الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد الاستصناع
إعداد
الدكتور علي محيي الدين القره داغي
جامعة قطر – كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد أولى الإسلام عناية كبرى بالصناعة والاستصناع في وقت كانت العرب – وغيرهم من الأمم – تنظر إلى الصناعات والحرف نظرة فيها التقليل من شأنها، فنزلت الآيات الدالات على أهمية الصناعة في حياة الأمة حتى قرن الله تعالى الحديد مع القرآن الكريم في الإنزال، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) .
بين القرآن الكريم في مقام الامتنان بالنعم العظمى أن الله علَّم أحد أنبيائه العظام – وهو داود – صنعة اللباس الحديدي، والدرع حيث يقول:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (2) .
كما يجعل الرسول الصناعة اليدوية، بل كل ما تصنعه اليد من أفضل الأعمال حيث يقول: " ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود – عليه السلام – كان يأكل من عمل يده (3) .
وجاء فقهاؤنا العظام منذ بداية القرن الثاني الهجري – مثل أبي حنيفة وصاحبيه وكذلك غيرهم – بتنظيم عقد الاستصناع وأهميته، وبيان شروطه وضوابطه، وفروعه ومسائله.
(1)[سورة الحديد: الآية 25] .
(2)
[سورة الأنبياء: الآية 80] .
(3)
رواه البخاري في صحيحه، مع الفتح، كتاب البيوع، طبعة السلفية: 4/303.
كل ذلك يحدث في هذا الوقت المبكر بينما الغرب لم يصل إلى تقنين عقد الاستصناع إلى وقت متأخر جدًّا، حيث نرى أن (دافيد) يستغرب جدًّا عن عدم وجود تنظيم لعقد الاستصناع في التقنين المدني الفرنسي الذي صدر عام 1804م ويعزى ذلك إلى أن مشرعي هذا القانون لم يكونوا يعرفون هذا العقد بصورة كاملة، وذلك بسبب عدم ظهور هذا العقد آنذاك.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة هذا الفقه الإسلامي العظيم، وسبقه بقرون عدة في كل مجالات التشريع.
ونحاول في هذا البحث المتواضع أن نستعرض عقد الاستصناع ونركز على أمرين أساسيين: هل هذا العقد عقد مستقل، أو تبع وداخل في عقود أخرى؟ وهل هو عقد لازم أم هو عقد جائز؟
وقد بذلت كل جهدي في رجوعي إلى المصادر المعتمدة في كل مذهب، وبيان آراء الفقهاء والاستفادة منها، ولكنه مع ذلك لم يقف جهدي عند هذا الحد، بل حاولت الوصول إلى صورة متكاملة لعقد الاستصناع وإن كان هذا الكمال له لم يتم إلا من خلال مخالفة الرأي الذي عليه الجمهور، لأنني وضعت نصب عيني مقاصد الشريعة ومبادِئَها الكلية، بل قدمت السير في ظلالها على السير في ظل التفسيرات الفرعية، فمثلًا إذا كنت قد أخذت لزوم عقد الاستصناع من رواية لأبي يوسف فإنني لم أقف عند قوله – مع قول بقية الحنفية – ببطلان الاستصناع بموت أحد الطرفين، وإنما قلت ببقائه، وانتقال الحق إلى الورثة، بل لاحظت التنظيمات الموجودة للشركات والمصانع في عصرنا الحاضر، التي اعترفت فيها بوجود شخصية معنوية لها تستمر ما دامت الشركة قائمة دون النظر إلى أصحابها ومدرائها، ولذلك قلت بعدم بطلان الاستصناع بموت أحد العاقدين، كما أن قول الحنفية هذا قياس الإجارة التي هي نفسها محل خلاف في بطلانها بموت أحد العاقدين، بل الجمهور على عدم بطلانها، ومن هنا قست الاستصناع في عدم البطلان بموت أحد العاقدين على الإجارة على مذهب الجمهور، بل إننا لسنا بحاجة إلى القياس، لأن الاستصناع عقد مستقل.
وهكذا حاولنا أن نبذل كل ما نستطيع بذله للوصول إلى صورة متكاملة محققة لمصلحة الطرفين، والأمة في الازدهار والتنمية والاستقرار.
والله أسأل أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ في القول والعمل.
الاستصناع لغة واصطلاحا
الاستصناع في اللغة:
الاستصناع لغة مصدر " استصنع " بمعنى طلب الصنعة، فيقال: استصنع الشيء أي دعا إلى صنعه، وأصله " صنع يصنع صنعًا، فهو مصنوع وصنيع والصناعة حرفة الصانع، والصناعة: ما تستصنع من أمر (1) .
وقد ورد لفظ " صنع " ومشتقاته في القرآن الكريم عشرين مرة منها قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} (2) .
حيث أطلق على ما يصنعه الإنسان، ويطلق على صناعة السحر حيث يقول تعالى:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} (3) .
وعلى صناعة السفينة حيث قال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} (4) .
ومنها قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
قال الماوردي: (يحتمل وجهين أحدهما: خلقتك، مأخوذ من الصنعة، الثاني، اخترتك، مأخوذ من الصنيعة)(5) .
ومنها قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (6) .
أي فعل الله الذي أتقن كل شيء (7) ويبدو أن الصنع أخص من مطلق الفعل.
ومنها قوله تعالى في حق إدريس عليه السلام : {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} (8) .
ومنها قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (9) .
وقد تكرر لفظ " صنع " ومشتقاته في السنة المشرفة كثيرًا، منها إطلاق الصنع للطعام، والأعمال عمومًا مثل " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا "(10) أي فعل كذا من الوضوء المسح على الخفين، ومنها إطلاقه على صنع المنبر.
ومنها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصطنع خاتمًا من ذهب وكان يلبسه فيجعل فصه في باطن كفه، فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: " إني كنت ألبس الخاتم
…
فرمى به، ثم قال:" والله لا لأبسه أبدًا " فنبذ الناس خواتيمهم " (11) .
وترجم ابن ماجه في سننه: باب الصناعات، وترجم الترمذي في سننه: باب ما جاء في صنائع المعروف.
والمقصود من هذا السرد أن هذه الكلمة مما شاع استعمالها في القرآن الكريم في معانيها اللغوية التي تشمل الحرفة، وغيرها من أي عمل كان، وفي إيجاد الشيء من العدم ونحو ذلك.
(1) لسان العرب، طبعة دار المعارف: ص2058، وكشاف اصطلاحات الفنون، طبعة الهيئة العامة للكتاب: 4/235.
(2)
[سورة الرعد: الآية 31.
(3)
[سورة طه: الآية 69]
(4)
[سورة هود: الآية 38]
(5)
تفسير الماوردي، طبعة أوقاف الكويت: 3/15
(6)
[سورة النمل: الآية 88]
(7)
تفسير الماوردي: 3/212.
(8)
سورة الأنبياء: الآية 80 قال الماوردي: 3/53 فيه وجهان: أحدهما: (لبوس) والثاني: (أن جميع السلاح لبوس عند العرب) .
(9)
[سورة الشعراء: الآية 129] .
(10)
صحيح البخاري، الصلاة.
(11)
صحيح البخاري، مع الفتح، كتاب الأيمان: 11/537، وأحمد: 3/101.
الاستصناع اصطلاحًا:
وقد عرف الاستصناع في عرف من قالوا به عدة تعريفات:
منها تعريف رجحه الكاساني واختارته الموسوعة الفقهية (1) وهو أن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (2) غير أن الكاساني ذكر عدة تعريفات فقال ": (وأما معناه فقد اختلف المشائخ فيه، قال بعضهم: هو مواعدة، وليس ببيع، وقال: بعضهم: هو بيع لكن للمشتري فيه خيار، وهو الصحيح بدليل أن محمدًا رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في العدات (أي الوعود) وكذا أثبت فيه خيار الرؤية، وأنه يختص بالبياعات
…
، ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع، قال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة، وقال بعضهم هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل " ثم رجح الكاساني التعريف الأخير فقال:(والصحيح هو القول الأخير، لأن الاستصناع: طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا (3)، ومنها ما ذكره ابن عابدين حيث قال:(وأما شرعًا فهو طلب العمل منه في شيء خاص على وجه مخصوص (4) وقال البابرتي: (والاستصناع هو أن يجيء إنسان إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئًا صورته كذا، وقدره كذا بكذا درهمًا، ويسلم إليه جميع الدراهم، أو بعضها، أو لا يسلم)(5) .
وعرفته مجلة الأحكام العدلية في مادتها (124) بأنه عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة.
وجاء في بعض كتب الحنابلة: (استصناع سلعة يعني يشتري منه سلعة، ويطلب منه أن يصنعها له، مثل أن يشتري منه ثوبًا ليس عنده، وإنما يصنعه له بعد العقد)(6) .
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية، طبعة أوقاف الكويت: 3/325.
(2)
بدائع الصنائع، طبعة الإمام بالقاهرة: 6/2677.
(3)
بدائع الصنائع: 6/2677، ويراجع المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة ببغداد: ج2 ورقة 572.
(4)
رد المحتار على الدر المختار، طبعة دار إحياء التراث العربي في بيروت: 4/212.
(5)
شرح العناية مع فتح القدير، طبعة مصطفى الحلبي، القاهرة: 7/114.
(6)
كتاب الفروع لابن مفلح، مع ملاحظة ما ذكره مراجع الكتاب من أن العبارة السابقة من هامش مخطوط الأزهر: 4/24 ويراجع عقد الاستصناع في الفقه الإسلامي لكاسب عبد الكريم البدران، طبعة دار الدعوة الإسكندرية ص63 وما بعدها.
أنواع الاستصناع
بالنظر إلى ما ذكره المالكية نجد أنهم يذكرون للاستصناع أربعة أنواع نذكرها هنا لأهميتها وهي: كما ذكره ابن رشد في مقدماته:
النوع الأول: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله ولا يعين ما يعمل منه فهذا النوع سلم على حكم السلم لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل وتقديم رأس المال.
النوع الثاني: أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه.
فهذا النوع ليس بسلم، وإنما هو من باب البيع، والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعميل النقد وتأخيره وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل (1) غير أن أشهب أجاز في السلم تعيين المصنوع منه، والصانع خلافًا لابن القاسم (2) .
النوع الثالث: أن لا يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه.
فهذا النوع أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد، وتأخيره.
النوع الرابع: أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه.
فهذا النوع فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان هما: لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه (3) .
(1) المقدمات الممهدات، طبعة دار الغرب الإسلامي: 2/32.
(2)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي: 2/216.
(3)
المقدمات: 2/32.
وذكر العلامة الدسوقي بعض هذه المسائل، فقال: (وصورته: وجدت نحاسًا يعمل طستا، أو حلة، أو تورًا، أو غير ذلك فقلت له: كمله لي على صفة كذا بدينار فيجوز إن شرع في تكميله بالفعل، أو بعد أيام قلائل كخمسة عشر يومًا فأقل، وإلا منع، لما فيه من بيع معين يتأخر قبضه، ومحل الجواز أيضا إذا كان عند النحاس نحاس بحيث إذا لم يأت على الصفة المطلوبة كسره وأعاده وكمله مما عنده من النحاس
…
، وقد جعل مج (أي الشيخ محمد الأمير) وعبق (أي الزرقاني) وشارحنا هذه المسألة تبعا لابن الحاجب والتوضيح من باب اجتماع البيع والإجارة، وهو مغاير لأسلوب المصنف، ويصح أن يكون من باب السلم بناء (على مذهب أشهب المجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع وهنا عين المصنوع منه، وهذه يمنعها ابن القاسم)(1) .
وعلق العلامة الدردير على قول خليل في إطلاق لفظ السلم على النوع الثاني فقال: (إطلاق لفظ السلم على هذا الشراء مجاز، إنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد قوله: (وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد، وإنما يضمنه بائعه ضمان الصناع)(2)
ثم أن المالكية فرقوا بين مصنوع يمكن إعادته إلى مادته الخام ليصنع منها آخر، ومصنوع ليس كذلك، يقول الدردير: (ومعنى كلامه أن من وجد صانعًا شرع في عمل تور مثلا فاشتراه منه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له جاز، فإن اشتراه على الوزن لم يضمنه مشتريه إلا بالقبض، وهذا بخلاف شراء ثوب ليكمل فيمنع
…
، لإمكان إعادة التور إن جاء على خلاف الصفة المشترطة، أو المعتادة، بخلاف الثوب إلَّا أن يكون عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة) (3) .
وهذا النص يدل على أن الأساس هنا في الجواز وعدمه هو مدى صلاحية كون المادة الخام لأن يصنع منها المطلوب، ولأن تعاد مرة أخرى ليصنع منها المطلوب مرة أخرى، أو وجود كمية إضافية ليصنع منها آخر حسب الوصف المطلوب.
(1) حاشية الدسوقي: 2/215؛ ويراجع: شرح الخرشي، طبعة بولاق مصر: 5/224 – 225.
(2)
الشرح الكبير مع الدسوقي 2/215 - 216.
(3)
الشرح الكبير مع الدسوقي 2/215 - 216.
ومن هنا فالمصنوعات الحديثة التي تقوم بصنعها المكائن حسب قوالب محددة غير مختلفة فلا إشكال في جوازها.
وكذلك فرق المالكية بين الشراء من دائم العمل أي محترف الصنعة كالخباز وغيره، حيث أجازوا شراء ما يصنع دون تعينه، أي يكون الصانع معينا، دون المصنوع منه، واعتبروه بيعًا، بينما يعتبر سلمًا إذا كان الصانع غير محترف أو على حسب تعبيرهم (غير دائم العمل) حيث يكون دينًا في الذمة كعقد على قنطار خبز يؤخذ من المسلم إليه بعد شهر يحدد قدره وصفته، لكن المالكية جعلوا استصناع السيف والسرج سلمًا سواءً كان الصانع المعقود عليه دائم العمل أم لا، يقول الدردير:(والحاصل أن دائم العمل حقيقة أو حكمًا إن نصب نفسه على أن يؤخذ منه كل يوم مثلًا ما نصب نفسه له من وزن أو كيل، أو عدد كالخباز، واللبان، والجزار، والبقال يمكن فيه البيع تارة، والسلم أخرى بشروطه، وإلا – (أي إن لم يكن دائم العمل ولا غالبه بأن كان انقطاعه أكثر، أو تساوى عمله مع انقطاعه) – فالسلم بشروطه كالحداد، والنجار، والحباك) (1) والدليل على جواز ذلك عمل أهل المدينة (2) .
ثم إن المالكية مختلفون في أن تعيين المصنوع منه هو يفسد السلم، فذهب ابن القاسم إلى أن تعيين المصنوع منه يفسد السلم، مثل أن يقول: اعمل لي من هذا الحديد بعينه، أو من هذا الخشب بعينه، لأنه حينئذ لا يكون دينًا في ذمته وبالتالي لا يكون سلمًا.
وذهب أشهب إلى جواز أن يكون المصنوع منه معينًا في السلم (3) ، وذلك لأن تعيين المصنوع منه لا يضر بطبيعة السلم في نظره، ولا يوجد نص يمنع ذلك.
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 2/216 – 217.
(2)
جاء في المدونة: (قال مالك: ولقد حدثني عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلًا نأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك دينا بدين، ولم يروا به بأسا) – المدونة: 3/290؛ ويراجع مواهب الجليل: 4/538؛ وتبين المسالك، طبعة دار الغرب الإسلامي: 3/455.
(3)
الشرح الكبير مع الدسوقي: 2/216 – 217.
الاستصناع بين الاستقلال والاتباع
ثار خلاف بين الفقهاء فذهب جماعة منهم إلى أن الاستصناع عقد تابع وداخل في أحد العقود المشهورة المتفق عليها، وهؤلاء اختلفوا على ضوء ما يأتي:
1-
هل هو سلم؟ هذه المسألة هي مثار خلاف كبير بين الفقهاء فذهب جمهور الفقهاء (المالكية على تفصيل والشافعية والحنابلة) إلى أن الاستصناع داخل في باب السلم، ولذلك يخضع لشروطه وضوابطه من تسليم الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية وغير ذلك من شروط السلم.
ومن هنا يعترف هؤلاء بالاستصناع كعقد مستقل، وإنما أدخلوه في السلم، ولذلك ذكروه في باب السلم، جاء في المدونة: باب السلف في الصناعات: (قلت ما قول مالك في رجل استصنع طستا، أو تورا قمقما، أو قلنسوة، أو خفين، أو لبدًا، أو استنحت سرجًا، أو قارورة، أو قدحا، أو شيئا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم، أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع فاستعمل من ذلك شيئا موصومًا، وضرب لذلك أجلًا بعيدًا، وجعل لرأس المال أجلًا بعيدًا، أيكون هذا سلفًا أو تفسده، لأنه ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا، أم لا يكون سلفًا، ويكون بيعًا من البيوع في قول مالك ويجوز؟
قال: أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلًا بعيدًا، وجعل ذلك مضمونًا على الذي يعملها بصفة معلومة، وليس من شيء بعينه يريه يعمله منه، ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه، وقدم رأس المال، أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين، ولم يضرب لرأس المال أجلًا فهذا السلف جائز، وهو لازم للذي عليه يأتي به إذا حل الأجل على صفةٍ ما وصفا.
قلت: وإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا، والمسألة على حالها فسد وصار دينا في قول مالك؟ قال: نعم.
قلت: وإن لم يضرب لرأس المال أجلًا، واشترط أن يعمله هو نفسه، أو اشترط عمل رجل بعينه؟ قال: لا يكون هذا سلفًا، لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل، وشرط عليه عمل نفسه، وقدم نقده فهو لا يدري، أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أو لا؟ بطل سلف هذا فيكون الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلًا.
قلت: لم؟ قال: لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الطواهر، أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا، ولا يكون السلف في شيء بعينه، فلذلك لا يجوز في قول مالك (1) هذا هو نص المدونة نقلناه بطوله لأهميته حيث يدل بوضوح على أن الاستصناع إنما يصح إذا توفرت فيه شروط السلم وضوابطه.
جاء في حاشية الدسوقي تفصيل أكثر وهو: (وصورته: وجدت نحاسًا يعمل طستا، أو حلة، أو تورا، أو غير ذلك، فقلت له: كمله لي على صفة كذا بدينار فيجوز إن شرع في تكميله بالفعل
…
) إلى آخر النص (2) .
والتحقيق أن المالكية جعلوا إحدى صور الاستصناع سلمًا، وبقية صوره الثلاث إما من باب البيع والإجارة – كما في النوع الثاني، والثالث، وإما باطل كما في النوع الرابع – كما سبق – كما جعلوا بعض صوره بيعا – كما سيأتي – وقد علق العلامة الدسوقي على النوع الذي قيل: إنه من باب البيع والإجارة فقال: (وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لها شبه بالسلم نظرًا للمعدوم في حال العقد، ولها شبه بالبيع نظرًا للموجود، وليست من اجتماع البيع والإجارة، لكن أقرب ما يتمشى عليه كلام المصنف قول أشهب الذي يجيز تعيين المعمول منه (3) . وحينئذ يكون سلمًا على قول أشهب.
وكذلك الأمر عند الشافعية والحنابلة حيث أدخلوا الاستصناع في باب السلم أيضا، حيث يقول الشافعي في كتاب السلم: (ولا بأس أن يسلفه في طست، أو تور من نحاس أحمر، أو أبيض
…
، أو رصاص، أو حديد، ويشترطه بسعة معروفة، ومضروبًا، أو مفرغًا، وبصنعة معروفة، ويصفه بالتخانة، أو الرقة، ويضرب له أجلًا كهو في الثياب وإذا جاء به على ما يقع عليه اسم الصفة، أو الشرط لزمه ولم يكن له رده، وكذلك كل إناء من جنس واحد ضبطت صفته فهو كالطست
…
ولا يجوز فيه الإذن إلا أن يدفع ثمنه، وهذا شراء صفة مضمونة فلا يجوز فيها إلا أن يدفع ثمنها وتكون على ما وصفت) وأجاز الشافعية الاستصناع سواء كان حالا أم مؤجلًا لأنه سلم (4) .
(1) المدونة الكبرى لإمام دار الهجرة الإمام مالك، طبعة السعادة 1323هـ، القاهرة: 9/18- 19
(2)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي: 3/215- 216
(3)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي: 3/215- 216
(4)
روضة الطالبين، طبعة المكتب الإسلامي: 4/7 جاء فيه: (يصح السلم الحال، كالمؤجل، فإن صرح بحلول، أو تأجيل فذاك، وإن أطلق فوجهان، وقيل: قولان، أصحهما عند الجمهور: يصح، ويكون حالًّا
وقد وضع الإمام الشافعي ضابطة في جواز السلم تكمن في ضبط أوصاف المسلم فيه، وكون هذه الأوصاف مما يمكن تحقيقها ومعرفتها، ولذلك لم يجز السلم في شيء مختلط مثل أن يشترط أن يعمل له طستًا من نحاس وحديد وذلك، لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما (1) وعلى ضوء ذلك إذا أمكن معرفته بدقة – كما يحدث اليوم في المصانع التي تضبط المواصفات، والمقادير – بدقة يكون الحكم الجواز، غير أن لازم المذهب ليس بمذهب.
كذلك يذكر الحنابلة موضوع الاستصناع في باب السلم قال ابن قدامة: (قال القاضي والذي يجمع أخلاطًا على أربعة أضرب) ثم ذكر ضمن النوع الأول الثياب المنسوجة من قطن وكتان، ثم ذكر كيفية ضبط الثياب، وضبط النحاس، والرصاص والحديد، والخشب وهكذا
…
(2) وجاء في مطالب أولي النهى في باب السلم: (ويصح – أي السلم – فيما يجمع أخلاطًا متميزة كثوب نسج من نوعين كقطن وكتان، أو إبريسم، وقطن
…
لإمكان ضبطها بصفة لا يختلف ثمنها معها غالبًا) (3) .
وأما الحنفية فقد فرقوا بين نوعي الاستصناع، حيث جعلوا أحدهما سلمًا، جاء في الدر المختار وحاشيته: (والاستصناع بأجل – مثل شهر وما فوقه سلم، فتعتبر شرائطه جري فيه تعامل كخف وطست، ونحوهما، أم كالثياب ونحوها هذا عند أبي حنفية، أما الصاحبان فقالا: إن ما جرى فيه تعامل استصناع، لأن اللفظ حقيقة الاستصناع فيحافظ على قضيته، وحينئذ يحمل الأجل على التعجيل بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح، بينما قال الإمام أبو حنيفة إن النوع الأول أيضا سلم، لأنه دين يحتمل السلم وهو ثابت بالإجماع بينما الاستصناع فيه خلاف فكان الحمل على السلم أولى.
وأما إذا كان الأجل أقل من شهر فهو استصناع ما دام فيما جرى فيه عمل وصنعه (4) .
(1) الإمام، طبعة دار المعرفة بيروت: 3/131، ويراجع: الغاية القصوى، للبيضاوي، بتحقيق علي القره داغي: 1/496؛ والمحلى مع حاشيتي القليوبي وعميرة، طبعة عيسى الحلبي: 2/254
…
؛ وروضة الطالبين، طبعة المكتب الإسلامي: 4/27
(2)
المغني، لابن قدامة، طبعة الرياض: 4/310- 316 ويراجع: الفروع: 4/24.
(3)
مطالب أولي النهى: 3/310
(4)
حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/212.
2-
الاستصناع بيع:
ذكر المالكية عدة صور للاستصناع - كما سبق – وجعلوا إحداها من باب البيع، وهي ما إذا طلب شخص من النحاس – مثلا - أن يصنع من نحاسه المعين تورًا – أي طشتًا – قال العلامة الدردير:(إنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد قوله: وإن اشترى المعمول منه، واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد)(1) .
ولكن العلامة الدسوقي قال: (واعترضه شيخنا بأن بينهما فرقًا، لأنه هنا وقع العقد على المصنوع، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري، والآتية دخل في ملكه المعمول منه بالعقد عليه ثم استأجره)(2) .
وذكر المالكية بعض الصور التي هي فيها صنعة لكنها تدخل في البيع منها: جواز أن يشتري شخص من دائم العمل أو غالبه – ككون البائع من أهل حرفة وذلك الشيء لتيسره عنده – وكان الصانع معينًا دون المصنوع منه، فأشبه المعقود عليه المعين، وذلك مثل الخبازة والجزار بنقد وبغيره، وكذلك لا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل المثمن؛ لأنه بيع وهو لا يشترط فيه واحد من الأمرين، وإنما يشترط الشروع في الأخذ حقيقة، أو حكمًا بأن يؤخر الشروع في الأخذ خلال خمسة عشر يومًا، حيث أجازوا التأخير لنصف شهر (3) يقول العلامة الدسوقي معلقًا على هذا النوع:(إنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع، وذكر العلامة الدردير مثالين لتطبيق ذلك فقال: (والشراء إما بجملة يأخذها مفرقة على أيام كقنطار بكذا كل يوم رطلين) والمثال الثاني هو أن يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينا، قال الدردير:(وليس لأحدهما الفسخ في الصورة الأولى دون الثانية) حيث البيع فيها جائز غير لازم فلكل واحد منهما في الصورة الثانية حق الفسخ (4)
فالمالكية أيضا أجازوا شراء مصنوع – من نحاس ونحوه – لم يكتمل صنعه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له، بينما منعوا مثل ذلك في ثوب من نسيج إلَّا إذا كان عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة قال الدردير: (إن ما وجد صانعًا شرع في عمل تور مثلًا فاشتراه منه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له جاز، فإن اشتراه على الوزن لم يضمنه مشترية إلا بالقبض، وهذا بخلاف شراء ثوب ليكمل فيمنع
…
لإمكان إعادة التور إن جاء على خلاف الصفة المشترطة أو المعتادة، بخلاف الثوب إلا أن يكون عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة) (5) إذن فالسبب وراء الجواز هو قدرة البائع على الوفاء بأداء ما التزم به حسب المواصفات التي طلبت منه.
وذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع بيع ملزم للطرفين، وذهب بعضهم الأخير إلى أنه بيع ولكنه للمشتري فيه حق الخيار قال الكاساني:(وهو الصحيح)(6) ثم اختلفوا في أن المبيع هل هو العين، أم عمله؟ (7) .
3-
الاستصناع بيع وإجارة:
أدخل المالكية بعض صور الاستصناع في باب البيع والإجارة حيث ذكر ابن رشد صورتين واعتبرهما من هذا الباب، وهما:
1-
أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه، حيث قال:(وهذا ليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل)(8) .
2-
أن لا يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه، قال ابن رشد:(فهو أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره)(9) .
إجارة ابتداء وبيع انتهاء:
وذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع إجارة ابتداء، وبيع انتهاء، جاء في الذخيرة:(هو إجارة ابتداء، وبيع انتهاء لكن قبل التسليم، لا عند التسليم بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفي المصنوع من تركته، ذكره محمد في كتاب البيوع)(10) .
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216.
(2)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216.
(3)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216، ويراجع: شرح الخرشي: 5/225
(4)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216، ويراجع: شرح الخرشي: 5/225
(5)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216
(6)
بدائع الصنائع: 6/2677.
(7)
حاشية ابن عابدين: 4/213
(8)
المقدمات الممهدات: 2/32.
(9)
المقدمات الممهدات: 2/32.
(10)
فتح القدير، طبعة مصطفى الحلبي: 7/116.
وقد شرح صاحب المحيط البرهاني هذه المسألة في كتابه القيم (المخطوط) شرحًا رائعًا حيث قال: (ثم كيف ينعقد معاقدة؟ نقول: ينعقد إجارة ابتداء، ويصير بيعًا انتهاء متى سلم قبل التسليم فباعه، بدليل أنهم قالوا: بأن الصانع إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع، ولا يستوفي المصنوع من تركته، ولو انعقد بيعًا ابتداءً وانتهاءً
…
، لم يبطل بموته كما في بيع العين، والسلم، وقال محمد: إن أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار، لأنه اشترى شيئا لم يره، ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية، كما في الخياط والصباغ، ولو كان ينعقد بيعًا عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية، لأنه يكون مشتريا ما رآه، وخيار الرؤية لا يثبت في المشتري، فعلمنا أنه ينعقد إجارة ابتداء، وإن كان القياس يأباه، لأنه إجارة على عمل في ملك الآخر، ثم يصير بيعًا انتهاء قبل التسليم بساعة وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعًا لكنا تركنا القياس في الكل، لمكان التعامل، والمعنى في ذلك أن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعًا فلا بد من اعتبارهما جميعا ـ واعتبارهما جميعًا في حالة واحدة متعذرة، لأن بين الإجارة والبيع تنافيا فجوزناها إجارة ابتداء، لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة ويمنع انعقاد البيع فاعتبرناها إجارة ابتداء، وجعلناها بيعًا قبل التسليم
…
كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض، اعتبرناها تبرعًا ابتداء عملًا باللفظ، بيعًا انتهاء عملًا بالمعنى، ولذلك قلنا: لو مات قبل التسليم يبطل كالإجارة، ومتى سلم كان المستصنع بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره) (1) .
(1) المحيط البرهاني مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة: ج 2 ورقة 575.
4-
الاستصناع إجارة محضة
ذكر الرأي أو الاحتمال صاحب العناية ورد عليه حيث قال: (فإن قيل: أي فرق بين هذا وبين الصباغ، فإن في الصبغ العمل والعين كما في الاستصناع، وذلك إجارة محضة؟ أجيب بأن الصبغ أصل، والصبغ آلته، فكان المقصود منه العمل، وذلك إجارة وردت على العمل في عين المستأجر، وههنا الأصل هو العين المستصنع المملوك للصانع فيكون بيعًا، ولما لم يكن له وجود من حيث وصفه إلا بالعمل أشبه الإجارة في حكم واحد لا غير)(1) .
5-
الاستصناع مواعدة (أي وعد من الطرفين وليس عقدًا) :
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع مواعدة من الطرفين أولا، ثم حينما يكمل الصانع المصنوع ويسلمه إلى المصنوع له يصبح بيعًا بالتعاطي، وعلى ضوء ذلك لا يكون عقدًا ملزما للطرفين إلا بعد التسليم والرضاء به، بل يكون لهما الخيار، جاء في المحيط البرهاني في رده على كون الاستصناع مواعدة: (إذا جاز استحسانا فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة بدليل أن محمدًا رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان، ولو كان مواعدة
…
) لما احتاج إلى ذلك (وأن محمدًا قال في كتاب إذا فرغ الصانع من العمل وأتى به كان المستصنع بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، فقد سماه شراء، وكذلك قال: إذا قبض الأجر فإنه يملك ولو كانت مواعدة لا معاقدة لكان لا يصير الأجر ملكًا له فدل أنها تنعقد معاقدة لا مواعدة)(2) .
(1) شرح العناية على الهداية مع فتح القدير: 7/116.
(2)
المحيط البرهاني مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة: ج 2 ورقة 575.
6-
الاستصناع له شبه بالسلم والبيع:
جعل المالكية إحدى صور الاستصناع من هذا الباب، وهي ما إذا عين الشخص المصنوع منه والصانع ويطلب منه أن يصنع من نحاسه شيئا معينًا موصوفًا، قال الدسوقي: وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لها شبه بالسلم نظرًا للمعدوم في حال العقد، ولها شبه بالبيع نظرًا للموجود، وليست من اجتماع البيع والإجارة) (1) .
وهذا الرأي يقرب من القول باستقلالية الاستصناع، حيث أنه ليس مثل السلم في كل الوجوه، ولا مثل البيع في كل الوجوه، وحينئذ يكون عقدًا خاصًّا.
7-
هل هو جعالة؟
الجعالة – كما لا يخفى – هي عبارة عن التزام عوض معلوم على عمل معين، أو مجهول عسر علمه، وهي عقد على عمل، وهو عقد غير لازم قبل الإتيان بالشيء المطلوب (2) مثل أن يقول: من رد بعيري فله كذا.
وجاء في الموسوعة الفقهية: (الجعالة تتفق مع الاستصناع في أنهما عقدان شرط فيها العمل، ويفترقان في أن الجعالة عامة في الصناعات وغيرها، إلا أن الاستصناع خاص في الصناعات، كما أن الجعالة العمل قد يكون معلومًا، وقد يكون مجهولًا في حين أن الاستصناع لابد أن يكون معلومًا)(3) .
وكذلك يفترقان في المحل المعقود عليه، حيث هو في الاستصناع عين وعمل، وفي الجعالة له عمل محض فقط.
8-
الاستقلال:
الاستصناع عقد مستقل له أركانه وشروطه، وأحكامه وآثاره الخاصة، وهذا رأي الحنفية – من حيث المبدأ – عدا زفر (4) .
(1) الدسوقي على الشرح الكبير: 2/216.
(2)
البجيرمي على شرح الخطيب: 3/238؛ والكتب الفقهية في باب الجعالة؛ والموسوعة الفقهية: 3/326.
(3)
الموسوعة الفقهية: 3/326.
(4)
المصادر الحنفية السابقة كلها.
المناقشة والترجيح:
يمكن أن نناقش الأقوال السابقة بما يأتي:
أولا: أن الذين قالوا: إنه بيع، اعترف أكثرهم بنوع من التغاير بينه وبين الاستصناع، فمثلًا قالوا: إن الاستصناع يخالف البيع في اشتراط العمل في الاستصناع دون البيع، وفي إثبات خيار الرؤية عند بعضهم في الأول (1) .
ثم إن الاستصناع لو كان بيعًا لما بطل بموت أحد العاقدين عند الحنفية: كما أن الاستصناع بيع للمعدوم وهو لا يجوز كما يقولون (2) .
نعم إن هؤلاء حاولوا الإجابة عن هذه الاعتراضات، ولكن إجاباتهم أيضًا تحمل في طياتها الاعتراف بوجود شبه للاستصناع بغيره، فمثلًا قالوا في سبب بطلانه بموت أحد العاقدين: إن له شبهًا بالإجارة (3) .
ثم إن أكثر الحنفية القدماء لم يجعلوا لعقد الاستصناع اللزوم، بل اعتبروه من العقود الجائزة (غير الملزمة للطرفين قبل العمل وبعده) وحينئذ كيف يكون بيعا؟ نعم لو توفرت فيه شروط السلم أصبح حينئذ عقدًا لازما، لأنه سلم (4) وقال ابن الهمام:(ولا بيعا لأنه بيع معدوم) على غير شروط السلم، غير أنه أجيز استحسانا (5) .
ثانيا: الذين جعلوا الاستصناع إجارة يرد عليهم بوجود فرق كبير بينهما، فالاستصناع وارد على العين والعمل، بينما الإجارة وارد على العمل فقط، وحتى في الاستئجار على الصبغ أن محله الصبغ (أي عمل الصباغ) والصبغ مادته وآلته، فكان المقصود فيه هو العمل فلم يخرج عن إطار الإجارة التي ترد على العمل في عين يملكها المستأجر، أما الاستصناع فالأصل المقصود فيه هو العين المستصنعة المملوكة للصانع، فيكون ما حدث بين الصانع والمستصنع قريبا من البيع (6) ، ولكنه ليس بيعًا – كما سبق – وإنما له شبه به، وبالإجارة في وجود العمل، قال ابن الهمام:(إذ لا يمكن – أي الاستصناع – إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال: أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا أو أصبغ ثوبك أحمر بكذا لا يصح (7) .
وقد فرق السرخسي بين الاستئجار للصناعة، وبين الاستصناع فقال: الاستئجار للصناعة هو: بيع عمل، العين فيه تبع، ثم ضرب مثلًا فقال: (إذا أسلم حديدًا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى بأجر مسمى
…
فإنه جائز، ولا خيار فيه إذا كان مثل ما سمى، لأن ثبات الخيار للفسخ ليعود إليه رأس ماله فيندفع الضرر به وذلك لا يتأتى هنا، فإنه بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه، فأما في الاستصناع: المقصود عليه العين، وفسخ العقد فيه ممكن، فلهذا ثبت خيار الرؤية فيه، ولأن الحداد هناك يلتزم العمل بالعقد في ذمته، ولا يثبت خيار الرؤية فيما يكون محله الذمة كالمسلم فيه (8) .
(1) بدائع الصنائع: 6/2677؛ والمبسوط: 15/84؛ وابن عابدين: 4/212 – 213؛ وفتح القدير: 7/116- 117 ويراجع: كاسب عبد الكريم: عقد الاستصناع، طبعة دار الدعوى بالإسكندرية: ص128- 130.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2677؛ والمبسوط: 15/84؛ وابن عابدين: 4/212 – 213؛ وفتح القدير: 7/116- 117 ويراجع: كاسب عبد الكريم: عقد الاستصناع، طبعة دار الدعوى بالإسكندرية: ص128- 130.
(3)
بدائع الصنائع: 6/2677؛ والمبسوط: 15/84؛ وابن عابدين: 4/212 – 213؛ وفتح القدير: 7/116 – 117 ويراجع: كاسب عبد الكريم: عقد الاستصناع، طبعة دار الدعوة بالإسكندرية: ص128-130
(4)
ابن عابدين: 4/213؛ والمصادر السابقة.
(5)
فتح القدير: 7/115.
(6)
بحث الإجارة في الموسوعة الفقهية الكويتية: 1/252؛ وبحث الاستصناع: 3/326 ويراجع: د كاسب عبد الكريم، المرجع: ص131-132
(7)
فتح القدير: 7/114- 115.
(8)
المبسوط: 15/84- 85.
ثالث: إن الذين قالوا: إنه مواعدة – وهم قلة – رد عليهم عامة فقهاء الحنفية فقالوا: إن الاستصناع يختلف عن المواعدة في كثير من الأمور منها أن محمدًا (صاحب أبي حنيفة) ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في إثبات العدات ومنها: أنه أثبت فيه خيار الرؤية، وهذا أيضا يختص بالبياعات، ومنها أنه يجري فيه التقاضي، وإنما يتقاضى في الواجب، لا الموعود، ومنها أن الاستصناع خاص بما تجري فيه الصنعة والمواعدة تجوز في كل شيء، وقد ذكرنا رد المحيط البرهاني على هذا القول (1) .
رابعا ً: أن الذين أدخلوا الاستصناع في السلم (وحينئذ تشترط فيه شروطه) فهؤلاء في الواقع لا يعترفون به أبدًا، وإنما الاعتراف بالسلم وأنواعه، وحينئذ يرد عليهم بالأدلة الدالة على مشروعية الاستصناع من السنة والاستحسان، إضافة إلى فروق جوهرية بينهما، فالمعقود عليه في السلم هو الشيء المبيع في الذمة، أما في الاستصناع فهو العين والعمل – كما سبق -.
خامسا: إن القائلين بأن الاستصناع بيع اختلفوا في محل العقد بشكل يدل بوضوح على عدم وضوح فكرة البيع فيه، يقول الكاساني:(ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع، قال بعضهم: هو عقد على المبيع في الذمة، وقال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل، وجه القول الأول: أن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح هو القول الأخير، لأن الاستصناع: (طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني في الأصل، وأما إذ أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (2) .
كل هذه الاختلافات تدل بوضوح على أن عقد الاستصناع له شبه ببعض العقود، ولكنه ليس هو ذلك العقد، وإنما هو عقد مستقل كما فصلنا ذلك آنفًا.
(1) المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف: ج 2، ورقة 575.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2677.
الترجيح:
وقبل أن نقوم بعملية الترجيح أرى من الضروري تحرير محل النزاع وإجراء نوع من التفصيل وتنقيح المناط.
وذلك لأن كثيرًا من المسائل المختلفة قد حشرت تحت لواء (الاستصناع) بحيث نرى أن كل مسألة في باب البيع، أو الإجارة، أو السلم فيها صنعة أو استصناع لغوي أدخلت في باب الاستصناع، ولذلك نرى من الضروري حصر الاستصناع في مفهومه الخاص بحيث لا يكون فيه خلط أو التباس بغيره، وكذلك ينبغى إبعاد المسائل – التي هي مندرجة أساسًا تحت عقد خاص – عن الاستصناع، ولذلك، فإذا صيغ عقد الاستصناع على أساس مواصفات السلم وتوفرت فيه شروطه، فإنه حينئذ سلم، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ولذلك لو قال وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير بيعًا، وهكذا الأمر ههنا، فلو طلب شخص من آخر أن يصنع – بضم الياء – له مصنوع موصوف في الذمة ولم يحدد الشخص ولا الشيء المصنوع منه بعينه، فهذا سلم يجب فيه دفع الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية، وحتى لو سمَّى استصناعًا فهو من الناحية اللغوية، وحينما يكون سلمًا يكون ملزمًا للطرفين، ويشترط فيه شروط السلم.
وكذلك الأمر حينما يكون المصنوع جاهزًا فيأتي به الصانع فيبيعه، أو يكون غائبا فيقع عليه العقد وحينئذ يكون بيعًا للغائب الذي لم يره فيكون له حق خيار الرؤية، وإذا كان قد باعه على الصفة فيكون له الخيار إذا تخلف المصنوع عن الصفات التي ذكرها.
وكذلك الحكم فيما لو صيغ العقد على أساس الإجارة، بأن يأتي شخص بكمية من الحديد، ويستأجر الصانع أن يصنع له منه سيفًا أو نحو ذلك، فهذا إجارة، ويصبح الصانع أجيرًا مشتركًا، ويشترط فيه شروط الإجارة، ويصبح ملزمًا للطرفين وكذلك الأمر حينما يصاغ على صورة الجعالة أو نحوها.
ولذلك يقول الكاساني: (وأما إذا أتي الصانع بعين صنعها قبل العقد ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما (1)، ويقول أيضا:(فإن سلم إلى حداد حديدًا ليعمل له إناء معلومًا بأجر معلوم أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم فذلك جائز، ولا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزًا، فإن عمل كما أمر استحق الأجر، وإن فسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا له واتخذ منه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع، لأن المضمونات تملك بالضمان)(2) .
(1) بدائع الصنائع: 6/2677.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2681
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي الخلط، وإنما يجب الحكم على هذه المسائل التي ذكرت مع الاستصناع على ضوء العقود التي تندرج فيها تلك.
وبعد هذا التحرير والتفصيل نقول: (إن الاستصناع الذي هو خاص مستقل) هو ما إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء معين موصوف في الذمة خلال فترة محددة قصيرة أم طويلة، وسواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أم لا، وسواء كان المصنوع منه موجودًا أثناء العقد أم لا.
وبعبارة موجزة: إن محل عقد الاستصناع هو العمل والعين من الصانع.
فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعًا ولا إجارة، ولا سلمًا ولا غيرها، وإنما هو عقد مستقل له شروطه الخاصة به، وخصائصه وآثاره الخاصة به ولا ينبغي صهره في بوتقة عقد آخر، يقول الإمام السرخسي: (اعلم أن البيوع أربعة: بيع عين بثمن
…
وبيع دين في الذمة بثمن وهو السلم
…
، وبيع عمل، العين فيه تبع وهو الاستئجار للصناعة ونحوها
…
فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل
…
والعين هو الصبغ بيع فيه
…
وبيع عين شرط فيه العمل
…
وهو الاستصناع فالمستصنع فيه مبيع عين) (1) فهذا النص واضح جدًّا في الدلالة على أن الاستصناع مثل السلم والإجارة، فكما أنهما مستقلان، فكذلك الاستصناع، وإن كان لفظ البيع (بعمومه اللفظي) يشمل الجميع.
وعلى ضوء ذلك فالاستصناع عقد مستقل خاص، محله العمل والعين معًا، وبذلك يمتاز عن البيع الذي محله العين، وعن الإجارة التي محلها العمل، وعن السلم الذي محله هو الذمة، أو العين الموصوفة في الذمة، إضافة إلى ملاحظة كل هذه الفروق التي ذكرناها عند مناقشتنا في الأقوال السابقة، جاء في المحيط البرهاني: " إن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعًا فلابد من اعتبارهما جميعًا) (2) .
(1) المبسوط: 15/84- 85.
(2)
المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف: ج 2 ورقة 575.
هل يجوز إحداث عقد جديد؟
هذه المسألة تسمى بمدى الحرية التعاقدية في الفقه الإسلامي، وقد اختلف فيها الفقهاء، فذهب جمهور الفقهاء – كما حققناه في رسالتنا (1) .
وقد دافع شيخ الإسلام ابن تيمية بشدة عن مذهب القائلين بالإباحة (2) .
وقد استدل الجمهور بالكتاب والسنة، والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) .
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (4) .
وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود، يقول ابن تيمية:(فقد أمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله، وبالعهد، وقد دخل في ذلك ما لا عقده المرء على نفسه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} (5) .
فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر، والبيع
…
وقال سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (6) .
قال المفسرون – كالضحاك وغيره – تساءلون به: تتعاهدون وتتعاقدون، وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل، أو ترك، أو مال، أو نفع، أو نحو ذلك، وجمع سبحانه في هذه الآية، وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها العهد
…
) (7) .
وكذلك تدل مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة على وجوب الوفاء بالعقود والوعود والعهود، وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق، إضافة إلى أحاديث خاصة في الموضوع منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:" الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالا، أو أحل حراما "[رواه الترمذي وقال: (حسن صحيح) ورواه البخاري تعليقا بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء](8) .
(1) يراجع: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، طبعة دار البشائر الإسلامية:2/1148 – 1164ومصادره المعتمدة لكل المذاهب
(2)
القواعد النورانية، طبعة السنة المحمدية 1951م: ص184؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة دار العربية: 29/126.
(3)
[سورة المائدة: الآية 1] .
(4)
[سورة الإسراء: الآية 34]
(5)
[سورة الأحزاب: الآية 15] .
(6)
[سورة النساء: الآية 1] .
(7)
مجموع الفتاوى: 29/138 – 139.
(8)
الحديث في: سنن الترمذي – مع شرح تحفة الأحوذي، كتاب الأحكام: 4/584؛ وصحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الإجارة: 2/451؛ وسنن أبي داود – مع عون المعبود -: 9/516؛ والحاكم في مستدركه: 2/49.
وآثار الصحابة تشهد على ذلك، بل يقول ابن تيمية:(إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان – من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل العقلاء جميعهم)(1) .
ثم إن أساس العقود هو التراضي، وموجبها هو ما أوجبه العاقدان على أنفسهما.
وقد استدل الظاهرية بأدلة لا تنهض حجة على دعواهم (2) وإذا ثبت رجحان قول الجمهور فيكون من المشروع إحداث أي عقد جديد وإن لم يكن موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والفقهاء ما دام لا يخالف نصًّا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى ضوء ذلك فعقد الاستصناع – كعقد مستقل – له وجاهته في اعتباره ومشروعيته ناهيك عن الأدلة الخاصة بمشروعيته، ثم إن عقد الاستصناع يتضمن العقد على العمل، والعين في الذمة، وكل واحد منهما صالح لأن يكون معقودًا عليه، وكذلك الأمر بمجموعهما.
أما الأدلة الخاصة على مشروعية الاستصناع فمنها الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب (3) كما استدل الحنفية بالإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون نكير وتعامل الناس بهذا العقد، وحاجة الناس إليه (4) .
والخلاصة: إن عقد الاستصناع – بهذا المعنى الخاص – عقد مستقل له كيانه الخاص، وشروطه الخاصة وآثاره الخاصة.
والاستصناع باعتباره عقدًا لابد من توافر أركانه، وهي العاقدان والمعقود عليه – أي ثمن والمستصنع – والإيجاب والقبول أي ما يدل على الرضا من قول، أو فعل أو إشارة، أو كتابة (5) وكذلك له شروطه العامة مما ذكره الفقهاء من شروط العقد، من أهلية التعاقد، وعدم وجود عيوب الرضا، وعدم الفصل الكثير بين الإيجاب والقبول، وأن يكون المحل حلالًا، ونحو ذلك.
(1) مجموع الفتاوى: 29/154؛ والقواعد النورانية: ص53.
(2)
يراجع لمزيد من أدلة الجمهور والظاهرية مع المناقشة والرتجيح، مبدأ الرضا في العقود: 2/1148 - 1164
(3)
صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الأيمان: 11/537؛ وأحمد: 3/101.
(4)
بدائع الصنائع: 6/2678
(5)
يراجع: في التفصيل وسائل التعبير عن الإرادة: مبدأ الرضا في العقود: 2/833؛ وما بعدها.
شروط الاستصناع الخاصة به
للاستصناع شروط خاصة به وهي:
1-
أن يذكر العقد أوصاف الشيء المراد صنعه على شكل يؤدي إلى بيانه وتكوين العلم به، يقول الكاساني:(وأما شرائط جوازه فمنها بيان جنس المصنوع ونوعه، وقدره، وصفته، لأنه لا يصير معلومًا بدونه)(1) .
2-
وأن يكون الاستصناع في الأشياء التي جرى العرف بالتعامل بها، وقد ذكر فقهاء الحنفية عدة أمثلة لذلك فقالوا: مثل استصناع الحديد والرصاص والنحاس، والزجاج، والخفاف، والنعال ونحو ذلك (2) غير أنه من الجدير بالتنويه به أن هذه الأمثلة كانت شافعة عندهم، ولم يريدوا من خلالها حصره فيه، بل أرادوا التمثيل بها فقط، ولذلك قد تختلف صناعات عصر عن عصر آخر كثرة وقلة وشيوعا وندرة، ولذلك نرى مجلة الأحكام العدلية ذكرت أمثلة مثل البندقية والسفن الحربية والتجارية لم تكن موجودة في العصور السابقة. (3) ويمكن أن تضاف في عصرنا الحاضر كل الصناعات الخفيفة والثقيلة والمتوسطة والبرية والبحرية والجوية، والفضائية كالأقمار الصناعية ونحوها.
3-
أن يحدد فيه الزمن سواء أكان قصيرًا أم طويلًا، وذلك لأن العقود الواردة على العمل لابد أن يذكر معها الأجل.
غير أن الحنفية اختلفوا في هذه المسألة، فاشترط أبو حنيفة أن لا يكون في عقد الاستصناع أجل، قال الكاساني:(فإن ضرب للاستصناع أجلًا صار سلمًا حتى تعتبر فيه شرائط السلم، وهو قبض البدل في المجلس، ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم وهذا قول أبي حنيفة)(4) ، لكن فقهاء الحنفية اختلفوا في الأجل هنا فقال بعضهم هو شهر وما فوق، وقيل أدناه ثلاثة، وقيل نصف يوم فأكثر (5) .
(1) بدائع الصنائع: 6/2678.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2678؛ وفتح القدير: 7/114- 115؛ وابن عابدين: 4/213
(3)
مجلة الأحكام العدلية، المادة 389.
(4)
بدائع الصنائع:6/2678
(5)
بدائع الصنائع: 7/3175
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن هذا ليس بشرط، بل هو استصناع على حال سواء ضرب له أجل أم لا.
وقد استدل أبو حنيفة بأنه إذا ضرب فيه أجل فقد أتى بمعنى السلم إذ هو على مبيع في الذمة مؤجلًا، والعبرة في العقود لمعانيها لا لصور الألفاظ، ألا ترى أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة
…
ولهذا صار سلمًا فيما لا يحتمل الاستصناع، كذا هذا، ولأن التأجيل يختص بالديون، لأنه لو وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبه، وليس ذلك إلا السلم، إذ لا دين في الاستصناع، ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق، ثم إذا صار سلمًا يراعى فيه شروط السلم فإن وجدت صح، وإلا فلا (1) .
واستدل الصاحبان بأن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع وإنما يقصد به تعجيل العمل، لا تأخير المطالبة، فلا يخرج به عن كونه استصناعًا، أو يقال قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع، لأن ما لا يحتملالاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين وذلك بالسلم (2) .
والذي يظهر رجحانه قول الصاحبين، بل إننا نرى ضرورة وجود المدة في العقد، وذلك لأن عقد الاستصناع عقد قائم على العمل والعين المؤجلين عادة، وكل ما هو شأنه لابد فيه من تحديد المدة لئلا يؤدى إلى النزاع والخصام وذلك لأن الصانع قد يتأخر في التنفيذ، والمستصنع يريد التعجيل، فإذا لم يكن في العقد تحديد للمدة أدى بلا شك إلى نزاع، وعلماؤنا اتفقوا على صنع كل ما يؤدي في العقود إلى النزاع، ولذلك منعوا الجهالة الفاحشة في المعاوضات، لأنها تؤدي إلى النزاع، فكذلك الأمر، في تعميم المدة حيث يؤدي إلى نزاع شديد، إذن لابد أن يمنع، ويوجب التحديد، ثم إذا حددت المدة يجب الالتزام بها بأن يكمل المصنوع قبل انتهائها، أما إذا انتهت دون إكمال الشيء المستصنع فإن للمستصنع – بالكسر – حق الفسخ (3) ، كما هو الحال في شأن كل العقود التي يحدد فيها الوقت.
(1) بدائع الصنائع: 6/2679 وقد نصت المادة 389 من المجلة على أن (كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا)
(2)
بدائع الصنائع: 6/2679 وقد نصت المادة 389 من المجلة على أن (كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا)
(3)
الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء، عقد البيع: ص123.
آثار عقد الاستصناع:
يترتب على هذا العقد عدة آثار منها:
1-
ثبوت الملك للمستصنع في الشيء المستصنع، وثبوت الملك في الثمن المتفق عليه.
ويثبت ذلك في نظرنا بمجرد العقد، لأن الله تعالى أمرنا بالوفاء به {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهذا يعني أن الأثر قد ثبت بالالتزام، ولذلك يجب الوفاء به (وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل عند اللزوم) .
وعند الحنفية يكون ثبوت ذلك ثبوتًا غير لازم، قال الكاساني:(وأمامكم الاستصناع فهو ثبات الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكًا غير لازم (1) .
2-
عدم اللزوم بصفة عامة، والذي نراه هو اللزوم بمجرد العقد (وسيأتي مزيد من التفصيل) .
3-
أن يقوم الصانع (أو مصنعه) بعمل الشيء المستصنع حسب المواصفات المطلوبة.
هذا هو مقتضى عقد الاستصناع (بمعناه الخاص المستقل كما سبق) ولذلك ليس من حقه أن يذهب إلى السوق ويشتري له شيئًا مصنوعا حتى وإن كان موافقا لما طلب منه، لأن عقد الاستصناع يقتضي العمل والعين، ولكن إذا أرادا غير ذلك فيمكن أن يصاغ العقد على صورة السلم بأن يتم الاتفاق على أن يأتي الصانع بعين موصوفة بصفات كذا خلال أجل محدد، وحينئذ يشترط منه شروط السلم – كما سبق - (2) .
4-
خيار الوصف للمستصنع، بحيث إذا أكمل الصانع الشيء المراد صنعه وسلمه للمستصنع يكون له الخيار إذا كان غير مطابق للمواصفات، وإلا فهو ملزم بأخذه ودفع الثمن المتفق عليه.
5-
عدم بطلان الاستصناع بموت أحد الطرفين ما دام التنفيذ ممكنًا بل الورثة يحلون محلهما إلا إذا نص في العقد خلاف ذلك.
(1) بدائع الصنائع: 6/2679
(2)
جاء في البدائع: 6/2680 (أنه لو اشتري من مكان آخر، وسلم إليه جاز) .
وذلك لأن الحنفية قاسوا الاستصناع في بطلانه بموت الصانع على الإجارة، وهذا القياس يمكن الرد عليه بعدة وجوه:
أولا: إن بطلان الإجارة بموت المستأجر مسألة ليس متفقًا عليها، بل هي خلافية حيث ذهب مالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الإجارة لا تبطل بموت العاقدين، ولا بموت أحدهما (1) فالجمهور على خلاف ما ذهب إليه الحنفية، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذين الرأيين ولكن رأي الجمهور له أدلته التي تنهض حجة عليه) ومن هنا فما المانع من القول بعدم بطلان الاستصناع بموت العاقدين أو أحدهما، ولا سيما في وقتنا الحاضر الذي أصبحت للمصانع شخصية معنوية اعتبارية دائمة مستمرة ببقاء الشركة والمصنع، وأن الأشخاص بذواتهم ليس لهم أثر في شخصية الشركة – كما هو معروف -.
ثانيا: إن هذا القياس مع الفارق، وذلك لأن المعقود عليه في الإجارة هو العمل فقط، بينما المعقود عليه في الاستصناع هو العين والعمل معًا – كما سبق – وحتى الحنفية أثبتوا أحكامًا للاستصناع لا توجد للإجارة مثل خيار الرؤية، وعدم اللزوم ونحوهما.
6-
إن حق المستصنع لا يتعلق بشيء معين، وإنما المطلوب من الصانع هو الإتيان بالشيء المستصنع في زمنه المحدد له، ولذلك لو قام الصانع بصنعه قبل الأجل المحدد له، وباعه لآخر لا يضر ما دام قادرًا على الإتيان بمثله في الزمن المحدد في العقد، وذلك لأن عقد الاستصناع يقتضي أداء الشيء المستصنع في الزمن المحدد له، ولا يقتضي تحدد المصنوع بعينه وذاته، فذمة الصانع مشغولة بصنع الشيء المطلوب منه صنعه بمواصفاته في الوقت الذي اتفق عليه الطرفان، وبعبارة أخرى أن ما في الذمة لا يتعين حتى بالتعيين ولذلك حتى لو نوى بصنعه أن هذا الشيء يصنع لفلان، لا تمنعه هذه النية، من بيعه لآخر ما دام قادرًا على صنع مثله وتسليمه للمستصنع في الوقت المحدد له.
(1) يراجع القوانين الفقهية لابن جزي، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت: ص276؛ وروضة الطالبين، للنووي، طبعة المكتب الإسلامي: 5/245؛ والمغني، لابن قدامة: 5/467- 468.
عقد الاستصناع بين اللزوم والجواز:
ولا شك أن الحنفية (وهم الذين أجازوا عقد الاستصناع بمعناه الخاص) لهم تفصيل في لزوم هذا العقد حسب مراحله:
المرحلة الأولى: بعد صدور الإيجاب والقبول من الطرفين، وقبل بدء العمل، فالعقد فيها غير لازم باتفاق الحنفية، يقول: (وأما صفة الاستصناع فهي وأنه عقد غير لازم قبل العمل في الجانبين جميعًا بلا خلاف حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل كالبيع المشروط فيه الخيار للمتبايعين
…
لأن القياس يقتضي أن لا يجوز، لما قلنا، وإنما عرفنا جوازه استحسانًا لتعامل الناس، فبقي اللزوم على أصل القياس) (1) .
المرحلة الثانية: هي بعد إجراء العقد، وبعد الفراغ من العمل لكن قبل أن يراه المستصنع، ففي هذه الحالة أيضًا غير لازم (حتى كان للصانع أن يبيعه ممن يشاء، كذا ذكر في الأصل، لأن العقد ما وقع على عين المعمول، بل على مثله في الذمة) قال الكاساني: (لما ذكرنا أنه لو اشترى من مكان آخر وسلم إليه جاز، ولو باعه الصانع، وأراد المستصنع أن ينقض البيع ليس له ذلك، ولو استهلكه قبل الرؤية فهو كالبائع إذا استهلك المبيع قبل التسليم، كذا قال أبو يوسف)(2) .
المرحلة الثالثة: هي ما إذا أكمل الصانع الشيء الذي طلب صنعه، وأحضره أمام المستصنع، أو وكيله، وحينئذ إما أن يكون المصنوع مطابقًا للمواصفات التي طلبت في العقد أم لا.
فإن لم يكن مطابقًا للمواصفات المطلوبة فإن العقد لم ينفذ بعد، حيث يحق له المطالبة بالتنفيذ على ضوء شروط العقد، وأما إذا كان فيه عيب يضر بالقيمة في عرف التجار، فإن المستصنع بالخيار (3) وقد نصت المادة (392) من مجلة الحكام العدلية على أنه: إذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة
…
كان المستصنع مخيَّرًا) .
(1) بدائع الصنائع: 6/2680.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2680.
(3)
يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود: ص 801 وما بعدها
والذي نرى رجحانه هو الفرق بين إتمام المصنوع ووجود عيب فيه حيث يكون له الخيار، وبين عدم إتمامه على صورته المطلوبة أبدًا حيث يطالب بتنفيذه، أو بعبارة الفقهاء: فوات الجنس، وفات الوصف حيث يؤدي فوات الجنس إلى بطلان العقد أو فساده، بينما يؤدي فوات الوصف إلى حق الخيار (1) .
وإن كان مطابقًا للشروط والمواصفات المطلوبة في العقد فقد سقط خيار الصانع، وللمستصنع الخيار، هذا على ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
وروي عن أبي حنيفة أن لكل واحد منهما الخيار.
وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما (2) .
وقد ذكر الكاساني أدلة كل رأي فقال في وجه استدلال الرأي الأول: (بسقوط حق الصانع في الخيار بعد إكمال المصنوع وعرضه على المستصنع: بأن الصانع بائع ما لم يره فلا خيار له، ثم ذكر السبب في عدم سقوط حق المستصنع في الخيار: بأن المستصنع مشتر ما لم يره فكان له الخيار، قال الكاساني: (وإنما كان كذلك، لأن المعقود عليه وإن كان معدومًا حقيقة فقد ألحق بالموجود ليمكن القول بجواز العقد، لأن الخيار كان ثابتًا لهما قبل الإحضار لما ذكرنا أن العقد غير لازم، فالصانع بالإحضار أسقط خيار نفسه فبقي خيار صاحبه على حالة كالبيع الذي فيه شرط الخيار للعاقدين إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر، كذا هذا)(3) .
واستدل الرأي الثاني بأن في تخيير واحد منهما دفع الضرر عنه، وأنه واجب (4) .
واستدل الرأي الأخير بأن الصانع قد أفسد متاعه وقطع جلده وجاء بالعمل على الصفة المشروطة، فلو كان للمستصنع حق الامتناع من أخذه لكان فيه إضرار بالصانع، بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل فقال المستصنع:(لا أريد، لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة أولا، فلم يكن الامتناع منه إضرار بصاحبه فثبت الخيار، وأما الدليل على أن الصانع ليس له الخيار فهو الدليل الذي ذكرناه للرأي الأول (5) .
(1) بدائع الصنائع: 6/2680.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2680.
(3)
بدائع الصنائع: 6/2680.
(4)
بدائع الصنائع: 6/2680.
(5)
بدائع الصنائع: 6/2680
تصوير المحيط البرهاني للمذهب الحنفي:
هذا الذي ذكرناه هو ما بينه الكاساني في تصوير المذهب الحنفي، حيث ذكر أن الخلاف في اللزوم وعدمه إنما هو في المرحلة الثالثة عندما يكتمل المصنوع ويعرض على المستصنع
…
لكن المحيط البرهاني صور المسألة عند الحنفية على أن الخلاف وارد في أصل العقد نفسه من حيث اللزوم والجواز، أو بعبارة أخرى ذكر لنا أن بعض الحنفية يرون لزوم العقد بمجرد الانعقاد، وحينئذ يُجبر الصانع على العمل، والمستصنع على أخذه إذا كان موافقًا للشروط والمواصفات، ولننقل نص عبارته حيث قال:(قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة) ثم ذكر الروايات إلى أن قال (
…
ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما، بل يجبر الصانع على العمل، ويجبر المستصنع على القبول، وجه ما روي عن أبي يوسف أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر على العمل، وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع، لأنه عسى لا يشتريه غيره أصلًا، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعًا للضرر عن الصانع) (1) .
وهذا الذي ذكره أبو يوسف وفصله المحيط البرهاني هو الموافق لمقتضى العقود، والقواعد العامة في هذه الشريعة من نفي الضرر والضرار ورعاية مصالح العاقدين.
(1) المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة: ج 20 ورقة 575 – 576.
ولذلك أخذت مجلة الأحكام العدلية بهذه الرواية عن أبي يوسف ونصت في مادتها 392 على أنه: (إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيَّرًا) .
ويبدون أن المجلة أخذت لزوم العقد من هذا الكتاب وغيره من كتب الحنفية التي صورت الخلاف بهذا الشكل الأخير، وذكرت رأي أبي يوسف الأخير الذي رَجَعَ إليه، ولا أعتقد أن ما قام به ابن عابدين من تفصيل وتحرير للخلاف يرفع الخلاف الذي ذكره المحيط البرهاني، وغيره، حيث وصل ابن عابدين إلى أنه لا خلاف في المذهب الحنفي في عدم لزوم عقد الاستصناع (جبر فيه إلا إذا كان مؤجلًا بشهر فأكثر فيصير سلمًا، وهو عقد لازم يجبر عليه ولا خيار فيه، وبه علم أن قول المصنف: فيجبر الصانع على عمله.. إنما هو فيما إذا صار سلمًا) ثم قال: (فظهر أن قول الدرر تبعًا لخزانة المفتي أن الصانع يجبر على عمله، والأمر لا يرجع عنه سهو ظاهر)(1) .
وهذا التحرير الذي قام به ابن عابدين اجتهاد منه في فهم نصوص علماء المذهب الحنفي، وحينئذ يمكن اعتباره طريقة من الطرق – حسب اصطلاح الفقه المذهبي – ولكن لا يمكن اعتباره حسمًا في المسألة، وقضاء على الخلاف الذي ذكره المحيط البرهاني والمبسوط، والدر المختار، وخزانة المعنى، والدرر، وغيرها من الكتب المعتمدة التي صرحت بأن أبا يوسف يقول في روايته الأخيرة بلزوم العقد، ولذلك أخذت بها المجلة، وهي عادة لا تعدل عن ظاهر الرواية إلا نادرًا ولحجج قوية، وعلماء المجلة من محققي المذهب الحنفي، وهم اطَّلعوا على ما قاله ابن عابدين، ومع ذلك لم يولوا له عنايتهم، بل أخذوا بلزوم العقد أخذًا برواية أبي يوسف.
وقد قال صاحب الهداية (وهو من كبار محققي الحنفية) : (وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما
…
أما الصانع فلما ذكرنا، وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له أضرارًا بالصانع، لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله
…
) وقال صاحب العناية: 0 والصحيح أنه بيع لا عدة، وهو مذهب عامة مشايخنا) ثم نقل أيضا هو الآخر رواية أبي يوسف في أنه لا خيار لهما، ولو كانت هذه الرواية غير ثابتة، أو أن المرغيناني فهمها على غير حقيقتها لعلق عليها) (2) بالشيء المستصنع في الزمن المحدد له، ولذلك لو صنع الصانع قبل وقته، ثم باعه لآخر، لا يضر ما دام قادرًا على الإتيان بمثله في الأصل المحدد وذلك لأن العين المستصنعة ليست معينة بذاتها، وإنما ذمته مشغولة بصنع المطلوب في وقته.
(1) الهداية – مع شرح فتح القدير – طبعة مصطفى الحلبي: 7/116
(2)
شرح العناية بهامش فتح القدير: 7/116
الترجيح:
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول بأن عقد الاستصناع عقد لازم – كما هو رواية عن أبي يوسف – لأن النصوص الشرعية دالة بوضوح على وجوب الوفاء بالعقود والعهود والالتزامات من قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (2) .
وكذلك تدل أحاديث كثيرة على ذلك منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلمون عند شروطهم "(3) ، بل إن النصوص الشرعية تدل بوضوح على حرمة مخالفة الوعد ناهيك عن العقد، ولا نسلم التوسع في دائرة الفصل بين القضاء، والديانة، ولا سيما في نطاق الأمور المالية التي يترتب على مخالفتها أضرار بالغير، وذلك لأن المفروض من القضاء في الإسلام أن يحمي أوامر الشريعة ونواهيها بقدر ما يمكن أن يتحكم فيه القضاء، تاركًا الأمور القصدية والباطنية لله تعالى بناء على القاعدة الفقهية القاضية بأن علينا الظواهر، والله يتولى السرائر (4) .
وقد ذكر الإمام البخاري بعض أقضية السلف في وجوب الوفاء بالوعود والشروط فقال: قال ابن عوف عن ابن سيرين قال لكريه: (ادخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا، فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلًا باع طعامًا، قال: عن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجيء، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه)(5) وذكر الحافظ ابن حجر أن هذين الأثرين وصلهما سعيد بن منصور، ثم قال:(وحاصله أن شُريحًا في المسألتين قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه..)(6)
وهذه الآثار تدل أيضًا على مشروعية ما يسمى في وقتنا الحاضر بالشرط الجزائي سواء كان في الاستصناع أو في غيره، والذي يَهُمُّنَا هنا في الاستصناع.
(1)[سورة المائدة: الآية 1] .
(2)
[سورة الإسراء: الآية 34] .
(3)
رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الإجارة (4/451) .
(4)
وقد أقمنا الأدلة على ذلك بالتفصيل في رسالتنا الدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر (2/1031- 1037) .
(5)
صحيح البخاري – مع فتح الباري، كتاب الشروط، " السلفية (5/354) .
(6)
صحيح البخاري – مع فتح الباري، كتاب الشروط، " السلفية (5/354) .
ومن جانب آخر إن القول بعدم لزوم الاستصناع يؤدي إلى أضرار كبيرة للطرفين، بل إنه في الواقع إذا لم يكن عقدًا لازمًا لا يمكن الإفادة منه، لأنه بإمكان أي واحد التخلص من آثار العقد، بل قد يؤدي إلى أضرار كبيرة بالطرفين، فقد يقدم الصانع على صنع الشيء الذي طلب منه وحينما يفرغ منه على ضوء المواصفات التي طلب منه المستصنع، يأتي الأخير ويقول له: لا أريده، وحينئذ ماذا يفعل به فقد لا يقبل آخر بالشيء المستصنع على ضوء مواصفاته الحالية وهذا توريط كبير منه إلى الصانع، فيتضرر به ضررًا كبيرًا، وقد يتضرر به المستصنع حيث ينتظر فترة شهر – أو أكثر على الأقل – ليكمل له الصانع الشيء المطلوب صنعه، فلو كان بالخيار، وباع الصانع المصنوع ماذا يفعل المستصنع؟ فهذه الأضرار لا أعتقد أن الشريعة تقبلها، وهي – كما يقول ابن القيم – مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وهي الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث
…
فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل (1) .
ومع أن الوعود ليست ملزمة قضاء في نظر جمهور العلماء إلا أن جماعة منهم المالكية جعلوا الوعد ملزمًا إذا ترتب عليه أضرار بسببه، قال سحنون: (الذي يلزم من الدعوة قوله: أهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنى به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، وقال: أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا
…
) (2) هذا في الوعد فما ظنك في عقد يتوفر فيه الأركان والشروط، ويترتب على الإخلال به أضرار كثيرة فردية – كما ذكرنا – وجماعية من خلال أنه لو لم يكن الاستصناع ملزمًا لما استفاد منه العاقدان على الرغم من أهمية هذا العقد في التنمية والتصنيع.
ومن جانب آخر أن عقد الاستصناع له شبه بمجموعة من العقود، وكلها عقود ملزمة، وهي السلم، والبيع، والإجارة، كما أن المعقود عليه في الاستصناع هو العمل والعين الموصوفة في الذمة وكل واحد منهما لو أصبح وحده محلًّا للعقد كان عقدًا لازمًا، فكذلك العقد الوارد عليهما معًا، فالعقد الذي محله العمل هو الإجارة، وهو ملزم، وكذلك العقد الوارد على العين الموصوفة – وهو السلم – ملزم، فيكون من الطبيعي المركب من اللزوم ملزمًا.
(1) أعلام الموقعين، ط. شفرون (3/3) .
(2)
الفروق للقرافي (4/24- 25) ط. دار المعرفة بيروت.
الشرط الجزائي في عقد الاستصناع:
لا أريد الخوض في هذا الموضوع بصورة مفصلة، ولكن الذي أريد أن أذكره هنا هو أن الشرط الجزائي مقبول من حيث المبدأ، ولكن لا يترتب عليه من الضمان والتعويض إلا بقدر إحداث الضرر، فمثلًا لو خالف أحد العاقدين شروط العقد في المضاربة، أو الاستصناع، ورتب على ذلك إحداث ضرر فإن هذا الضرر لا يلحق العاقد الآخر، وإنما يكون على المتسبب في الضرر، وكذلك لو اشترط أحد العاقدين فرض غرامة مالية على الآخر في عقد الاستصناع إن تأخر الصانع في إكمال المال المستصنع في وقته، أو تأخر المستصنع في دفع المال إليه، وترتب على التأخير ضرر فإن المتضرر الحق في التعويض بقدر ضرره (1) ، وقد ذكرناه فيما سبق مستندًا لمبدأ الشرط الجزائي، يقول الأستاذ الجليل الزرقاء: (في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أساليب التجارة الداخلية، والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة
…
واتسعت مجالات عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية
…
وقد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه.. ومثل هذا الشرط يسمَّى في اصطلاح الفقه الأجنبي: " الشرط الجزائي "(2) .
فعلى ضوء ذلك لا مانع من اقتران الشرط الجزائي بعقد الاستصناع، وحينئذ يلتزم به الطرفان، ويكون التعويض عند الإخلال بقدر الضرر وآثاره، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، أو إلى القاضي عند النزاع.
الظروف القاهرة:
إذا طرأت بعد انعقاد عقد الاستصناع ظروف قاهرة تحول دون تنفيذه فإنه على القول بلزومه تكون مقبولة، مثل حدوث حرب منعت الصانع من استيراد المادة الخام ولا توجد في البلاد – مثلا- ومثل أن شَبَّ حريق في المصنع أتى على كل ما فيه، فمثل هذه الطوارئ – سواء كانت مكتسبة من الغير أو سماوية – تعطي العذر للصانع، وتجعل المستصنع بالخيار بين الانتظار، أو فسخ العقد (3) وذلك لأن هذه الشريعة تقوم تكاليفها التشريعية على القدرة والاستطاعة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4)، وأنه:((لا ضرر ولا ضرار)) (5) .
(1) يراجع في تفصيل ذلك: عبد المحسن الرويشد: الشرط الجزائي في العقود، رسالة دكتوراه بحقوق القاهرة، عام 1404هـ، وكاسب عبد الكريم: المرجع السابق ص (212) .
(2)
المدخل الفقهي العام فقرة 386.
(3)
يراجع: د. العطار: نظرية الالتزام ص 262، وكاسب عبد الكريم: المرجع السابق، ص211 ومصادرهما
(4)
[سورة البقرة: الآية 286] .
(5)
وهو حديث ثابت رواه أحمد في مسنده 1/313، 327، ومالك في الموطأ ص664، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام 2/784.
أهمية عقد الاستصناع في عصرنا الحاضر، وتطبيقاته المعاصرة:
إن لعقد الاستصناع أهمية بالغة من عدة جوانب:
الجانب الأول: أنه عقد فيه تيسير كبير على المسلمين، وذلك لأنه لا يشترط فيه تسليم الثمن، ولا المثمن، فهو تغطية كاملة لجانبين مهمين هما: عقد السلم الذي لا يشترط فيه وجود السلم فيه، ولكن يجب تسليم الثمن في المجلس عند الجمهور، وفي ثلاثة أيام عند المالكية وعقد بيع الأجل الذي لا يشترط فيه تسليم الثمن، ولكن لابد من وجود المثمن (المبيع) وتسليمه إلى المشتري، فأبح الإسلام عقد الاستصناع الذي هو في واقعة وارد على الذمة من حيث العين والعمل – كما سبق -.
وبذلك اكتملت جميع الجوانب الثلاثة، وغطيت الحاجة الأساسية للمجتمع المسلم الذي يحتاج كثيرًا إلى هذه العقود الثلاثة.
الجانب الثاني: أن عقد الاستصناع له دور بارز في تطوير المصانع وتنمية المجتمع، وتطويره، وكان له دور في المجتمعات السابقة، ودوره اليوم أكثر، نظرًا لحاجة المصانع إلى الأموال، وإلى التشغيل، فكثير من المصانع ليس لها من السيولة ما يكفي لتطويرها كما أنها قد تخاف من صنع مواد لا يشتريها الناس، وحينئذ تكسد بضائعها ومصنوعاتها، فتخسر، وقد يؤدى ذلك إلى غلقها وإفلاسها، ولكن يباح لها من التعاقد على المصنوعات، وتضمن لنفسها قبل البدء مشترين وزبائن تقدم على التصنيع وهي مطمئنة من عدم الخسارة، بل من الربح، وهكذا وبذلك تنمو المصانع وتكثر المصنوعات، بل وقد ترخص نتيجة لذلك وللتنافس.
وأما تطبيقاته المعاصرة فهي كثيرة حيث يمكن تطبيقه على كل ما دخلت فيه الصناعة، فهي تشمل جميع الصناعات التي يقوم بصنعها المصانع، أو الصناع، من الطائرات والصواريخ، إلى صنع الأحذية والأثواب ونحوها، وهي تشمل أيضا بناء العقارات، وتصنيع المباني الجاهزة وغيرها، إذا توفرت الشروط السابقة، بل أن المصنوعات أسهل في تطبيق الاستصناع عليه نظرًا إلى أن المصانع اليوم آلية لا تختلف مصنوعاتها بعضها عن بعض، فهي قادرة على الضبط الدقيق، والمثلية الكاملة بدقة متناهية، بينما كانت الصناعات في السابق كلها يدوية قد توجد الصعوبة في التحكم في المثلية.
كذلك يمكن تطبيق عقد الاستصناع للتمويل في جميع المشاريع الصناعية، وهذا هو مجال واسع للبنوك الإسلامية بأن تقوم بتمويل هذه المشاريع الصناعية على أساس عقد الاستصناع، وكذلك مشاريع البناء ونحوها مما فيه صناعة.
الخلاصة
يتلخص هذا البحث في أن عقد الاستصناع عقد مستقل محله العمل، والعين الموصوفة في الذمة، ولذلك له شروطه الخاصة ومقوماته وخصائصه وآثاره، وأن من أهم آثاره التي رجحناها هي: ثبوت الملك للمستصنع في الشيء المستصنع، وثبوت الملك في الثمن المتفق عليه، ولزوم قيام الصانع بعمله في العين حسب الاتفاق، ولزوم دفع الثمن من قبل المستصنع، وثبات خيار الوصف، وعدم بطلان الاستصناع بموت أحدهما – حسب ترجيحنا – وأن حق المستصنع لا يتعلق بشيء معين، وإنما المطلوب من الصانع أن يصنع له المطلوب حسب المواصفات والشروط.
وقد انتهى البحث كذلك إلى لزوم عقد الاستصناع للطرفين، وعدم جواز الفسخ إلا في حالات الظروف الطارئة، أو بموافقة الطرفين.
وقد استعرض البحث المراحل الثلاث لعقد الاستصناع، كما استعرض المذهب الحنفي على ضوء ما ذكره الكاساني، وعلى ضوء ما ذكره المحيط البرهاني، وكذلك ما ذكره ابن عابدين فوجد أن حكم ابن عابدين على حصر طرق المذهب الحنفي في عدم اللزوم اجتهاد خاص به لا يلزم غيره من العلماء الأعلام أمثال المرغيناني والسرخسي، والبرهاني وغيرهم.
ووصل البحث إلى أن الصانع إذا أكمل المصنوع على المواصفات المطلوبة فإنه يلزم المستصنع أن يأخذه ويدفع ثمنه المتفق عليه، وأما إذا كان فيه خلل، أو عيب فإن المستصنع بالخيار كما تناول البحث موضوع الحرية التعاقدية، ومدى الالتزام بالوعود وموضوع الشرط الجزائي، والظروف القاهرة (1) .
وختامًا هذا جهد متواضع، وعمل أردنا به وجه الله تعالى فإن كنت موفقا فيه فذلك بفضل الله تعالى، وإلا فالتقصير يعود إلي، لكن الله هو الغفور الرحيم وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.
والله أسال أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ في القول والعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور على محيى الدين القره داغي
(1) وهو حديث ثابت رواه أحمد في مسنده (1/313، 327) ومالك في الموطأ ص (664) وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام (2/784) .
ملحق بالبحث:
نموذج من عقد الاستصناع المعمول به في
بنك قطر الدولي الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع
في يوم الموافق / / قد تحرر هذا العقد.
بين كل من:
بنك قطر الدولي الإسلامي (ش. م. ق) ومركزه الرئيسي بشارع الكهرباء بالدوحة قطر ويمثله في التوقيع على هذا العقد
السيد /.......................................
طرف أول
السيد/...........................................................................
وعنوانه:.........................................................................
طرف ثان
أقر الطرفان بصفتهما وأهليتهما الكاملة للتعاقد واتفقا على ما يلي:
تمهيد
تقدم الطرف الثاني إلى الطرف الأول بطلب يعلن فيه عن رغبته في أن يقوم الأخير بتنفيذ مشروع بناء لحسابه على قطعة الأرض التي يملكها على مساحة متر مربع بموجب سند الملكية رقم.
كما قدم الطرف الثاني إلى الطرف الأول رخصة البناء والتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات والشروط العامة والخاصة للمشروع والتي تم إعدادها من قبل المكتب الهندسي.................................................
وقد وافق الطرف الأول على طلب الطرف الثاني وتحرر بين الطرفين هذا العقد وفقا للبنود التالية:
البند الأول
يعتبر التمهيد السابق والطلب المقدم من الطرف الثاني المؤرخ وكذلك رخصة البناء والتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات المرافقة للطلب المذكور والمعتمدة من الطرف الثاني جزءًا من هذا العقد ومتممًا له.
البند الثاني
اتفق الطرفان على أن يقوم الطرف الأول بكافة الأعمال اللازمة لإنشاء المشروع وتسليمه صالحًا للاستعمال وأن يلتزم بتنفيذ جميع الأعمال وفقًا للتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات المقدمة من الطرف الثاني ووفقا للشروط العامة وكذلك الشروط الخاصة المبينة في هذا العقد.
البند الثالث
قيمة هذا العقد مبلغ ريال ويلتزم الطرف الثاني بدفعة للطرف الأول على () قسطًا شهريًا قيمة كل قسط
ريال يستحق القسط الأول بعد....................... من تاريخ هذا العقد ويخضع سريان هذا العقد لإجراء الرهن من الدرجة الأولى لصالح الطرف الأول (البنك) على العقار رقم والذي يمثل أرض المشروع وما عليها من مشتملات ومباني.
البند الرابع
يلتزم الطرف الأول بتنفيذ جميع الأعمال اللازمة لتشييد المشروع خلال مدة أقصاها........................ شهرًا تبدأ من تاريخ تسليم الموقع ويتعهد بتسليم المشروع صالحًا للاستعمال في نهاية المدة المحددة.
البند الخامس
قام الطرف الثاني بتعيين المكتب الاستشاري............................ ليكون وكيلًا عنه في الإشراف على تنفيذ مراحل المشروع المختلفة وتسلم المشروع بعد إتمام التنفيذ بالكامل ووافق الطرف الأول على ذلك المكتب ويقوم هذا الوكيل بالإشراف على جميع أعمال المشروع ومراحل التنفيذ المختلفة والتأكد من أن الأعمال المنجزة نفذت طبقًا للمواصفات المطلوبة والشروط المتفق عليها وأن يقوم كذلك بإعداد شهادات الإنجاز وأن توقيعه عليها كوكيل عن الطرف الثاني بمثابة شهادة من الطرف الثاني بتسلم الأعمال المنجزة وقبوله لها وإقرار منه بأنها نفذت وفقًا للمواصفات المطلوبة والشروط المتفق عليها.
البند السادس
يعتبر المشروع مستلمًا من قبل الطرف الثاني بمجرد إصدار شهادة إتمام البناء الابتدائية من قبل المكتب الاستشاري المعتمد حيث تعتبر شهادة إتمام البناء الابتدائية الصادرة عن المكتب الاستشاري بمثابة تسلم ابتدائي من وكيل الطرف الثاني.
البند السابع
يحق للطرف الأول التعاقد مع إحدى شركات المقاولات لتنفيذ المشروع حسب الشروط والمواصفات المتفق عليها مع الطرف الثاني كما يحق للطرف الأول في حالة مخالفة شركة المقاولات للشروط المتفق عليها وعدم الوصول إلى اتفاق لحل الخلاف مما يؤثر على سير العمل، استبدالها والتعاقد مع شركة أو شركات أخرى لإكمال تنفيذ المشروع.
البند الثامن
يقبل الطرف الثاني قبولًا غير قابل للنقض أو الإلغاء ضمان تنفيذ جميع الأعمال بالمشروع من الطرف الأول أو من الجهة التي يتعاقد معها الطرف الأول لتنفيذ المشروع وتقبل تقديم هذا الضمان وحيث إن........................................ قد ضمنت المشروع للطرف الأول أو لأى طرف آخر يقبل هذا الضمان فإن الطرف الأول يجعل هذا الضمان لصالح الطرف الثاني وبناءً على هذا فإن الطرف الثاني يتنازل عن حقه في الرجوع على الطرف الأول في أية مطالبة أو ادعاء قد ينشأ مستقبلًا بعد تسليم المشروع نتيجة سوء تنفيذ شركة المقاولات أو لأي سبب آخر، ويلتزم الطرف الثاني بناء على ذلك بالرجوع على شركة المقاولات في أية مطالبة أو ادعاء.
البند التاسع
في حالة تأخر الطرف الأول أو من يتعاقد معه عن إتمام تنفيذ المشروع في الموعد المحدد فإنه يتحمل جميع الأضرار التي تنتج عن هذا التأخير ما لم يكن هناك أسباب قهرية لم يتسبب فيها الطرف الأول وتكون خارجة عن إرادته.
البند العاشر
في حالة وجود أية أعمال إضافية أو تعديلات يقترح الطرف الثاني أو المكتب الاستشاري أو كلاهما معًا ضرورة إدخالها مما قد يؤثر على شروط وقيمة هذا العقد، فإن على الطرف الثاني مراجعة الطرف الأول والاتفاق على تعديل العقد أو أخذ موافقته على التعديل المقترح قبل تنفيذ أية أعمال خلاف الأعمال المعتمدة سواءً كان ذلك بالزيادة أو النقصان. كما أن عليه تزويد الطرف الأول بموافقة المكتب الاستشاري على التعديلات المطلوبة وتعديل المخططات والتصاميم والمواصفات تبعًا لذلك.
البند الحادي عشر
في حالة توقيع هذا العقد من قبل أكثر من شخص واحد بصفة طرف ثان، يكون جميع الموقعين مسئولين وضامنين متضامنين، منفردين أو مجتمعين، تجاه الطرف الأول عن تسديد المبالغ المطلوبة بموجب هذا العقد.
البند الثاني عشر
ما لم ينص على خلاف ذلك في العقد نفسه فإن الأحكام والشروط الواردة في الشروط العامة للتعاقد والصادرة من وزارة الأشغال العامة بدولة قطر تسود على أحكام أي مستند آخر يمثل جزءًا من العقد.
البند الثالث عشر
(أ) يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية.
(ب) أي خلاف ناشىء عن تطبيق أحكام هذا العقد و / أو متعلق به، يعرض على لجنة تحكيم تشكل من ثلاثة أعضاء ويكون حكمهم، سواء صدر بالإجماع أم بالأغلبية، ملزمًا للطرفين، وغير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن الجائز قانونًا وتمثل اللجنة على الوجه التالي:
1-
حكم يختاره الفريق الأول.
2-
حكم يختاره الفريق الثاني.
3-
حكم يختاره المحكمان الأولان.
وفي حالة عدم توافر الأغلبية، يحال الخلاف موضوع التحكيم إلى المحاكم القطرية، وتكون هي المختصة دون سواها، بالفصل في أية طلبات و / أو قضايا تنشأ بمقتضى التحكيم و/ أو ناشئة و/ أو متعلقة به و/ أو بهذا العقد.
البند الرابع عشر
تسري أحكام القانون القطري، والقوانين والأنظمة المرعية على هذا العقد فيما عدا ما نص عليه من اتفاق بين الطرفين وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
البند الخامس عشر
حرر هذا العقد من نسختين أصليتين موقعتين من قبل الطرفين بإرادة حرة خالية من العيوب الشرعية والقانونية بتاريخ / / 199م ويسقط الطرف الثاني حقه في الادعاء بكذب الإقرار و/ أو أي دفع شكلي و/ أو موضوعي، ضد ما جاء في هذا العقد.
الطرف الثاني الطرف الأول