الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الوفاء
في الفقه الإسلامي
إعداد
محيي الدين قادي
أستاذ الفقه ومقاصد الشريعة
بجامعة الزيتونة - تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل البيع وحرم الربا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد مورث هديه للعلماء، وعلى آله وصحبه المتقين للشبهات، ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسموات.
أما بعد، فالإنسان - كما قال العلامة ابن خلدون -: مدني بالطبع، ومحتاج إلى من يتبادل معه المنافع، ويتعامل معه، والمجتمعات يخدم أفرادها بعضهم بعضًا وإن لم يشعروا بذلك أحيانًا كما قال حكيم المعرة:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
ومن أهم المعاملات المادية البيع الذي لم تحرمه شريعة الإسلام، ولم يرد نهي عنه في القرآن الكريم، أو السنة الشريفة، وأعني به البيع الذي أحله الله جل جلاله لعباده في كتابه فقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) .
ولفظ البيع عام لأنه اسم مفرد دخلت عليه ((أل)) فجعلته عامًّا، واللفظ العام إذا ورد يحمل على عمومه فيندرج في عموم الآية الكريمة الآنفة الذكر كل بيع إلا ما قام البرهان على تخصيصه، كبيوع كثيرة خصت بأدلة شرعية وما خلاها من ضروب البيع وهو باق على أصل الإباحة.
وهنالك من البيوع ما جرى فيه الخلاف بين الأيمة الأعلام، هل هو حلال أم حرام؟ كبيوع الآجال، مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - أنها بيوع ظاهرها الصحة، ولكنها ذريعة إلى الربا، ومثل لها ابن رشد في المقدمات بقوله:(مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمائة إلى أجل، ثم يبتاعها بخمسين نقدًا فيكونان قد توصلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى اقتراض خمسين دينارًا بمائة دينار إلى أجل وذلك حرام لا يحل ولا يجوز، وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والصحيح ما ذهب إليه مالك - رحمه الله تعالى - ومن قال بقوله لأن ما جر إلى الحرم وتطرق به إليه حرام مثله (2) .
(1) سورة البقرة: الآية 275.
(2)
2/524.
وممن قال بقوله المالكية الحنابلة، قال ابن قدامة في مغنيه في باب الربا والصرف: الحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقدًا مباحًا يريد به محرمًا مخادعة وتوسلًا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق ونحو ذلك
…
فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة صحاح ومع الآخر خمسة عشر مكسرة، فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه، ثم تباريا وتوصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلًا، أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة، ثم وهبه الخمسة الزائدة
…
وهكذا لو أقرضه شيئًا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها توصلًا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم، وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطًا في العقد وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك، لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه (1) .
وقد أقام كل من ابن رشد وابن قدامة الأدلة على عدم جواز ما ذكراه من حيل على الربا ولكن ما ساقاه من أدلة لا يفيد لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا مجمع عليه، وإنما يجري الخلاف في ذرائع خاصة وهي بيوع الآجال ونحوها فالمطلوب في سنن آداب البحث والمناظرة أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع، وأن قصد القياس على ما ذكراه من أدلة كقوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . [الأنعام: 108]
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية. [البقرة: 65]
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها)) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار)) ، رواه أبو داود وغيره، وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف متفرقين وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا..
(1) 4/62 - 63.
وهي كلها أدلة تحريم ذرائع مجمع عليها، فيستحسن أن يكون استدلالهما بالقياس خاصة، ويتعين عليهما إبداع الجامع، وإبراز العلة المشتركة لعل الخصم يجد فارقًا فيدفع الاحتجاج بالقياس، وكان مما ينبغي أن يذكرا نصوصًا أخر خاصة بذرائع بيوع الآجال ويقتصرا عليها وهو ما فعله الشهاب القرافي حيث ذكر حديثًا (1) نسبه إلى الموطأ وهو أن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين: إني بعت من زيد بن أرقم عبدًا بثمانمائة درهم إلى العطاء، واشتريته بستمائة نقدًا فقالت عائشة رضي الله عنها: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، قالت: أرأيتني إن أخذته برأس مالي؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275](2) وقد ساق الحديث نفسه البهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع ولكن رواه عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدًا؟ فقالت لها:(بئسما اشتريت، وبئسما شريت، أبلغي زيدًا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب)[رواه أحمد وسعيد] .
ثم عقب البهوتي على الحديث بعد أن رواه بقوله: (ولا تقول مثل ذلك إلا توقيفًا) وقد عقب القرافي بما قاله البهوتي لكن بصورة أوضح حيث قال: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف.
(1) راجع القرافي في كتابه الفروق: الفرق الرابع والتسعون والمائة بين قاعدة ما يسد من الذرائع وقاعدة ما لا يسد منها: 3/274 - 275؛ ومغني ابن قدامة: 4/63؛ والمقدمات لابن رشد: 2/525.
(2)
العرف عند المالكية أنهم إذا أطلقوا لفظ الموطأ فالمراد رواية يحيى بن يحيى الليثي والحديث الذي ذكره القرافي وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم ليس موجودًا في الموطأ، وقد جاء في منتقى الأخبار لابن تيمية الجد رواية الحديث المشار إليه سابقًا عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته:(أنها دخلت على عائشة) الحديث، ثم قال: رواه الدارقطني، وجاء في شرحه نيل الأوطار للشوكاني أن الحديث في إسناده الغالية بنت أيفع وقد روى عن الشافعي أنه لا يصح وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده، وساق البهوتي في كشاف القناع عند كلامه على من باع سلعة بنسيئة، وقال: رواه أحمد وسعيد. النيل مع المنتقى: 5/317.
وقد عقب القرافي بما قاله البهوتي لكن بصورة أوضح حيث قال: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف (1) .
والذرائع الربوية عند مالك رحمه الله كما جاء ضبطها عن ابن رشد الحفيد في البداية: (هي أن يتذرع منها إلى:
1-
انظرني أزدك.
2-
أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا.
3-
أو إلى بيع ما لا يجوز نساء.
4-
أو إلى بيع وسلف.
5-
أو إلى ذهب وعرض بذهب.
6-
أو إلى ضع وتعجل.
7-
أو بيع الطعام قبل أن يستوفى.
8-
أو بيع وصرف، فإن هذه هي أصول الربا) (2) .
هذا وبيع الوفاء موضوع البحث لم يكن له وجود في عهد السلف الصالح ولكن باستشراء الفساد، واختلال المرؤات ظهر في الناس هذا النمط من التعامل وهو عبارة عن أن يقول البائع: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن؛ تحيلًا على الوصول إلى الربا.
وأظن أن أول ظهوره كان بمسرقند لأن أكثر الكلام فيه للسمرقنديين من فقهاء المذهب النعماني فيما وراء النهر، وكان ذلك في القرن الخامس تقريبًا إذ من الذين تكلموا عليه السيد الإمام، والإمام أبو الحسن الماتريدي فقد نقل القاضي ابن سماوة في جامع الفصولين أن السيد الإمام قال: (قلت للإمام أبي الحسن الماتريدي قد فشا هذا البيع بين الناس وفيه مفسدة عظيمة
…
) (3) إلخ ما سيأتي - إن شاء الله - والإمام السيد أبو شجاع والقاضي أبو الحسن الماتريدي عاشا في أوائل القرن (4) وصدرت لهم فتاوى في هذا اللون من التعامل الذي فشا في زمانهم، ثم تكلم فيه كل طود شامخ له في باب الترجيح قدم راسخ كالإمام النسفي الكبير والصدر الشهيد وصاحب الهداية وأبنائه شيوخ الإسلام
…
(1) الفروق: الفرق الرابع والتسعون والمائة بين قاعدة ما يسد من الذرائع وما لا يسد منها: 3/274.
(2)
2/241 - 242.
(3)
انظر جامع الفصولين: 1/234.
(4)
انظر ترجمتهما في الفوائد البهية: ص41 - 65، وقد استنتجت أنهما عاشا في أوائل القرن الخامس من معرفة وفاة معاصرهم الإمام السغدي.
وقد عرفه غربنا الإسلامي منذ قرون فتحدثت عنه كتب الفقه المالكي باسم بيع الثنيا فقد عرض له ابن رشد الجد وابن عرفة وابن عاصم وغيرهم ممن سنعرض لأنظارهم، ثم تعورف بقطرنا بيع الوفاء تحت اسم الرهن كما ذكر شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني - رحمه الله تعالى - وأكبر الظن أنه عرف منذ دخل الأتراك تونس ومعهم المذهب النعماني وقد انضاف إليه من تحيل الناس ما انضاف، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، ودخلت هذه المعاملات القوانين إلى أن جاء الأمر المؤرخ في 28 شوال 1324هـ الموافق لـ 15 ديسمبر 1906م بجمع النصوص المتعلقة بالالتزامات والعقود في مجلة تعرف بمجلة الالتزامات والعقود فجاءت في الباب الثالث في بعض من أنواع البيوع وفي القسم الأول منه تحت عنوان بيع الثنيا من الفصل 684 إلى الفصل 699 وصورته أن يلتزم المشتري بعد إتمام البيع بأن يرد المبيع لبائعه عندما يرد له ثمنه، وبشكل أوضح أنهم يعقدونه بلفظ البيع خاليًا عن اقترانه بشرط الرد فيه، ثم يتفقان على رد المشتري للبائع عند رده الثمن إما مطلقًا أو إلى أجل معين على وجه الوعد ويعبر عنه الموثقون بالتطوع بالثنيا أو الشرط الصريح في وجهي الإطلاق والتأجيل وطفق شعبنا التونسي يتعامل بهذا الضرب من البياعات إلى أن صدر القانون عدد 1 لسنة 1958 المؤرخ في 28 جانفي 1958 في تحجير التعامل ببيع الثنيا وبيع السلم ورهن الانتفاع بالرائد الرسمي المؤرخ في 31 جانفي 1958 كما أبطلته القوانين المدنية في مصر حسب المادة 465 من القانون المدني الجديد، وسورية في المادة 433 من القانون المدني السوري في الفقرتين 246 و 253، وليبيا في المادة 454، وأبقى القانون المغربي ما تعورف في الغرب الإسلامي المالكي حسبما جاء في قانون الالتزامات والعقود المغربي في الباب الثالث، وفي الفرع الأول منه تحت عنوان: بيع الثنيا وصورته كما جاء في المادة 585 بيع الثنيا هو الذي يلتزم المشتري بمقتضاه بعد تمام انعقاده بأن يرجع المبيع للبائع في مقابل رد الثمن، وتوسط القانون المدني العراقي في المادة 1333 فجعل بيع الوفاء رهنًا حيازيًّا.
وبعد هذا التمهيد أسارع إلى الكلام عن المباحث فأقول ومن الله أستمد العون على بلوغ المأمول.
المبحث الأول
بيع الوفاء عند الحنفية
وينحصر الكلام في هذا المبحث في المسائل الآتية:
1-
تعريفه:
رسمه العلامة ابن نجيم ببعض خواصه فقال: وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بدين لك علي، على أني متى قضيت الدين فهو لي. أو يقول البائع: بعتك هذا بكذا على أني متى دفعت لك الثمن تدفع الدين إلي، وصوره التمرتاشي فقال: صورته أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين. وصوره خاتمة المحققين في المذهب النعماني العلامة ابن عابدين بقوله: أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بمالك علي من الدين على أني متى قضيته فهو لي.
وبالتدبر في هذه الرسوم نلاحظ أن الخواص التي تضمنتها تشير إلى دوران هذا العقد بين البيع وبين الرهن فرسم ابن نجيم الأول، تضمن: بدين لك علي، وتضمن متى قضيت الدين فهو لي وهما عبارتان مشعرتان بكونه رهنًا، ورسمه الثاني قد دخلا مما يشعر بالرهنية، أما رسم ابن عابدين فكرسم ابن نجيم الأول، ورسم التمرتاشي كرسم ابن نجيم الثاني.
ولعل الاختلاف في رسم بيع الوفاء ناشىء عن الاختلاف في حكمه كما سيأتي أو أنه تكيف بما تعورف به عند الفقهاء، وبما هو حقيقته عند العوام فالبائع وفاء عندما يسأل يقول: رهنت ملكي والمشتري حين يسأل يقول: ارتهنت ملك فلان فوقع الجمع في بعض الرسوم بين البيع وبين الرهن وذلك من باب التكيف مع البيئة في الاجتهاد الفقهي.
2-
أسماؤه:
اختلفت أسماء هذا البيع باختلاف الأمصار، فبسمرقند سمي ببيع الوفاء، وهو الاسم المشتهر في كتب الفقه الحنفي، وربما سماه السمرقنديون بالبيع الجائز فيشترك عندهم في الإطلاق مع البيع البات الصحيح، لكن أصبح المتعارف بسمرقند أنهم إذا أطلقوا البيع الجائز انصرف إلى بيع الوفاء، كما سموه ببيع المعاملة وسماه عامتهم بالرهن (1) ، وبمصر ذكر الزيلعي أنهم يسمونه بيع الأمانة (2) .
(وبتونس لدى عامتها، كعامة سمرقند ((الرهن)) فيقولون في مقام طلبه: ارهن لي، وفي مقام الإخبار عنه: رهنت ملكي فلانًا، ورهنت ملك فلان. ولا يعرفون ارتهنت. وكذلك في مقام إنشائه، حتى إذا أرادوا الرهن المحض زادوا بعض توثقه أو ما يقوم مقامه وعند خاصتها من الموثقين:((التسليم)) ومن قبل كانوا يعبرون عنه بما يعبرون به عن البيع البات. فلما صار بعض شراة الوفاء يدعي في شرائه البت، ويتمسك في الاحتجاج لدعواه بالرسم فيلفي بظاهره شاهدًا له أحدثوا له ذلك الاسم) (3) .
ويسمى بالشام بيع الإطاعة كما ذكر التمرتاشي في الدر المختار، وحشى العلامة ابن عابدين على كلمة الإطاعة قائلًا: كذا في عامة نسخ الدر، وفي بعضها بيع الطاعة وهو المشهور الآن في بلادنا (الشام)، وأراد أن يبين أن التسميتين لهما أصل في لغة الضاد فجلب نصًّا من المصباح للفيومي يدعم ذلك فقال: وفي الصباح أطاعه أي انقاد له، وطاعه طوعًا من باب قال لغة، وانطاع له انقاد، قالوا: ولا تكون الطاعة إلا عن أمر كما أن الجواب لا يكون إلا عن قول، يقال أمره فأطاع.
كما عرض ابن عابدين لوجوه تسميته بهذه الأسماء في الفقه الحنفي فبين أن أوجه تسميته ببيع الوفاء هو: ما تضمنه من العهد بالوفاء من المشتري برد المبيع على البائع متى رد عليه الثمن، وأن وجه تسميته بالبيع الجائز مبني على أنه بيع صحيح دفعت إليه الحاجة فوقع التخلص به من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه، وأن وجه تسميته ببيع المعاملة أن المعاملة ربح الدين وهذا المبيع يشتريه الدائن لينتفع به في مقابلة دينه، وأن وجه تسميته ببيع الأمانة أنه أمانة عند المشتري بناء على أنه رهن أي كالأمانة وأن وجه تسميته ببيع الطاعة أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد، لأن الطاعة لا تكون إلا عن أمر (4) .
(1) أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص2 ظهرًا مخ بمكتبة جامعة الزيتونة.
(2)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/184، طبعة أولى، مصر 1315هـ.
(3)
أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: الوفاء بمسائل الوفاء: ص ظهرًا.
(4)
رد المحتار: 4/245، دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان.
3-
المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
سماه المالكية بيع الثنيا كما سموه في العصور المتأخرة بالبيع والإقالة كما سمي عند العامة بالرهن وقد وردت هذه التسميات في كتب الفقه المالكي بتسميته ببيع الثنيا. وردت في تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام للقاضي ابن عاصم حيث قال:
والبيع بالثنيا لفسخ داع والخرج بالضمان للمبتاع والشرح للثنيا رجوع ملك من باع اليد عند إحضار الثمن
(1)
.
وإن كان ابن رشد عمم هذه التسمية في جميع الشروط المنافية للمقصود (2) وأما تسميته بالبيع والإقالة فقد نقل التسولي في فتوى عن المجاصي في نوازله وفي نقل عن شرحي التحفة لميارة والتاودي أن العامة عندنا (أي في المغرب) اليوم لا يعرفون معنى الثنيا وإنما يسمون ذلك البيع والإقالة (3) .
وأما تسميته بالرهن، فقد ذكر التسولي أيضًا أنه في عصره يطلق على الرهن عرفًا ويسمونه بيعًا وإقالة فيبيع الرجل بالإقالة ما يساوي الألف بخمسامائة أو ما يساوي المائة بستين أو بثلاثين ونحو ذلك فلا يختلفون أنها رهن حيث اشترطت الإقالة في العقد إذ لم يسمح البائع بسلعته إلا على ذلك، وتجد البائع إذا سئل عن سلعته أو أرضه يقول: إنها مرهونة.
وسماه الشافعي بالرهن المعاد (4) ، كما سموه بيع العهدة (5) .
وسماه بعض فقهاء الأباضية، ومنهم شيوخ جادو بيع الرهن (6) .
وسماه الحنابلة بيع الأمانة.
مواضع ذكره عند فقهاء الحنفية:
عرض العلامة زين الدين ابن نجيم إلى مواضع ذكر بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية فذكر أنها موضع من ثلاثة: فمنهم من ذكره في البيع الفاسد، ومثل لذلك بالبزازي، ومنهم من ذكره عند الكلام على خيار النقد، ومثل له بقاضيخان، وقد سلك ابن نجيم في شرح الكنز نفس المسلك، ومنهم من ذكره في ((الإكراه)) ومثل له بالزيلعي في شرحه على الكنز.
(1) ص75، طبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر بدون تاريخ.
(2)
المقدمات: 2/542، طبعة دار صادر بيروت.
(3)
البهجة في شرح التحفة: 2/67، طبعة ثانية مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1370هـ.
(4)
التمرتاشي، الدر المختار: 4/246، مع حاشية: رد المحتار.
(5)
الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/261، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
(6)
أطفيش، شرح كتاب النيل وشفاء العليل: 11/119، مكتبة الإرشاد - جدة - المملكة العربية السعودية.
واختار ابن نجيم ذكره في ((خيار النقد)) معللًا ذلك بأن البيع الوفائي من أفراد خيار النقد (1) لكن أخاه عمر ابن نجيم في شرحه على الكنز الموسوم بالنهر الفائق شرح كنز الدقائق تعقبه فقال: إنما يكون بيع الوفاء من أفراد خيار النقد بناء على القول بأنه بيع فاسد إن زاد على الثلاث، لا على القول بصحته، إذ خيار النقد مقيد بثلاثة أيام، وبيع الوفاء غير مقيد بها وأنى يكون من أفراده (2) .
ويبدو لي أن ذكره في باب الإكراه كما فعل الزيلعي أنسب إذ من مشايخ بخارى - وهم أول من تكلم فيه على ما يظهر - من جعل حكم بيع الوفاء كحكم بيع المكره (3) وعقد له في جامع الفصولين ابن قاضي سماوة فصلًا مستقلًّا وهو الفصل الثامن عشر (4) وآخر ما نختم به هذه المسألة أن الخلاف في حكمه - كما سيأتي - أثر في موضع ذكره، وأن أكثر مواطن ذكره كتب الفتاوى كالبزازية والخانية ونحوهما، والمعلوم أن كتب الفتاوى والواقعات تأتي في الميزان الفقهي الحنفي في الدرجة الثالثة على حسب ما ذكره العلامة ابن عابدين ولا نتصور الكلام عن بيع الوفاء في مسائل الأصول ككتب ظاهر الرواية أو مسائل النوادر كالكيسانيات وإنما مظنة الحديث عنه كتب الواقعات والفتاوى الخانية والبزازية.
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 6/8، طبعة أولى بالمطبعة العلمية.
(2)
ابن عابدين، منحة الخالق على البحر الرائق: 6/8، مع البحر الرائق.
(3)
انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/183، طبعة أولى، بولاق مصر 1315هـ.
(4)
1/234 طبعة أولى بالمطبعة الأزهرية
حكم بيع الوفاء عند الحنفية:
بناء على أن بيع الوفاء تحيل على الربا اختلفت في حكمه أنظار فقهاء الأحناف الذين عايشوا فشو هذا التحيل في أعصارهم وأمصارهم، من كل طود شامخ له في باب الترجيح قدم راسخ أنهى البزازي هذا الخلاف إلى تسعة أقوال، ذكر ابن نجيم في البحر منها ثمانية، واقتصر الزيلعي على أربعة منها في شرحه على الكنز وذكر أبو عبد الله محمد بيرم الثاني أنها لا تتجاوز الخمسة وما زاد على الخمسة راجع بقليل التدبر إليها، والأقوال الخمسة هي:
1-
أن بيع الوفاء رهن، قال ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: البيع الذي يتعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا، وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي ولا يضمن الزيادة، وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه بيع الوفاء، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذ العاقد يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان.
ثم ذكر حجة القائلين بأنه رهن وهي تقوم على أن العبرة في شريعة الإسلام بالمقاصد والمعاني، لا الأشكال والمباني، فإن الحوالة بشرط أن لا يبرأ كفالة، والكفالة بشرط البراءة حوالة، وهبة الحرة نفسها بحضرة الشهود مع تسمية المهر نكاح، والاستصناع الفاسد إذا ضرب فيه الأجل سلم ونظائره كثيرة.
ثم نقل محاورة دارت بين السيد الإمام أبي شجاع وبين الإمام أبي الحسن الماتريدي وهما فقيهان من ثلاثة فقهاء انتهت إليهم في عصرهم رئاسة الحنفية هما والقاضي علي السغدي كما جاء في الفوائد البهية، وقال السيد الإمام (أبو شجاع) : قلت للإمام أبي الحسن الماتريدي قد فشا هذا البيع بين الناس وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن وأنا أيضًا على ذلك فالصواب أن نجمع الأيمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس؟ فقال: المعتبر اليوم (أوائل القرن الخامس) فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه، وليقم دليله.
والحاصل من كلام ابن قاضي سماوة أنه رهن حكمًا، وإن كان بيعًا شكلًا (1) .
وأورد أبو عبد الله محمد بيرم الثاني من فقهاء الحنفية بتونس (2) أنه قد رد القول برهنيته بأن الانتفاع به مقصود، والاستيثاق به كذلك، ومن هنا تنتفي الرهنية شكلًا ومعنى، ولا وجه لترجيح جانب الاستيثاق على جانب الانتفاع، إن سلمنا بتساويهما لما في ذلك من ترجيح أحد المقصودين من غير مرجح، فكيف لو ادعينا ترجيح جانب قصد الانتفاع على جانب الاستيثاق لأنه المتبادر إلى الذهن مع مساعدة اللفظ له لم يبعد، لا يقال: قصد الانتفاع بل شرطه لفظًا لا يمنع اعتباره رهنًا، إذ كل ما في الأمر أن يكون رهنًا مشروطًا ومحتويًا على شرط فاسد وهو الانتفاع به، فيبطل الشرط ويصح الرهن إذ الرهن لا يبطل بالشروط الفاسدة.
والجواب أن هذا الاعتراض يصح لو عنون بالرهن وكلامنا منصب على المعنون بالبيع (3) .
2-
أن بيع الوفاء بيع جائز:
قال الزيلعي في شرحه على الكنز: ومن مشائخ سمرقند من جعله (أي بيع الوفاء) بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه، منهم الإمام نجم الدين النسفي فقال: اتفق مسايخنا في هذا الزمان فجعلوه بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه وهو الانتفاع به دون البعض وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به. قال صاحب النهاية: وعليه الفتوى. وسندهم في ذلك: حاجة الناس إليه، وتعاملهم به، والقواعد قد تترك بالتعامل وجواز الاستصناع لذلك (4) وسيأتي مزيد بسط لهذه الحجة عند الكلام على القول الخامس وهو أن بيع الوفاء بيع مركب من الرهن والبيع الجائز البات.
(1) 1/234، بتصرف.
(2)
جاء في تاريخ ابن أبي الضياف أن وفاة شيخ الإسلام الرجل الصالح أبي عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن حسين بيرم كانت في السادس عشر من جمادى الأولى من سنة سبع وأربعين بعد المائتين والألف، الأحد 23/10/1831 وتغيرت البلاد لوفاته، ولم يتغيب عن جنازته إلا من عاقه العجز وحضر الباي (أبو عبد الله حسين باشا ابن محمود بن محمد بن حسين بن علي) وبنوه ورجال الدولة وتبركوا بحمل نعشه ودفن بتربة أبيه قرب داره. الإتحاف: 3/180، طبعة أولى تونس 1963.
(3)
انظر الرسالة البيرمية: الوفاء بمسائل الوفاء: ص4 ظهرًا السالفة الذكر.
(4)
راجع تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/183، 184، طبعة أولى، بولاق مصر 1315هـ.
3 -
أن بيع الوفاء بيع جائز لازم:
وقد اختار قاضيخان هذا القول وقال: الصحيح أنه إن وقع بلفظ البيع لا يكون رهنًا ثم إن شرطا فسخه، أو تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع وعندهما هذا البيع غير لازم فالبيع فاسد، وإن ذكرا البيع بلا شرط ثم شرطاه على وجه المواعدة جاز البيع ولزم الوفاء.
ثم عرض قاضيخان إلى حجة هذا القول فقال: وقد يلزم الوعد لحاجة الناس فرارًا من الربا فبلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكروم، وبخارى الإجارة الطويلة ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه.
ويدعم ذلك ما نقل عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى: أن البيع لا يكون تلجئة حتى ينص عليها في العقد وهي والوفاء واحد (1) كما يدعمه أيضًا ما ذكره الزيلعي من أن الوفاء بالمواعيد لازم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((العدة دين)) (2) .
وأما إن شرطا الوفاء نصًّا قبل العقد أو أضمراه بقلوبهم عند العقود فكمن ذكرا البيع بلا شرط، ثم شرطاه على وجه المواعدة بناء على أن العبرة في الشرط المفسد مقارنته لعقد ذكرًا باللسان لا أن يتقدم ذكره عليه أو أن يضمر في الجنان ويوضح ذلك أن تزوج المرأة بنية تطليقها أثر الوطء نكاح صحيح لأن النظر فيه منصب على شكله ولفظه لا على المقصود والمراد منه وإلا لقلنا بأنه نكاح متعة وفاسد لا يجوز. وعلى ضوء وجهة النظر هذه أفتى النسفي مستفتيًا قال له: بعت حانوتًا بأربعمائة ثم طلب المشتري إعادة المبيع ورد الثمن وهو يقول: بعتني وفاء، وأنا أقول بعتك باتًّا؟ فأجاب: إن القول قولك. وقال السائل لو حلفني على ذلك، هل ينبغي أن أحلف وكان نيتي أن آخذ الحانوت منه وأرد الثمن إليه بعد زمان وكان قصد المشتري ذلك أيضًا كما هو المعروف إلا أني لا أقدر اليوم على أن أنقد الثمن؟
فأجاب: إنما ذكر ذلك قبل العقد، وما كان في القلب عند العقد لا عبرة لذلك لو لم يذكر عند العقد سوى الإيجاب والقبول، ولك أن تحلف أنك بعته بيعًا باتًّا (3) .
والملاحظ هنا انبناء الأحكام على اللفظ والشكل دون نظر إلى النية ومقصد الشرع منها، وقاعدة الشريعة - كما قال العلامة ابن القيم - التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات (4) .
(1) انظر البحر الرائق، لابن نجيم: 6/8، طبعة أولى بالمطبعة العلمية.
(2)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/184.
(3)
ابن سماوة، جامع الفصولين: 1/135، 136.
(4)
إعلام الموقعين: 3/107، 108، تحقيق محيي الدين عبد الحميد طبعة صيدا، بيروت 1407 - 1987.
4 -
أن بيع الوفاء بيع فاسد:
واختار القول بفساده ظهير الدين، وإنما يكون فاسدًا إذا اقترن شرط الوفاء بالعقد.
أما إذا التحق شرط الوفاء بالعقد كما إذا عقدا البيع بدون شرط وفاء ثم ذكرا شرط الوفاء، فإن البيع يكون بيع وفاء، إذ الشرط المفسد اللاحق بأصل العقد يلتحق عند أبي حنيفة، ولا يلتحق عند الصاحبين
وهل يشترط لإلحاقه عند أبي حنيفة أن يكون الالتحاق في المجلس أي مجلس البيع أو لا يشترط؟
جرى في ذلك خلاف بين علماء الحنفية في هذه المسألة فذهب السرخسي وأبو اليسر إلى اشتراط المجلس، وذهب صاحب الإيضاح إلى عدم اشتراطه وصححه البزازي في فتاواه.
وجاء في الفتاوى الخيرية ما يلي: صرح علماؤنا بأنهما لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد.
وأما إذا ذكرا شرط الوفاء قبل العقد ثم عقدا لم يبطل العقد، ولعل من الأمثلة التي توضح ما ذكره فتوى الخير الرملي - وقد سئل عن رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده، وعقدا البيع خاليًا من الشرط؟ فأجاب: بأنه صرح في الخلاصة والفيض والتتارخانية وغيرها بأنه يكون على ما تواضعا بيد أنهما لو اتفقا على بناء العقد على شرط الوفاء فإن العقد يكون فاسدًا (1) .
ومما ينبغي ذكره هنا أن القائلين بأنه بيع فاسد اختلفوا بالنظر إلى ما يترتب عليه من الآثار والنتائج فمنهم من أعطاه أحكام البيع الفاسد كلها حتى فوات فسخه ببيع مشتريه بيعًا باتًّا. ومنهم من استثنى هذا منها وألحقه فيه ببيع المكره، وبيع المكره لا يمتنع حق الفسخ فيه بوجه من الوجوه، وللمكره أن ينقض كل تصرفات المشتري والعلة الجامعة بين الوفاء وبيع المكره عدم الرضا، ومن هنا قال هؤلاء أن بيع الوفاء لا يفوت بالبيع ولو تكرر فيه، ولهذا الإلحاق ذكره الزيلعي في باب الإكراه فقال: ومن مشائخ بخارى من جعل بيع الوفاء كبيع المكره منهم الإمام ظهير الدين والصدر الشهيد حسام الدين، والصدر السعيد تاج الإسلام، وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بدين لك عليَّ على أني متى قضيت الدين فهو لي فجعلوه فاسدًا باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين يفيد الملك عند اتصال القبض به، ونقض بيع المشتري كبيع المكره لأن الفساد باعتبار عدم الرضا فكان حكمه حكم بيع المكره (2) .
(1) راجع رد المحتار، لابن عابدين: 4/120، 121؛ والفتاوى البزازية مع الفتاوي الهندية: 4/407، إذ باعتماد على هذين المصدرين مع البحر الرائق، لابن نجيم تسنى لي تحرير المسألة كما جاء في الصلب فإن كان صوابًا فمن فضل الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله أعلم وأحكم.
(2)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/183.
5-
القول بأن بيع الوفاء بيع مركب من الرهن والبيع الجائز البات، فهو رهن بالنظر إلى البائع، يسترد المبيع عند قضاء ما عليه من دين، ويجبر المشتري إن امتنع من ذلك كما يضمن المشتري المبيع للبائع بالهلاك والانتقاص ضمان الرهن، وهو بيع جائز بات بالنظر إلى المشتري في حق نزله، ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره، والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجارًا.
وعلى هذا القول بتركب بيع الوفاء من الرهن والبيع الجائز البات جرى عمل شيوخ النسفي، قال العمادي: وفتوى جدي شيخ الإسلام برهان الدين وأولاده ومشائخ زمانهم على أن الملك يثبت للمشتري شراء جائزًا في زوائد المبيع ولا يغرم لو استهلكها وعليه استقر قول أيمة زماننا وأساتذتنا رحمهم الله ومراد العمادي بجده البرهان: علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني صاحب الهداية وهو معدود في طبقة أهل الترجيح كما ذكره العلامة ابن كمال باشا (1) .
وحجة من قال بهذا القول: احتياج الناس إلى التعامل ببيع الوفاء، والقاعدة الفقهية أن القواعد تترك بالتعامل، وعملًا بهذه القاعدة جاز الاستصناع، ولو طبقنا قاعدة امتناع بيع المعدوم لما أبيح، و (ما ضاق على الناس أمر إلا اتسع) .
واحتياج الناس إلى الشيء، وتعاملهم به قاعدتان أساسيتان في المذهب النعماني يعلم ذلك كل من سبر خلجات أغوار هذا المذهب، وعلى ذلك يخرج ما جاء عن فقهاء المذهب الحنفي من أن المسلم إذا وقع في حرج وضيق، واضطر إلى المال، ولم يجد من يتعامل معه إلا بالربا ارتفعت عنه الحرمة، ويبقى تعلقها بالمقرض بالربا، وللضرورة والحاجة أحكام مقررة في الفقه الإسلامي قال في المحبية:
وجاز أن يستقرض المحتاج
بالربح إن كان له احتياج
وذكر العلامة ابن نجيم في البحر الرائق حين عرض لبسط الكلام في القول بتركب بيع الوفاء من البيع الصحيح والرهن أنه جعل ذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا (2)، وذكر في الأشباه والنظائر في القاعدة الخامسة:((الضرر يزال)) حين عرض لقاعدة: ((الحاجة تنزل منزلة الضرورة)) ، وهي إحدى القواعد الستة المتعلقة بقاعدة:((الضرر يزال)) ، فقال:(وفي القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح)(3) .
(1) الوفاء بمسائل بيع الوفاء، لأبي عبد الله محمد بيرم الثاني: ص8 ظهرًا. بتصرف.
(2)
6/9.
(3)
1/294، مع شرح السيد الحموي.
هذا ما قاله الزاهدي الغرميني في القنية والبغية في القرن السابع للهجرة وهو صاحب اليد الباسطة في الخلاف والمذهب، ولو أن ابن وهبان صرح بأنه معتزلي العقائد حنفي الفروع وتصانيفه غير معتبرة ما لم يوجد مطابقتها لغيرها (1) .
وقد سبق أن أشرت إلى بيت المحبية وهي من المتون المعتمدة في الفقه الحنفي:
وجاز أن يستقرض المحتاج
بالربح إن كان له احتياج
وهذا يدعم ما ذهب إليه الزاهدي ويكون التعامل ببيع الوفاء أخف وطأة من التعامل بالربا عند الحاجة، قال أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: ومما لا ريب فيه أن الناس إذا كانت لهم حاجة إلى التعامل ببيع الوفاء في تلك الأعصار (أي أوائل القرن الخامس تقريبًا) على فضلها فهم إليه في هذا العصر (القرن الثالث عشر) على وضوح اختلافه أحوج وقد فشا به التعامل في ديارنا فشوًا خارجًا عن الحد، وبرزت به الفتاوى والأحكام ممن أدركناهم من فقهاء الحنفية، ومنهم والدي (أبو عبد الله محمد بيرم الأول) رحمه الله تعالى منذ تصدر للإفتاء إلى أن لحق بربه (يوم الأربعاء آخر شوال عام أربعة عشر بعد المائتين والألف) وذلك خمس وأربعون سنة، ممن لم ندركه بالبلاغ عنه، فلا يفتي الآن أو يقضي فيه بغير هذا إلا من قصد الإضرار بالناس وأما منعهم من التعامل به جملة بعد هذا الفشو والحاجة الشديدة إليه فحامل لهم على الهجوم على الربا المجمع على تحريمه جهارًا لأن المضطر إذا أغلقت في وجهه الأبواب ارتكب المشاق الصعاب:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
(2)
ويبدو لي من كلام فقهاء الحنفية أن أول ظهور بيع الوفاء كان بسمرقند وهذا يعتبر عرفًا خاصًّا، وجاء في الأشباه والنظائر للعلامة ابن نجيم: هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام، أو مطلق العرف ولو كان خاصًّا؟ المذهب الأول، قال في البزازية معزيًا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، وقيل: يثبت
…
وفي البزازية من البيع الفاسد في الكلام على بيع الوفاء في القول السادس من أنه صحيح قالوا: لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فأهل بلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكرم، وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة ولا تمكن في الأشجار فاضطروا إلى بيعها وفاء وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه.
وختم كلامه في هذه المسألة: (اعتبار العرف الخاص في بناء الأحكام العامة عليه أو عدم اعتباره) فقال: (والحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره)(3) . ومن المعلوم أن الفتاوى تأتي في الدرجة الثالثة في ترتيب مسائل الفقه الحنفي كما سلف.
وجاء في رد المحتار للعلامة ابن عابدين: أن مشايخ الحنفية أهل الاختيار اختلفوا في اعتبار العرف الخاص وعدم اعتباره في بناء الأحكام العامة عليه فقال أبو الليث: النسج بالثلث والربع لا يجوز عند علمائنا لكن مشايخ بلخ استحسنوه وأجازوه لتعامل الناس به.
(1) اللكنوي، الفوائد البهية في تراجم الحنفية: 212، 213.
(2)
الرسالة البيرمية: ص 8 ظهرًا و 9 وجهًا.
(3)
1/315 - 317، بتصرف طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان: 1405هـ/ 1985م.
قال: وبه نأخذ، وقال السيد الإمام الشهيد: لا نأخذ باستحسان مشايخ بلخ وإنما نأخذ بقول أصحابنا المتقدمين لأن التعامل في بلد لا يدل على الجواز ما لم يكن على الاستمرار من الصدر الأول فيكون ذلك دليلًا على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك فيكون شرعًا منه، فإذا لم يكن كذلك لم يكن فعلهم حجة إلا إذا كان كذلك من الناس كافة في البلدان كلها فيكون إجماعًا والإجماع حجة. ألا ترى أنهم لو تعاملوا على بيع الخمر والربا لا يفتى بالحل (1) .
هذا ما تصورته أن يذكر من الخلاف داخل المذهب الحنفي في حكم بيع الوفاء وقد حاولت أن أذكر الدليل لكل قول من الأقوال الخمسة لكن لا يفوتني هنا أن أذكر أن مجلة الأحكام العدلية ذهبت على القول بأنه بيع مركب، لكن من ثلاثة أشياء: البيع الجائز، والبيع الفاسد، والرهن وهو قول من الأقوال التي لم أذكرها لأنه لا يختلف من حيث الآثار والنتائج عن القول بأنه بيع مركب من بيع جائز ورهن. ونص المجلة ما يلي:(المادة: 118 بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد إليه المشتري المبيع، وهو في حكم البيع الجائز بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيع المبيع من الغير)(2) . والقول الذي ذهبت إليه المجلة هو الذي قال عنه خاتمة المحققين في المذهب النعماني ابن عابدين: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في حق بعض الأحكام كحل الإنزال ومنافع المبيع، ورهن في حق البعض حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه وسقط الدين بهلاكه فهو مركب من العقود الثلاثة كالزرافة فيها صفة البعير والبقر والنمر) (3) .
هذا ولا بدع في تركب هذا البيع فهناك أنماط من المعاملات مركبة كالهبة بشرط العوض، والهبة في حال المرض أعطي كل منهما حكم الهبة من اشتراط القبض، وعدم كونها في مشاع قابل للقسمة وأعطي للأولى حكم البيع عند القبض حتى تثبت فيها الشفعة والثانية حكم الوصية حتى كان خروجها من الثلث (4) .
وبعد الإلمام بحكم بيع الوفاء عند السادة فقهاء الحنفية، وما ذكرته من الأقوال الستة فعلى أيها يصح أن يكون مخرجًا من الربا؟ وعلى أيها لا يصح؟
والجواب أن بيع الوفاء يكون مخرجًا من الربا على القول بأنه بيع جائز غير لازم أو على القولين بالتركيب لاشتراك القولين في حل الانتفاع به، وفسخه بطلب أحدهما وفائدته على القولين للبائع والمشتري واضحة، فهو صالح للبائع في التمكن من استرداد مبيعه، وصالح لصاحب المال في الانتفاع بالمبيع مدة غيبة ماله عنه.
وأما على القول بأنه رهن فهو إن حصل غرض الراهن لم يحصل غرض المرتهن والقول بأنه بيع فاسد كذلك.
وأما على القول بأنه بيع بات فهو إن حصل غرض المشتري لم يحصل غرض البائع (5) .
(1) 4/249، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(2)
مجلة الأحكام العدلية: ص67.
(3)
رد المحتار: 4/247.
(4)
بيرم الثاني: الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص8 ظهرًا، بتصرف.
(5)
بيرم الثاني، الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص10 ظهرًا، بتصرف.
المبحث الثاني
ما يجوز فيه بيع الوفاء وما لا يجوز
القائلون بأن بيع الوفاء بيع جائز قالوا: لا يخلو المبيع من أن يكون عقارًا أو منقولًا.
فإذا كان عقارًا فلا يخلو من كونه لمكلف، أو صبي أو مجنون، فإذا كان لمكلف فالاتفاق على صحة عقده فيه.
وأما إذا كان لصبي فيقول العلامة بيرم الثاني: ذهب العلاء العلامة وغيره من أيمة سمرقند إلى القول بعدم صحته فيه لما فيه من تمليك الولي منافع عقار المولى عليه للمشتري بلا عوض لأن المال المدفوع ثمنًا لبيع الوفاء والذي انتفع به المولي عليه سيرد بتمامه إلى المشتري الوفائي عند استرداد المبيع وفسخ العقدة، فكأن انتفاع المشتري بغلته قبل فسخه تبرع من طرف الولي وهو لا يملك حق التبرع بمال مولاه.
وأجازه صاحب العدة في حالة اضطرار المولى عليه إلى ثمن المبيع وفاء كاحتياجه للنفقة على نفسه أو ماله بانهدام في عقاره تخشى الزيادة فيه إذا لم يسرع إلى ترميمه وهو عديم المال حالًّا وله مال مرجو الحصول مآلًا. وبالقول الثاني جرى العمل عندنا بشرطه من الضرورة إليه، وينبغي للوصي المبادرة إلى الفسخ ما وجد إليه سبيلًا، والمجنون مثل الصبي (1) .
هذا وأشكل على تعبير شيخ الإسلام مرة بالولي وأخرى بالوصي، والفرق بَيِّنٌ بينهما جلي وتعبير البزازية بالوصي ونصها:(اختلفت أيمة سمرقند في أن الوصي هل يملك بيع عقار الصبي وفاء، فأكثرهم على أنه لا يملك، وفتوى صاحب الهداية على أنه يملك) وكذلك ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين للوصي بيع العقار بالوفاء وقيل لا. ولم أعثر فيما بين يدي من مصادر الفقه الحنفي على من أعطى هذا الحق لمجرد الولي وهو قل من كثر وغيض من فيض وليس هذا من باب الاعتراض على شيخ الإسلام وهو من هو في غزارة علمه وسعة اطلاعه على دقائق مذهبه فأني يدرك الضالع شأو الضليع، لكنه طرح الإشكال على من له سعة اطلاع تنور الأبصار، وترد المحتار (2) .
(1) بيرم الثاني، الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص 11 و12 ظهرًا، بتصرف.
(2)
راجع الفرق بين الولي وبين الوصي في رد المحتار.
وأما المنقول فالظاهر من كلام الفتاوى البزازية أنه لا يصح عقده فيه، ونصها:(وإذا جمع في البيع الجائز بين العقار والمنقول الذي لا يجوز فيه البيع الجائز بأن لم يكن تبعًا للعقار حتى فسد في المنقول لا يتعدى إلى العقار بل يجوز فيه، وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز الوفاء في المنقول) .
والنص المنقول عن الفتاوى البزازية يحتوي على نقل من إجارات ((العدة)) ، وعلى تعليق محمد البزازي عليه بقوله:(وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز الوفاء بالمنقول) .
وهذه التفرقة مبناها وأساسها استحسان بعض المتأخرين كما ذكر ذلك البزازي ولكنه نقل عقب النص السالف أنه جاء في النوازل جواز الوفاء في المنقول (1) واستظهر ابن عابدين أن الخلاف جار في المنقول على القول بأن بيع الوفاء بيع جائز، أما على القول بأنه رهن فينبغي عدم الخلاف في صحته (2) .
وعلل المنع بأن الوفاء يستلزم سلامة البدلين عند التفاسخ، والمنقول يضمحل قبله فلا يجد البائع وقت الفسخ ما يسلم له.
هذا وقد ذكر أبو عبد الله بيرم الثاني هذه العلة ولم يسلمها من كل الوجوه فقال: وأنت خبير بأن عدم السلامة إذ ذاك لا تعم سائر أنواعه بل تخص ما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه كالثمر والخبز واللحم دون ما ينتفع به من بقائها كالعبد والدابة فينبغي أن يخص المنع النوع الأول ولا يعم الثاني ولا يطلق القول فيها بجواز ولا منع.
وعلى هذا التفصيل يكون من النوع الثاني السيارات والشاحنات والسفن وأثاث البيوت ونحوها فلا يجري فيها المنع بل يجوز فيها الوفاء. ولكن هل يدخل في المنقول من النوع الثاني ما يعبر عنه بالسكنى لدى فقهاء الحنفية؟ الذي يبدو لأول وهلة جواز ذلك لأن فقه الأحناف يصرح بأن ما عبر عنه بالسكنى نقلي إذا كان شرط الوفاء غير مقترن بالعقد كما يجرون العقد البات عليها. لكن بعد التدبر في هذه المسألة يتضح بالعكس وهو عدم جواز جريان عقد الوفاء فيما يعبر عنه بالسكنى ولو مع عدم شرط القران، وذلك لأن السكنى مدخول فيها على شرط القران فصار معروفًا، والقاعدة الفقهية تقول: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. لكن سبق لنا أن النسفي يقول لمن استفتاه لا عبرة بالشرط المفسد إذا لم يذكر عند إبرام العقد باللسان وإن أضمر في الجنان وزور في النفس فهل لنا أن نجوز جريان الوفاء في السكنى تخريجًا على ما قاله النسفي؟
الجواب أن ما قاله النسفي نفسه مقيد بغير المعروف عرفًا وإنما هو أمر متعلق بالعاقدين وأما المعروف عرفًا فهو مذكور في العقد حكمًا.
الكفالة بمال الوفاء:
يتسنى للمتدبر في كتب الفقه الحنفي التي تناولت بالدراسة أو الإشارة ((بيع الوفاء)) أن يتصور المسألة بصورتين:
1-
أن يضمن المشتري مال الوفاء للبائع.
2-
أن يضمن البائع مال الوفاء للمشتري.
وحكم الصورة الأولى أن الضمان صحيح، لأن الوفاء يترتب دينًا للبائع بذمة المشتري لمجرد العقد.
وأما حكم الصورة الثانية فالصحة أيضًا بشرط إضافة لزمن الفسخ، لا منجزة.
وعلة ذلك أن مال الوفاء ليس دينًا بذمة البائع للمشتري مدة قيام بيع الوفاء بينهما، وقبل فسخه، وإنما يصبح دينًا للبائع على المشتري بعد الفسخ لأن بيع الوفاء بالنسبة إلى المشتري يعتبر بيعًا باتًّا من أجل أن يباح له نزله ومنافعه، وما دام الأمر كذلك فما دفعه المشتري للبائع يعتبر ثمنًا للمبيع، وثمن المبيع لا يجوز بحال أن يكون دينًا للمشتري على البائع، وعقد البيع قائم بينهما، لأن المشتري ملك عوضًا عما دفع من الثمن وهو المبيع، فلو كان ما دفعه من ثمن مملوكًا له للزم من ذلك ملكه للمثمن والثمن الذي دفعه، وذلك غير جائز.
أما إذا فسخ العقد الوفائي بينهما فإن ما دفعه المشتري من ثمن يصبح دينًا على البائع كثمن المبيع بيعًا باتًّا بعد إقالة فإن المشتري يصبح دائنًا بثمن المبيع والبائع يصبح مدينًا بثمنه (3) .
وأما بقية المسائل المتعلقة بأحكام الضمان في بيع الوفاء فقد وقعت الإشارة إليها فيما سبق.
(1) راجع الفتاوى البزازية: 4/416، 4/409.
(2)
رد المحتار: 4/248.
(3)
أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: الوفاء بمسائل بيع الوفاء تقدم ص53 وجهًا وظهرًا، بتصرف.
ما يعتبر فوتًا للمبيع وما لا يعتبر:
إن هذه المسألة تعود على ما يبدو إلى أصل الخلاف داخل المذهب الحنفي في حكم بيع الوفاء في كثير من تفريعاتها.
فمن قال بأنه رهن قال: (لا يفوت المبيع، ولا يملكه المشتري وفاء ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من ثمره وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي ولا يضمن الزيادة، وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام) .
ولا يفوت على المشتري وفاء مال الوفاء قبل القبض فمن اشترى حقلًا ولم يحزه وشب فيه حريق هلك على البائع ولا يسقط من الدين شيء.
ومن قال بأنه بيع جائز فلا يفوت أصل المبيع بهذا البيع لأن معناه البيع النافذ الذي فيه أحد الخيارات، قال النسفي: اتفق مشايخنا في هذا الزمان فجعلوه بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه وهو الانتفاع به، دون البعض وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به.
وعلى القول بأنه بيع جائز لازم كذلك، وكذلك الشأن في القول بأنه بيع مركب من الرهن والبيع الجائز.
وأما على القول بأنه بيع فاسد فقد سبق أن القائلين به اختلفوا بالنظر إلى ما يترتب عليه من الآثار والنتائج فمنهم من أعطاه أحكام البيع الفاسد كلها حتى فوات فسخه ببيع مشتريه بيعًا باتًّا، ومنهم من استثنى هذا منها وألحقه فيه ببيع المكره، وبيع المكره لا يمتنع حق الفسخ فيه بوجه من الوجوه، وللمكره أن ينقض كل تصرفات المشتري والعلة الجامعة بين بيع الوفاء وبين بيع المكره عدم الرضا ومن قال هؤلاء: إن بيع الوفاء لا يفوت بالبيع ولو تكرر فيه، ولهذا الإلحاق ذكره الزيلعي في باب الإكراه قال:(ومن مشايخ بخارى من جعل بيع الوفاء كبيع المكره) إلى آخر ما سلف. بقي أن من قال بأنه بيع بات وهو البيع القطعي فلا إشكال بأن المبيع يفوت بمجرد تمام عقد بيع الوفاء، ولعل ذلك ما يوحي به قول أبي عبد الله محمد بيرم الثاني في بيان متى يصلح بيع الوفاء طريقًا للتحيل على حل الربح ومتى لا يصلح فبين أنه على القول بأنه بيع بات فإنه يحصل غرض المشتري ولا يحصل غرض البائع. والظاهر أنه يعني فواته عليه بالبيع.
ومن هنا نعلم أن ما يعتبر فواتًا ومالًا في أكثر فروعه يعود إلى الخلاف في حكم بيع الوفاء كما يعود إلى تكرر البيع له من طرف بائعه وفاء ويتأتى تصور ذلك بما يلي:
(أ) إذا باعه إلى المشتري الأول وفاء بيعًا باتًّا لأنه بمجرد تمام عقد البات فسخ العقد الوفائي وصح البات.
(ب) إذا باعه لغير المشتري وفاء الأول باتًّا أو وفاء قبل فسخ عقد الوفاء مع المشتري الأول توقف البيع الثاني وفاء أو باتًّا على إجازة المشتري وفاء الأول فإن أجاز انبرم البيع الثاني مطلقًا، وإن لم يجز بقي موقوفًا، ولكن يجب أن يعلم أن له - كما قال البارودي - الإجازة وليس فسخ البيع، لأن حقه في حبس العين المبيعة له وفاء بعدم الإجازة ولا يضطر إلى أجله لفسخ البيع فليس له.
وإجازة المشتري وفاء الأول للمشتري الثاني باتًّا أو وفاء تكون:
1-
بالقول: وأمرها جلي كما إذا جاء البائع وفاء إلى المشتري وفاء الأول وقال له بعت مبيعك الوفائي بيعًا وفائيًا أو بيعًا باتًّا فأجزني فقال له: أجزتك، أو لك ذلك، أو رد علي ثمني أو ما شاكل ما ذكر.
2-
بالفعل: كما إذا جاء البائع وفاء إلى المشتري وفاء وقال له: بعت مبيعك الوفائي وجئتك بمالك فتسلمه فأخذه، فتسلمه إياه إجازة فعلية يفوت المبيع الوفائي بها عن المشتري وفاء الأول، وكذلك الحكم إن أتاه بماله المشتري الثاني وفاء أو باتًّا وقال له: اشتريت مبيعك الوفائي وجئتك بمالك فخذه، فأخذه منه اعتبر أخذه للمال إجازة فعلية للبيع الثاني مطلقًا باتًّا أو وفاء.
بقي إذا باع البائع وفاء المبيع وفاء إلى مشتر ثان وجاء إلى المشتري الأول وسلمه مال الوفاء فتسلمه ولم يحطه خبرًا بالبيع فما الحكم؟
الحكم بالتسلم لمال الوفاء انفسخ بيع الوفاء بينهما، ولم يبق له حق في الإجازة ويبطل البيع الثاني لتمامه - وعقد الوفاء منبرم - ولم تقم إجازة من المشتري الأول وفاء. ثم إن تعدد البيوعات من البائع وفاء قبل فسخ عقد بيع الوفاء توقف جميعها - كما قال البارودي - على إجازة المشتري وفاء سواء كانت كلها بيوعات باتة أو كلها وفاء أو تنوعت فكان بعضها باتًّا وبعضها وفاء، وله أن يجيز أيها شاء، وما أجازه منها مضى وما لم يجزه لم يمض، ولا فرق فيما أجازه منها بين أن يكون الأول أو الوسط أو الآخر وبين أن يكون باتًّا أو وفاء (1) .
هذا ما تيسر في هذا المبحث بالاعتماد على ما قلت فإن كان صوابًا فمن فضل الله تعالى علي وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
وقبل أن أختم المبحث فقد لفت نظري أن الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمة الله عليه وهو الذي أفتى في جواز أخذ النصيب من أرباح صندوق التوفير للمسلم يمنع رهن الانتفاع، والحنفية يجوزونه ويقول في هذه الفتوى:(وفي الحق أنه إذا دار الأمر بين الانتفاع بالرهن على هذا الوجه وبين الفائدة للدين التي يسمح بها القانون كانت تلك الفائدة أقل ضررًا وحرمة من هذا الرهن الذي يجب منعه قطعًا لأطماع المستغلين لضرورات الناس، ومحافظة على بيوت المضطرين من الخراب)(2) .
(1) راجع المسألة الثامنة من رسالة البارودي المفتي الحنفي التونسي في مسائل بيع الوفاء، مخطوطة بمكتبة الزيتونة غير مرقمة.
(2)
فتاوى الشيخ شلتوت: 346، دار القلم، الطبعة الثانية.
المبحث الثالث
بيع الثنيا عند المالكية
إن بيع الثنيا عند المالكية مجانس لبيع الوفاء عند الحنفية.
وكلامنا في هذا المبحث ينحصر في المسائل الآتية:
1-
تعريفه:
لم يحده الإمام ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بحد خاص لكن جاء في شرح الرصاع لحدود ابن عرفة عند الكلام على تعريف ((بيع الخيار)) وهو قوله: (بيع وقف بته أولًا على إمضاء يتوقع) فقال: هل يرد على الشيخ في بيع الخيار صورة بيع الثنيا بعد العقد إذا قال للمشتري: إن أتيتني بالثمن فالسلعة رد عليك أيها البائع، وقد نص على جوازها أصبغ فيصدق فيها أنها بيع وقف بته أولًا على إمضاء يتوقع لأن الخيار للبائع في إمضاء ما وقع من المشتري
…
إلخ (1) .
وعرفها ابن عاصم في متنه الموسوم بتحفة الحكام في نكت العقود والأحكام بقوله:
والشرح للثنيا رجوع ملك من
باع إليه عند إحضار الثمن
(2)
2-
مواضع ذكره:
أصل بيع الثنايا في كتاب بيوع الآجال من المدونة قال فيه: من ابتاع سلعة على أن البائع متى رد الثمن فالسلعة له لم يجز لأنه بيع وسلف (3) .
وذكره العتبي في المستخرجة في جامع البيوع الثاني (4) .
وذكره ابن رشد في المقدمات في ((بيع الشروط)) إلا أنه عمم التسمية في سائر الشروط، واقتفى ابن عاصم أثره في ذكره في بيع الشروط إلا أنه ميزه فقال:
والبيع بالثنيا لفسخ داع
والخرج بالضمان للمبتاع
إلخ الفصل الذي عنونه بقوله: (فصل في بيع الخيار والثنيا) كما ذكره الحطاب في الالتزام المعلق الذي فيه مصلحة للملتزم بكسر الزاي في الوجه الرابع من وجوهه.
(1) كتاب الهداية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الموافية: 266، 267.
(2)
ص75، المكتبة التجارية الكبرى بمصر بدون تاريخ.
(3)
المدونة: 3/194.
(4)
7/335، 336، مع البيان والتحصيل، طبعة أولى دار الغرب الإسلامي 1404هـ - 1984م.
المسألة الأول - حكم بيع الثنيا:
((الثنيا)) : خيار في الحقيقة إلا أنه شرط فيه النقد، وشرط فيه أنه متى أتاه بالثمن فمبيعه مردود عليه. وهذا المعنى هو الذي خصه الأكثر بالثنيا وإن كان ابن رشد عممه في جميع الشروط المنافية للمقصود.
والبيع بشرط الثنيا في صلب العقد كأن يقول زيد لعمرو: أبيعك أرضي هذه على أني متى جئت بالثمن فهي مردودة علي غير جائز.
وتعليل منعه فيما رواه سحنون عن ابن القاسم أن ذلك غير جائز لأنه بيع وسلف، ونص الأم في بيوع الآجال هو التالي:(قلت) : أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى جاء بالثمن فهو أحق بالجارية أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا. (قلت) : لم؟ قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف.
وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن باع أرضًا على أنه متى ما جاء بالثمن فهي مردودة عليه أنه بيع فاسد يردان فيه إلى القيمة إن كانت قد فاتت ببناء أو هدم أو غرس قال مالك رضي الله عنه: وبيع المشتري إياها يفوتها. قال ابن القاسم: وطول الزمن في ذلك ليس بفوت عندي، وكذلك اختلاف الأسواق.
وقيد أصبغ قول ابن القاسم: بأن لا يطول الزمن مثل عشرة أعوام وشبهها، فإنه لا بد أن تتغير ببعض وجوه البلاد وغيره فأراه فوتًا وإن كانت قائمة
…
وقال سحنون: هو سلف جر منفعة، قال سحنون: فإن وقع البيع على هذه الصفة فهل يكون كالرهن؟ أو كالبيع الفاسد؟
قال:
(أ) إن ضربا لذلك أجلًا فالمنصوص لمالك وأصحابه أنه كالبيع الفاسد، وقال أبو الحسن بن القابسي وأبو القاسم بن الكاتب: يضمن ضمان الرهان ونحوه لابن حبيب وسبب الخلاف هو:
1-
الالتفات للبيع ومضمنه أنه لم يأت بالثمن.
2-
الالتفات إلى كونها محبوسة في الأجل الثاني.
فمن التفت إلى الأول أجراه مجرى البيع الفاسد، ومن التفت إلى الثاني أجراه مجرى الرهان.
(ب) وإن لم يضربا لذلك أجلًا فحكمه حكم البيع الفاسد.
(ج) نقل كثر من الأشياخ عن أبي الحسن بن القابسي أنه كالرهن من غير تفرقة بين ضرب أجل وعدمه.
ونقل ابن عبد الغفور أن بيع الثنيا إذا وقع في الصفقة مردود أبدًا فات أو لم يفت لأنه حرام وهو باب من أبواب الربا ترد فيه البياعات والصدقات والأحباس فإن وقع إلى أجل كان فيه الكراء لأنه كالرهن وبه كان يفتي ابن وهب. قال يحيى بن يحيى: وإن كان إلى غير أجل كان فيه الكراء أيضًا إذ كأنه قال له: انتفع به حتى أرد عليك مالك وقاله ابن الماجشون والعتبي وفي المجالس (للمكناسي) : إذا لم يقبضه المبتاع وترك عند البائع فهو كالرهن إذا لم يقبض وهو أسوة الغرماء، وإن قبض وأخر فذلك فسخ، وبيع في الحق إن لم يكن معه ما يؤدي منه وهو قول شيوخ الفتيا عندهم.
وذهب كثير من خيار العلماء من أصحاب مالك وغيرهم أن بيع الثنيا إذا وقع إلى أجل فلا كراء فيه.
وقول مالك: أنه لا كراء فيه كان لأجل أو غير أجل لأنه بيع فاسد ((عندهما)) (1)
وقول ابن عاصم: (والخرج بالضمان للمبتاع) ظاهره ضرب لذلك أجل أم لا؟ لا يرد إلى المشتري الغلة التي حدثت عنده، ولا كراء عليه في مقابل الانتفاع بالمبيع لأنه بيع فاسد ينتقل ضمانه بالقبض ومن عليه الضمان فله الغلة. لكن إذا اشترى حائطًا مشجرًا نخيلًا مثلًا وفيه ثمار مأبورة يوم الشراء فإنها ليست بغلة لأن لها حصة من الثمن فيلزم ردها مع المبيع إن كانت قائمة ورد مثلها أو قيمتها إن جهلت أو جذت رطبًا.
ومحل فوز المشتري بالثمرة يحصل بالزهو وهو ظهور الحمرة والصفرة في النخل وإن ظهر ذلك في نخلة واحدة من نخل كثير على المقرر في مذهب إمام دار الهجرة في ظفر المبتاع بالغلة في البيع الفاسد. وإذا طاب فمن باب أولى وأحرى.
وهذا الذي ذهب إليه ابن عاصم هو قول مالك وابن القاسم وعليه أكثر المالكية وهو الذي عليه القضاء في عصره كما ذكر ذلك المتيطي من فقهاء المالكية في عصر ابن عاصم.
(1) راجع الفائق في معرفة الأحكام والوثائق، لابن راشد القفصي: 2/171، وهما من نسخة مصورة على نسخة الصادقية من مكاتب جامع الزيتونة ضمت مخطوطاتها إلى دار الكتب الوطنية. وعرض ابن عاصم في رجزه الموسوم بتحفة الحكام إلى بيع الثنيا وحكمه على القول الذي جرى به العمل في عصره فقال: والبيع بالثنيا لفسخ داع والخرج بالضمان للمبتاع ولا كراء فيه هبه لأجل أولا وذا به جرى العمل والشرح للثنيا رجوع ملك من باع إليه عند إحضار الثمن
ومقابله أنه رهن لأنه سلف بمنفعة فالغلة للبائع لا للمشتري، نقله زروق وهو المشهور وعلله عبد الباقي بأنه ظاهر مما حصل بين البائع والمشتري من الاتفاق على رد المشتري المبيع للبائع كما علل أيضًا بأن الغلة ثمن للسلف وذلك محظور.
وجاء في وثائق ابن مغيث عن القابسي: التفرقة بين حكم ما قبل انقضاء أجل الثنيا، وبين حكم ما بعد أجل الثنيا فالحكم في الصورة الأولى أي ما قبل انقضاء أجل الثنيا حكم البيع الصحيح الغلة فيه للبائع إذ هو كالرهن. وفي الصورة الثانية أي ما بعد انقضاء أجل الثنيا بيع فاسد الغلة فيه للمشتري.
إذا تقرر هذا فحري بنا أن نقيد ما جرى من خلاف في هذه المسألة بعدم جريان عرف في شعب من الشعوب بالرهنية لأن البيع في هذه الحالة يقع بأقل من الثمن المتعارف عليه فيباع العقار الذي ثمنه مائة ألف دينار بخمسين ألف دينار أو سبعين ألف دينار ولا يختلفون في كون العقدة رهنًا ولو سموها بيعًا فأنت إذا سألت البائع عن عقاره قال: إنه مرهون ويطلب زيادة الثمن ويعرضه للبيع وهو بيد المشتري بيع ثنيا وإذا سئل المشتري عن العقار المباع قال: إنه مرهون عندي أو هو عندي بيع ثنيا فبيع الثنيا عندهم مرادف للرهن يطلق كل منهما مكان الآخر وفي الرهن الحكم برد الغلة للراهن وعدم الفوات باتفاق وذلك كما أسلفته في التمهيد لهذا البحث من أن قاعدة الشريعة أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والاعتبارات كما هي معتبرة في التصرفات والعبادات، وكما قال الشهاب القرافي: إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ والجور ولهذا لما سئل عيسى السجستاني حسبما جاء في نوازله عن بيع الثنيا في هذا الزمان هل يفوت بأنواع التفويت لأنه فاسد وكيف إذا جهل قصد المفوت.
فقال الذي أفتي به في بياعات نواحي سوس وجبال درن أنها رهون لأنهم يعتقدون أنها على ملك بائعها ويطلبون فيها زيادة الأثمان والمبيع بيد مشتريه وإذا كان هكذا فلا يفوت بشيء بل هي على ملك الأول إلا أن يرضى بإمضاء البيع فيها والسلام. اهـ. بلفظه.
وبعد أن أورد التسولي هذه الفتيا عقب عليها بقوله: ولا يخفى أنها في نواحي فاس وجبالها كذلك ولا يشك منصف فيه والله أعلم (1) .
هذا قيد أول قيد به الخلاف، وهناك قيد ثان وهو أن الغلة إنما تكون للمشتري على القول بأنه بيع فاسد إذا قبض ملك المبيع لأن الضمان إنما ينتقل للمشتري في البيع الفاسد بالقبض. قال خليل:(وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض ورد ولا غلة)(2) .
وأما إذا لم يقبضه المشتري كما إذا اشترى منه حائطه بالثنيا وتركه بيده مساقاة أو إجارة أو ما شاكل ذلك لتكون له غلته فلا غلة للمشتري قولًا واحدًا وذلك لعدم انتقال ضمانه إليه وسواء اشتراه المشتري بثمنه المتعارف أو بأقل من ذلك بقليل أو كثير ولو قبضه المشتري ورده البائع بمساقاة ونحوها لم تكن للمشتري الغلة لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مبحوث في بيوع الآجال.
هذا ولا بد من ملاحظة أنه على القول بأنه بيع فاسد إذا وقع أن أمضاه البائع للمشتري قبل فسخه فلا يصح لأنه بناء على فاسد والمبني على الفاسد فاسد ولعل ما ساقه الونشريسي في المعيار من فتوى لأبي الحسن الصغير شارح المدونة ترينا تطبيق ما ذكرت بوضوح حيث قال: وسئل عن إخوة باعوا فدادين لهم بيع ثنيا واشترطوا إن لم يأتوا بالثمن إلى أجل ذكروه فالبيع ماض ثم بعد ذلك مات أحدهم وترك ابنًا وبنتًا فلما مضى الأجل أمضى الأخوان الحيان البيع في المبيع للمشتري وتمموه له من غير أن يفسخ العقد الأول الفاسد ولا عرضوا له، ثم غرس المشتري المذكور فدانًا واحدًا من الفدادين وبقي في يده عشرين سنة وقام الابن والبنت ولدا الميت بعد العقدة الفاسدة الأولى وقبل عقدة الإمضاء الثاني فطلبوا حصتهم فما الحكم؟
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/61، الطبعة الثانية شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1370هـ - 1951م.
(2)
المختصر مع شرح عبد السميع الأبي: 2/27، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
فأجاب: لا شك في فساد الأول لأنه مثل غلق الرهن وأما الإمضاء الثاني فلا يصح أيضًا لأن المنصوص في كل موضع أن البيع الفاسد لا يصح إمضاء البيع فيه إلا بعد فسخ العقدة الفاسدة وإذا فسد هذا الآخر بقي على الفساد إلى الآن إلا أنه ما غرس منه يفوت على الأخوين اللذين أمضيا وعلى ورثة الأخ الميت لأنه عقد العقدة الفاسدة وهو حي وإذا فات نظرت فإن كان وجه الصفقة المغروس أو وجه الصفقة الذي لم يغرس، أو تساويا فعلى عاقده ما إذا انفسخ البيع، وفات بعض المبيع، وحكم اللذين أمضيا حكم اللذين لم يمضيا لاشتراك جميعهم في العقد الفاسد الأول حين عقده مورثهم (1) .
المسألة الثانية - التطوع بالثنيا بعد العقد:
وتنحل هذه المسألة إلى نقاط:
(أ) جواز التطوع بالثنيا بعد العقد: ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا التطوع محدودًا بأجل، أو غير محدود بأجل، ومثال التطوع بالثنيا غير المحدود بأجل كقول المشتري بعد انبرام العقدة وتمامها: متى جئتني بثمن ما اشتريته رددته عليك، أو كقول البائع للمشتري بعد انبرام العقد: متى جئتك بثمن ما اشتريته منك رددت علي مبيعي فوافق على ذلك، ومثل التطوع بالثنيا إلى أجل محدود كقول المشتري للبائع بعد انبرام العقد وتمامه: متى جئتني بالثمن لسنة أو لعشرين سنة مثلًا فمبيعك مردود عليك.
(1) 6/111، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1401هـ - 1981م.
وحكم المطلقة أو غير المحدودة أنه متى جاء بالثمن يجب على المشتري أن يرد المبيع إلى البائع كما يجوز للمشتري أن يفوت في المبيع ببيع أو غيره كالهبة ولا مقال للبائع ما لم يفوته على الفور مما يوحي بأنه ندم على معروفه وأراد قطع ما أوجبه على نفسه من معروف، والمعروف عند إمام دار السنة واجب على من أوجبه على نفسه.
وإذا قام عليه البائع حين أراد التفويت في المبيع لدى القضاء وأحضر الثمن فإن باع المشتري المبيع بعد ذلك فإن صدر عليه حكم بالمنع من البيع قبل التفويت رد بنيته وإن باعه قبل صدور الحكم عليه بذلك نفذ البيع.
وأما حكم المقيدة أو المحدودة بأجل فإنه لا يجوز للمشتري التفويت في المبيع، فإن فوت فيه ببيع أو هبة رد وجوبًا واشترط الباجي في المقيدة بأن لا يبعد أجلها بنحو العشرين سنة، فإن بعد بنحو ذلك اتفقت مع المطلقة في فوات المبيع على البائع وعدم رده وإذا جاءه البائع بالثمن في خلال الأجل أو في نهايته أو بعده بيوم ونحوه وجب على المشتري قبول الثمن ورد المبيع، وإذا زاد على ما ذكر وهو اليومان فات المبيع على البائع ولا يقبل منه الثمن.
وإذا أراد البائع القيام بالغبن وقد جاء بالثمن بعد انقضاء الأجل بيوم ونحوه هل تعتبر السنة من يوم البيع؟ أو من يوم انقضاء الأجل؟ والظاهر الثاني لأنه اليوم الذي اكتمل فيه البيع نهائيًا (1) .
بقي التنبيه على أن التطوع بالثنيا بعد انبرام عقد البيع يكتب عند الموثقين في العصور المتأخرة في عقد البيع على انفراد وواضح الاستقلالية قال ابن مغيث: لأنه أبعد من المظنة وإن وقع ذلك في عقد الابتياع أي قبل تقييد الإشهاد وبعد وصف البيع بانه لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار جاز ذلك لكن الأفضل كتابته في عقد مستقل وإلى كل ما سبق أشار العلامة القاضي ابن عاصم في تحفة الحكام بقوله:
وجاز إن وقع بعد العقد
طوعًا بحد وبغير حد
وحيثما شرط على الطوع جعل
فالأحسن الكتب بعقد مستقل
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/63.
المسألة الثالثة - التنازع في عقد الثنيا:
إذا اختلف المتبايعان بالثنيا في العقد المنبرم بينهما فقال أحدهما: وقعت على الطوع بعد تمام العقد وانبرامه وقال الآخر: بل وقعت شرطًا في أصل العقد ولولا وقوعها شرطًا في أصل العقد ما وقع البيع، وإنما كتبت طوعًا خوفًا من الفساد فالقول قول من؟
نقل ابن عرفة عن ابن فتحون: إذا ادعى أحدهما في الثنيا المنعقدة بالطوع أنها كانت شرطًا في العقد حلف الآخر على نفسه لما عرف بين الناس من العقد في الظاهر بخلاف الباطن، ولا يسقط حلفه إلا ببينة حضرت ابتياعه.
وعقب نقادة المذهب ابن عرفة على قول ابن فتحون: (ولا يسقط حلفه
…
) إلخ أن مجرد ذكره في وثيقة البيع لا يسقط هذه اليمين، وظاهر قول المتيطي أن ذكره في الوثيقة يسقطها والصواب الأول (1) .
كما نقل ذلك قاضي الجماعة بتونس في عهد الدولة الحفصية ابن عبد الرفيع في ((معين الحكام)) ، وعن ابن سلمون: فإن ادعى أحدهما أن ذلك كان شرطًا في نفس البيع والآخر أنه كان طوعًا ففي وثائق ابن العطار: القول قول مدعي الطوع مع يمينه، وقيل لا يمين عليه مع البينة التي قامت له بالطوع، وقال سحنون: إن كان متهمًا بمثل هذا فعليه اليمين وإلا فلا، وفي كتاب الاستغناء قال المشاور: ومن ادعى منهما أن ذلك كان شرطًا في نفس الصفقة حلف وفسخ البيع لما جرى من عرف الناس وبذلك الفتوى عندنا (2) .
وقد درج ابن عاصم على أن القول قول مدعي الطوع بعد تمام العقد تبعًا لغيره فقال:
والقول قول مدع للطوع
لا مدعي الشرط بنفس البيع
ولم يجر عليه عمل والذي جرى عليه العمل أن القول لمدعي الشرطية لضعف الوازع الديني وغلبة الفساد في العقود وقد اعترض ابن ناظم تحفة الحكام على والده قائلًا: إن ابن العطار وقف مع قولهم أن القول لمدعي الصحة دون ما قيد من قولهم: إلا حيث يغلب الفساد يريد: وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد فيجب أن يكون القول فيها لمدعيه كما قال ابن الفخار، ومما يدعمه ما قاله ابن فرحون في تبصرة الحكام إذا اختلف المتبايعان في صحة العقد وفساده فالقول لمدعي الصحة إلا أن يكون جل أهل ذلك البلد أن معاملتهم على المكروه والحرام فالقول قول مدعي ذلك مع يمينه لأن استفاضة ذلك وشهرته في البلد صار كالبينة القاطعة والشهادة التامة وعلى مدعي الحلال البينة وهو قول خليل:(والقول لمدعي الصحة إلا أن يغلب الفساد) .
(1) انظر: المختصر الفقهي، لابن عرفة: 2/155، ط 156؛ ومخ دار الكتب الوطنية مخ بدار الكتب الوطنية، بتونس تحت عدد 1247.
(2)
العقد المنظم للحكام: 1/196، بهامش كتاب تبصرة الحكام.
واستظهر التسولي أن الخلاف في هذه المسألة جار ولو نص في عقد البيع أن البيع وقع بلا شرط ولا ثنيا ولا خيار ودعم استظهاره بما جاء في نوازل البرزلي ونقله عنه العلمي (1) حيث قال:
وهو كذلك في البرزلي ونقله عنه العلمي.
ولعله يعني قوله: (وفي أحكام ابن سهل من مسائل ابن زرب: من ابتاع شيئًا وذكر في عقد ابتياعه أنه طاع البائع إن أتاه بالثمن إلى عام أو مدة ذكرها فالبيع عليه رد فانقضت المدة ولم يأت البائع بالثمن فأراد المبتاع تملك ذلك وقطع ما التزمه البائع إن لم يأته بالثمن للمدة، فقال له البائع إنما كان رهنًا، وعقدناه ثنيا تحيلًا لإسقاط الحيازة التي لا يتم الرهن إلا بها أن اليمين على المبتاع أن ابتياعه كان صحيحًا وأنه طاع بالثنيا بعد العقد فإن نكل عن اليمين حلف البائع وأدى إليه الثمن ورجع فيما باعه. قال: ومثل ذلك الذي يبتاع المال الموضف ويعقد فالوضيف تبرأ ويذكر فيه أنه تبرأ إليه بعد انعقاد صفقة التبايع متى ادعى أحدهما أنهما علما بالوضيف قبل البيع ويدعو إلى يمين صاحبه فإن اليمين واجبة في هذا وإن قامت بينة على ما شهدا به على أنفسهما من التبري بعد العقد، قال: وإنما وجبت اليمين في المسألتين للعرف أنهم يتحيلون في الارتهان بالثنيا ومعرفة المبتاع بأنه لا يبتاع ملكًا حتى يعرف ما عليه من الوضيف قيل له: فهل ترى لموثق يطلع على معرفتهما قبل انعقاد البيع أن يعقد لهما عقد التبايع والتبري قال: لا)(2) .
وبعد تقرير ما ذكر فلا معول على ما جاء في المتيطية أن وثيقة بيع الثنيا إذا تضمنت عبارة: ((دون شرط ولا ثنيا ولا خيار)) بالاتفاق على أن القول قول مدعي الطوع وذلك لأن الخلاف موجود فقد ذكر الونشريسي في المعيار أن ابن رشد الجد سئل عما يكتب من الشروط على الطوع والعادة الجارية بين الناس تستلزم الشرطية فأجاب إذا اقتضى العرف الشرطية فالعمل عمل العرف ولا نظر للمكتوب لأن الموثقين يتساهلون فيه وهو خطأ ممن فعله، وأجاب ابن الحاج بأن العمل على ما في الوثيقة، وعلى فتوى ابن رشد في هذه المسألة عول الزقاق في اللامية فقال:
وشرط نكاح إن نزاع بطوعه
جرى مطلقًا فاعمل على الشرط واعدل
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/66.
(2)
نوازل البرزلي: 2/10 وجهًا، مخ مكتبة جامعة الزيتونة.
ونقل التسولي عن المجاصي في نوازله أنه سئل في هذه المسألة فأجاب: قد تكرر جواب بعد جواب غير ما مرة ولا أدري ما هذا ورأيي فيها تابع لرأي بعض شيوخنا رحمهم الله وأنه متى ثبت رسم الإقالة ولو بصورة التطوع فهو محمول على أنه شرط في نفس العقد، وقول المتيطي: ما لم يقل: ولا ثنيا ولا خيار
…
إلخ ذلك عرف وقته إذ لا تعرف عامة زماننا الثنيا بل يسمونه بيعًا وإقالة، والشهود يجرون المساطير من غير تحقيق لمعنى ما يكتبون (1) . قال ميارة في شرحه على تحفة ابن عاصم: (وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد مع يمينه
…
ومما يدل على الدخول على الفساد كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير مما يتحققه المتبايعان ولولا الدخول على ذلك واعتقاد البائع أن ذلك بيد المشتري كالرهن ما رضي البائع بذلك الثمن ولا بما يقرب منه) . كما نبه هنا إلى أن الموثقين يكتبون الوثيقة على المسطرة الجارية من غير تعرض لفهم بعض فصولها، هذا في الكاتب فما بالك في العامي الذي يشهد عليه على أن العامة عندنا اليوم لا يعرفون معنى الثنيا وإنما يسمون ذلك البيع والإقالة (2) وقد قال أبو محمد صالح وهو الذي في زمنه يمثل به العدل المبرز: إذا كتب الموثق طاع فقد عصى (3) .
وإذا وجب جمل ما يبرم من عقود بيع الثنيا على الرهن جرى في ذلك على أحكام بيوع الرهان من إباحة بيعه بيد المرتهن بشروطه وعدم إضرار السكوت عنه السنين الطويلة مراعاة لحاضر البشر وشيوع الفساد فيه والله لا يحب الفساد لكن لا بد من التنبيه على أن القول لمدعي الشرط والفساد محله إذا لم يشهد في عقد الطوع بالثنيا بإسقاط دعوى الفساد وإلا فلا التفات لدعواه لأنه قد كذبها وكذلك محله أيضًا إذا لم يبعد ما بين التطوع بها وبين البيع كالأربعة الأشهر ونحوها وإلا فينبغي حملها على التطوع حقيقة إذا كان الثمن يساوي قيمة المبيع أو ما يقرب منها.
وجرى الخلاف بين فقهاء المالكية فيمن باع عقارًا أو غيره وطلب من المشتري الإقالة فأبدى له المشتري خوفه من بيعه لغيره عندما يقيله، فقال له البائع الطالب للإقالة: إن بعته غيرك فهو لك بالثمن الأول أو بالثمن الذي يساويه عند بيعه فأقاله المشتري على هذا الشرط، فباعها المقال فأراد المقيل فسخ هذا البيع والأخذ بشرطه فهل له ذلك؟.
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/67.
(2)
الإتقان والأحكام في شرح تحفة الحكام، دار الفكر بيروت.
(3)
التاودي: حلي المعاصم لبنت فكر ابن عاصم: 2/66، بهامش شرح البهجة.
سئل الإمام المازري عن هذه المسألة فأجاب: اختلف المذهب في المشتري إذا أقال البائع من أرضه، واشترط عليه في الإقالة أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن الأول هل للمشتري شرطه متى وقع. أو لا يكون له شرط، والإقالة فاسدة والبيع فوت لها؟.
ففي العتبية: إثبات الشرط للمقيل عند حدوث البيع في الإقالة لأنها معروف، والمشهور من المذهب فسادها لما في ذلك من التحجير، وهي بيع من البيوع، فإن نزلت فسخت الإقالة، وإن طال ذلك وفاتت الأرض بالبيع مضى البيع وفاتت الإقالة به لأنه صحيح (1) .
وقرر التسولي المسألة على الوجه التالي: إن باع عقب الإقالة أو بالقرب منها فالبائع على شرطه، وإن باع بعد طول أو لوجود داع من الدواعي إلى البيع مضى البيع. وبتقرير المسألة على هذا الوجه احتج خليل في شرحه على جامع الأمهات الموسوم بالتوضيح على أن المرأة إذا وضعت شيئًا من صداقها خوف طلاقها فإن طلقها بالقرب رجعت بما وضعت وإلا فلا كمن باع عقب الإقالة
…
إلخ ومثل قول خليل لابن عبد السلام، والمتعارف أنه لا يقع الاحتجاج بالمختلف فيه فكأن خليلًا وابن عبد السلام نزلا القول بالمنع وهو الذي شهره الإمام المازري - منزلة العدم ولو كان مشهورًا ما صح لهما الاحتجاج.
والقول الذي نقله المازري عن العتبية ولم يشهره هو الذي في سماع محمد بن خالد ومثله لسحنون في سماعه عن ابن القاسم أيضًا، وأنه قول مالك في سماع أشهب وابن القاسم أيضًا مستدلًّا على جواز الإقالة المذكورة بمسألة الوضيعة للطلاق، وصحح استدلاله ابن رشد، ومجموع ما ذكرته يدل على رجحانيته ولذلك اقتصر عليه ابن عاصم في تحفة الحكام في مسائل التداعي والأحكام (2) . في باب الإقالة فقال:
ومشتر أقال مهما اشترطا
أخذ المبيع إن بيع تغبطا
بالثمن الأول فهو جائز
والمشتري به المبيع جائز
(3)
كما اقتصر عليه غير واحد من الموثقين ولا يخفى أن الاقتصار من طرف الفقهاء الأثبات من أمارات التشهير.
(1) أحمد الونشريسي: المعيار المعرب: 6/102، 103، طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت 1401هـ - 1981م.
(2)
تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام: ص92.
(3)
متن العاصمية: مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر بدون تاريخ: ص93.
المسألة الرابعة - هل يورث بيع الثنيا:
نقل أبو الحسن الصغير في تقييداته على المدونة عن أبي محمد صالح أن الثنيا الجائزة تورث إذا مات البائع المتطوع له بها.
وأما إذا مات المشتري وهو المتطوع بالثنيا فقد جرى في ذلك الخلاف.
1-
فقال أبو إبراهيم الورياغلي: يلزم ذلك ورثته.
2-
وقال أبو الفضل راشد: لا يلزم ذلك ورثته، واختار هذا القول أبو الحسن الصغير.
واحتج الورياغلي على ما ذهب إليه بما نقله ابن يونس عن الموازية في الذي يقول لجاريته: إن جئتني بألف درهم فأنت حرة فمات أن العتق يلزم ورثته إن جاءتهم بألف.
ورد أبو الحسن الصغير ما احتج به الورياغلي بأنه لا حجة فيه لأن هذه قطاعة وهي من ناحية الكتابة وهي لازمة، وفي المستخرجة للعتبي أن العتق لا يلزمهم كما دعم ما اختاره بما ذكره ابن الهندي فيمن باع سلعة إلى أجل على أن يبقى الدين إلى أجله وإن فلس المطلوب أو مات، فمات المطلوب ثم مات الطالب بعده، أن ورثة الطالب لا يلزمهم التأخير وهو يدل على أن الثنيا لا تلزم ورثة المشتري وقد صرح عجوز المذهب ابن رشد بأن الثنيا إذا كانت على الطوع فهي من المعروف والمعروف يبطل بالموت والفلس (1) .
وهذا كله في الثنيا الجائزة كما ذكرت ذلك في أول هذا المبحث وأما الفاسدة فيفسخ البيع كما تقدم.
وإلى هذه المسألة أشار محمد بن أحمد ميارة الفاسي في بستان فكر المهج في تذييل المنهج بقوله:
إن مات بائع بثنيا انتقلت
لوارث والعكس قالوا بطلت
إذ بائع فيه كموهوب له
ومشتر كواهب ع أصله
وذاك في الطوع بها أما إذا
كانت بشرط الفساد انبذا
(1) الحطاب: تحرير الكلام في مسائل الالتزام، بتصرف: 245، 246.
المبحث الرابع
بيع العهدة عند الشافعية
وهو ما سماه الحنفية بيع الوفاء وسماه المالكية بيع الثنيا ما حكمه عند الشافعية؟
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية نقلًا عن بغية المسترشدين بتصرف ما نصه: بيع العهدة صحيح جائز وتثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به ولم أر من صرح بكراهته وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من علماء الإسلام مع أنه ليس من مذهب الشافعي وإنما اختاره ولفقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه (1) .
ولعل ذلك يرجع إلى ما أسلفت الكلام عليه في التمهيد من أن الشافعي يرى جواز الذرائع في بيوع الآجال ولا يهتم بالنيات والمقاصد.
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية 9/261، نقلًا عن بغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأيمة من العلماء المتأخرين، لعبد الرحمن باعلوي مفتي الديار الحضرمية. وقد رأيت في فهارس مكتبة الأستاذ إمام سيدي محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله رسالة منسوبة إلى الحافظ السيوطي في بيع الوفاء ولم أتمكن من الاطلاع عليها لأني رأيتها متأخرًا.
المبحث الخامس
بيع الأمانة عند الحنابلة
المقرر عند الحنابلة منعه قال منصور بن يونس البهوتي في كتابه كشاف القناع عن متن الإقناع: بيع الأمانة وهو الذي مضمونه اتفاق البائع مع المشتري على أنه متى جاءه بالثمن أعاد إليه ما اشتراه منه.
وهو عقد باطل بكل حال إذ المقصود منه إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل، ومنفعة الدار أو نحوها هي الربح فهو في المعنى قرض بعوض.
والواجب رد المبيع إلى البائع، ورد البائع إلى المشتري ما قبضه منه كما يرد المشتري ما قبضه أجرة للدار وإن كان هو الذي سكن فيها حسب عليه أجرة المثل فتحصل المقاصة بقدر أجرة المثل ويرد الفضل (1) .
وسئل العلامة ابن تيمية عن رجل باع زوجته دارًا بيع أمانة بأربعمائة درهم وقد استوفت الدراهم من الأجرة، فهل يجوز لها أخذ شيء آخر وقد أخذت الأربعمائة فهل يحرم عليها؟.
فأجاب: الحمد لله وحده المقصود بهذا وأمثاله أن يعطيه المال ويستغل العقار عن منفعة المال فما دام المال في ذمة الآخذ فإنه يستغل العقار، وإذا رد عليه المال أخذ العقار، وهذا على هذا الوجه لا يجوز باتفاق المسلمين، وإن قصد ذلك وأظهر صورة بيع لم يجز على أصح قولي العلماء أيضًا، ومن صحح ذلك فلا أرى أن يكون بيعه شرعيًّا فإذا شرط أنه إذا جاء بالثمن أعاد إليه العقار كان هذا بيعًا باطلًا، والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له في أصح قولي العلماء.
وحينئذ فما حصل للمرأة من الأجرة بعد أن علمت التحريم تحسبه من رأس المال وما قبضته قبل ذلك فهو على الخلاف المذكور.
وإن اصطلحا على ذلك فهو أحسن، وما قبضته بعقد مختلف تعتقد صحته لم يجب عليها رده في أصح القولين (2) .
(1) 3/149، 150، طبعة عالم الكتب، بيروت 1403 هـ - 1983م.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/395، مكتبة المعارف، الرباط المغرب.
المبحث السادس
بيع الرهن عند الإباضية الوهبية هو بيع الوفاء
ذكر الشيخ أطفيش في شرح كتاب النيل وشفاء العليل تجويز بعض الفقهاء بيع مقام الرهن وهبة مقام الرهن كما ذكر أن شيوخ جادو قالوا بهذا القول وأقاموا البيع والهبة مقام الرهن وإنما أقيما مقام الرهن ليكون للشيء المبيع أو الموهوب أجل كالرهن، وإنما جعلوه بيعًا أو هبة لينتفع به المرتهن، ويحتمل أن المراد بهذا البيع هو البيع المسمى عند غيرنا بيع العهدة وبيع الوفاء، وببيع وإقالة، ولهم عهدة ووفاء وبيع وإقالة فلا بناء على دين فيكون على أجله بل بيع مستقل (1) .
محيي الدين قادي
(1) 11/119، طبعة مكتبة الإرشاد، جدة المملكة العربية السعودية 1405هـ - 1985م.