستصناع: ص59

ص: 1068

وقيد شرط الصنعة يجعل العقد موافقًا للمعنى اللغوي، ولذلك لما ذكر الإمام السرخسي صورة الاستصناع قال في مبسوطه:(استصنع الرجل خفين أو قلنسوة، أو طستا، أو كوزًا، أو آنية من النحاس)(1) .

وبالمعنى نفسه قال الكاساني في بدائع الصنائع: (لو قال إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفًّا، أو آنية من أديم، أو نحاس من عندك بثمن كذا ويبين نوع ما يعمل وقدره وصفته.. فيقول الصانع: نعم) . وبمثل هذا قال البابرتي (2) .

فالاستصناع - كما مر بنا لغة - طلب الصنعة، ويلاحظ أن المواد المذكورة، والصناعات المطلوبة تتلاءم مع عصر المعرفين، وإلا فالمعنى يتسع لكل مستحدثات العصور، مادة وصنعة.

وإذا لم يعتبر شرط الصنعة في التعريف، على افتراض أنه لو تعاقد على مبيع في الذمة، وأحضر الصانع عينًا، كان قد صنعها من قبل، ورضي بها المستصنع فإن بعض الفقهاء - كما سيأتي - يرى أن العقد صحيح، ولكن تم بطريق آخر غير الطريق الأول وهو طريق التعاطي.

وهذا ما رجحه الكاساني بقوله: (والصحيح هو القول بأنه عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل) لأن الاستصناع: طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا. فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه.

ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا.. وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل.. وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (3) .

(1) المبسوط: 12/138

(2)

العناية على الهداية: 5/354

(3)

انظر بدائع الصنائع: 6/2677

ص: 1069

والقول في التعريف بأنه عقد يخرج اعتبار الاستصناع وعدًا - وهذا سنفصل القول فيه بعد قليل.

والقول في التعريف "على مبيع" يخرج اعتبار الاستصناع عقد إجارة، لأنها عقد على منافع وليست على عين، ويخرج كذلك اعتباره عقدًا على العمل، أو الإجارة على العمل فهو ليس بعقد على مبيع.

ولكن ما الذي يباع في عقد الاستصناع، كما ورد في التعريف؟

إنها المواد الخام التي تصنع، أما المادة الخام في الإجارة على العمل فهي من عند المستأجر، وعلى الأجير العمل فقط (1) .

والقول بأنه (في الذمة) يخرج اعتبار الاستصناع بيعًا بإطلاقه، لأن من شروط البيع أن يكون مقبوضًا في المجلس، وهنا المطلوب صنعه في الذمة.

والقول بأنه (شرط فيه العمل) يخرج اعتبار الاستصناع سلمًا، لأن السلم بيع آجل بعاجل (2) .

والاستصناع لا يشترط فيه أخذ الثمن عاجلًا وسنتناول تفصيلًا ما يتعلق بعلاقة الاستصناع بالسلم والفرق بينهما في مبحث قادم.

أما ذكر الوجه المخصوص في التعريف فهو البيان التفصيلي لجنس المعقود عليه وصفته وقدره، وكل ما يريده المستصنع فيه، حتى يكون استصناعًا صحيحًا إذا تحققت فيه هذه الشروط، وإلا كان استصناعًا فاسدًا.

هذا ما يتعلق بتعريف الاستصناع لغة - واصطلاحًا واخترت لتعريفه اصطلاحًا ما ذكره فقهاء الحنفية لاعتبارهم إياه عقدًا مستقبلًا - كما مر بنا.

ولكن لن نغفل أقوال بقية العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة في الاستصناع - قبل أن نذكر - تفصيلًا - علاقة عقد الاستصناع بالعقود الجائزة.

فأما المالكية فإن ابن رشد (3) - وهو من أعيان المالكية - قد تناول السلم في الصناعات بما يدل على أنه من يطلب من صانع صنع شيء له فهو جائز، ولكنه يأخذ حكم السلم، وشروط السلم، فيقول:

(1) انظر عقد الاستصناع: ص:60

(2)

انظر فتح القدير، لابن الهمام: 5/323

(3)

هو محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة من أعيان المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، توفي سنة 520هـ، الأعلام: 6/210

ص: 1070

(وأما السلم في الصناعات فينقسم في مذهب ابن القاسم على أربعة أقسام:

أحدها: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه.

والثاني: أن يشترط عمله، ويعين ما يعمل منه.

والثالث: أن لا يشترط عمله، ويعين ما يعمل منه.

والرابع: أن يشترط عمله، ولا يعين ما يعمل منه.

فأما الوجه الأول: وهو أن لا يشترط عمله، ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم، على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل، وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.

وأما الوجه الثاني: وهو أن يشترط عمله، ويعين ما يعمله منه، فليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع.

فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل، فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك.

فإن كان على أن يشرع في العمل، جاز ذلك بشرط تعجيل النقد، وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها، لم يجز تعجيل النقد، بشرط حتى يشرع في العمل.

وأما الوجه الثالث: وهو أن لا يشترط عمله بعينه، ويعين ما يعمل منه، فهو - أيضًا - من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره.

وأما الوجه الرابع: وهو أن يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان:(لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونًا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه)(1) .

ويقول الدردير (2) : (ثم شبه في السلم قوله: كاستصناع سيف، أو ركاب من حداد، أو سرج من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار، على صفة معلومة بثمن معلوم فالتعاقد على صنع شيء يأخذ حكم السلم عندهم) .

وقال الدردير (3) - أيضًا -: (وقول خليل: كاستصناع سيف (4) تشبيه لا تمثيل) .

(1) المقدمات الممهدات: 2/32.

(2)

الشرح الصغير، للدردير: 3/287.

(3)

الشرح الصغير، للدردير: 3/261

(4)

قول خليل: (والشراء من دائم العمل كالخباز. وهو بيع، وإن لم يدم فهو سلم، كاستصناع سيف، أو سرج) . انظر مواهب الجليل: 3/349.

ص: 1071

وإذا كان المالكية لم يعدوا (الاستصناع) عقدًا مستقلًّا، فكذلك الشافعية، وأدرجوه كالمالكية في مسائل السلم.

فطلب الصنعة عندهم جائز، ولكن عن طريق السلم بشرط ضبط الصفات.

فيرى الإمام الشافعي (1) رحمه الله أن الاستصناع جائز إذا كان المستصنع فيه من مادة واحدة، أو من مادتين لا يؤديان - جهالة قدرهما - إلى المنازعة، بأن أمكن معرفة قدر كل منهما لتمييزهما عن بعضهما.. وإلا فلا يجوز فيهما إذا اختلطا.. ولم يمكن تمييز قدر كل واحد عن الآخر (2) .

ويقول الشافعي: (وهكذا كل ما استصنع)(3)

وعلى ذلك فالاستصناع عند الشافعي: (بيع موصوف في الذمة يشترط فيه الصنعة) .

والسلم عنده كذلك: (بيع موصوف في الذمة) .

قال المحلي: (السلم، ويقال له: السلف، وهو بيع موصوف في الذمة)(4) .

وقال ابن حجر: (السلم هو بيع شيء موصوف في الذمة)(5)

ويذكر الإمام النووي تعريفات للسلم فيقول:

أحدهما: أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطي آجلًا.

وثانيها: هو إسلام عوض حاضر في موصوف في الذمة.

وثالثها: هو إسلاف عاجل في عوض لا يجب تعجيله.

ثم يقول النووي: (إن السلم بيع)(6)

وإذا كان المالكية والشافعية قد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، فإن الحنابلة قد جعلوه في باب بيع ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم ولذلك قالوا بالمنع.

ففي كشاف القناع والإنصاف وغيرهما: أن الاستصناع غير جائز، نقلًا عن القاضي وأصحابه، بأنه لا يصح استصناع سلعة، لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم (7) .

وقيل لا يصح استصناع سلعة بأن يبيعه سلعة يصنعها له.. لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم (8)

(1) انظر الأم: 2/116

(2)

انظر عقد الاستصناع: ص70

(3)

الأم: 2/162.

(4)

انظر شرح المنهاج: 1/339

(5)

انظر تحفة المحتاج: 5/2

(6)

انظر روضة الطالبين: 4/3

(7)

الإنصاف، للمرداوي: 4/300

(8)

انظر كشف القناع، للبهوتي: 3/154، وانظر الفروع: 2/23

ص: 1072

حكم عقد الاستصناع

بعد تعرفنا على أقوال العلماء في تعريف "الاستصناع" نستطيع أن نقول: إن جمهور فقهاء الحنفية قد اتفقت كلمتهم على "الجواز" ولم يخالف في ذلك إلا "زفر"(1) وحكى ابن الهمام قول "زفر" فقال: (والقياس أنه لا يجوز، وهو قول "زفر" (2) .

فهل قول "زفر" بعدم الجواز يقوم على القياس؟

إن كان الأمر كذلك فإن الجمهور لا يرى - كذلك - القياس دليلًا على جواز "الاستصناع".

وإنما يجوزونه بالاستحسان، وكذلك - أيضًا - بالإجماع العملي، والبعض يرى أنه بالسنة - كما سنبين -.

ومن أقوال المجوزين نتعرف على أدلة هذا الحكم بجواز "الاستصناع".

فالإمام محمد بن الحسن يقول: (لو استصنع رجلًا شيئًا.. بغير أجل جاز استحسانًا (3)

والإمام الكاساني يقول: (أما جوازه فالقياس: أن لا يجوز، لأنه باع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك (4) .

والإمام الكمال بن الهمام يقول: (جاز استحسانًا)(5)

والإمام السمرقندي يقول: (والقياس أنه لا يجوز، وفي الاستحسان جائز)(6) .

والإمام أبو بكر بن المنذر يقول: (وقال أبو حنيفة: هو جائز.. وللمستصنع الخيار إذا رآه مفروغًا منه)(7) .

وواضح من أقوال هؤلاء الأئمة أن القياس لا يجوز به الاستصناع، لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم.

(1) هو "زفر" بن هذيل بن قيس العنبري البصري صاحب أبي حنيفة، ولد سنة 110هـ، وتوفي سنة 158هـ.

(2)

انظر فتح القدير: 5/355.

(3)

انظر عقد الاستصناع: ص95، نقلًا عن مخطوطة جامع الصدر الشهيد في ترتيب الجامع الصغير: 1/63

(4)

بدائع الصنائع: 6/2678

(5)

شرح فتح القدير: 5/355

(6)

تحفة الفقهاء: 2/538

(7)

عقد الاستصناع: ص96، نقلًا عن مخطوطة الإشراف، لأبي بكر بن المنذر: ص27 ومابعدها

ص: 1073

ويكون الجواز عندهم بالاستحسان، ووجه الاستحسان:

- إجماع الناس على ذلك، لأنهم يتعاملون بذلك في سائر الأعصار. وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(.. فما رأى المسلمون حسنًا فعند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء)(1) .

والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر، من غير بيان المدة، ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي شراء البقل وغيره من المحقرات.

- ولأن الحاجة تدعو إليه، لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل، من جنس مخصوص، ونوع مخصوص، وعلى قدر مخصوص، وصفة مخصوصة، قلما يتفق وجوده مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج (2) .

قال الإمام القسطلاني في تناوله لحديث الخياط: (إن فيه جواز الإجارة على الخياطة ردًّا على من أبطلها بعلة أنها ليست بأعيان مرئية، ولا صفات معلومة.

وفي صنعة الخياطة معنى ليس في سائر ما ذكره البخاري من ذكر القيمة، والصائغ والنجار، لأن هؤلاء الصناع إنما تكون منهم الصنعة المحضة بما يستصنعه صاحب الحديد والخشب والفضة والذهب، وهي أمور من صنعة يوقف على حدها، ولا يخلط بها غيرها.

والخياط إنما يخيط الثوب في الأغلب بخيوط من عنده، فيجتمع إلى الصنعة الآلة، وإحداها معناه النجارة، والأخرى الإجارة، وحصة إحداهما لا تتميز من الأخرى، وكذلك هذا في الخراز والصباغ إذا كان بخيوطه، ويصبغ هذا بصبغه على العادة المعتادة فيما بين الصناع. وجميع ذلك فاسد في القياس. إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم على هذه العادة أول زمن الشريعة فلم يغيرها.

إذ لو طولبوا بغيره لشق عليهم فصار بمعزل عن موضع القياس، والعمل به ماض صحيح لما فيه من الإرفاق (3)

وقد خرج الجواب عن القول بأنه معدوم:

- لأنه ألحق بالموجود لمساس الحاجة إليه، كالمسلم فيه، فلم يكن بيع ما ليس عند الإنسان على الإطلاق.

- ولأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين، كان جائزًا (4) .

(1) رواه الإمام أحمد في مسنده: 1/379

(2)

أنظر أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنفي: ص557

(3)

انظر إرشاد الساري، للقسطلاني: 5/66 و 67

(4)

انظر أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنفي: ص557، وانظر بدائع الصنائع: 6/2678

ص: 1074

هذا ما يتصل بأدلة الجواز من الإجماع العملي، والاستحسان، وأما من رأى أن حكم جواز الاستصناع يعتمد - قبل ذلك - على السنة فيذكرون في ذلك حديثين:

أولهما حديث استصناع الرسول صلى الله عليه وسلم خاتمًا (1) .

وهذا ما جعل شارح المجلة العدلية يقول: الاستصناع (ثبتت مشروعيته بالسنة وإجماع الأمة) ، (أما السنة فقد استصنع النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم)(2) .

ثانيهما: ما روي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم استصنع المنبر، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حازم قال:(أتى رجال سهل بن سعد يسألونه عن المنبر، فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل: أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته بعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء فأرسلت إلى رسول صلى الله عليه وسلم بها فأمر بها فوضعت فجلس عليه) .

وفي رواية أخرى بصحيح البخاري - أيضًا - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن امرأة من الأنصار قالت لرسول لله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا، قال: "إن شئت" فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع..)(3) .

قال القسطلاني في تعقيبه على الروايتين: (يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغها أنه يريد عمل المنبر، فلما بعث إليها بدأته بقولها: ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟ فقال لها: "مري غلامك" فعملت له المنبر) . (4) .

غير أن الاستدلال بحديث المنبر على الاستصناع، واعتباره من أدلة السنة في الجواز لم يكن محل اتفاق من العلماء، فهل تم الاستصناع فيه بالمعنى اللغوي من طلب الصنعة؟ أم هو هدية من صانعه للنبي صلى الله عليه وسلم؟

(1) شرح فتح القدير: 5/355

(2)

انظر درر الحكام: 1/358، وانظر الاعتبار: ص231 و 232

(3)

انظر فتح الباري: 4/268، وإرشاد الساري: 5/67، 68.

(4)

انظر فتح الباري: 4/268، وإرشاد الساري: 5/67، 68.

ص: 1075

أما حديث استصناع الرسول صلى الله عليه وسلم للخاتم فيصح الاستدلال به، مع مراعاة أن صاحب الاعتبار، والذي ذكر هذا الحديث، قد أورده في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار (روي عن نافع عن عبد الله أن رسول صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فصه إلى باطن كفه، إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، وقال إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخل، فرمى به، ثم قال لا والله لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم) . عقب صاحب الاعتبار على الحديث بقوله: (هذا حديث صحيح ثابت، وله طرق في الصحاح في كتابيهما من عدة طرق)(1) .

وقد وردت الأحاديث الصحيحة في تحريم الذهب على الرجال، ومنه الخاتم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال:(يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده) . (فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به؟ فقال: لا والله لا آخذه، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . [رواه مسلم] .

وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلًا قدم من نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه خاتم من ذهب، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار" [رواه النسائي](2)

(1) انظر الاعتبار ص: 231 - 233

(2)

انظر المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب: 2/615، حديث 1216 وحديث 1217.

ص: 1076

هل الاستصناع مواعدة أم بيع؟

وبعد تعريف "الاستصناع" لغة واصطلاحًا وبيان حكمه نجد هذا التساؤل الذي أثاره اتجاه بعض الفقهاء في اعتبار "الاستصناع" مواعدة، في حين اعتبره الجمهور عقد بيع.

فإذا طلب إنسان من صانع أن يصنع له شيئا، واتفق على وصفه وقدره، وزمنه، وثمنه بين الطرفين فهل يسمى هذا مواعدة، أم عقدًا؟

وبمعنى آخر هل قبول الصانع لما قاله المستصنع يعد وعدًا منه، إن وفى به كان مأجورًا ومثابًا على الوفاء، وإلا كانت فيه خصلة من النفاق، دون أن يترتب على عدم الوفاء أثر قضائي؟

إن ضرورة الاستصناع في حياة الناس، وحاجتهم إليه تجعل وجهة الجمهور. والتي سنفصل القول في أدلتها - إن شاء الله - محل تقدير واعتبار، لأن ترك هذا الوفاء الصانع يتبعه فوات مصلحة المستصنع، وضياع ماله، فهو يطلب شيئًا بمواصفات خاصة ويدفع مالًا، ويوافق الصانع على ذلك وهذه عناصر العقد التي تتبع بالإلزام، ويترتب عليه الضمان، كما يكون معه الشرط الجزائي الي يعين كلا الطرفين على الوفاء، وإلا ضاعت الثقة بين الناس وخاصةً عندما يكثر الطلب على الصناع، وأمام إغراء المال، تقبل الطلبات، وتعطى الوعود، دون صدق فيها، ودون إتقان يفي بالمواصفات. وإذا كان الشرط الجزائي لم يكن معروفًا بهذا الاسم من قبل، فإن معناه كان متبعًا في القرون الفاضلة.

فقد روى البخاري رحمه الله بسنده عن ابن سيرين أن رجلًا قال لكريه: (أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه) .

وقال أيوب: عن ابن سيرين أن رجلًا باع طعامًا وقال: (إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجىء فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه)(1)

(1) 1 انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 5/262.

ص: 1077

ويقول الأستاذ الزرقاء: (في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أساليب التجارة الداخلية، والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة.. واتسعت مجالات عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية.. وقد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه.. ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي (الشرط الجزائي)(1) .

ولذلك فإن القول بأن الاستصناع مواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى.

والذي قال بأنه مواعدة جماعة من الحنفية منهم: الحاكم الشهيد (2) ، والصفار (3) ، ومحمد بن سلمة (4)

إلا أن كلام الحاكم الشهيد، والذي ذكره السرخسي في المبسوط يدل على أنه لم يقل بأنه مواعدة بإطلاق، وإنما يفيد كلامه أنه يبدأ مواعدة وينتهي عقدًا بالتعاطي والفراغ من العمل فيقول السرخسي:(وكان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة.. وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغًا منه.. ولهذا ثبت فيه الخيار لكل واحد منهما)(5)

(1) انظر المدخل الفهقي العام، للأستاذ الزرقاء: ص386

(2)

وهو أبو الفضل محمد بن محمد بن أحمد المروزي، الوزير العالم الكبير، ولي القضاء في بخارى، قتل شهيدًا سنة 334هـ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة: ص57.

(3)

وهو أبو القاسم الصفار البلخي، توفي سنة 339هـ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة: ص64

(4)

وهو أبو عبد الله بن محمد بن سلمة، روى عنه زفر، توفي سنة 268هـ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة: ص45.

(5)

المبسوط 12/138.

ص: 1078

والذي دعا هؤلاء إلى القول بأنه مواعدة ما يلي:

أولًا أن الصانع له أن لا يعمل.. وبذلك كان ارتباطه مع المستصنع هو ارتباط وعد لا عقد.. لأن كل ما لا يلزم الإنسان به مع التزام نفسه يكون وعدًا لاعقدًا، لأن الصانع لا يجبر على العمل بخلاف السلم فإنه مجبر بما التزم به (1)

ثانيًا: أن المستصنع له الحق في عدم تقبل ما يأتي له الصانع من مصنوع، وله أن يرجع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته.. وهذا علامة أنه وعد لا عقد.. لهذا قال أبو اليسر:(إن الخيار ثابت لكل واحد منهما (الصانع والمستصنع)(2)

وبهذين الدليلين يرى أصحاب هذا القول بالمواعدة أن الاستصناع وعد بالبيع لا عقد مبيع.

ولم ينس هؤلاء أن يردوا على الجمهور قولهم بأنه يكون مبيعًا فقالوا: المعدوم لا يصلح أن يكون مبيعًا.

وقالوا كذلك: العقود في المعاملات لا يبطلها موت أحد طرفيها. فكيف ساغ القول بأنه عقد مع بطلانه بموت الصانع؟

فهذه أدلة القائلين بالمواعدة واعتراضاتهم، وقد تناولها القائلون بأنه عقد فردوا عليها، ثم قدموا أدلتهم، على النحو التالي:

أولًا: ما قاله أبو اليسر - بأن إثبات الخيار لكل من الصانع والمستصنع يدل على أنه وعد - غير صحيح، فهو لا يدل على أنه غير بيع، ألا ترى أن في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر كان لكل منهما الخيار، فلم يخرجه إلى أن يكون وعدًا.

ثانيًا: القول بأنه وعد لأن الصانع له أن لا يعمل، وللمستصنع الخيار في أن لا يقبل الشيء المصنوع، كل ذلك وارد في غير عقد الاستصناع. فالاستصناع لا يعتبر عقدًا نافذًا ملزمًا إلا ساعة أن يتم الصانع ما طلب منه وفق المواصفات التي اشترطها المستصنع.. ورأى المستصنع ذلك الشيء بعينه ورضي.. عند ذلك يتم الاستصناع فلا خيار لواحد منهما فأما ما ذكر فهو وارد على أمور أخرى غير الاستصناع. (3)

(1) انظر عقد الاستصناع: ص80.

(2)

فتح القدير: 5/355.

(3)

انظر فتح القدير: 5/355، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/198، وعقد الاستصناع: ص82

ص: 1079

ثالثًا: والقول بأن المعدوم لا يصلح أن يكون بيعًا، فإن المعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا كالناسي للتسمية عند الذبح، فإن التسمية جعلت موجودة لعذر النسيان، والطهارة للمستحاضة جعلت موجودة لعذر جواز الصلوات لئلا تتضاعف الواجبات. فكذلك المستصنع فيه المعدوم جعل موجودًا حكمًا للتعامل الجاري بين الناس.

فإذا قيل: إن هذا إنما يصح أن لو كان المعقود عليه هو العين المستصنع، والمعقود عليه هو الصنع في الاستصناع، وليس هو العين.

فإن الجواب قاله صاحب الهداية (1) : (إن المعقود عليه هو العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغًا لا من صنعته، أو من صنعته، قبل العقد، فأخذه جاز) .

رابعًا: والقول بأنه يبطل بموت الصانع، والعقود في المعاملات لا يبطلها موت أحد طرفيها، فإن الجواب عن ذلك: بأن الاستصناع إنما يبطل بموت الصانع لشبهه بالإجارة. فهو لهذا الشبه قلنا بأنه يبطل بموت الصانع، وهذا لا يمنع أن يكون عقدًا (2) . وهذا إذا كان الصانع فردًا، أما إذا كان مصنعًا، أو مؤسسة، فلا وجه لهذا.

خامسًا: من الأدلة على أن الاستصناع عقد أن الصانع يملك الدراهم بقبضها، وما دام يقبضها فهو عقد.. لأن المواعدة على شيء لا يملك الدراهم بقبضها، وبالاستصناع يملكها ملكًا غير لازم عند جمهور فقهاء الحنفية (3)

سادسا: ومن الأدلة - كذلك - أنه قد أجريت في الاستصناع القياس والاستحسان.. ونحن نعرف أن الوعد لا يحتاج إلى إثبات الاستدلال به إلى إجراء القياس والاستحسان.. فقد ثبت العمل بالوعد بالنص (4) والإجماع.

سابعًا: ومن الأدلة - كذلك - أن الاستصناع يثبت فيه خيار الرؤية، والوعد لا يحتاج إلى إثبات الخيار (5)

ثامنًا: ومن الأدلة - كذلك - أن الاستصناع يجري فيه التقاضي.. والتقاضي إنما يثبت في الواجب بالعقود لا بالوعود.. فإذا ما وعد شخص آخر لا يؤدي عدم الوفاء بذلك الذهاب للقضاء، وإقامة الدعوى، وإنما الذي يكون كذلك فيما هو واجب بالعقد بينهما (6)

تاسعًا: أن الصانع في الاستصناع يجبر على عمله، والمواعد على الشيء لا يجبر على ما وعد به إلا من باب الوفاء بالوعد - إن استطاع ذلك - أما الذي تعاقد في الاستصناع فإنه يجبر على صنع ما تعاقد عليه فإن لم يستطع يمكن أن يطلب من صانع آخر أن يتم عمله (7) .

(1) انظر الهداية: 5/355

(2)

الفتاوى الغياثية: ص151

(3)

انظر حاشية الطحاوي: 3/126، وفتح القدير: 5/355

(4)

كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".

(5)

انظر بدائع الصنائع: 6/2677، والمبسوط: 12/138

(6)

انظر بدائع الصنائع: 6/2677، والمبسوط: 12/138

(7)

انظر درر الحكام: 2/198، وانظر عقد الاستصناع: ص83

ص: 1080

عاشرًا: أن المستصنع لا يرجع عما طلب، ولا يجوز له أن يرجع، لأنه إن تعاقد لا يحق له أن يرجع عن ذلك، لأن التراجع له ضرر كبير على الصانع بتضييع المادة الخام بناء على أمر من المستصنع، فإن رجع فقد لا يشتريه أحد لعدم موافاته للشروط التي يطلبها هذا الأخير (1)

كما أن المستصنع إذا رأى المطلوب صنعه (المستصنع فيه) فهو بالخيار، لأنه (اشترى ما لم يره) ، فالقول بأنه اشترى ما لم يره دليل على أنه يريد به ذلك المستصنع، واعتباره شراء دليل على أنه عقد. (2)

لذلك، فالتسمية لعملية التعاقد بالشراء شيء واضح على أنه يراد به أنه ليس بوعد، والشراء إذا أطلق يراد به عملية التعاقد بالبيع، وأيضًا، فإن الشراء بيع، لأنه من الأضداد.

ومن جملة ما سبق من أدلة الفريقين يظهر لنا بوضوح أن أدلة القائلين بأن الاستصناع عقد وليس بوعد أقوى، وهي أجدر بالقول والحكم، تحقيقًا لما يراد من الاستصناع في تحقيق منفعة الطرفين، المستصنع، والصانع، مع التزامهما بما اتفقا عليه بينهما، دون تراجع يفسد مصلحة أحدهما، ودون إخلال بالمواصفات، أو تضييع للحقوق.

كما أن توصيف الاستصناع بأن عقد يضمن للناس تقدمًا وتطورًا مستمرًّا في الحركة الصناعية تلبي رغبات الناس المتجددة والنامية.

(1) درر الحكام: 2/198

(2)

انظر فتح القدير: 5/355

ص: 1081

هل هو عقد بيع ما ليس عنده؟

وإذا توصلنا إلى اعتبار " الاستصناع " عقد بيع، وليس بوعد، بقي أن نناقش علاقة الاستصناع ببيع ما ليس عند المرء. وتعود هذه المسألة إلى أن المال المستصنع ليس موجودًا بصفته المطلوبة وقت التعاقد.

فهل يجري على الاستصناع بهذا المعنى ما ورد في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق، ثم أبيعه؟ قال:"لا تبع ما ليس عندك".

وفي لفظ آخر عن حكيم بن حزام قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي (1)

والصورة المذكورة في حديث حكيم هي أن يبيع المرء للناس أشياء لا يملكها، ويأخذ الثمن منهم، ثم يذهب إلى السوق ليشتري هذه الأشياء.

ولا يخفى ما في هذه الصورة من المخاطرة والغرر، فقد لا يجد الشيء المراد في السوق ولذلك يقول شمس الدين بن قدامة:(لا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه، رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا (2)

فالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان يرتبط بالغرر والجهالة، وهذا يؤدي إلى المنازعة بين الناس، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيوع التي تحقق فيها هذا الغرر، فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الغرر) .

والغرر ما انطوى عنه أمره، وخفيت عليه عاقبته.

(1) انظر عارضة الأحوذي بشرح الترمذي: 5/241، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

(2)

الشرح الكبير مع المغني: 4/19

ص: 1082

ومن هذا الوجه النهي عن بيع نتاج النتاج كأن يقول البائع: بعت ولد ولد هذه الناقة، وكذلك بيع الحمل.

وقال الشوكاني: ومن جملة بيع الغرر: بيع السمك في الماء.

فهل صورة عقد الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وما تعارف عليه الناس، وتقديرهم لخبرة الصناع، فأسباب الغرر منتفية، والشيء ولو أنه غير موجود وقت العقد إلا أنه مقدور عليه بما وصف به، وبما عرف من إمكانية إنجاز الصانع له؟

ويعالج ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في بيانه لحكم بيع المعدوم عند العقد فيرى أن بيع المعدوم جائز إذا لم يكن فيه غرر، وعزا هذا الرأي إلى عدم ورود دليل من الكتاب، ولا من السنة، ولا من أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بعموم لفظ، ولا العموم معنى، وإنما ورد النهي عن بيع الأشياء التي هي معدومة، كما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، وإلى أن الشارع أورد نصًّا بجواز بعض المعدوم كبيع الثمر بعد بدو صلاحه مستحق الإبقاء إلى كمال الصلاح.

والخطر هو للغرر لا للعدم فيقول:

(أما المقدمة الثانية وهي أن بيع المعدوم لا يجوز، فالكلام عليها من وجهين:

أحدهما: منع صحة هذه المقدمة إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجودًا، إذ موجب البيع تسلم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأَمَة، أو هذه الشجرة، فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره، ولا صفته.

وهذا من المَيْسِر الذي حرمه الله ورسوله، ونظير هذا في الإجارة أن يكون دابة لا يقدر على تسليمها سواء كانت موجودة أو معدومة، وكذلك في النكاح إذا زوجه أَمَةً لا يملكها، أو ابنة لم تولد له، وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرع محض، فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر.

ثانيهما: أن نقول: بأن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود، والمعدوم الذي لم يخلق بعد.

والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح) (1)

(1) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع)، رواه جماعة إلا الترمذي. انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 5/195؛ وانظر أعلام الموقعين: 1/462 و 463.

ص: 1083

عقد الاستصناع وعقد السلم

لقد تعرفنا على موقف العلماء من عقد الاستصناع في تعريفهم له، وكيف تناوله المالكية والشافعية والحنابلة بإدخال مسائلة في عقد السلم، أو في البيع بالصفة، أو تشبيهه بالسلم.

فما صلة "الاستصناع""بالسلم"؟

لقد مر بنا ما ذكره ابن رشد ملخصًا موقف المالكية في ربط الاستصناع بالسلم فذكر من مباحث السلم: السلم بالصناعات (1)

وكذلك ما ذكر في الأم (2) من تقسيم الشافعي للسلم بالصناعات إلى قسمين:

الأول: ما كان من مادة خام واحدة ما عدا المادة المزيتة.

والثاني: ما كان من مادتي خام فأكثر ما عدا المادة المزيتة.

وإذا كان المالكية قد شبهوا الاستصناع بالسلم، والشافعية قد أدخلوه في مباحث السلم، فإن الحنابلة قد ذكروا السلم في الصناعات.

وأما الحنفية فقد رأينا كيف عدوا الاستصناع عقدًا مستقلًّا، وفي تعريفهم له وجدنا ما يميزون به بين العقدين، ففي (اشتراطهم للعمل في الاستصناع تمييز له عن السلم، إذ أن السلم هو بيع آجل بعاجل)(3) . ففي بيع في الذمة.

وقيل: هو أخذ ثمن عاجل بآجل (4) ، والاستصناع لا يشترط فيه أخذ الثمن عاجلًا (5) .

ويميز السرخسي بينهما عندما يذكر أن البيوع أربعة: بيع عين بثمن، وبيع دين في الذمة بثمن، وهو السلم، وبيع عمل، العين فيه تبع، وهو الاستئجار للصناعة ونحوهما، فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل، والعين هو الصبغ بيع فيه، وبيع عين شرط فيه العمل، وهو الاستصناع، فالمستصنع فيه مبيع عين (6)

فالسرخسي ميز بين هذه البيوع ولكنه في الوقت نفسه ساوى بين السلم والاستصناع في كونه بيعًا، ولكن له اسم مستقل وشروط خاصة به (7)

(1) المقدمات الممهدات: 2/32.

(2)

انظر الأم: 2/116.

(3)

فتح القدير: 5/323

(4)

حاشية سعدي جلبي مع فتح القدير: 5/323

(5)

انظر عقد الاستصناع: ص60

(6)

انظر المبسوط: 15/84.

(7)

انظر عقد الاستصناع: ص128

ص: 1084

كما أن المسلم فيه مبيع وهو دين، ورأس المال، وهو الثمن قد يكون عينًا، وقد يكون دينًا، ولكن قبضه شرط قبل افتراق العاقدين بأنفسهما فيصير عينًا.

أما في الاستصناع فلا يشترط فيه القبض عند أكثر الفقهاء، كما أن السلم لا يشترط أن يكون المسلم فيه مصنوعًا، بل في الغالب يكون طعامًا، أو حيوانًا، أو غير ذلك، ولا يشترط فيه الصنع.

أما الاستصناع فيشترط فيه الصنع، والشرط يقع على عمل في المتسقبل لا في الماضي (1) .

وإذا تتبعنا ما ذكر لدى فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وجدنا الحديث عن الاستصناع بما عرفناه به، وبما عرفه به الحنفية يأخذ مصطلح السلم.

فلو أعطى للصانع الذي يصنع الآجر، أو الجيار ثمن شيء معلوم، وأخذ منه حالًّا، أو إلى أجل قريب أو بعيد لجاز ذلك على أنه سلم (2)

واستصناع السيف، أو السرج، أو الثوب، أو الباب، ونحو ذلك من حداد أو سروجي، أو حائك، أو نجار على صنعة معلومة، وبثمن معلوم جائز. وهو سلم يشترط فيه شروطه المعروفة (3)

وهكذا نجد ما يذكر في عقد الاستصناع قد أخذ مصطلح السلم لدى المالكية.

ويضيف الإمام الشافعي رحمه الله، ومن تبعه من الشافعية في الحديث عن السلم بالصناعات ما يفيد اشتراط الضبط في المبيع، حتى لا يكون فيه غرر.

فيجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، وتضبط صفاته (4)

ومثل الشيرازي في المهذب بأشياء تدل على أنها لا تباع إلا بعد صنعها كالفخار، كما جوز التعامل بالورق المصنوع، لأنه معلوم القدر، ومعلوم الصفة، كما يجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لأنه بمنزلة صبغ الأصل (5)

ويقول الشيرازي: واختلف أصحابنا في الثوب المعمول من غزلين، فمنهم من قال: لا يجوز، لأنهما جنسان مقصودان، لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية.

ومنهم من قال: يجوز، لأنهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما.

(1) انظر بدائع الصنائع: 6/2677، وانظر عقد الاستصناع: ص61.

(2)

حاشية المدني على الرهوني: 3/252.

(3)

الشرح الصغير، للدردير: 3/287

(4)

المهذب، للشيرازي: 1/297

(5)

المهذب، للشيرازي: 1/297

ص: 1085

ويقول النووي: يجوز السلم في الكاغد عددًا، ويبين نوعه وطوله (1) ، وفي تحقيق الضبط والدقة يذكر النووي ما يكون من جواز السلم فيما يصب منها في القالب لعدم اختلافه.

وما يكون - كذلك - في صنع الثياب بذكر جنس الخيط كأن يكون من إبريسم، أو قطن، أو كتان، والنوع، والبلد الذي ينسج فيه، إن اختلف به الفرض، كما يجوز السلم في القمص والسراويلات إذا ضبطت طولًا وعرضًا، وسعة وضيقًا.

وتمتد الدقة في ذكر ما يضبط المصنوعات لتأخذ حكم الجواز لنجد اتساع ذكر المصنوعات التي وجدت في عصرنا فيذكر الأستاذ المطيعي في تكملته للمجموع، مجموعة من الصناعات الحديثة، وجوز التعامل بها على أساس طلب الصنعة، وأعطاها حكم السلم، كالثلاجة، والغسالة، والمذياع، والمحركات بأنواعها (2)

وما وجه إليه الشافعية من مراعاة الضبط الذي لا يكون معه غرر قد وجد سبيله في الصناعات المعاصرة بذكر مواصفات كل سلعة، وخصائصها، ويبقى مراعاة الأمانة وعدم الوقوع في الغش التجاري.

وأما مسألة اختلاط المواد الخام واعتبار الاختلاط نافيًا للضبط، فإن هذا قد ضبطت مقاديره لتقدم الصناعات ومعرفة طرق القياس بحيث يستطيع الإنسان أن يقدر السلعة المصنوعة بنسبها، دون اضطراب في التقدير.

وما قاله صاحب المهذب بأنه لا يجوز السلم فيما يجمع أجناسًا مقصودة لا تتميز كالغالية بسبب أن الغالية تكون عادةً من عدة مواد خام كالكافور والعنبر المخلوط بماء الورد يصبح - الآن - مضبوطًا بمعرفة نسب المكونات، وما يترتب عليها، وعلى ذلك يتغير الحكم لزوال العلة إلى الجواز.

ونجد عند الحنابلة التأكيد على الضبط في السلم بالصناعات كذلك، فهم يجوزون السلم في كل ما يوزن ويكال مما يضبط بالصفة التي تختلف الأثمان باختلافها (3) ، وكذلك يجوزون بيع المذروع من الثياب والخيوط، والثوب المختلف الغزول كقطن وإبريسم، أو قطن وكتان، "فإنه يجوز بيعها من طلب الصنعة بشرط ضبطها" (4) . وذلك بأن يقول: السدى: "إبريسم" واللحمة: "كتان"(5) ، ونحوه.

وبعد ذكر أقوال العلماء في الاستصناع وإلحاقه بمباحث السلم يحسن أن نذكر شيئًا يسيرًا يوضح معناه ودليل مشروعيته حتى يتضح وجه الربط بين "الاستصناع" و "السلم".

(1) روضة الطالبين: 4/28

(2)

تكملة المجموع: 13/130

(3)

انظر المغني: 4/356

(4)

كشف القناع: 3/377

(5)

انظر المغني: 4/366؛ وانظر عقد الاستصناع: ص115

ص: 1086

السلم:

قال أهل اللغة: السلف والسلم، وأسلم وسلم، وأسلف وسلف.

وقال الماوردي: إن "السلف" لغة أهل العراق، و "السلم" لغة أهل الحجاز (1)

وقال القرطبي في تفسيره: حد علماؤنا - رحمة الله عليهم - فقالوا: هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها، إلى أجل معلوم (2)

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون الثمار: السنة والسنتين، فقال:((من أسلف في ثمر، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (3)

فالسلم من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السلم، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة، كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين؛ فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فلو جاز حالًا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة.

فحكم السلم - إذن - الجواز، ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب فهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية.

قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة.

وقال ابن قدامة بعد ذكر هذه الآية: وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أصله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.

وأما السنة، فقد ذكرنا منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"من أسلف...." وهو حديث متفق عليه.

وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال: أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، فسألتهما عن السلف، فقالا: نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزيت، فقلت: أكان لهم زرع، أم لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.

وأما الإجماع، فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن السلم جائز، ولأن المثمن في البيع أحد عوض العقد، فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن، ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزرع، والثمار، والتجارات، يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص (4)

(1) انظر السراج الوهاج: 6/92

(2)

انظر مواهب الجليل: 3/342

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي: 11/41

(4)

انظر مواهب الجليل: 3/344

ص: 1087

عقد الاستصناع وعقد الإجارة

للاستصناع شبه بالإجارة في طلب الصنع، وهو العمل (1) ، جعل بعض العلماء يقولون إن الاستصناع "إجارة محضة"(2)

وربطوا بين الاستصناع وبين فعل الصباغ، فإن فعل الصباغ هو: الصبغ "العمل" في العين بصبغها، وأن ذلك هو نظير الاستصناع، وإن عمل الصباغ إجارة محضة.

ولكن يفترق الاستئجار على الصبغ عن الاستصناع.

فالصبغ، وهو عمل الصباغ إجارة وردت على العمل في عين يملكها المستأجر، أما الاستصناع فالأصل فيه هو العين المستصنع المملوك للصانع فيكون ما حدث بين الصانع والمستصنع هو بيع، ولما لم يكن للبيع وجود من حيث وصفه إلا بالعمل فأشبه العقد - هنا - الإجارة في حكم واحد لا غير، ولذلك افترق عمل الأجير عن الاستصناع.

ولكي يكون التفريق بين "الاستصناع" و "الإجارة" واضحًا سأذكر تعريفًا وبيانًا موجزًا بحقيقة الإجارة وحكمها وآدابها، ثم نذكر ما بينها وبين الاستصناع من فروق.

الإجارة:

والإجارة بيع منافع معلومة بعوض معلوم، وهي معاوضة صحيحة يجري فيها ما يجري في البيوع من الحلال والحرام.

وقال القرافي في الذخيرة: يقال: آجر - بالمد والقصر - وأنكر بعضهم المد، وهو منقول، قال: ولما كان أصل هذه المادة الثواب على الأعمال، وهي منافع، خصصت الإجارة ببيع المنافع على قاعدة العرف في تخصيص كل نوع تحت جنس باسم، ليحص التعارف عند الخطاب.

وقال: وقد غلب وضع الفِعالة - بالكسر - للصنائع نحو: الصناعة، والخياطة، والتجارة ونحو ذلك.

والفَعالة - بالفتح - لأخلاق النفوس نحو: السماحة، والشجاعة والفصاحة، ونحو ذلك.

والفُعالة - بالضم - لما يطرح من المحقرات نحو: الكناسة، والقلامة، والفضالة، والنخالة، ونحو ذلك (3)

وقال في اللباب: حقيقة الإجارة تمليك منفعة غير معلومة، زمنًا معلومًا، بعوض معلوم، وقال: وقد خص تمليك منفعة الآدمي باسم الإجارة، ومنافع الممتلكات باسم الكراء، قال: وحكمها الجواز ابتداء، واللزوم بنفس العقد ما لم يقترن به ما يفسدها.

(1) انظر العناية مع فتح القدير: 5/355، وابن عابدين في حاشيته: 5/224

(2)

انظر العناية مع فتح القدير: 5/356

(3)

انظر مواهب الجليل: 4/121

ص: 1088

قال: وحكمة مشروعيتها التعاون ودفع الحاجات، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1)

قال سليمان الجمل في حاشيته على الجلالين: أي ليستعمل بعضهم بعضًا في حوائجهم، فيحصل بينهم تآلف وتضام، وينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع عليه، ولا لنقص في المقتر عليه، قال: وعبارة الخطيب: ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا) ، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم سببًا لمعاش بعض، هذا بماله، وهذا بأعماله، فليتئم قوام العالم، لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش (2)

وقال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (3)

قال: فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهي سنة الأنبياء والأولياء.

وفي السنن الكبرى للبيهقي باب جواز الإجارة، قال تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4)

فأجاز الإجارة على الرضاع.

وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (5)

قال الشافعي: فذكر الله أن نبيًّا من أنبيائه آجر نفسه حججًا مسماة ملك بها بضع امرأة، فدل ذلك على تجويز الإجارة.

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الدِّيل، هاديًا خريتًا، وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال) ، هذا لفظ البغوي، والحديث في صحيح البخاري باب: استئجار المشركين عند الضرورة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم)) ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعى على قراريط لأهل مكة " أخرجه البخاري في صحيحه في أول الإجارة.

ودليل الإجارة كالبيع، ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: باب لا تجوز الإجارة حتى تكون معلومة، وتكون الأجرة معلومة استدلالًا بما روينا في كتاب البيوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر، والإجارات صنف من البيوع، والجهالة فيها غرر، ثم ساق سندًا إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يساوم الرجل على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تناجشوا، ولا تبايعوا بإلقاء الحجر، ومن استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) .

(1) سورة الزخرف: الآية 32

(2)

انظر مواهب الجليل: 4/121

(3)

سورة الكهف: الآية 77

(4)

سورة الطلاق: الآية6.

(5)

سورة القصص: الآية 26

ص: 1089

قال: ورواه حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير، يعني حتى يبين له أجره.

واستشهد ابن قدامة في المغني بهذا الحديث - كذلك - فقال: يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا، لا نعلم في ذلك خوفًا، وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا كالثمن في البيع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) .

وفي المقدمات لابن رشد: لا تجوز الإجارة إلا بأجرة مسماة، معلومة، وأجل معروف، أو ما يقوم مقام الأجل من المسافة فيما يحمل، أو توقيت العمل فيما يستعمل، وعمل موصوف، أو عرف في العمل والخدمة، يدخل عليه المتاجرون فيقوم ذلك مقام الصفة، يدل على ذلك قوله تعالى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] .

قال: فسمى الأجرة وضرب الأجل، ولم يصف الخدمة والعمل، لأن العرف والعادة أغنياهما عن ذلك.

قال: وقال صلى الله عليه وسلم: ((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) ، وقال صلى الله عليه وسلم:((من استأجر أجيرًا فليؤجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم)) . فأمر بتسمية الأجر، وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل، إذ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة اللذين يقومان مقامه.

وأما ما روي في السنن الكبرى عن عوف بن مالك وإعراض أصحابه عن الأكل من أجرته، فذلك لكون الأجرة كانت مجهولة.

فعن عوف بن مالك قال: غزونا وعلينا عمرو بن العاص، وفينا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فأصابتنا مخمصة شديدة، فانطلقت ألتمس المعيشة، فألفيت قومًا يريدون أن ينحروا جزورًا لهم، فقلت: إن شئت كفيتكم نحرها وعملها، وأعطوني منها. ففعلت، فأعطوني منها شيئًا، فصنعته ثم أتيت عمر بن الخطاب فسألني من أين هو؟ فأخبرته، فقال: أسمعك تعجلت أجرك، وأبي أن يأكله، ثم أتيت أبا عبيدة فأخبرته، فقال لي مثلها، وأبى أن يأكله، فلما رأيت ذلك تركتها، قال: ثم أبردوني في فتح لنا فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صاحب الجزور"؟ ولم يرد عليَّ شيئًا، وفي حديث سعيد: لم يزدني على ذلك.

ص: 1090

قال البيهقي: "وفي هذا أن الأجرة كانت مجهولة، وفي الذمة معلقة بعين (1)

ولا يفوتنا في هذه الرواية أن ننوه بما كان عليه الصحابة، رضوان الله عليهم من تحري الحلال حتى في المخمصة، وأن المجتهد يجد من أصحابه من يقوم اجتهاده. ويصير إلى ما أجمع عليه أصحابه، فعوف اجتهد وأخْذِه الأجرة على أنها حلال، ورأى أصحابه غير ذلك مع حاجتهم إلى الطعام وأبوا أن يأكلوا، وامتنع هو كذلك معهم، ولما أرسلوه بفتح فتحه الله عليهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بما كان منه بقوله:"صاحب الجزور؟ ".

ومن آداب الإجارة ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) . [رواه ابن ماجه في كتاب الرهون](2)

قال البوصيري في مصباح الزجاجة: (أصله في صحيح البخاري وغيره - ويقصد بهذا رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) (3) - يقول: لكن إسناد ابن ماجه ضعيف، وهب بن سعيد وعبد الرحمن بن زيد ضعيفان، وذكره البغوي في المصابيح في قسم الإحسان (4)

والإجارة في مبحثنا - هذا - تنصرف إلى الإجارة على الصنع، وقد عرفها السرخسي بقوله: إن الاستئجار لصناعة هو: بيع عمل، العين فيه تبع (5)

وفرق بين الاستصناع والاستئجار للصناعة بقوله: (إذا أسلم حديدًا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى، بأجر مسمى، فإنه جائز ولا خيار فيه إذا كان مثل ما سمى، لأن ثبوت الخيار للفسخ ليعود إليه رأس ماله فيندفع الضرر به. وذلك لا يتأتى هنا، فإنه بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه.

فأما في الاستصناع: المعقود عليه العين، وفسخ العقد فيه ممكن، فلهذا أثبت خيار الرؤية فيه، ولأن الحداد - هناك - في مثال الحداد المستأجر للصنع، يلتزم العمل بالعقد في ذمته، ولا يثبت خيار الرؤية فيما يكون محله الذمة كالمسلم فيه) (6)

(1) انظر مواهب الجليل: 4/123

(2)

باب (4) إجارة الأجير على طعام بطنه، حديث رقم 3443: 2/817

(3)

صحيح البخاري بحاشية السندي: 2/23، باب إثم من منع أجر الأجير من كتاب الإجارة

(4)

انظر سبل السلام: 3/172 و 173

(5)

المبسوط: 15/84، وانظر عقد الاستصناع: ص132

(6)

المبسوط: 15/85

ص: 1091

كما فرق الكاساني بين الاستصناع والاستئجار للصنع بقوله: (إن أسلم إلى حداد حديدًا ليعمل له إناءً معلومًا بأجر معلوم، أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم، فذلك جائز لا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزًا، فإن عمل كما أمر استحق الأجر. وإن فسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا، واتخذ فيه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع، لأن المضمونات تملك بالضمان. فهذه تختلف الإجارة فيها على الصناعة عن الاستصناع اختلافًا بائنًا، ولو شابه الإجارة من جهة كون العقد يبطل بموت أحد العاقدين مثلًا (1)

فالصانع يعد من قبيل الأجير المشترك، وأنه استؤجر للاستفادة والانتفاع بصنعته فهو يقدم عملًا لا عينًا، وأما الاستصناع فإن الصانع يقدم فيه مادة وعملًا بها، ولهذا لو تعاقد على أن تكون العين من صاحب العمل، والعمل من الصانع كان العقد عقد إجارة لا استصناع.

وإن دفع إليه بعض المعمول وأمره أن يزيده من عنده ما بقي لإتمامه فهذا جائز ويكون قرضًا.

ولو أمره أن يزيد إليه شيئًا مجهولًا، فإن العقد لا يصح، إلا إذا كان ما أمره بزيادته - وإن كان مجهولًا - من الأمور المعلومة عند الصناع فإنه يصح، وذلك كأن يدفع للصانع ثوبًا ليصبغه بعصفر، فهذا يجوز مع أن قدر العصفر غير معلوم، وكل ذلك يختلف باختلاف العرف في كل بلد. (2)

ومع وجوه التفريق بين "الإجارة على الصنع" و "الاستصناع" فإن بعض فقهاء الحنفية يرون أن "الاستصناع" إجارة ابتداء، بيع انتهاء.

ففي فتح القدير نقلًا عن الذخيرة: الاستصناع إجارة ابتداء، بيع انتهاء، لكن قبل التسليم، لا عند التسليم (3)

بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفى المصنوع من تركته، ذكره محمد في كتاب البيوت.

لكن القول ببطلان عقد الاستصناع بموت أحد العاقدين أرجعه الحنفية إلى كون الاستصناع له شبه بالإجارة، فهل الإجارة تبطل بموت أحد العاقدين؟

يجيب عن هذا عبد الوهاب البغدادي في كتابه "الإشراف على مسائل الخلاف"(4) فيقول: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد العاقدين إذا لم يتعذر استيفاء المنافع خلافًا لأبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالًا أو حقًّا فلورثته".

وهذه الإجارة متروكة للميت فيجب أن تكون لورثته، وهذا ينفي الفسخ، ولأنه عقد معاوضة، فلم ينفسخ بموت أحد العاقدين.

وتأسيسًا على ما سبق فإن "الاستصناع" عقد مستقل مسمى، وهو " عقد الاستصناع " له شبه بالإجارة من جهة كون الصنعة "العمل المطلوب" فيه تكون من الصانع.

(1) انظر بدائع الصنائع: 6/2678، والاستصناع: ص132

(2)

انظر الاستصناع: ص131، نقلًا عن بحث الإجارة المقدم للموسوعة الفقهية في الكويت، للأستاذ مصطفى كمال وصفي فقرة 372

(3)

انظر فتح القدير: 5/356 و 357

(4)

الإشراف على مسائل الخلاف: 2/66، وانظر هامش الاستصناع: ص133

ص: 1092

الخاتمة

وبعد المعايشة لمباحث " عقد الاستصناع وعلاقته بالعقود الجائزة " نستطيع أن نوجز أهم نتائج هذا البحث فيما يلي:

أولا: عقد الاستصناع من العقود التي لا غنى للناس عنها كحاجتهم إلى الصناعات وتجددها في كل عصر، وحاجة الصناع إلى الأموال التي تعينهم في ذلك.

ثانيًا: اختلاف العملاء في جوازه ومنعه ليس إهمالًا للاستصناع وانصرافًا عنه، وإنما في اعتباره عقدًا مستقلًّا - كما اعتبره جمهور الحنفية - أم داخلًا في مباحث عقود أخرى جائزة - عند غير الحنفية.

ثالثا: يقوم حكم الجواز لعقد الاستصناع على الإجماع العملي والاستحسان، وتقدير حاجة الناس إليه، كما اعتبر بعض العلماء السنة دليلًا على جوازه، أما القياس فلا.

رابعًا: بعد مناقشة أدلة القائلين بأن الاستصناع وعد، والقائلين بأنه عقد ترجح القول بأنه عقد بيع، وليس بوعد.

خامسًا: إذا كان النهي عن بيع "ما ليس عنده" قائمًا على الغرر والجهالة فإن المعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وتقديرهم لخبرة الصناع، فأسباب الغرر منتفية، ولو أنه غير موجود وقت العقد.

سادسًا: أدخل المالكية والشافعية والحنابلة مسائل الاستصناع في عقد السلم.

سابعًا: للاستصناع شبه بالإجارة في طلب الصنع "وهو العمل" جعل بعض العلماء يقولون: إن "الاستصناع" إجارة محضة، ولكن وجدنا تفريقًا بينهما، كما وجدنا مع التفريق بعض فقهاء الحنفية يقولون:"إن الاستصناع إجارة ابتداء، بيع انتهاء".

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد.

ص: 1093

ملخص البحث

نحمدك اللهم، ونستعينك، ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد.

فيتناول هذا البحث موضوعًا تتجدد حاجة الناس إليه للتطور الكبير الذي تشهده الحياة المعاصرة، وما يصحب هذا التطور من إشباع الحاجات البشرية بأجهزة جديدة ملائمة، وآلات، وأدوات، وغير ذلك من مصنوعات، يتقدم المستصنع إلى الصانع - فردًا كان أم مؤسسة - بصنع شيء تحدد معالمه، وتذكر صفاته، وكل ما يريد المستصنِع في المستصنَع فيه، كما يتفق على الثمن. فهذا الاتفاق هو شكل عقد الاستصناع، الذي عرف البحث به لغة، واصطلاحًا، فهو كما عرفه فقهاء الحنفية "عقد على مبيع في الذمة، يشترط فيه العمل على وجه مخصوص".

فخرج بهذا التعريف اعتبار الاستصناع وعدًا، أو عقد إجارة، أو بيعًا بإطلاقه، أو سلمًا.

وفقهاء الحنفية عدوا "الاستصناع" عقدًا مستقلًّا، أما فقهاء المالكية والشافعية فقد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، والفقهاء الحنابلة، جعلوه في باب ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم.

ولذلك فإن حكم الاستصناع لدى الحنفية - الذين اعتدوا به عقدًا مستقلًّا - الجواز. وأدلة هذا الحكم الاستحسان، ووجهه الإجماع العملي، وحاجة الناس إليه، وليس القياس، ويرى بعض الفقهاء أن السنة تعد من أدلة حكم الجواز قبل الاستحسان.

ص: 1094

وأما بقية الفقهاء الذين أدخلوا الاستصناع في غيره فهو جائز، لأن هذه العقود جائزة.

وناقش البحث ما قيل عن الاستصناع بأنه مواعدة. وانتهى إلى ترجيح أدلة القائلين بأنه عقد، ومع قوة الأدلة المرجحة فإن القول بالمواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى.

كما ناقش البحث مسألة اعتبار الاستصناع "بيع ما ليس عند المرء" بسبب أن المال المستصنع ليس موجودًا بصفته المطلوبة وقت التعاقد.

وسبب النهي ما في هذا البيع من المخاطرة والغرر، ولذلك ورد النهي عنه وليس النهي بسبب عدم وجود الشيء، فإذا انتفى الغرر كان الجواز، فالمعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وما تعارف عليه الناس، وتقديرهم لخبرة الصناع.

كما تناول البحث علاقة الاستصناع بعقد السلم، فقد أدخله المالكية والشافعية والحنابلة في عقد السلم، أو في البيع بالصفة، أو تشبيهه بالسلم، وقدم البحث أوجه التشابه والافتراق بين عقد الاستصناع وعقد السلم.

كما عرض البحث علاقة عقد الاستصناع بعقد الإجارة، فالاستصناع له شبه بالإجارة في طلب الصنع، وهو العمل، ولكن يفترق " الاستئجار على الصنع"، والاستصناع، ومع هذا التفريق بينهما، وجدنا بعض فقهاء الحنفية يرون أن "الاستصناع" إجارة ابتداء، بيع انتهاء.

وبعد بيان علاقة عقد "الاستصناع" بالعقود الجائزة، فإن هذه العلاقة تجعل لحكم الجواز في عقد "الاستصناع" قوة.

الدكتور/ محمد رأفت سعيد.

ص: 1095

المصادر والمراجع

1-

الإجارة. للأستاذ/ مصطفى كمال وصفي، بحث - موسوعة الفقه الإسلامي - الكويت.

2-

أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنفي، "عرض منهجي" للدكتور محمد زكي عبد البر، طبعة أولى 1407هـ - 1976م. دار الثقافة، الدوحة.

3-

إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة 923هـ. المطبعة الميمنية - القاهرة 1327هـ. مع تحفة الباري لزكريا الأنصاري مع شرح النووي على مسلم.

4-

الأشراف على مسائل الخلاف والإجماع. لأبي بكر بن المنذر 310هـ. مخطوطة مصورة عن الأصل في الرباط الأحمدي بالمدينة المنورة تحت رقم 289.

5-

الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الهمذاني 584هـ، الطبعة الأولى 1386هـ.

6-

الأعلام لخير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة. بيروت 1969م.

7-

أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية 751هـ. تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل. دار الكتاب الحديثة، القاهرة 1389هـ.

8-

الأم، للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي، توفي 204هـ طبعة بولاق، القاهرة 1329هـ.

9-

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، لعلاء الدين أبي الحسن ابن سليمان المرداوي، طبعة أولى 1375هـ. السنة المحمدية، القاهرة.

10-

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، توفي 587هـ. طبعة الإمام، القاهرة.

11-

تحفة الفقهاء، لعلاء الدين السمرقندي 539هـ. طبعة أولى، جامعة دمشق 1377هـ.

12-

تحفة المحتاج شرح المنهاج، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيثمي 974هـ. طبعة مصطفى محمد 1304هـ.

13-

حاشية سعدي جلبي 945هـ على العناية والهداية، مطبوع على هامش شرح فتح القدير. طبعة أولى 1316هـ، بولاق، القاهرة.

14-

حاشية الطحطاوي على الدر المختار، لأحمد الطحطاوي الحنفي، طبعة بيروت 1395هـ.

15-

درر الحكام في شرح غرر الحكام، لمحمد بن فراموز الشهير بمنلاخسرو 885هـ ومعه حاشية الشرنبلالي 1096هـ. طبعة أحمد كامل 1330هـ.

ص: 1096

16-

رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق، للإمام بدر الدين أبو محمد بن أحمد بن موسى العيني 855هـ. طبعة الأميرية، القاهرة 1285هـ.

17-

روضة الطالبين، للإمام أبي زكريا يحيي بن شرف النووي الدمشقي 676هـ. طبعة المكتب الإسلامي، دمشق.

18-

سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني، صححه وعلق عليه وخرج أحاديثه فواز أحمد زمرلي، وإبراهيم محمد الجمل، دار الكتاب العربي، طبعة خامسة 1410هـ/1990م.

19-

السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج، للعلامة أبي الطيب صديق بن حسن خان الحسيني القنوجي البخاري، وهو شرح على ملخص صحيح مسلم للحافظ المنذري، حققه وعني بطبعه الشيخ عبد الله الأنصاري طبعة الشؤون الدينية بدولة قطر 1404هـ/1984م.

20-

الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، لأبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير 1201هـ طبعة دار المعارف، القاهرة 1973م.

21-

شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد بن الهمام 861هـ. طبعة أولى 1316هـ، بولاق، القاهرة.

22-

الشرح الكبير على متن المقنع، لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي 682هـ. طبعة أولى ثانية 1346هـ و 1347هـ، المنار، القاهرة.

23-

شرح المنهاج، لجلال الدين محمد بن أحمد المحلى.

24-

صحيح البخاري بحاشية السندي، للإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري 194 - 256هـ، وبالهامش حاشية أبي الحسن نور الدين محمد بن عبد الهادي السندي، ومعها تقريرات من شرحي الإمامين القسطلاني، والأنصاري. طبعة 1372هـ/1953م، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

25-

صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، ومعه شرحه للنووي المتوفى 676هـ. طبعة المطبعة المصرية ومكتباتها بالقاهرة 1349هـ.

26-

طبقات الفقهاء، لطاش كبرى زاده. طبعة ثانية 1961م، الزهراء الحديثة الموصل.

27-

عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي 543هـ، دار العلم، دمشق.

ص: 1097

28-

عقد الاستصناع، (دراسة مقارنة) رسالة ماجستير لكاسب عبد الكريم البدران من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1397هـ/1977م.

29-

العناية، لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي 786هـ، مع شرح فتح القدير، طبعة أولى 1316هـ، بولاق، القاهرة.

30-

الفتاوى الغياثية، لداود بن يوسف الخطيب، طبعة أولى، بولاق، القاهرة 1322هـ، وبهامشها فتاوى ابن نجم صاحب البحر الرائق.

31-

فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام أحمد بن على بن حجر العسقلاني 852هـ. طبعة السفلية.

32-

الفروع، لشمس الدين المقدسي أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي 762هـ. طبعة ثانية. دار مصر للطباعة، مراجعة عبد الستار أحمد فراج.

33-

كشف القناع على متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي 1051هـ. طبعة الحكومة، مكة المكرمة 1394هـ.

34-

لسان العرب، لابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمد بن جلال الدين أبو العز مكرم 711هـ.

35-

المبسوط لشمس الدين محمد بن أحمد بن سهل السرخسي 438هـ. ط. ثانية، دار المعرفة، بيروت.

36-

المجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا محمد الدين بن شرف النووي 676هـ.

(التكملة الثانية للمجموع) لمحمد بن بخيت المطيعي. طبعة الإمام، القاهرة.

37-

مختار الصحاح، لزين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي المتوفى سنة 666هـ، ترتيب محمود خاطر المتوفى 1367هـ. طبعة مؤسسة الرسالة، دار البصائر 1407هـ/1987م.

38-

المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء، طبعة تاسعة 1967م، دمشق.

39-

مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد ابن حنبل 241هـ، وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. طبعة بيروت، المكتب الإسلامي. دار صادر.

ص: 1098

40-

المغني مع الشرح الكبير، لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة 620هـ. طبعة أولى وثانية 1346هـ. المنار، القاهرة.

41-

المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى 520هـ، تحقيق الدكتور محمد حجي وبعناية الشيخ عبد الله الأنصاري. إدارة إحياء التراث الإسلامي، دولة قطر، طبعة أولى 1408هـ/1988م.

42-

منتقى الأخبار، لشيخ الإسلام ابن تيمية مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني 621هـ، مع نيل الأوطار.

43-

المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب، للمنذري، انتقاه، وقدم له، وعلق حواشيه، ووضع فهارسه الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي. من منشورات مركز بحوث السنة والسيرة.

44-

المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي 476هـ طبعة الحلبي، القاهرة.

45-

مواهب الجليل متن أدلة خليل، للشيخ أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي، عني بمراجعته الشيخ عبد الله الأنصاري. مطبوعات إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر 1403هـ/1983م.

46-

الهداية مع شرح فتح القدير، لعلي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني 593هـ. طبعة أولى 1316هـ. بولاق القاهرة.

ص: 1099

المناقشة

عقد الاستصناع

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بين أيديكم في هذه الجلسة موضوع (عقد الاستصناع)، والعارض هو الشيخ علي السالوس والمقرر هو الشيخ سعود الثبيتي. تفضل يا شيخ علي:

الشيخ علي السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

عقد الاستصناع حظي بدراسات كثيرة على الأخص بعد أن أصبح وسيلة هامة من وسائل التمويل في البنوك الإسلامية، وبديلًا شرعيًّا لحالات الإقراض الربوي، وأمامنا هنا أربعة عشر بحثًا، بعضها يحتاج إلى يوم كامل لقراءته، نظرت فيها قدر الاستطاعة، ومما يسر الرجوع إليها أن هناك أشياء متشابهة، فبالنسبة للعقد عند المذاهب الأربعة لا يكاد يكون هناك خلاف، وبالنسبة للآراء التي ينفرد بها بعض الإخوة، هذه يكفي أن نشير إليها، فإذا شاء أحدهم أن يبين رأيه فهو أقدر على بيانه مني، والاستصناع من العقود المسماة عند الحنفية فقط، أما المذاهب الثلاثة فإنهم لا يعدونه عقدًا مستقلًّا كما سيأتي في بيان الحديث عنه وننظر إلى الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة، ونترك الحنفية للآخر لأن عندهم تفصيلات كثيرة، في الأبحاث – أكثر الأبحاث – ينتهي إلى ما يأتي، علما بأن المذاهب الثلاثة لم تجعل الاستصناع عقدًا مستقلًّا وإنما جعلوه ضمن السلم.

فالمالكية خصصوا جزءًا من كتاب السلم للسلم في الصناعات، أو السلف في الصناعات. وضربوا أمثلة لما كان يصنع في عصرهم وأجازوه بشروط السلم.

أما الشافعية فقد أجازوا السلم فيما صنع من جنس واحد فقط، كالحديد أو النحاس أو الرصاص أو غيرها، ولم يجيزوه فيما يجمع أجناسا مقصودة لا تتميز، كطست من نحاس وحديد، وكالغالية وهي مركبة من دهن مع مسك وعنبر أو عود وكافور. وجعلوا مثل هذا، لا يجوز إلا يدًا بيد، وإجازتهم ما صب في قالب لا يخرج عن قولهم هنا، فإنهم لم يجيزوه إلا بالشرط السابق، أي أن يكون الأصل المذاب في القالب من جنس واحد، وما نقل من أقوالهم ينص على هذا الشرط، وقد جعل الإمام الشافعي هذا الشرط عاما حيث قال بعد ذكره:(وهكذا كل ما استصنع) . أما ما يجمع أجناسا مقصودة تتميز كالقطن والحرير، فهو موضع خلاف بينهم، والأصح في المذهب الجواز بشرط علم العاقدين بوزن كل من أجزائه.

ص: 1100

والحنابلة لا يكادون يختلفون عن الشافعية إلا في القليل من الفروع التطبيقية. ومن هذا نرى أن المذاهب الثلاثة أجمعت على عدم جواز الاستصانع إلا بشروط السلم، غير أن المالكية أجازوا استصناع أي شيء مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع، على حين لم يجز الشافعية والحنابلة من هذه الأشياء ما جمع أجناسا مقصودة لا تتميز، هذه خلاصة ما جاء عن الاستصناع في كتب المذاهب الثلاثة.

ننتقل بعد هذا إلى الاستصناع عند الحنفية، ونخرج زفر من الحنفية لأنه خالفهم في هذا ولم يوافق على قولهم في الاستصناع، وإنما هو مع الشافعية، ويؤخذ من كلام الحنفية أنهم اختلفوا في تحديد معنى الاستصناع أيعد مواعدة أم بيعا؟ ولكن الصحيح في المذهب أنه بيع، واستدلوا على هذا، ثم اختلفوا كذلك أهو عقد على مبيع في الذمة أم عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل؟ والصحيح في المذهب هو اشتراط العمل، بعد هذا نجد أن الحنفية استدلوا لمشروعية هذا العقد بالسنة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام استصنع خاتما ومنبرًا وبالإجماع الثابت بالتعامل، وبالاستحسان.

وإذا نظرنا في أدلة الحنفية وجدنا أن السنة المطهرة ليس فيها ما يدل على أن هذا تم بالطريقة التي قال بها الحنفية، وكذلك الإجماع لأنه لو كان هناك إجماع فالمخالفون أكثر من الحنفية، والحنفية أنفسهم قالوا بأن الإجماع بالنسبة للاستصناع من الناحية العملية، ولكن هذا الإجماع الفعلي أهو مواعدة (وعد) أم هو بيع أم إجارة؟ فهم يعترفون بأن هناك خلافا في هذه الناحية. وبالطبع لو كان وعدًا فلا خلاف ولو كان إجارة فلا خلاف وإنما الخلاف في أن يكون بيعا.

بعض الإخوة الباحثين أخذ يؤيد رأيهم بالسنة والإجماع. ويعارض الجمهور في هذا، ووجدنا من الإخوة الآخرين من بين أن السنة والإجماع لا يؤيدان ما ذهب إليه الحنفية.

ص: 1101

الدليل الرئيسي – فعلًا – للحنفية هو الاستحسان: هذا هو الأساس.

بعد هذا ننتقل إلى شروط جوازه، فنرى أن الحنفية يشترطون لجواز الاستصناع ما يأتي:

أولًا: بيان جنس المستصنع وبيان نوعه وقدره وصفته لأنه لا يصير معلوما بدون هذا البيان، وهذا الشرط لا ينفردون به حيث إنه من شروط السلم.

ثانيا: أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس.

ثالثا: ألا يكون فيه أجل، وهذا قول الإمام أبي حنيفة وخالفه الصاحبان، ويلاحظ عند ذكر الأجل فيما يجري فيه التعامل، أن رأي الإمام أبي حنيفة لا يختلف عن السلم في الصناعات عند المالكية.

هذه هي الشروط التي اشترطوها لجواز الاستصناع، وهنا نرى الفرق بين الاستصناع والسلم، وكثير من الإخوة تحدث عن الفرق بالتفصيل (توسع) . فالشرط الأول: هو من شروط السلم، والشرط الثاني: أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس – هذا ليس من شروط السلم، والشرط الثالث: ألا يكون فيه أجل – عكس السلم أساسا وإن أجاز بعضهم السلم بغير أجل كالشافعية، ويضاف هنا فارق أساسي جوهري وهو اشتراط تقديم الثمن في السلم وعدم اشتراط هذا في الاستصناع، وبالطبع عند الماكية التأجيل لفترة معلومة.

تحدث الحنفية بعد هذا عن حكم الاستصناع، وبالرجوع إلى كتبهم (الهداية وشروحها) و (تحفة الفقهاء) و (بدائع الصنائع) وغير هذه الكتب، لأن بعض الإخوة – أو ربما أحد الأخوة فقط – خالف في هذا، من النقول من هذه الكتب يؤخذ ما يأتي:

الاستصناع عقد غير لازم قبل العمل لكل من المتعاقدين، وهذا لا خلاف حوله عند الحنفية، لا يختلفون في هذا أبدًا جميع الحنفية، وهو كذلك غير لازم بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع، حتى لو انتهى منه ولكن لم يعرضه على المستصنع، (وعقد لازم) فللصانع أن يبيعه لمن شاء والمستصنع ليس مجبرًا.

اختلف الحنفية في الحكم إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة، هنا يبدأ الخلاف: فظاهر الرواية عن الإمام والصاحبين معه أن الصانع يسقط خياره ويبقى للمستصنع الخيار، حتى بعد أن يحضره وهو مطابق للمواصفات، الصانع يسقط خياره، وللمستصنع الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك، هذا ظاهر الرواية عن الإمام والصاحبين وروي عن الإمام: أن لكل واحد منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما جميعا، وهذه نقطة هامة جدًّا، فظاهر الرواية أن المستصنع له الخيار حتى بعد المجيء بالمصنوع وعلى المواصفات الموجودة، مثل الإمام والصاحبين، ولكن هناك رواية عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعا، وروي عن الإمام أن لكل واحد منهما الخيار، والأول هو الأصح كما قال ابن عابدين، هو ظاهر الرواية، أي أن المستصنع له الخيار، ونلاحظ أن أدلة الحنفية هنا - الذين قالوا بأن له الخيار أو ليس له الخيار - تنبني أساسا على القول بمنع الضرر. استدل بهذا من قال بالخيار ومن قال بالإلزام.

ص: 1102

رابعًا: يبطل الاستصناع بوفاة أحد المتعاقدين. وهذا أيضا لا خلاف فيه عند الحنفية.

من هنا نرى الفرق بين الاستصناع الذي قال به الحنفية وبين السلم، فالسلم عقد لازم ولا يدخله الخيار ولا بد من تسليم الثمن، ولكن في الاستصناع يجوز أن يسلم الثمن كله أو بعضه أو لا يسلم، ومع هذا وجدنا مجلة الأحكام العدلية تأتي برأي يخالف ما رأيناه في كتب الحنفية، حيث رأت أن الاستصناع فيه الإلزام من بداية التعاقد، يعني بمجرد الإيجاب والقبول يكون هنا إلزام حيث نصت المادة 392 على ما يأتي:

" إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا " يعني التخيير عند عدم توافر المواصفات، ومن الخطأ القول بأن المجلة أخذت برأي أبي يوسف، فقبل العمل وكذلك بعده وقبل أن يراه المستصنع لا خلاف أن العقد غير لازم عند أبي يوسف وغيره، أما المجلة فإنها قالت: إذا قال رجل لواحد من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشا وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استصناعا بمجرد الإيجاب والقبول.. ولذلك وجدنا الشيخ الجليل فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا يضع تعريفًا يتفق مع ما يراه في هذا العقد لأنه وجد أنه حتى التعريف في المجلة غير كامل فقال في عقد الاستصناع: هو عقد يشترى به في الحال شيء مما يصنع صنعا يلتزم البائع بتقديمه مصنوعا بمواد من عنده بأوصاف معينة وبثمن محدد.

بعد هذا العرض السريع يبقى أن هناك من أيد وهناك من عارض، ولكن بصفة عامة النقل من كتب الحنفية يبين خلاصة ما قلت، ونترك لمن شاء أن يقول رأيه، ولكن قبل أن أترك هذا المكان أحب أن أقول رأيي - من حقي هذا - وهي النتائج والاقتراحات.

أولًا: الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة جزء من السلم لا يصح إلَّا بشروطه وهو عند الحنفية عدا زفر عقد مستقل له شروطه وأحكامه الخاصة.

ثانيًا: الشافعية والحنابلة نظروا إلى مادة المصنوع فأجازوا ما كان من جنس واحد واختلفوا فيما يجمع أجناسًا مقصودة تتميز بحيث يعلم العاقدان وزن كل من أجزائه، والراجح الجواز، ولم يجيزوا ما جمع أجناسا مقصودة لا تتميز، والمالكية نظروا إلى تعامل الناس فأجازوه ولم ينظروا إلى مادة المصنوع وإنما إلى المصنوع نفسه سواء كان من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، والحنفية - أيضًا - نظروا إلى ما فيه تعامل، فأجازوه استصناعًا غير أنهم أجازوا ما ليس فيه تعامل سلما لا استصناعا، فما ليس فيه تعامل فهو سلم.

ثالثًا: إذا ذكر الأجل في الاستصناع أصبح سلما عند أبي حنيفة، خلافا للصاحبين، وهذا يعني أن رأي الإمام هنا كالسلم في الصناعات عند المالكية.

رابعًا: لعل الأولى النظر إلى تعامل الناس في الصناعات في مختلف العصور والأمصار، وبهذا نرجع ما ذهب إليه الحنفية، المالكية. والعرف بضوابطه الشرعية مصدر يحتج به في الأحكام.

خامسًا: لم نجد ما يجيز رأي الحنفية في جعل الاستصناع بيعًا على غير وجه السلم، وهو معدوم وليس عند البائع، كما أنهم أجمعوا على أنه عقد غير لازم قبل أن يراه المستصنع، وهذا لا يرفع حرجا ولا يحل مشكلة، وعلى الأخص في صناعات العصر التي قد تكون بآلاف الآلاف، ولذلك رأينا مجلة الأحكام العدلية وهي في الفقه الحنفي تجعل الاستصناع عقدًا لازمًا منذ البداية وهذا يخالف إجماع المذهب الحنفي فضلًا عن باقي المذاهب.

ص: 1103

ولهذا أقترح ما يأتي:

1– إذا اعتبر عقد الاستصناع بيعًا ألحقناه بالسلم بجميع شروطه، ويصح في الصناعات التي يتعامل بها في أي عصر.

2– ما لم يكن سلما حيث يتعذر تطبيق شروطه، ويقع الناس في حرج ومشقة، يعتبر وعدًا لا بيعًا، وهذا ما قال به بعض الحنفية، حتى لا نقع في محظور شرعي، وفي هذه الحالة: نطبق قرار مجمع الفقه الموقر في دورته الخامسة بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة، وبذلك يصبح القرار التالي: إذا جعلنا الاستصناع بدلًا من المرابحة: الوعد وهو الذي يصدر عن المستصنِع أو الصانع على وجه الانفراد يكون ملزمًا للمستصنع ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب ودخل الصانع في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة: إما بتنفيذ الوعد وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.

3– المواعدة: وهي التي تصدر عن الطرفين تجوز في الاستصناع بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في الاستصناع تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده. انتهى المطلوب نقله من قرار المجمع وهذا نعرضه والرأي لكم.

والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

ص: 1104

الشيخ علي محي الدين القره داغي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أشكر فضيلة الأستاذ علي السالوس على عرضه الطيب وبارك الله فيه، غير أن ما وصل إليه - الأستاذ الدكتور علي السالوس - من اعتبار الاستصناع سلما، حينئذ لا يحقق المقصود من الاستصناع، لأن المقصود من الاستصناع ألا يدفع الإنسان الثمن، ولا رأس المال، يكون جاهزًا، أما بالنسبة للسلم لا بد من دفع رأس المال أو من دفع الثمن إما في المجلس كما هو رأي الجمهور أو في ثلاثة أيام كما هو رأي المالكية، وحينئذٍ يصبح الاستصناع عديم الجدوى بالنسبة لوقتنا الحاضر، ولاسيما في البنوك والأمور الأخرى، أو اعتباره وعدًا حينئذ أيضًا لا يكون ملزما وحينئذ يترتب عليه مشاكل كبيرة جدًّا كما يقول شراح المجلة حينما ذكروا في لزومية العقد، قال: كان الناس أيام الزمان حينما يستصنعون، يستصنعون - أعزكم الله - زوجًا من حذاء، فليس هناك أي مشكلة. فحينما يكمل يقول: أنا لا أريد أو لا يعجبني، أما الآن فهناك صناعة السفن وغير ذلك، وفي وقتنا الحاضر صناعة السفن وصناعة الطائرات وغير ذلك، فهل بالإمكان أنه يصنع لنا الطائرة أو يصنع لنا سفينة أو يصنع لنا أي شيء ثم نقول: إن هذا لا يعجبني رغم توفر الشروط والالتزمات؟ فحينئذ بهذه الصورة لما يكون الاستصناع وعدًا لا يبقى له أي فائدة ولا أية قيمة، وسوف نعود لهذه المسألة بعد قليل.

ص: 1105

ولنا أيضًا بعض الملاحظات على ما ذكره الأستاذ الجليل.

أولًا: حصر آراء غير الحنفية في اعتبار الاستصناع من باب السلم، يؤخذ عليه من أن المالكية رحمهم الله جعلوا نوعين من أنواع الاستصناع داخلين في غير السلم، كما في الصفحة الخامسة من بحث الفقير إلى الله حيث يقول: النوع الثاني كذا وكذا فهذا النوع ليس بسلم وإنما هو من باب البيع والإجارة، والنوع الثالث كذلك: فهذا النوع أيضًا من باب البيع والإجارة، فالاستصناع عند المالكية أربعة أنواع: نوع سلم ونوعان داخلان في البيع والإجارة ونوع باطل، كما هو موجود في بحثي.

إذن من هنا حقيقة لا ينبغي لنا أن نقول بأن غير الحنفية أدخلوا الاستصناع في باب السلم فالمالكية اعتبروا الاستصناع في نوعيه من باب البيع والإجارة.

ثانيا: الملاحظة الثانية في قضية استقلالية الاستصناع: المسألة لا تنحصر حتى في قضية البيع والسلم والإجارة، وإنما هناك حوالي سبعة تصورات، وكل تصور قال به فريق من العلماء كما أسلفت في البحث، هل هو بيع فقط؟ هل هو سلم؟ هل هو بيع وإجارة؟ هل هو إجارة ابتداء وبيع انتهاء؟ هل هو إجارة محضة؟ هل هو مواعدة؟ هل هو له شبه بالسلم والبيع؟ لا هذا ولا ذاك. هل هو جعالة؟ حوالي سبعة أو ثمانية تصورات وبكل تصور قال به فريق من العلماء، وقد رجحنا في الأخير أنه عقد مستقل، ليس سلما ولا بيعا ولا غير ذلك بأدلة مذكورة في بحثي، وحينما ناقشنا الأقوال السابقة قلنا إن الذين قالوا إنه بيع اعترف أكثرهم بنوع من التغاير بينه وبين الاستصناع فمثلا قالوا: إن الاستصناع يخالف البيع في في اشتراط العمل في الاستصناع دون البيع، وفي إثبات خيار الرؤية عند بعضهم في الأول، ثم إن الاستصناع لو كان بيعا لما بطل بموت أحد العاقدين عند الحنفية، إذن فهو ليس بيعا، ثم كذلك - ولا أريد أن أطيل على حضراتكم لأنه موجود في الكتاب - الذين جعلوا الاستصناع إجارة يَرِدُ عليهم أو يُرَدُّ عليهم بوجود فرق كبير بينهما، فالاستصناع وارد على العين والعمل، بينما الإجارة واردة على العمل فقط. وكذلك الذين قالوا بأنه مواعدة، وكل هذه المناقشات موجودة عند حضراتكم.

ص: 1106

والقول الذي رجحناه: بأنه نوع مستقل لكنه يحتاج إلى إجلاء من التفصيل وتنقيح المناط وذلك لأن كثيرًا من المسائل المختلفة قد حشرت تحت لواء الاستصناع، بحيث نرى أن كل مسألة من باب البيع أو الإجارة أو السلم فيها صنعة أو استصناع لغوي أدخلت في باب الاستصناع المطلوب، ولذلك نرى من الضروري حصر الاستصناع في مفهومه الخاص، بحيث لا يكون فيه خلط أو التباس بغيره، وكذلك ينبغي إبعاد المسائل التي هي مندرجة أساسًا تحت عقد خاص - في الإجارة، في السلم - أن نبعدها عن الاستصناع، ولذلك فإذا صيغ عقد الاستصناع على أساس مواصفات السلم وتوفرت فيه شروطه فإنه حينئذ سلم، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذلك لو قال وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير أصبح بيعًا وليس هبةً، وهكذا الأمر ههنا فلو طلب شخص من آخر أن يصنع له مصنوعا موصوفا في الذمة ولم يحدد الشخص ولا الشيء المصنوع منه بعينه، فهذا سلم يجب فيه دفع الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية، حتى لو سُمِّي استصناعا فهو من الناحية اللغوية، وحينما يكون سلما يكون ملزما للطرفين ويشترط فيه شروط السلم، وكذلك الأمر حينما يكون المصنوع جاهزًا، فيأتي به الصانع فيبيعه فهذا يكون بيعًا، أو يكون غائبا فيقع عليه العقد وحينئذ يكون بيع الغائب، وكذلك الحكم فيما لو صيغ العقد على أساس الإجارة: بأن يأتي شخص بكمية من الحديد ويستأجر الصانع ليصنع له منه سيفًا أو نحو ذلك فهذا إجارة، ويصبح الصانع أجيرًا مشتركًا ويشترط فيه شروط الإجارة، وقد يكون أجيرا خاصًّا إذا خصصه لنفسه أو لعمله، ويصبح ملزما للطرفين، وكذلك الأمر حينما يصاغ على صورة الجعالة أو نحوها، ولذلك يقول الكاساني - وهذا النص موجود عند حضراتكم - (وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي الخلط وإنما يجب الحكم على هذه المسائل التي ذكرت مع الاستصناع وحشرت معه على ضوء العقود التي تندرج فيها تلك) .

وبعد هذا التحرير والتفصيل نقول: إن الاستصناع الذي هو خاص مستقل، هو إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء معين موصوف في الذمة خلال فترة محددة قصيرة أو طويلة وسواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أو لا وسواء كان المصنوع منه موجودًا أثناء العقد أو لا. هذا هو المقصود بالاستصناع الذي ورد عليه هذا الخلاف.

ص: 1107

وبعبارة موجزة إن محل عقد الاستصناع هو العمل؛ والعين من الصانع، فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعا ولا إجارة ولا سلما ولا غير ذلك وإنما هو مستقل له شروطه الخاصة به وخصائصه وآثاره العامة.

هذا ما نراه والأدلة على ذلك موجودة، ونكتفي بهذا القدر بخصوص استقلالية الاستصناع، بعد ذلك ننتقل إلى مسألة أخرى.

فضيلة أستاذنا الجليل يقول: إن المجلة خالفت مذهب الحنفية، وأنا - حقيقة والحمد لله - اطلعت على مخطوط المحيط البرهاني وهو مخطوط يقع في ثمانية مجلدات ضخام، وعندي - والحمد لله - نسخة مصورة منه من مكتبة أوقاف في بغداد. نذكر لحضراتكم نصًّا ينطبق هذا النص من المحيط البرهاني مع ما ذكرته مجلة الأحكام العدلية - في بحثي - لأن المجلة كما لا يخفى على الجميع التزمت المذهب الحنفي، لكنها لم تلتزم الراجح أو الكتب الظاهرة وقد أخذت بروايات غير ظاهر الرواية كذلك أخذت بالمتأخرين كما في بيع الوفاء وكما في تضمين الغاصب وغير ذلك.

تصوير المحيط البرهاني، الصفحة 24، المذهب الحنفي. هذا الذي ذكرناه وأنا ذكرت ما تفضل به أستاذنا الدكتور علي السالوس، قلنا: هذا الذي ذكرناه هو ما بين الكاساني في تصوير المذهب الحنفي حيث ذكر: أن الخلاف في اللزوم وعدمه إنما هو في المرحلة الثالثة عندما يكتمل المصنوع ويعرض على المستصنع. لكن المحيط البرهاني صور المسألة عند الحنفية على أن الخلاف وارد في أصل العقد نفسه من حيث اللزوم والجواز - كما ينطبق عليه كلام المجلة - أو بعبارة أخرى ذكر لنا أن بعض الحنفية يرون لزوم العقد بمجرد الانعقاد، وأنقل لحضراتكم النص يقول:(قلنا الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة) . ثم ذكر الروايات إلى أن قال: (ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما بل يجير الصانع على العمل - ما دام العقد موجودا - ويجبر المستصنع على القبول. ووجه ما روي عن أبي يوسف أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر على العمل، وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع، لأنه أصلًا لا يشتريه غيره أو عسى لا يشتريه غيره أصلًا، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعا لضرر عن الصانع) ، ثم ذكر قضية المنبر، وهذا الذي ذكره أبو يوسف وفصله المحيط البرهاني هو المرافق لمقتضى العقود والقواعد العامة إلى إلتزام بقوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .

ص: 1108

ولذلك أخذت مجلة الأحكام العدلية بهذه الرواية عن أبي يوسف، ونصت في مادتها 392 على أنه " إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا ". ويبدو أن المجلة أخذت لزوم العقد من هذا الكتاب (المحيط البرهاني) وهو حجة في المذهب الحنفي وغيره من كتب الحنفية التي صورت الخلاف بهذا الشكل على عكس ما صوره الإمام الكاساني وابن عابدين وجمهرة - مثل ما تفضل الشيخ - من علماء الحنفية، وحقيقة التحرير الذي قام به ابن عابدين والذي وصل إليه، ما وصل إليه الأستاذ الدكتور علي السالوس، من أنه لا يكون لازما، أنا في اعتقادي هذا التحرير الذي قام به ابن عابدين اجتهاد منه في فهم نصوص علماء المذهب الحنفي، وحينئذ يمكن اعتباره طريقة من الطرق، كما هو مصطلح حسب اصطلاح الفقه المذهبي، ولكن لا يمكن اعتباره حسما في المسألة بأنه لا يمكن تصوير هذه المسألة.

هذا حقيقة ما أردت أن أبينه بخصوص ما ذكره أخي الكبير الدكتور علي السالوس لأنه يبدو أنه لم يطلع على هذا الكتاب القيم وهو المحيط البرهاني.

ثم بعد ذلك أنا - في اعتقادي - أرجح جانب اللزوم وهو أنه ليس هناك أي مخالفة أو لا هناك الحرية التعاقدية كما يرجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنا في دراسة الدكتوراه توصلت إلى أن جميع المذاهب تقريبا أو الراجح في جميع المذاهب يرجحون بأن الأصل في العقود الإباحة، فإذا لم يكن العقد مخالفا لأي قاعدة أو لأي نص شرعي فيصبح هذا العقد جائزا أو لازما أو ملزما للطرفين، داخلا في قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .

وليس باللزوم أن يكون هذا العقد موجودا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عصر الصحابة والتابعين، بينما كان بالتأكيد موجودًا هذا الاستصناع منذ أن وجدت الصناعات، هذا النوع كان موجودا من الناحية العملية، ولذلك ادعى الحنفية الإجماع الفعلي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أريد أن أطيل على حضراتكم فالأدلة على لزومية العقد موجودة، وكذلك إذا نحن وصلنا - لا سمح الله - إلى قضية الجواز معناه ألغينا عقد الاستصناع وأصبح عقد الاستصناع بدون فائدة تذكر، وعلى عكس ذلك تجري البنوك الإسلامية كلها بما فيها البنوك التي يشرف عليها فضيلة أخي الدكتور علي السالوس، فليست حجة طبعا لكنه في الحقيقة عرف سائد وعرف جائز ولنا استدلال في ذلك والأدلة على ذلك موجودة في صفحات هذا البحث، وهذا ما أردت أن أعرضه وأشكركم على حسن الاستماع وكذلك أعتذر فيما إذا كنت قد أطلت.

ص: 1109

الشيخ حسن علي الشاذلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

في الحقيقة حينما تعرضت للكتابة عن عقد الاستصناع كان من الضروري أن أرى اتجاه الفقه الإسلامي لسد هذه الثغرة التي تحتاج إلى أن يلبي الناس حاجات بعضهم البعض مما يحتاج إلى تصنيع، ومن ثم عرضت البحث الموجود أمامكم على أساس أن أعرض رأي الحنفية ثم رأي المالكية ثم الشافعية ثم الحنابلة. الذي يجمع بين هذه المذاهب جميعا هو أشياء تصنع ويتم التعاقد عليها إما سلما وإما استصناعا، النقطة التي بدت بين الجميع خلافية، هل نطلق أو نوجد عقدا يسمى عقد الاستصناع له خصائصه؟ هذا ما اتجه إليه الحنفية وقد تكلم الإخوة عن هذه النقطة بإفاضة كما رأينا ولكن لي تعليق محدود حتى لا نطيل الكلام.

إن الموضوع هو التعاقد على شيء غير موجود، وأنه سيوجد بعد أن يصنع، وأن الثمن في عقد الاستصناع يصح أن يكون مقدما، ويصح أن يدفع البعض ويؤخر البعض كما حدده المذهب، فحينئذ موضوعه غير موجود، الثمن قد يتأخر بعضه أو كله، ومن ثم جاء الكلام حول مناقشة الأدلة التي يمكن أن نتخطى بها كونه معدوما وكون بعض الثمن قد يكون متأخرا، الحنفية عللوا لذلك بجانب الأدلة التي ذكروها من استصناع المنبر أو الخاتم أو ما إلى ذلك من الحمام ودخوله وعدم تحديد ما يستهلكه الإنسان فيه، بجانب ذلك قالو: إن التعامل بالاستصناع يرجع إلى الإجماع الفعلي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من غير نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وقوله: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ". إلى هنا أخذنا من هذا أن هناك صناعات كانت تتم في هذا الوقت، وأنه اتفق على جوازها من هذا الكلام الذي ذكرناه، ومن ثم تابعت بعض المسائل الموجودة عند المالكية حتى أرى ما يمكن أن يكون دينا بدين، ووجدت صورة عند المالكية أتوا بها: وهي الشراء من شخص دائم العمل - يعني من لهم حرف - ويتقدم إنسان ليشتري منهم بعض ما عندهم على أن يأخذ في كل يوم جزءا ثم بعد ذلك يسدد في نهاية المدة، وهذه الصورة كما وردت بنصها أن الناس كانوا يبتاعون اللحم بسعر معلوم، يأخذ كل يوم شيئا معلوما، ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، ثم قال المالكية: إن كل ما يباع في الأسواق يأخذ حكم هذه الصورة، ولا يكون إلا بأمر معلوم، يسمي ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأمونا ولم يروه دينًا بدين، ثم قالوا: وإجارة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين، هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية - مروي عن الإمام - (أنا أجيز ذلك استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة وإن كان القياس يخالفه) ، إذن كان هناك بعض البياعات التي تتم بهذه الصورة، فيها السلعة قد تكون غير موجودة حتى أنه يجوز التأخير عندهم في هذه الصورة، يتأخر الشروع إلى عشرة أيام ونحوها، يتم على شيء غير موجود وقت التعاقد، قد يكون ذلك، والثمن متأخر، وأجيزت هذه استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة.

ص: 1110

قارنت بين الأمرين، بين هذه الصورة التي أجيزت استحسانا ودليلها تعامل أهل المدينة، وبين ما قاله الحنفية هنا: من أن ذلك جرى التعامل عليه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ثم بينت أن التعامل هذا الذي يعتبر عرفا وإجماعا فعليًّا، يمكن أن يكون أصلًا للقول بعقد الاستصناع، إلى هنا نسطيع أن نقول: إن الحنفية دائما حينما يكون هناك إجماع عملي نجد أنهم يخضعون أو يأخذون بالاستحسان في مثل ذلك - ولذلك جاءوا في الشروط حينما يشترط الإنسان شرطا ويكون هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه وفيه منفعة لأحد المتعاقدين - وقد كان القياس هو ألا يصح هذا الشرط، ولكن ما تعامل الناس به أجازوه، فقالوا: إذا اشترى نعلًا على أن يحذوه البائع أو جرابا على أن يخرز له خفًّا أو ينعل خفه أو قلنسوة على أن يبطن له البائع من عنده قالوا: إن ذلك يجوز استحسانا لأن الناس قد تعارفوا هذا النوع من الشرط، وتعاملوا فيه فيجوز استحسانا التعامل به، والتعامل قاض على القياس، لأن التعامل إجماع فعلي والثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، والعرف يترك به القياس.

إذن إلى هنا نستطيع أن نقول إن القول بمشروعية عقد الاستصناع دليله بجانب الأدلة التي ذكروها أن التعامل جرى عليه وقد رأينا ما صرح به المذهب المالكي في الصورة التي ذكرها، وإن كانت لا تتفق مع الاستصناع من كل وجه، ولكن من حيث إنه شيء غير موجود قد يكون غير موجود في الوقت الحالي، وأنه سيوجد وقد يتأخر الشروع أياما مع أن الثمن مؤخر في هذه الصورة إلى العطاء، لكن صورة الاستصناع معنا قد يكون الثمن حالًّا أو قد يكون مجزءًا وقد يكون متأخرًا. هذا من ناحية.

الناحية الثانية: لما نظرنا إلى موضوع العقد، موضوع العقد هو الخلاف الموجود هل هو العمل أو العين التي يرد عليها العقد؟ طبعا العمل غير موجود وكذلك العين غير موجودة، ووجد خلاف في المذهب كما قرره الأخ الدكتور علي، يعني الآن المعقود عليه غير موجود قطعا، والميل إلى جعله متعلقا بالعين أولى من تعلقه بالعمل، لأننا نحن الآن أمام بيع والبيع يحتاج إلى ألا نلجأ إلى العمل لأن العمل سوف يكون إجارة، لكن البيع يكون متعلقا بالعين، فيرد العقد على العين. صحيح أن العين هي المصنعة، فهذا أمر مضاف إليها لكن العين هي التي يرد عليها العقد.

ص: 1111

النقطة الأخرى: من حيث لزوم عقد الاستصناع، واضح لنا أن المذهب في كتبه المطبوعة سواء كانت من أول المبسوط إلى الكتب المتأخرة كلها درجت إلى تقسيم الحالات التي يمر بها عقد الاستصناع وهي ثلاثة: على أن الحالة الأولى قبل أن يتم التصنيع لا شك أن العقد غير لازم، وبعد تمام التصنيع، وقبل تقديمه للشخص الذي استصنع هذه السلعة أيضا يكون غير لازم، ثم جاء الخلاف في اللزوم في المرحلة بعد التصنيع، ثم تقديمه إلى الشخص المستصنع، في هذه الحالة يأتي الاختلاف في اللزوم، هل هو لازم؟ أو يلزم الصانع ولا يلزم المستصنع لأن المستصنع يكون بالخيار أو أن كلًا منهما يكون له الخيار؟ هذا ما نقله الأخ الدكتور علي عن المحيط البرهاني ويشكر الحقيقة في متابعته لهذه النقطة - وطبعا المحيط البرهاني مخطوط - وبودنا أن يحقق أيضا من عدة نسخ، يعني لا بد من تحقيق هذا المخطوط على نسخ المحيط البرهاني وهي كثيرة، حتى نتأكد من أن هذا الوارد هو موجود هي المحيط وإن كان لم ينقل إلى هذه الكتب وبخاصة أنها تنقل عن المحيط البرهاني.. وإن السلع التي كانت معروضة أو التي كانت تستصنع في هذا الوقت كانت من الخفة أو من عدم الأثر الكبير بحيث لا تؤثر على المتعاقدين تأثيرا كبيرا، ومن ثم لم تكن بالأهمية بمكان، لكن الآن وقد أصبح أولًا الاستصناع لا يمكن أن يحصر في الدائرة التي ضربت لها الأمثلة إذ أن كل ما تعالم فيه الناس استصناعًا سيجري عليه هذا الأمر فإذا كان الأمر كذلك وقد جرى الاستصناع الآن في كل السلع تقريبًا سواء كانت معمرة أو غير معمرة وسواء كانت استهلاكية أو إنتاجية، أصبح العالم الآن يموج بالتصنيع، فهل يمكن أن نقف عند هذا الحد أم أنه يجوز لنا أن نتخطى هذه المرحلة؟ ثم نظرا لخطورة هذه الصناعات التي تعرض ننتقل من درجة عدم اللزوم إلى اللزوم حتى لا يضار المتعاقد، سواء كان صانعًا أو مستصنعًا، وبخاصة أن المستصنع إذا رجع عن العقد في تصورنا في الوقت الحالي فإنه لن يجد مصنعا يقدم له شيئا، كذلك نفس المصنع أو الصانع إذا نكص عن العقد فإنه لن يجد مشتريًا لأن هذا يؤثر على مسيرته في السوق، ومن ثم الاتجاه إلى القول بلزوم العقد هو اتجاه تمليه الضرورة الفعلية والتعامل الفعلي القائم في مثل هذه الصناعات، حتى لا يقع ضرر كبير في هذه الحالات على الصانع أو على المستصنع.

هذا ما أردت أن أبينه بالنسبة للنقاط التي وجدت أمامنا وهناك في البحث بعض الأمور يمكن الاطلاع عليها في أن البديل من حيث المذاهب الأخرى وهو السلم أيضًا ضبطوه، ووجد كما عرض الدكتور السالوس ولا نطيل فيه فالبحث أمامكم ويمكن الاطلاع عليه وشكرًا.

ص: 1112

الدكتور سامي حسن حمود:

بسم الله الرحمن الرحيم.

في خاتمة هذا التعليق بالنسبة لي الذي أفتقد فيه هذا الجو العلمي بين الإخوة الطيبين في هذا الوسط الفواح الشذى، وهذه الرئاسة الحكيمة، والأمانة العامة الرحبة الصدر، أختتم في أن أبين الجانب التمويلي في عقد الاستصناع، فهذا العقد هو واحد من العقود التي صنعها الاجتهاد صنعًا، الاجتهاد الإسلامي المدفوع لسد احتياجات المجتمعات الإسلامية وضمن قواعد الشرع الحنيف، وإن كان سمي بالاسم عند الحنفية، لكنه من حيث المآل كان موجودًا كما استمعنا عند المذاهب الأخرى، وهذه هي طبيعة الفقه الإسلامي، يغطي الاحتياجات سميت أو لم تسم.

أهمية العقد في حياتنا المعاصرة: ننظر إلى هذا العقد، وهذا ما أرجوه أن ننظر إلى الاختلافات الفقهية على أنها آراء وتراث، نأخذ منها ولا نتقيد بحرفيتها، نأخذ منها بمقدار ما تلبيه من احتياجات المجتمع، خاصة وأننا نصول ونجول في ميدان الاجتهاد الرحب الفسيح.

فالنسبة لعملية الاستصناع أولًا: هي مدخل من عمليات التمويل للمؤسسات والبنوك الإسلامية، وقد كان أول من تحدثت معه في هذا أخي الدكتور عبد السلام العبادي باعتباره مسؤولًا عن مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام، حيث طبقنا عقد الاستصناع على استصناع حجر البناء الذي تبنى به البيوت في الأردن غالبًا، وكان هذا تطبيقًا موفقًا، ومزية عقد الاستصناع عند الأخذ باللزوم به من حيث إنه يمكن أن يكون فيه استصناع واستصناع موازٍ، كما بين الفقه الحنفي بكل صراحة ووضوح في أنه يجوز لمن تقبل عملًا - أي أخذ على عاتقه عملًا – أن يقبله يعطيه لغيره بسعر أقل، فإذا أخذ على النظام القديم ثوبًا ليصنعه بعشرة دراهم يستطيع أن يعطيه لآخر ليصنعه بنفس المواصفات بتسعة دارهم فيربح الفرق، وهذا الفرق له مقابل هو الإدارة والمتابعة والتنظيم، كذلك في حجر البناء يؤخذ لراغب البناء المتر بعشرة دنانير ثم نجد من يبنيه بنفس المواصفات بتسعة فتربح المؤسسة المالية أو البنك الإسلامي الفرق، وإذا جاء الحجر حسب الوصف فالعقد ملزم وإذا لم يأت حسب الوصف تتحمل الجهة التي تولت التمويل المخاطرة.

ص: 1113

هذه الصيغة البسيطة التي نراها في تراث الأقدمين – رحمهم الله جميعًا – في حديثهم عن صناعة خف وثوب وقلنسوة نتطور بها في حياتنا اليوم لسد الاحتياجات التمويلية على أعلى المستويات.

عرضت علينا قضية: قضية تمويل حاجة لإحدى الدول الإسلامية بخمسمائة مليون دولار، وكان الموضوع عقد سلم على البترول، وعقد السلم كما تعلمون فيه تقديم رأس المال وقبض الإنتاج أو تسلم الإنتاج مرة واحدة، ولكن كمية البترول ليس هناك إمكان تسليمها دفعة واحدة، وكذلك في نفس الوقت من المصلحة التسلم على دفعات، وكذلك من المصلحة دفع لثمن على دفعات أيضًا، فكان عقد الاستصناع هو الوعاء الذي انتقل به الفكر الإسلامي من خف وقلنسوة وثوب إلى تمويل صفقة بخمسمائة مليون دولار، على استصناع البترول بمواصفات معينة من إنتاج آبار معينة، وتم العقد على هذا الأساس، وكم سرت الدولة بأن يكون الفتح لها من باب إسلامي، ثم جاء على طريقة ما ذكرت من الاستصناع والاستصناع الموازي عقد آخر، حتى لا يتضرر المشتري بذبذبات أسعار البترول التي تتحكم فيها السوق العالمية صعودًا وهبوطًا، فنظم عقد مواعدة على البيع مع جهة تأخذ هذا البترول الخام، وهي مصفاة للبترول تصنعه ليصبح البنزين والسولار ومادة الزفت والمنتجات البترولية الأخرى، وتمت الموازنة بين هذه العقود، فأصبح الكل راضيًا، استفادت الدولة الإسلامية واستفاد الممول الذي يبحث عن الطريق الحلال، وتم الإحياء لعقد قدمه لنا الفقهاء بجهدهم وتراثهم – رحمهم الله جميعًا – وندعوا لهم بالرحمة ونسير على منهجهم في تطبيق الاحتياجات وليس في التقيد بالكلمات. وشكرًا لكم جميعًا.

ص: 1114

الشيخ محمد رأفت سعيد:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين. وبعد:

عقد الاستصناع من العقود التي تشتد حاجة الناس إليها، فإن حاجة الإنسان إلى السلع التي تستصنع من الحاجات المتجددة، وذلك لتطور الحياة البشرية، بل وبصورة سريعة يكون المستصنع اليوم قديمًا في الغد، وما صنع هذا العام ليس هو ما صنع في العام السابق، وقد يحتاج الأمر إلى إضافات جديدة تحتاجها طبيعة الآلة أوالجهاز المصنع وتقتضيه ضرورة الاستعمال، كما أن الصانع في إطار هذا القفز السريع في التطور قد يحتاج إلى مال يدخل في تهيئة هذه المصنوعات، وكذلك في نفقاته الخاصة، وعلى ذلك فإن تحقيق حاجة المستصنع والصانع تجعل بينهما هذا الوجه الذي عقد بينهما، يدفع فيه المستصنع مالًا للصانع ليصنع له ما يريد، فكيف يكيف هذا العقد؟ هل هو مواعدة أم بيع؟ وهل يكون بيعًا لما ليس عند البائع فلا يجوز؟ وهل يستثنى من هذا نظرًا لحاجة الناس إليه كما استثني السلم مع تحقيق ما يشترط في السلم من تحديد الصفة والقدر والأجل؟ وهل تحقق هذه الشروط يجعلنا نسميه سلمًا ولا حاجة إلى استحداث اسم آخر كعقد الاستصناع؟ ولكن لوحظ أن هذا الاستصناع يختلف عن السلم في وجوه، منها أن عقد الاستصناع يتضمن عمل عامل في الصناعة، فهل هذا العنصر يجعلنا نطلق عليه عقد إجارة. أم أن عقد الاستصناع فيه من جوانب هذه العقود ما يكون بها عقدًا خاصًّا يسمى بعقد الاستصناع وأن تضمنه لهذه الجوانب من العقود الجائزة يمنحه قوة الحكم بالجواز؟

ص: 1115

هذه التساؤلات: كانت العناصر التي تضمنها البحث الذي قدمته في عقد الاستصناع وعلاقة هذا العقد بالعقود الجائزة، فإذا تقدم المستصنع إلى الصانع فردًا كان أم مؤسسة بصنع شيء تحدد معالمه وتذكر صفاته وكل ما يريد المستصنع في المستصنع فيه، كما يتفق على الثمن، فهذا الاتفاق هو شكل عقد الاستصناع، هذا العقد، فقهاء الحنفية عدوه عقدًا مستقلًّا، أما فقهاء المالكية والشافعية فقد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، وفقهاء الحنابلة جعلوه في باب بيع ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم، ولذلك فإن حكم الاستصناع لدى الحنفية الذين اعتدوا به عقدًا مستقلًّا الجواز، وأدلة هذا الحكم الاستحسان، ووجهه الإجماع العملي وحاجة الناس إليه وليس القياس، ويرى بعض الفقهاء – كما استمعنا من أساتذتنا الكرام – أن السنة تعد من أدلة حكم الجواز قبل الاستحسان، وإن كان الحديث حديث المنبر وحديث الخاتم – أيضًا فيه ما يحتاج إلى تفصيل ضمنته البحث، وأما بقية الفقهاء الذين أدخلوا الاستصناع في غيره فهو جائز، لأن هذه العقود جائزة، ناقش البحث ما قيل عن الاستصناع بأنه مواعدة، وانتهى إلى ترجيح أدلة القائلين بأنه عقد، ومع قوة الأدلة المرجحة فإن القول بالمواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى، فكيف تقوم هذه الصناعات الخطيرة على مجرد وعد؟ كما ناقش البحث أيضًا مسألة اعتبار الاستصناع بيع ما ليس عند المرء، بسبب أن المال المستصنع ليس موجودا بصفته المطلوبة وقت التعاقد وورود النهي عن هذا البيع لما فيه من المخاطرة والغرر، وليس النهي بسبب عدم وجود الشيء، فإذا انتفي الغرر كان الجواز، فالمعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف ومقدور التسليم بحكم العادة وما تعارف عليه الناس وتقديرهم لخبرة الصناع، كما تناول البحث علاقة الاستصناع بعقد السلم. فقد أدخله المالكية والشافعية في عقد السلم أو في البيع بالصفة أو تشبيهه بالسلم. كما قدمت أوجه التشابه والافتراق بين عقد الاستصناع وعقد السلم، عرض البحث كذلك إلى علاقة عقد الاستصناع بعقد الإجارة، فالاستصناع له شبه بالإجارة في طلب الصنع وهو العمل، ولكن يفترق الاستئجار على الصنع والاستصناع، ومع هذا التفريق بينهما وجدنا بعض فقهاء الحنفية يرون أن الاستصناع إجارة ابتداء بيع انتهاء، وبعد بيان علاقة عقد الاستصناع بالعقود الجائزة فإن هذه العلافة تجعل لحكم الجواز في عقد الاستصناع قوة، ولذلك فإن اختلاف العلماء – وهذا ما أحب أن أؤكده تأكيدًا لما استمعنا إليه من كلام أساتذتنا الكرام في قيمة عقد الاستصناع – في جوازه ومنعه ليس إهمالًا للاستصناع، وليس انصرافًا عنه وإنما في اعتباره عقدًا مستقلًّا – كما اعتبره جمهور الحنفية – أو داخلًا في مباحث عقود أخرى جائزة عند غير الحنفية.

والذي أختم به حديثي في تقدير ما يصدر عن مجمع الفقه في بيان حكم الاستصناع أن يقترن بهذا التوجيه للأمة، فالأمة، كلها الآن مطالبة في حياتها المعاصرة أن تطرق مجالات الاستصناع التي تقتضيها المعاصرة، ليتحقق لها الوجود القوي الذي يؤثر ويتأثر بصورة إيجابية، لا تكون في موقع المستهلك فحسب وإنما تحقق في داخلها التكامل الذي يسر الله سبحانه أسبابه، فعنصر المال يفتح مجالات الاستصناع، والمواد والخام والخبرة مع تنوعها، والضوابط التي يقدمها الفقهاء في مثل هذا المجمع في هذه المجالات، تحقق للأمة جميعًا بين الأصالة والمعاصرة، الاستصناع في المجال الطبي، وفي المواصلات، وفي آلات القوة الملتزمة بالحق والعدل وإفشاء السلام، والخير للعالمين، في الأجهزة والأدوات التي تيسر للأمة سبل حياتها، التصنيع الزراعي، وما يحتاجه الإنسان في مأكله ومشربه، بل وفي وسائل ترفيهه التي تتلاءم مع شخصية الأمة، كل ذلك في حاجة إلى النهوض به ونحن نتدارس حكم عقد الاستصناع. وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وشكرًا.

ص: 1116

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

ما تفضل به السادة العلماء الذين تقدموني فتح أبوابًا كثيرة، وكانت بحوثًا معمقة بلغت بطون الكتب المطبوعة والمخطوطة فجزاهم الله خيرًا على ما بذلوه وكانت الأمثلة التي ضربوها أمثلة تجعل كل واحد منا يحس بالقضية وبالموضوع، وأنا أبدأ من هنا ثم أذهب فورًا إلى التاريخ.

ما قيمة الاستصناع في عصرنا الحاضر؟ ليس هو الصناعة وما أدخلتها على حياتنا فإن كل واحد منا في معظم حياته ليس في حاجة إلى الاستصناع، بل هو يذهب إلى المصنوعات فإذا بها معروضة في دور العرض موجودة يستطيع أن يشتريها، ولكن المشكلة أعمق من هذا عندما ننظر إلى بعض ظروف الإنسان والأمة، أما بعض ظروف الإنسان فكل واحد منا يريد أن يبني بيتًا لنفسه في حياته، فيتعاقد مع من يبني له هذا البيت، فما هو هذا العقد؟ هو يتفق معه على أن يبني له بيتًا له مواصفات محدودة ويسلمه له بعد مدة، ويتقاضى الثمن على مراحل، فهل هذا العقد عقد صحيح شرعًا أم عقد حرام؟

ثم أنتقل من هذه الحالة الفردية إلى أمر أقوى منه، وهو الأمة والدولة في قيامها على شؤون حياة العامة، ونبدأ مثلًا بأن الدولة تريد أن تجهز الجيش بالطائرات، فهي تتفق مع شركة من شركات الطيران أن تعد لها في كل سنة عشر طائرات من نوع محدد، لا تستطيع الدولة أن تدفع من اليوم الثمن على أنه عقد سلم، ولا تضمن للأمة سلامتها، إذا قلنا إنه عقد بخيار، فإذن القضية تصبح أكثر أهمية وأكثر خطورة، ومن ذلك ما تقوم به الدولة من مبان وغيرها، فإذن المشكلة أصبحت اليوم لها تأثير على الحياة الخاصة والعامة، غير التأثير الموجود من قبل، المشكلة التي واجهت الفقهاء ما هي؟ حتى نعلم لماذا – في ظني – لماذا اختلف الفقهاء؟ المشكلة هي مشكلة المخاطرة عند تعمير ذمتين، عندما يكون الصانع من ناحية قد التزم بشيء والمستصنع قد التزم بشيء، هذا لم يدفع شيئا وهذا لم يدفع شيئا، والشريعة منتظمة لا خلاف فيها، وجعلوا من قواعد التشريع تعمير الذمتين أنه غير جائز، فلما جاءت قضية الاستصناع أدخله من أدخله تحت عقد السلم باعتبار أنه فرغ ذمة وهي ذمة المستصنع بأنه دفع المال، وبقيت ذمة واحدة وهي ذمة الصانع، أما الحنفية فلا بد أن يكون العقد عندهم عقد خيار وذلك لأنه لما لم يدفع صاحب المستصنع المال، ولم يقم الصانع بالعمل. فلا بد أن يكون عقد في كل واحد منهما بالخيار حتى يقع الخروج من هذه المشكلة أي مشكلة تعمير الذمتين. إذن هذا هو - في نظري - قلب المشكلة وكيف اتخذ كل واحد منهما حلا إما لأنه لا بد من تقديم الثمن كاملا وإما أنه على الخيار.

ص: 1117

وقد رأينا فقهاء سابقين عدوا هذه بعد أن قعدوا القاعدة، عدوا كل ما خالف القاعدة هو من قبيل المستثنيات، ولكن ابن القيم الجوزية - رحمة الله عليه - وهو البعيد الغور لما تحدث عن المشاكل قال:(ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس) ، وأنتم أعلم بهذا مني، أراد أن يجعل من هذه العقود عقودا مستقلة بذاتها وليست مستثناة من القواعد العامة وبسطها بما هو معلوم، فأعتقد أن العقود التي تجرى اليوم على هذه الصفة لا يمكن فيها أن تقوم الدولة ولا الأفراد بدفع المال معجلا، ولا يمكن أن تقوم على الالتزام، وأنه يتأكد القول بأن هذه العقود كلها هي عقود جائزة وإلا لوقعت الأمة كلها في خطر، ولا يمكن أن نجيز عقدا وأن ننفي عقدا آخر، ولهذا فالذي يترجح عندي أمران: أنه لا يجب تقديم رأس المال كاملا كالسلم، وأن عقد الاستصناع - أو سمه ما شئت - هو عقد ملزم للطرفين. والله أعلم.

عفوا نسيت نقطة: الأمر الذي أريده الانتظام، أن ينتظم فيه الفكر الإسلامي في مباشرة الحياة الجديدة هو أن هذا أيضا هو أصل المشكلة في المستقبليات التي تحدثنا عنها قبل يومين، فإن الذي يأخذ على نفسه أو يلتزم بأن يعطي للدولة كل يوم عشرة أطنان أو مائة طن من الخبز فلا بد من أن يحقق لنفسه المادة الأولية، وهو لذلك لا بد أن يعقد هذا العقد من هذا النوع الذي يلتزم فيه الطرفان دون تقديم رأس المال. وشكرا.

ص: 1118

الدكتور عبد السلام دواود العبادي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

أرجو أن تسمحوا لي بأن أنقل الحديث إلى نقطة متقدمة في الحوار، واضح أن القول بعقد الاستصناع وفق الفهم الذي رجحه عدد من العلماء، والذي تبنته مجلة الأحكام العدلية على أساس لزوم العقد وعلى أساس ما ذهب إليه الحنفية من عدم اشتراط دفع الثمن - ثمن المستصنع - عند العقد، هذا الفهم هو الذي دفعنا للتفكير في قدرات هذا العقد لحل مشكلات التمويل المعاصرة وبخاصة في البنوك الإسلامية، والذي دفعني لهذا - في الواقع والذي حدثت فيه أخي الدكتور سامي - هو النمو الواسع لعقد بيع المرابحة للآمر بالشراء، واضطرار التطبيق لهذا العقد إلى أن يذهب في تطبيقه إلى آفاق - في الواقع - لها محاذيرها الشرعية، ذلك أن الذي رجحه المجمع - كما تذكرون في دورة الكويت - هو ضرورة أن يكون هنالك تسليم للأعيان التي يجري شراؤها وفق عقد المرابحة، هذا الأمر إذا طبق في كثير من أنواع السلع التي تصنع لا يمكن في الواقع أن يحدث تسلم من البنك أو من الجهة الممولة لهذه المواد لأنها لا تسلم إلا في حوزة الآمر بالشراء، ولا يعتبر التسليم عرفا ولا قانونا إلا بأن يجري التسليم في حوزة الآمر بالشراء، فكيف يمكن عند ذلك تصور أن يكون هنالك تسليم أو تسلم من الجهة الممولة؟

في التطبيق: البنوك الإسلامية ما عادت تراعي هذا كثيرا، وأغفلت موضوع التسليم وأصبح هناك تطبيقات تفصيلية ليس هنا مجال الحديث عنها قائمة على التساهل في هذا الأمر. هذا من جانب.

ص: 1119

من جانب آخر لاحظنا أنه في عقود بيوع المرابحة، هذه العقود لا تقوم بدفع أو تمويل عمليات أجور البناء، يعني شخص يريد أن يبني بيتا: هذا الشخص إذا أراد أن يبني بيتا عن طريق البنك الإسلامي هو يشتري فقط المواد، أما ما يدفعه من أجور مصانعة وبناء وغير ذلك لا يمكن أن يمول عن طريق بيع المرابحة، وإذا دفع سيكون عبارة عن محض قرض ربوي، هذا في الواقع الذي دفعنا إلى التفكير في قدرات عقد الاستصناع فوجدنا أن العملية يمكن أن تتم من الناحية الشرعية وعلى أساس ترجيح ما ذهب إليه الحنفية، وبالذات رأي أبي يوسف، وما تبنته مجلة الأحكام العدلية، على أساس أن يقوم هناك عقد بين الراغب في المادة المصنوعة أيا كانت ذلك، حجرا أو أثاثا أو مواد بناء إلى غير ذلك، أن يعقد عقدا مع البنك، الإسلامي على أن يتولى البنك أو الجهة التمويلية تقديم هذه المادة المصنوعة وفق ما يتفقان عليه من شروط، وغالبا ما تكون هذه الشروط فيها تأجيل للثمن، ثم بعد ذلك يذهب البنك الإسلامي أو الجهة الممولة الإسلامية إلى صانع مختص في هذا العمل، فيتفقا معه بعقد آخر لا علاقة له بالعقد الأول بتنفيذ هذه الصنعة، والعلاقة الحقوقية والالتزامات المترتبة بين المستصنع في العقد الأول والجهة التمويلية - البنك - والصانع في العقد الثاني والجهة التمويلية - البنك - منفصلتان تماما ولا علاقة بينهما، وبالتالي كل عقد يعامل من حيث ما يتعلق به من خلافات في ظله وضمن شروطه ومواصفاته، وفق هذا الفهم تم استحداث نوعين من العقود: عقد بين المستصنع والجهة الممولة (البنك) ، وعقد آخر بين الصانع وبين الجهة الممولة، وسرنا في هذا التطبيق على أساس هذا الفهم وهو الذي قدمته في ورقة العمل التي بين أيديكم، وأرفقت بها صورا لبعض العقود في هذا المجال لعل في ذلك تنويرا حول ما نقوم به، هذا فيه شيء قريب، وقد لجأ أحد البنوك الإسلامية إلى شيء قريب من ذلك كما هو في قطر، وكما أشار الشيخ السالوس في ورقته، في ظني الاستفادة من هذا العقد في المجال التمويلي - نحن مسلمون في مجال الصناعة أن قدرات هذا العقد فذة ويلبي الحاجات التي تحتاجها الأمة كما شرح أستاذنا السلامي - أما في مجال التمويل فهذا العنصر الجديد الذي دخل في فوائد هذا العقد، والذي يمكن أن يكون في الواقع من أدوات التمويل الرئيسية في البنوك الإسلامية، وشكرا.

ص: 1120

الشيخ عبد الله محمد عبد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم.

هو في الواقع أن عقد الاستصناع عقد له أهميته خاصة في هذا العصر الذي تطور فيه كل شيء، وأصبحت الصناعة هي عموده الفقري، ويعجبني كلمة لأبي الحسن الماوردي قالها في عصره - ولا أعتقد أن الصناعة في ذلك العصر وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم أو كانت لها أهمية كما لها الآن، أنقل كلمة من سطر ونصف فقط للبيان والتوضيح - قسم المكاسب إلى أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة والمهم هو تركيزه على قوله كسب الصناعة، قال:(القول في الصناعة وأنها وثيقة الصلة بالأسباب الثلاثة وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صناعة فكر، وصناعة عمل، وصناعة مشتركة بين فكر وعمل، وتكلم عن العمل الصناعي بأنه أعلاها رتبة لأنه يحتاج إلى معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره) .

هذه الكلمة في الواقع تبين لنا أهمية عقد الاستصناع في هذا العصر، لأن الصناعات تطورت، وتنوعت، وأصبحت مهمة، حتى إن مجلة الأحكام العدلية وهي قد مضى عليها تقريبا أكثر من مائة سنة، شعرت بأهمية هذا العقد وبينت فيه - الجماعة الذين وضعوا المجلة - بينوا أهمية هذا العقد ونصوا في المذكرة التي رفعوها إلى الجهات المعنية على أهمية عقد الاستصناع، ولهذا يعتبر الفقه الحنفي في الواقع كما يعبر عنه علماء القانون في العصر الحديث عندما وضعوا أبوابا منفصلة عن عقد الإجارة تعالج عقد الاستصناع تحت عبارة عقد المقاولات، فأبرزوا أهمية عقد المقاولة ومدى استجابتها، لظروف العصر، واهتموا أيضا بتنويع التقنيات الوضعية في مسألة معالجة عقد الاستصناع في ناحيتين: في العقود المدينة تحت اسم عقد المقاولة، واهتموا أيضا في القوانين البحرية بالنص على المقاولة في بناء السفن، وتظهر أهمية هذا إذا قلنا بلزوم العقد، فالحنفية: في الواقع أنا نقلت لهم من كتاب غنية ذوي الأحكام في حاشية درر الأحكام لملاخسرو، قال الشرنبلالي في حاشيته على درر الحكام والمسمى غنية ذوي الأحكام في حاشية درر الحكام تعليقا على قوله: وله - أي للآمر - الخيار أي دون الصانع وهو الأصح،وعن أبي حنيفة: أن الصانع له الخيار، وعن أبي يوسف: لا خيار لواحد منهما، وذكر شراح المجلة عندما نقلوا هذا النص في مادة المجلة على أن هناك اختلافا في روايات المذهب الحنفي، فمنهم من ينقل عن أبي يوسف: أن اللزوم لا يكون إلا في وقت لاحق، ومنهم من يقول: إن العقد يكون لازما من بداية العقد، وهذا الذي أخذت به المجلة في لزوم عقد الاستصناع.

أما بقية المذاهب الأخرى فهي في الواقع لم تهمل عقد الاستصناع، بالعكس إنما عالجته بأسلوب آخر، فالإمام الشافعي نص على أن الطالب يستطيع أن يشتري المادة ويطلب صنعها، عند الحنابلة أيضا في اشتمال عقد البيع على شرط كأن يشتري قماشا ويطلب خياطته، كذلك في المذهب المالكي نصوا في عدة أماكن على ما يحقق عقد الاستصناع، ومنهم اجتماع عقدين كعقد البيع وعقد الجعالة، وضربوا مثلا لذلك بالطبيب - مثلا - لو تقاول مع الطبيب على أن يعالج هذا المريض على أن يكون الدواء منه، فالمذاهب الأخرى لم تهمل جانب عقد الاستصناع بل عالجوه بوسيلة أخرى غير الوسيلة التي عالج بها المذهب الحنفي والذي كان موفقا جدًّا في جعله عقدا مستقلًّا له أحكامه وشرائطه، وشكرا.

ص: 1121

الشيخ عبد القادر العماري:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أشكر الإخوة العلماء، الذين قدموا بحوثا ضافية مما يدل على علمهم الغزير، وأنا أؤيد ما قاله الشيخ المختار من أننا في عصر يجب أن يكون هناك اجتهاد جديد في العقود التي نحتاج إليها في هذا العصر، وشيخ الإسلام ابن تيمية سبق أن ضاق ذرعا بتعقيدات الفقهاء، وهم - رضوان الله عليهم - اجتهدوا على حسب بيئاتهم وعلى حسب ظروفهم، شيخ الإسلام قال: هذه التعقيدات التي تشترط في البيع لا أصل لها من كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة ولا قياس ولا عليها عمل المسلمين قديما ولا حديثا ولا مصلحة فيها ولهذا من عامل الناس بما استثقلوه ونفروا منه فاعلم أنه من المنكر لا من المعروف، مثل اشتراط الصيغ في العقود، وتسمية مقدار الثمن وغير ذلك، واشتراط رؤية المبيع ووجوده، بل إذا وصف به المقصود كفى، وقال تلميذه ابن القيم في عقد الاستصناع: الذين حرموه بعضهم استندوا إلى أنه من بيع المعدوم، يقول ابن القيم: ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بلفظ عام ولا خاص ولا في كلام أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة. فليست العلة في المنع العدم ولا الوجود بل الذي ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو الذي لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا أو معدومًا. مما يرتبط بذلك: في الصباح سمعت في بعض الأحاديث أنه لا يجوز دفع الأجرة مقابل الكفالة، وقال الشيخ - حفظه الله - في بحثه: إن الدليل على ذلك أنه عقد التبرعات لا يجوز فيها الأجر، ومثله وقاسه على القرض، ورد على القائلين بأن الناس في حاجة إلى ذلك في هذا العصر، بأن هذا دليل غير صحيح، والواقع أن الدليل يجب أن يورده هو، لا اللذين يقولون بأنه يجوز في هذا العصر الذي تغيرت فيه الظروف وتغيرت فيه الأحوال أن نجعل للكفالة أجرا، نحن نرى الناس - مثلا - يتورطون في حوادث، ولا يجدون من يكفل عنهم إلَّا بأجر، وهذا شيء معروف، فإذا ذهبت إلى أي بلد أنت لا تستطيع أن تلزم الناس أن يتبرعوا، وأن تكون عندهم الشهامة والمروءة كما كانت سابقا، لا بد أن تتغير الأحوال، ولا بد أن نتمشى مع تغير الأحوال، ونتقيد بما في الكتاب والسنة ولا نتقيد بأقوال فقيه، وسمعت أيضا في الصباح البحث عن موضوع (ضع وتعجل) ، وأنا أناشد الإخوة ألَّا يتعجلوا في التحريم، لأن هناك في هذا الموضوع جوانب إنسانية، أحيانا نلمسها نحن في القضاء، فإذا تورط الرجل في ديون كثيرة، إذا كانت حالة فما هناك مشكلة، ولكن هناك ديون، بيت بناه ليسكنه وله أسرة ويأتي من يريد أن يساعد هذا الرجل المتورط الذي ارتكبته الديون، يريد أن يساعده أو جهة تريد أن تساعده بمبلغ، وتتصل بالدائنين تقول لهم: ضعوا من هذا المال ونعجل لكم بعض مالكم في مقابل التنازل، فهذه الأمور يجب أن نبحثها على روية وأن نتقيد بالكتاب والسنة، وأن نجعل هناك حدودا للجوانب الإنسانية والجوانب التي فيها الربا، مثلا لا ندع أن يستغلها المرابون في البنوك الربوية، أهل البنوك الربوية لا يسألون عن تحليل أو تحريم، ولكن نرشد المسلمين الذين هم أهل التقى وليس المسلمون كلهم سواء، لكن هناك من سيتقيد بقراراتكم هذه، نرشدهم ونعرفهم ما يجب عليهم في الأمور الإنسانية، وما يحرم عليهم في الأمور غير الإنسانية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1122

حجة الإسلام محمد علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم.

بكل اختصار يبدو أن عقد الاستصناع هذا يختلف عن العقود الأخرى التي نسب إليها من خلال عدم تمتعه بخصائص هذه العقود، فلا هو سلم خصوصًا عند عدم تعيين الأجل وعند تأخير الثمن، ولا هو إجارة لأنه فيه عمل ومواد، وعلى أي حال هو عقد يختلف عنها، المهم عندي أن نعرف دليل مشروعية هذا العقد، هذا هو المهم عندي وإن كانت أقوال الفقهاء كلهم – رحمة الله عليهم – تفسح الطريق أمام معرفة الدليل لأي موضوع – دليل الحكم -.

أهم ما يذكر من أدلة لهذا العقد هو ما أسماه السادة الحنفية بالإجماع العملي، وما نسميه نحن في اصطلاحاتنا الحوزوية عندنا بسيرة المتشرعة أو عرف المتشرعة، هذا العرف – وليس العرف مصدر الأحكام – إنما يكشف عن السنة من باب التقرير أو الإقرار إذا توفر فيه شرطان:

الشرط الأول: هو أن يمتد إلى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام امتدادًا قطعيًّا بحيث نقطع بأنه كان سائدًا في ذلك العصر.

الشرط الثاني: ألا يصدر نهي خاص به أو عام ينفيه.

فمع وجود هذا العرف ومع عدم صدور النهي منه عليه الصلاة والسلام نستفيد التقرير والإقرار لمثل هذا العقد المشروع، هذا العقد أو هذان الشرطان أعتقد أنهما متوفران، فامتداد هذه السيرة أو هذا العرف يكاد يكون واضحًا إلى ذلك العصر بل إلى عصور قبله، والأمر الثاني صدور النهي لم يثبت على الأقل، يعني لم يصدر نهي خاص عنه بالخصوص، وما يتصور من وجود نهي عام هو " لا تبع ما ليس عندك " إذا سددنا كل جوانب الاستدلال بهذا " لا تبع ما ليس عندك " أو النهي عن بيع المعدوم، فيه احتمالات ذكرتها في هذا الصباح، منها أنه نهي عن بيع عين شخصية مملوكة لآخر، أو نهي عن بيع شيء لا يضمن تسليمه وما إلى ذلك. لا نستطيع أن نعتبر هذا نهيًا عامًّا عن هذه السيرة وحينئذ فالسيرة ممتدة ولا نهي عنها وحينئذ نعتبر العقد مشروعًا، بل حتى لو لم تكن هذه السيرة فإن هذا العقد عقد عرفي، وهو مشمول لقاعدة " أوفوا بالعقود " وحينئذ فالذي أعتقده أننا لو سلكنا هذا الطريق – طبعًا الاستحسان مع وجود مثل هذا الدليل لا معنى له – لو سلكنا هذا الطريق فإن العقد يصبح مشروعًا، وبطبيعة الحال فإن المتعارف هو العقد اللازم هو اللزوم في هذه العقود، المتعارف ذلك، وهذا العرف - كما قلت - يمتد إلَّا أن ينكر أحد ذلك وله الحق إذا رأى ذلك، الذي أراه أنه يمتد ويمتد كعقد لازم، فما ذكرته المجلة يبدو هو المنسجم مع هذا الاستدلال، وأشير إلى ما أشار إليه الأخ الأستاذ الدكتور سامي: الاستصناع الموازي بتقبيله للآخرين، هذا أمر أرى فيه إشكالًا بعد أن ورد نهي عن تقبيل الإجارة بإجارة أقل منها، وتقبيل المضاربة بمضاربة أقل منها، وحينئذ لي فيه إشكال.

أما ما ذكره الدكتور سامي من أنه هناك عقود لتوريد البترول، فلا أعتقد أن مسألة البترول – وهو أمر يورد ولا يتم عليه عمل – لا أعتقد أنه مشمول لهذا العقد إلا أن نتوسع في هذا العرف فنقول: العرف الممتد يشمل حتى مجالات عدم التصنيع، تهيئة المواد التجارية من أماكن بعيدة. إذا توسعنا فحينئذ يمكننا أن نقول ونصحح عقد التوريد وعقد مسألة البترول وأمثال ذلك. وشكرًا.

ص: 1123

الدكتور رفيق يونس المصري:

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحقيقة أن المفروض في بحوث بيع الاستصناع كما فهمت أنا من طرح إدارة المجمع، وكما يفترض أن يفهمهما الإخوة الباحثون، هو أن لا نعيد ما سبق معرفته – يعني – في الكتب الفقهية أو في مظانها من الكتب الفقهية، أو في الكتب المفردة لهذا الموضوع، إنما المقصود هو أن نطرح الأشياء الجديدة، وأنا في الحقيقة عندي اقتراح محدد، أرجو أن أطرحه على مسامعكم، وأن يكون موضع نقاش عطفًا على ما كنت ذكرته في السابق، في مداخلة سابقة.

الموضوع على وجه التحديد: أننا نحن نعلم من خلال الشريعة الإسلامية أن تأجيل أحد البدلين في البيوع جائز بلا خلاف، ولكن السؤال المطروح هنا والذي قد نحتاج إليه فيما يسمى بعقود التوريد التي عمت بها البلوى في عالمنا المعاصر، السؤال هو: هل يجوز تأجيل البدلين معًا في البيع؟ أنا أتساءل هنا: لماذا لا يجوز تأجيل البدلين في البيع إلى أجل واحد مثلًا؟ لا يقال إن في هذا ربا نساء لأن تبادل الثمن والمبيع لا يفصل بينهما أي زمن، وينطبق عليه أنه تم يدًا بيد من حيث التقابض، وإن لم يقع هذا التقابض عقب العقد مباشرة، ثم إن هذا البيع ليس فيه في الواقع ربا نساء ولا ربا فضل، لأنه ذهبٌ بقمحٍ، أو فضة بتمر، وبذلك يمكن أن نتساءل: لماذا لا يجوز تأجيل البدلين إلى أجلين مختلفين أيضًا؟ فإن كان أجل الثمن أبعد كان البيع نسيئة، وإن كان أجل المبيع أبعد كان سلمًا، قد يقال هنا إن في هذه الصورة غررًا من حيث تأجيل البدلين، وقد قال بذلك بعض من كتب في هذا الموضوع منهم أخي وجاري الدكتور نزيه – وهو غائب الآن – في بحثه الذي كان قد نشره له المركز بعنوان " بيع الكالئ بالكالئ " قد يقال إذن إن فيه غررًا من حيث تأجيل البدلين، ولكن هذا في نظري – والله أعلم – غير صحيح وهاكم البيان.

ص: 1124

إن البيع إذا تم فيه التقابض في المجلس فلا غرر فيه على الإطلاق، وهو من أبعد البيوع عن الغرر وشبهته، قال الإمام الشافعي في " الأم ": الأعجل أخرجُ من معنى الغرر وإذا تم فيه قبض أحد البدلين فقد حضره الغرر لأن أحدهم – ولنفرضه المشتري، أحد المتعاقدين، هب أنه المشتري هنا – يقبض المبيع، ويؤجل تسديد الثمن إلى أجل معين أو إلى آجال متعددة على نجوم " أقساط " وقد يحدث تغير في الثمن بيع السلعة خلال مدة الدين، فإن زاد الثمن تضايق البائع، وإن نقص الثمن تضايق المشتري، وهذا يحدث أيضًا في بيع السلم، أما لو تعاقدا على تقابض مؤجل فكذلك قد يقع تغير في الأسعار، فيكون له نفس الأثر على كل منهما، أنا أريد أن أبين أن في تأجيل أحد البدلين غررًا، لكن الفارق بين البيع المؤجل – البدل الواحد – البيع الذي يتأجل فيه بدل واحد، والبيع الذي يتأجل فيه البدلان معًا أن أحدهما في البيع الأول – أي أحد المتعاقدين في البيع الأول – يكون قد تمتع بالبدل المعجل، تمتع البائع بالثمن في بيع السلم، وتمتع المشتري بالمبيع في بيعه النسيئة، وهذا التعجيل له أثر على ثمن التعاقد، لكن الغرر على كل حال لا يختلف بين البيع الأول والبيع الثاني ويستويان معًا – أي المتعاقدان – في تحمل المخاطرة كما يتحملها الشركاء في الشركة، فإن بقيت الأسعار ثابتة فلا مشكلة في الواقع، وإن هبطت تأثر المشتري، وإن ارتفعت تأثر البائع لأنه يكون قد باع بثمن رخيص، وعلى هذا فلا فرق في الغرر بين بدل واحد يتأجل أو بدلين يتأجلان – كما يذكر بعض الباحثين – ولا سيما إذا كان للتعجيل والتأجيل أثر في تحديد ثمن البيع، فأين الغرر المتعاظم الذي ادعاه بعض الفقهاء إذا تأجل البدلان؟ لعلهم نظروا إلى بدل وبدلين مع أن النظر يجب أن يكون للمتعاقدين لا للبدلين، والمتعاقدان هما أنفسهما لم يتغيرا في كلا البيعين، وهذا البيع المؤجل الذي يتأجل فيه البدلان قد تدعو الحاجة إليه كما تدعو الحاجة للسلم وكما تدعو الحاجة إلى بيع النسيئة، فقد يرغب أحدهم في التعاقد على سلعة أو خدمة يتسلمها في أجل معين لحاجته إليها في هذا الأجل، ولا يريد المشتري تعجيل الثمن كله للبائع كما في السلم، لأنه قد لا يملك الثمن كله الآن، أو يرغب في أن يبادل البائع قسطًا بقسط أي قسطًا من المبيع بقسط من الثمن، وقد لا يكون البائع محتاجًا إلى المال من المشتري بالذات وهذا كعقد الاستصناع وعقود التوريد والمقاولة أما باقي الأمور فهي معروفة لديكم. وشكرًا.

ص: 1125

الأستاذ عبد اللطيف جناحي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أبدأ مداخلتي أولًا بالشكر ثم أمنية ثم أدخل في صلب المشروع.

أما الشكر فموجه من بنك البحرين الإسلامي والبنوك الإسلامية لرئاسة هذا المجمع ولأمينه العام ولهذا الجمع الطيب من علمائنا الأفاضل على ما يقدمونه من خدمات جليلة للمصارف الإسلامية يتعلق بأعمالهم اليومية، فهذه المواضيع التي تبحث إنما هي من احتياجاتنا يومًا بيوم، وأرى أنه من واجب العرفان أن تقوم هذه المصارف بتقديم الدعم بشتى أنواعه لهذا المجمع حتى يستطيع أن يقوم بدوره بدون معوقات.

أما الأمنية فهي أن هذه الأبحاث القيمة المتعلقة بأعمالنا تترجم لدينا في المصارف إلى عقود، وخشية أن يستنبط أولئك الذين يضعون العقود نواحي معينة من هذه الأبحاث تخرجها عن أصلها، فإنني أتمنى على هذا المجمع أن يضع عقودًا نمطية تستنير بها البنوك الإسلامية فتتم بذلك وحدة العمل، وقد يكون من المناسب أن تعقد ندوة خاصة تناقش فيها هذه البحوث بوجود علماء هذا المجمع وبوجود المصارف الإسلامية، وبذلك تتم وحدة العمل وتعم الفائدة.

أدخل الآن في صلب موضوعنا، موضوع عقد الاستصناع: لم يعد هذا الموضوع متعلقًا اليوم بباب يصنع أو مجموعة أبواب أو مجموعة معدات صغيرة إنما هي تتعلق بالذات بمصانع ضخمة مبالغها تتجاوز الملايين إن لم نقل حتى البلايين، مصانع تكرير، ومولدات كهرباء ضخمة، هذه المصانع وهذه المعدات لا يمكن أن نعرف صلاحيتها إلا بعد أن تنتج، هل إنتاجها موافق لما هو مطلوب أم لا؟ فكيف يجوز لي أن أدفع أو كيف يساغ أن أدفع الثمن كاملًا ثم عندما يفحص الفنيون ناتج هذا المصنع يرون أن هذا الناتج لا يتناسب مع ما طلبت فيذهب مالي هدرًا؟ وهذه المبالغ التي تدفع إن دفعت مقدمًا قد تؤذي ليس بنكًا واحدًا إنما عدة بنوك، فلذا أرى أن يسلط الضوء على نقاط مهمة هي كما يلي:

أولًا: التزام الطرفين دون حق الخيار – لا يكون هناك خيار – إذا التزما بشروط العقد.

ثانيًا: جواز دفع الثمن على دفعات أو تأخير الثمن بعد التسليم والفحص ومعاينة الإنتاج حتى نعرف ما دفعناه في هذا المصنع أنه فعلًا هذا هو المصنع المطلوب.

ثالثًا: جواز قبول الكفالة، يقدم البنك فقط كفالة، أنه إذا المصنع صنع هذه الآلة وهذه المعدات وكان الناتج ما عمله هذا المصنع يوافق الشروط والناتج المنتج من هذا المصنع هو المطلوب حق لصاحب المصنع أن يعود على الكفالة.

هذه هي المواضيع الثلاثة التي أرى أن تسلط عليها الأنظار لأن المسألة لم تعد مبالغ صغيرة، إنما هي مبالغ ضخمة، وشكرًا.

ص: 1126

الدكتور عويد بن عياد المطرفي:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله، وبعد.

هل العقد " عقد الاستصناع " يتناول في هذا المجمع الموقر باعتباره عقدًا نظريًّا يراد البحث عن حكم له، أو أنه عقد قائم تعم به البلوى في هذا الزمان وفي كل زمان ويبحث عن حكم شرعي يضبطه؟

الواقع أن الاستصناع عقد تعامل به الناس قديمًا وحديثًا، كل بحسب حاجته ووقته، لحاجتهم إليه وتوقف مصالحهم عليه، وكانوا ومازالوا يلزم بعضهم بعضًا بما يتم عليه الاتفاق بين المستصنع والصانع تعيينًا للعين المصنوعة جنسًا وصفة وأجلًا بما يندفع به عندهم إثارة النزاع بين الطرفين الصانع والمستصنع. فهو إذن عندهم بهذا عقد لازم لكل من الطرفين على الوجه الذي عقد عليه في مجلس العقد كما هو الحال بين الصانع والمستصنع كما نراه الآن في المصانع ومن يتعامل معها شراء للمصنوعات.

ولو جعل عقد مواعدة واختيار لكل من الطرفين عند مجيء الصانع بالمصنوع لما خاطر الصانع بصنع مواده على الوصف الذي طلبه المستصنع، ولما اطمأن المستصنع أيضا إلى تحقق رغبته في الشيء المصنوع جنسا وصفة وحجما ووزنا بما يراه يحقق له مصلحة هو في أمس الحاجة إليها الآن، فالعين المستصنعة في هذا الزمان لم تعد مجهولة ولا هي صغيرة وخفيفة ولا هي بسيطة بل هي عين موصوفة قد يكون لها مثيل في السوق وقد لا يكون، ولكنها في الحالين عين معينة الذات والصفات والأحجام والأوزان بل والألوان في هذا الزمان، والقول بعدم دخول الأجل في الاستصناع بما يزيد على شهر يفوت على الطرفين مصالح ومنافع ضرورية كل منهما في أمس الحاجة إليها. فالصناعات اليوم لم تعد خفيفة كما كانت قديما لا تحتاج إلى وقت بل تطورت وتعقدت وأصبحت الأشهر لا تعد أجلا كبيرًا في إنجاز شيء منها، وعدم اشتراط الأجل على الصانع قد يفوت على المستصنع مصالح هامة وضرورية له، ويسبب له أضرارًا مادية أو اجتماعية أو وطنية كما لو كانت الأشياء المطلوب استصناعها معدات عسكرية تحتاجها البلد للدفاع بها عن نفسها.

إذن والحال على ما ذكر فإني أرى أن لا بد من اشتراط الأجل على الصانع ولو لأكثر من شهر، ولا بد أيضا من إلزام المستصنع بأخذ ما صنع له أي ما صنعه الصانع له مطابقا للشروط التي تم الاتفاق عليها بينهما حكما وتدينا وقضاء منعا للإضرار بكل من الصانع والمستصنع رعاية لمصالح الطرفين. والله أعلم.

ص: 1127

الشيخ أحمد بزيع الياسين:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

في الحقيقة الحاجة لمثل هذا العقد لازمة لإقامة الصناعة المتحركة والثابتة، وفي نظري أنه يجب أن يكون عقدًا مستقلًّا وملزما وهو وسيلة من الوسائل التمويلية المتعلقة في التنمية المستحدثة المهمة والتى يحتاجها الناس والدول على حد سواء، وبالنسبة إلى دفع القيمة، أرى بأن يكون دفع القيمة حسب اتفاق الطرفين يُدفع جزء من القيمة مقدما وباقي القيمة حسب الاتفاق مقسطا ومنجما لمراعاة مصلحة الطرفين المتعاقدين.

وفي الحقيقة هذا العقد أراه أنا أنه خال من الربا وخال من الجهالة والممنوعات الشرعية فلذلك لا أرى مانعا من أن تمارسه المصارف الإسلامية. وعلى هذا الأساس مورس هذا العقد لأن المصانع هي تملك التمكين لصناعة العين التي يريد المستصنع شراءها. تملك الخبرة اللازمة وتملك المواد الأساسية وتملك القدرة على التنفيذ. هذا ما وددت أن أشرحه للسادة العلماء ليروا رأيهم في هذا. وشكرًا.

ص: 1128

الشيخ عبد الله المحفوظ بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أريد أن أتحدث عن أربعة من النقاط في صورة موجزة:

النقطة الأولى هي طريقة التعامل مع القضايا المستحدثة: بعض الناس يلح ويقول لا بد أن نحدث اجتهادا جديدًا وأن نخرج عن الاجتهاد القديم، وأنا أدعي أنه لا حاجة إلى ذلك، في الحقيقة أن من يريد أن يتعامل مع قضية محدثة عليه أولًا أن يراجع النصوص، هل يوجد نص في هذه المسألة أو لا يوجد؟ بعد ذلك هل يوجد ظاهر أو لا يوجد ظاهر؟ بعد ذلك هل يوجد ظاهر أو لا يوجد ظاهر؟ بعد ذلك هل يوجد عموم أو لا يوجد عموم؟ بعد ذلك هل توجد دلالة اقتضاء أو دلالة إشارة أو لا توجد؟ بعد ذلك هل يوجد إجماع أو قياس ليستند إليه بشروط القياس " ثم بعد ذلك يلجأ إلى الأدلة المختلف فيها كالمصالح المرسلة وكالاستحسان. هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع قضايا الفقه. من سلك طريقا أخرى فإنه لم يتعامل معها طبقا للمعايير التي وضعها العلماء.

وإذا كان الأمر كذلك فأود أن أقول: إن هذه المسألة قد تكون جديدة بالنوع قديمة بالجنس، لأن الأحناف استحسنوا، والمالكية استحسنوا، وكان ينبغي أن يتوقف عند هذا، أن نناقشها من جهة الاستحسان. الاستحسان الذي قال به مالك في هذه المسألة هو من النوع الثاني والثالث من أنواع الاستحسان عند المالكية، النوع الثاني من أنواع الاستحسان عند المالكية هو الاستحسان بالعرف، تخصيص العام بالعرف، العام هنا " لا تبع ما ليس عندك " خصص بالعرف كمسألة الحمام، النوع الثالث من أنواع الاستحسان هو تخصيص العام أيضا أو مخالفة القياس من أجل مصلحة وهذا أيضا يعتبر استحسانا عند المالكية وأشار إليه صاحب مراقي السعود عندما يقول:

والأخذ بالذي له رجحان

من الأدلة هو استحسان

أو هو تصيص بعرف لا يعم

ورعي الاستصلاح بعضهم يؤم

ص: 1129

أي أن المالكية يؤمون رعي الاستصلاح بالاستحسان ويرون كذلك تخصيص العام بالعرف. إذن هذا هو موقع الاستحسان كان يجب أن ننظر إليه، معنى ذلك أن المالكية في بيع دائم العمل رأوا أن هذه المسألة مخصصة من العموم من أجل العرف والعمل الذي جرى بذلك وسموه ببيعة أهل المدينة – أهل المدينة كانوا يبيعون هذا البيع – ثم إنهم راعوا المصلحة العامة بمقابل عمومه، وهذا أيضا مما يخصص به العام، هذا مهم جدًّا في التعامل مع النصوص، مع بقاء الأصل وهو منع الدين بالدين. ولهذا لا أوافق من يقول: إن قاعدة " بيع الكالئ بالكالئ " أن نتجاوز هذا وأن نقول يجوز أن يؤجل الثمن والمثمن وأن نجعله مبدأ عاما، هذا لا يمكن أبدًا، المبدأ العام هو المنع، ولكن في قضية معينة ولوجود الحاجة والمصلحة ولوجود العرف يمكن أن نخصص هذه القضية المعينة وهذا مهم جدًّا لأن إلغاء هذه المبادئ لا يمكن، ولكن يمكن التعامل معها من هذه الزاوية.

النقطة الثالثة هي الوعد: بعضهم قال إنه من باب الوعد الملزم. يجب أن ننتهي من مسألة الوعد الملزم، هذه المسألة لا أصل لها، وفي المذهب الذي أرادوا الاعتماد عليه في الوعد الملزم في المعاوضات لا يوحد فيه وعد ملزم في المعاوضات أصلًا، إذا كان ملزما فإنه عقد، العقد هو الملزم في المعاوضات وليس الوعد. يجب أن ينتهي المجلس من هذه القضية التي نشأت بسبب جهلهم في الحقيقة، وبسبب عدم فهمهم للمذهب المالكي في هذه المسألة. الوعد الملزم في المذهب المالكي يتعلق بالتبرعات ولا يتعلق بالمعاوضات، إذن إذا كان ملزمًا فلا داعي لتسميته وعدًا فهو عقد ملزم، وإذا لم يكن ملزما فإنه ليس ملزما ولا داعي أيضًا لذكر وعد.

النقطة الرابعة: إذا افترضنا أن عقد الاستصناع ليس لازمًا فيمكن أن نعتبر المالكية كالحنفية، هو عندهم عقد جائز غير لازم، وهي عقود كثيرة منها عقد الإجارة إذا حددت أجرة لكل يوم أو لكل شهر دون تحديد فترة الإجارة، وهو عقد جائز غير لازم، ومنها بيع الفضولي يبيع شخص ملك غيره فهو عقد جائز غير لازم، ومنها بيع ما لا يملك، فإن مالكا يقول: أكرهه وإذا وقع فإنه يمضيه ابتداء. فهو من هذه الزاوية معروف ومقبول عند المالكية إذا قلنا بعدم اللزوم عند الأحناف.

ص: 1130

النقطة الخامسة:

حديث "ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن" هو موقوف على ابن مسعود ولا يفوت أبدًا رفعه كما يقول العلائي فأرجو أن يلاحظ ذلك وألَّا نطلق عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل، نلاحظ هذا فقط لقول: إنه موقوف على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

النقطة السادسة: الأصل في العقود الصحة واللزوم ولهذا فإذا تردد عقد بين الفساد والصحة أو تردد بين اللزوم والجواز، الجواز هنا ليس معناه الجواز الشرعي وإنما معناه أن يكون العقد جائزًا أي أن كلًّا من الطرفين يجوز له ألا يلتزم بالعقد، هذا هو الجواز في هذا المجال بالذات. هنا كلمة الجواز ليست هي الجواز المستوي الطرفين في الشريعة وإنما هو الجواز أن العقد جائز وأن العقد لازم، لمقابل اللزوم هو أن يكون العقد غير لازم يسمونه جائزًا ويسميه العلماء عقدًا جائزًا، وفي مثل هذا قال ابن عرفة في الإجارة: مشاهرة إذا لم تكن مجيبة إنه عقد جائز. وقال ابن رشد: وليس لازما. فالأصل في العقود الصحة واللزوم.

النقطة السابعة: كون العقود صغيرة في القديم – الصغر والكبر هما وصفان طرديان بمعنى أنهما لا يعلل بهما – العقد كان صغيرًا أو كبيرًا المهم فقط أن أركان هذا العقد كانت متوفرة، فإذا كانت متوفرة سواء في بيع الاستصناع عند الأحناف أو في بيع دائم العمل عند المالكية فمعنى ذلك أن العقد كان قديما حتى بالنوع وليس بالجنس معناه أنه كان موجودًا صغيرًا كان أو كبيرًا هذا لا يضر إذا توسع وكبر فإن ذلك لا يضر. إذن هو وصف طردي لا يصلح للتعليل ولا يتوقف عنده.

النقطة الثامنة: لا حاجة إلى الخيار عندما نقول إنه يختار، إن لكل منهما الخيار. يوجد خيار العيب وهو ثابت للمستصنع عنده خيار العيب، وخيار العيب يمكن التأكد منه. المصانع الحديثة يمكن التأكد هل هذه السلعة صنعت طبقا للمعايير والمقاييس التي يطلبها المستصنع أو لم تكن هذه السلعة طبقا للمعايير. أعتقد أن خيار العيب دائما ثابت بإمكانه أن يرد السلعة به وهذا ينفي الغرر والضرر والخطر التي يمكن أن يخاف منه.

في الخلاصة فإن عقد الاستصناع لا مانع من جوازه عند من يقول بالاستحسان كمالك في أوجه الاستحسان التي ذكرتها وهي التعريفات الثلاثة لمالك، وكأبي حنيفة الذي يقول بالاستحسان بلا حدود تقريبا إذا كان الاستحسان هو ترك القياس والأخذ بما هو أليق بالناس والاستحسان هو ترك اختيار الدعة أو البحث عن الدعة، إذن لا مانع بالنسبة لمن يقول بالاستحسان كالمالكية في هذا الموضوع وكالأحناف فإنه عقد صحيح يمكن أن نقول بلزومه كعقد لا كوعد، وشكرًا.

ص: 1131

الدكتور سعود بن سعد الثبيتي:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد.

عقد الاستصناع عقد جدير بالبحث والمناقشة والتريث في إصدار حكم فيه، وذلك لأنه وقع فيه خلاف قديمًا وحديثًا، فجمهور الفقهاء – كما تعرفون – يجعلونه جزءًا من أجزاء عقد السلم، أي هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد.

ومن ناحية اللغة هو طلب الصنعة عند اللغويين، الذين يجعلونه عقدًا مستقلًّا هم الحنفية باستثناء زفر، لنرى تعريفات الحنفية هل يخرجه عن كونه عقدًا على موصوف في الذمة أم أنه يدخله فيه؟ فالحنفية يقولون: إنه عقد على مبيع في الذمة، عند بعضهم كما نقل الكاساني في بدائع الصنائع، ونقل عن بعضهم قوله: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل، وعرفته مجلة الأحكام العدلية بأنه: عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئًا، وعرفه من المعاصرين الدكتور الشيخ أحمد فهمي أبو سنة ونقله عنه الدكتور عبد العزيز الخياط بقوله: أن يطلب من الصانع عمل شيء مادته من عنده على وجه خاص.

فإذن هذا تعريف الحنفية: لننظر فيه هل يخرجه عن كونه عقدا على موصوف في الذمة وإلا يدخل فيه؟

ثانيا: من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها هو التمييز بين العقود التي لها شبه بالاستصناع وعقد الاستصناع فمن المداخلات التي سمعتها منذ ابتداء الجلسة أنه أحيانا يشتبه مع عقود الإجارة؛ وأحيانا يشتبه مع عقود بيع العين، وأحيانا تكون العين موجودة إلا أنها على غير الصفة التي طلبها المستصنع، والعقد يكون على الصفة "الهيئة" بعد أن تستصنع، ثم أحيانا أخرى، صورة رابعة، وهي عقد على شيء مادته غير موجودة في ملك الصانع حين العقد وإنما يملكها فيما بعد وعلى هذا فعقد الإجارة الذي يأتي المستصنع بالمادة من عنده ويعطيها للصانع لا يدخل في موضوع الاستصناع، كما أن العين إذا كانت مصنوعة قبل العقد وموجودة في ملك البائع ليس من عقد الاستصناع، بل هذا من بيوع الأعيان إما المرئية أو الموصوفة في الذمة، والبيع إذا توفر شرطه بالرؤية أو بالوصف الذي يخرجه عن الجهالة فهو صحيح. يبقى عندنا صورتان اثنتان ينبغي أن نركز البحث عليهما.

ص: 1132

الصورة الأولى: أن تكون مادة المستصنع في ملك الصانع حين العقد، مثلا لو استصنع رجل عمارة فإن كانت مواد البناء من الحديد والأسمنت والطوب وغيرها من المواد موجودة في ملك الصانع حين العقد فهذه صورة من صور الاستصناع، ينبغي علينا أن نركز عليها، لكنها ليست الصورة التي تم العقد عليها لأن العقد يتم على الهيئة بعد عملها، على المادة بعد عملها بعمل العامل أو بعمل الصانع.

الصورة الثانية المهمة، وهي أكثر تعاملات الناس عليها الآن، أن مادة المستصنع ليست موجودة في ملك الصانع حين العقد، فيتعاقد معه على بناء عمارة من عشرة أدوار أو اثني عشر دورًا، لم يكن في ملك الصانع أو المقاول حين المقاولة لا أسمنت ولا حديد ولا طوب ولكنه يأتي بها بعد ذلك من السوق بعد أن يصرف إليه جزء من الثمن، وكذلك في استصناع المعدات الكبيرة أو الصغيرة من طائرات أو سفن فضائية أو سفن بحرية أو غيرها من المواد التي تستصنع. في الغالب أن المواد لا تكون في ملك الصانع حين العقد. إذن هي متعلقة بذمته.

على كل حال: الحنفية هم أقرب المذاهب إلى هذا لكن مذهبهم لا يحل مشكلة الاستصناع التي وصفها موجود في السوق الآن وعليه تعامل الناس، لماذا لا يحله؟ لأنهم – الحنفية – قالوا: إن المستصنع أو مادة الاستصناع عقد على عين بعضهم قال: عين، عندما عرفها قال بأنها عقد على موصوف في الذمة أو مبيع في الذمة، لكن عندما كيفها قال هي عين، والعين تختلف عن المتعلق بالذمة، هذا من ناحية.

الناحية الثانية من ناحية الشروط: الحنفية ذكروا أنه إذا دخل الشرط في الاستصناع شرط يبلغ شرط السلم وهو نصف شهر أو شهر على خلاف فيما بينهم، قالوا: إنه يعتبر سلما وتشترط له شروط السلم من دفع رأس المال في مجلس العقد. وعلى هذا لا يحل مذهب الحنفية مشكلة الاستصناع إلا بإدخال تعديلات عليه في تكييفه وأنه ليس بعين ثم في شروطه.

الأمر الثالث الذي جعل مذهب الحنفية لا يحل مشكلة الاستصناع هو أنهم قالوا: إن الاستصناع لا يجوز إلا فيما جرى به العرف، ولذلك قالوا إنه لا يجوز الاستصناع بأي حال من الأحوال في الثياب، ومعلوم الآن أن الثياب تستصنع بقدر كبير والتعامل عليها كثير بين أيدي الناس استصناعا مستقبليًّا.

ص: 1133

ويظهر لي – والله أعلم – أن الخلاف الجوهري بين من يجيز الاستصناع ومن لا يجيز الاستصناع في نقطتين اثنتين:

النقطة الأولى: في دفع الثمن في مجلس العقد، فإن دفع الثمن في مجلس العقد جاز هذا فيما يظهر لي من نصوص العلماء أنه يجوز باتفاق إذا توفرت شروط الصحة في العقد من نفي الجهالة، لكن إذا لم يدفع الثمن في مجلس العقد فما تكييفه؟ هذا هو الذي ينبغي أن ينصب عليه النقاش حتى نخرج بفائدة في هذا الموضوع الشائك.

النقطة الثانية: الذي يظهر لي أنه سبب خلاف بين العلماء قيما وحديثا حينما يقولون: لا يجوز استصناع شيء أو يجوز استصناع شيء هو إمكانية انضباط صفات الشيء، فمن المعلوم أن هناك قاعدة فقهية تقول:" كل ما أمكن ضبطه صح السلم فيه وما لا فلا "، والأمثلة التي يذكرونها يقولون لا يصح استصناع – مثلا – القماقم أو السطول أو الحديد تعلل بأنه لا يمكن انضباطها ولذلك تكون الجهالة فيها وإذا كانت الجهالة فيها لا يصح عقد الاستصناع فيها، لكن الوضع الآن تغير تغيرًا تاما بالنسبة لانضباط الأشياء المستصنعة وأصبح الإنسان يصنع مائة طائرة لا تختلف واحدة عن الأخرى (ملم) واحدًا ناهيك عن السطول أو القماقم أو غيرها من الأشياء المستصنعة التي ذكر الفقهاء قديما أنها لا يصح الاستصناع فيها لجهالتها.

فأنا أقترح أن ينصب النقاش في هذا المجلس على هاتين النقطتين. أولا ما دام أن المعقود عليه الذي هو المستصنع متعلق بالذمة، فالثمن هل يلزم دفعه في مجلس العقد أم أنه يجوز أن يكون متعلقا بالذمة أيضا؟ وهذا الموضوع ناقشته في بحثي وبينت جوانب كثيرة واستدللت بأدلة كثيرة منها القديم ومنها التخريجات الحديثة ومنها استصناع النبي صلى الله عليه وسلم للخاتم، فالنبي صلى الله عليه وسلم استصنع الخاتم كما ثبت في صحيح البخاري ومسلم، واستصنع المنبر كما ثبت في صحيح البخاري، فهل في استصناعه صلى الله عليه وسلم ثبت أنه دفع الثمن في مجلس العقد حتى نطبق عليه شروط السلم أم لم يثبت أنه دفع الثمن في مجلس العقد؟ قد يقول قائل آخر أنه قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمادة الذهب من عنده أو بمادة المنبر من عنده من الخشب، لكن هذا يبقى احتمالا لم يثبت بالأدلة الصحيحة أنه أتى بذلك من عنده، فالأدلة محتملة وحاجة الناس الآن تدعو إلى الاستصناع وإلى المحافظة على أموالهم من الشركات الوهمية المعروفة والمزورة التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، فلو دفع الثمن في مجلس العقد لسبب ذلك حرجا ومشقة على المستصنع من خوفه على ماله، أو من عمل الصانع للمصنوع على غير المواصفات، ثم بعد ذلك يخضع إلى المرافعات الشرعية والمحاكمات التي تقتضي وقتا طويلا وضياعا وحرجا ومشقة عظيمة، كل هذه الأشياء ذكرتها في بحثي فأرجو أن ينصب النقاش على هاتين النقطتين إن رأيتم، وشكرا.

ص: 1134

القاضي محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أود أن أنوه بذكر قرار للمجمع قد أصدر في الدورة السادسة بشأن التمويل العقاري، وقد سبق وأن درسنا موضوع الاستصناع في خلال مداولتنا في موضوع التمويل العقاري، وقد قرر المجمع أن التمويل العقاري ينبغي أن يكون على طريق الاستصناع، فقد سبق وأن أقر المجمع مشروعية الاستصناع وأن الاستصناع عقد ملزم، فهاتان الناحيتان لا تحتاجان فيما أرى إلى كثير من النقاش لأنه قد اتخذ فيه قرار، أما طرح هذا الموضوع في هذه الدورة، المقصود منه الدخول في بعض التفاصيل التي تتعلق بعقد الاستصناع ومع شكري وتقديري لجميع الباحثين الذين قدموا بحوثا في هذا الموضوع، فإني لم أر فيها إلا التركيز على ثلاث نقاط، هل يجب دفع الثمن حالا أو يجوز تأجيل الثمن؟ وهل يكون الاستصناع ملزما أو لا يكون ملزما؟ مع أن هذه النقاط كلها قد سبق أن بت فيها من قبل المجمع، والذي كان ينبغي أن ندرسه في هذه الدورة هو تفاصيلها العملية، فمثلا أثار الأستاذ عبد اللطيف جناحي سؤالا: وهو أنه هل يجوز للمستصنع أن يرفض قبول الشيء المصنوع إذا لم يف بالمقصود؟ فالذي أراه أن من يقول بإلزام الاستصناع فإنما يقول بنفي خيار الرؤية أما خيار العيب فبابه مفتوح، فإذا جاء الصانع بشئ صنعه وفيه عيب ولا يفي بالمقصود فحينئذ يمكن الاستبدال، وهناك ناحية أخرى وهي أن الاستصناع حينما يستخدم في العمليات المصرفية فقد تقع هناك عدة عقود متتالية على شيء مصنوع واحد، مثلا يأتي زيد فيستصنع من خالد شيئا وخالد ليس صانعا بنفسه، ولكنه يستصنع نفس ذلك الشيء من عمرو، وعمرو من حامد، فالصانع الأخير هو حامد والمستصنع الأول هو زيد، فهل تجوز هذه العقود البسيطة فيما بين أصل المستصنع وأصل الصانع أو لا تجوز؟. هذه نقطة مهمة لم أر أحدًا من الباحثين تعرض لها وبما أن الوقت الآن على وشك النهاية فأرجو من لجنة الصياغة التي تتكون لدراسة هذا الموضوع أن تأخذ هذه النواحي بعين الاعتبار، وشكرا.

ص: 1135

الرئيس:

في الواقع بقي عدد غير قليل من أصحاب الفضيلة الذين طلبوا الحديث ولكن الوقت تجاوز ربع ساعة فقد ترون أن نكتفي بما حصل.

بسم الله الرحمن الرحيم.

تكاد تلتقي المداولات على جواز عقد الاستصناع، وهذا وإن تم عرضا في قرار التمويل العقاري الذي سبق إصداره من هذا المجمع، ولكنه يراد أن ينص عليه بقرار مستقل بمواصفاته وتكييفه الفقهي، هل هو من باب السلم أو أنه عقد مستقل بنفسه؟ ومدى إلزاميته، ومدى تقديم الثمن إلى غير ذلك من المسائل التي جرى طرحها وتداولها وهي مقيدة لدى المقرر العام لهذه الجلسة.

ولهذا قد ترون مناسبا أن تتألف اللجنة من المشايخ: الشيخ وهبة، الشيخ محيي الدين القره داغي، الشيخ سعود الثبيتي، الشيخ علي السالوس، الأستاذ الجناحي، الأستاذ رفيق المصري. هل هذا مناسب؟

وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

ص: 1136

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 67/3/7

بشأن

عقد الاستصناع

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد استصناع".

وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرا لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامى.

قرر:

1– إن عقد الاستصناع - وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط.

2– يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:

(أ) بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.

(ب) أن يحدد فيه الأجل.

3– يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.

4– يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطا جزائيا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.

والله أعلم.

ص: 1137