الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الوفاء عند الإمامية
إعداد
حجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
بيع الوفاء هو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه.
ومن أسمائه: بيع الثنيا عند المالكية، وبيع العهدة عند الشافعية، وبيع الأمانة عند الحنابلة، وبيع المعاملة عند بعض الحنفية.. وكذلك سمي بيع الطاعة وبيع الجائز، أما عند الإمامية فيسمى (البيع بشرط الخيار) ، وربما ذكرت له أسماء أخرى (1) .
ما استقر عليه الرأي عند بعض المذاهب:
كان السائد قديمًا فساد هذا البيع عند علماء المذاهب الأربعة باعتبارات ذكرت الموسوعة الفقهية منها ما يلي:
الأول: أن من شروط صحة الشرط أن لا يخالف مقتضى العقد وعقد البيع يقتضي ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام.
الثاني: أن في هذا الشرط منفعة للبائع ولم يرد دليل معين يدل على جوازه.
الثالث: أن البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم.
وذهب بعض المتأخرين من الحنفية وكذلك بعض الشافعية إلى جواز ذلك لأن البيع بهذا الشرط قام عليه العرف فرارًا من الربا وهو صحيح وإن كان مخالفًا للقواعد لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع (2) .
واعتبره أبو شجاع وعلي السعدي والقاضي أبو الحسن الماتريدي من الحنفية: من عقد الرهن ورتبوا عليه كل أحكام الرهن بحجة أن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني ولهذا كانت الهبة بشرط العوض بيعًا.
(1) الموسوعة الفقهية: 9/240.
(2)
الموسوعة نقلًا عن تبيين الحقائق للزيلعي: 5/182؛ والبحر الرائق: 4/8؛ والفتاوى الهندية: 3/208، 209؛ وابن عابدين: 2/224 - 227؛ ومغني المحتاج: 2/31؛ ونهاية المحتاج: 3/233؛ وبغية المسترشدين: ص133؛ والإقناع: 3/85.
أما ما استقر عليه الرأي - كما نقل - لدى الحنفية فهو أنه عقد جديد - كما يعبر الأستاذ الزرقاء في بحثه المقدم للمجمع ليس بيعًا صحيحًا من كل وجه ولا بيعًا فاسدًا من كل وجه ولا رهنًا من كل وجه بل فيه شبه بها جميعًا ولذا قرروا إعطاءه حكمًا من كل منها:
فأعطي من أحكام البيع المطلق الصحيح أن للمشتري حق الانتفاع به واستغلاله دون حاجة إلى إذن البائع بل بمقتضى العقد.
- وأعطي من أحكام البيع الفاسد أنه عقد جائز للطرفين.
- وأعطي من أحكام الرهن أنه لا يجوز للمشتري بيعه لأنه شرط رده على البائع متى أعاد له الثمن وأحكام أساسية أخرى.
وقد استقر رأي الحنفية على هذا حتى قال صاحب البحر الرائق: وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع، وفي النهر: والعمل في ديارنا على ما رجحه الزيلعي (1) .
وقفة قصيرة عند الأدلة:
وقبل المضي في البحث لا بد من وقفة قصيرة عند الأدلة التي سيقت للفساد أو الجواز.
أما بالنسبة لأدلة الفساد فقد ذكر منها أن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد فما هو الموقف هنا؟
من الواضح أن سر المشكلة في هذا العقد هو وجود شرط (الرد عند الرد) في هذا العقد ولذا كان من الطبيعي أن نرجع إلى قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) وأحكامها المتفرعة لنحدد الموقف من هذا الشرط.
وهذه القاعدة لا يختلف حولها العلماء بعد أن جاءت النصوص المؤكدة لها وهي في كمال الوقوف والاعتبار.
(1) الموسوعة نقلًا عن ابن عابدين: 2/224 - 227 بولاق.
على أن الشروط ضمن العقود هي من توابعها وحينئذ يشملها دليل وجوب الوفاء - كما هو الظاهر - أما ما قيل من أن العقود هي نفس المعاهدة الواقعة بين الطرفين دون النظر للالتزامات الأخرى فلا يبدو أمرًا مستساغًا عرفًا وإنما ينظر العرف إلى مجموع الالتزامات ويرى شمول دليل الوفاء لها خصوصًا بعد تفسير العقود بالعهود.
وهنا نقول أنهم اشترطوا أن لا يكون الشرط مخالفًا لمقتضى العقد وذلك باعتبار أن شمول دليل الوفاء لمثل هذه الحالة غير ممكن لوجود مقطعين متنافيين تمامًا في هذا المضمون الذي يراد الوفاء به ولا يمكن أن يقصد العقلاء مضمونين متناقضين في آن واحد.
وهذا إنما يقتصر على التنافي بين الشرط ومقتضى ذات العقد.
أما لو كان الشرط منافيًا لإطلاق العقد مثلًا فالعقد حينئذ يبدأ مقيدًا ولا معنى لتصور التنافي فيه مطلقًا فيشمله دليل الوفاء بشكل طبيعي ودون أية عقبة ولتوضيح الأمر نقول:
أن المنافاة لمقتضى العقد يمكن أن تتصور على أنحاء:
(أ) أن يكون هناك تناف بين الشرط ومضمون العقد بالمعنى المصدري وهو مثلًا التمليك في البيع.
فلو قال: بعتك هذه العين بشرط أن لا يتحقق هذا التمليك فهذا يعني وجود تناقض في المضمون وطبيعي أن هذا أمر باطل.
(ب) أن يكون الشرط منافيًا لكل آثار العقد كأن يقول: بعتك هذا شريطة أن لا تتصرف به مطلقًا وهذا يكاد يرجع إلى الوجه السابق.
(ج) أن يكون الشرط منافيًا لأهم الآثار المنظورة في العقد بحيث يكون النظر أولًا إلى هذا الأثر كأن يشترط في عقد الزواج أن لا يتم المس الجنسي طوال حياة الزوجين.
وهنا قد يقال: إن الفهم العرفي يرى المنافاة والتناقض وإن لم يكن ذلك بالنظر الدقيق فحكمه حكم الوجوه السابقة ولكن يمكن القول بصحة هذا الشرط إذا افترضنا أن النظر الحقيقي في العقد منصب على باقي الآثار كجواز النظر في مثالنا والتعاشر تحت سقف واحد اللهم إلا أن يقال بأنه شرط مخالف للكتاب والسنة وهو أمر فيه نظر.
(د) أن يكون التنافي لبعض الآثار العرفية للعقد وهنا نكرر ما قلناه إن التنافي هنا ليس بين ذات العقد والشرط بل هو بين الشرط وإطلاق العقد، ولكن وجود الشرط منذ البداية يرفع الإطلاق (بالمعنى الأعم) فيولد العقد مشروطًا لا مطلقًا ولا يبقى تناف في البين وتشمله أدلة الوفاء - إن لم يكن هناك مانع آخر.
(هـ) أن يكون التنافي بين الشرط وبعض الآثار الشرعية للعقد بمعنى الاسم المصدري كاشتراط الزوجة كون السكنى باختيارها فلا مانع منه إلا أن يكون هناك مانع آخر كأن يكون ذلك من الحقوق غير القابلة للإسقاط كأن يشترط الزوج على الزوجة التنازل عن ليلتها لو قلنا بذلك وأمثال ذلك.
وهنا نعود إلى شرطنا المبتلى به وهو شرط الرد عند الرد لنبحث عن كونه مصداقًا لأي من الوجوه الماضية.
لا ريب في أنه لا ينافي مقتضى ذات العقد لأن التمليك حاصل يقصد البيع حقيقة ولا نستطيع أن ننوب عن المتعاقدين في تفسير ألفاظهما بعد أن كانا قاصدين حقيقة للبيع ومستعدين لترتيب ما يترتب عليه من آثار ولكن في حدود معينة متفق عليها فلا معنى إذن لجعله رهنًا لأنه يقوم مقامه أو اعتباره عملية ربوية لأنه يؤدي مؤداها وإلا لكان علينا أن نسد الباب على كل فار من الربا الحرام إلى كل عقد صحيح يؤدي بالتالي إلى نفس النتائج وهذا منحى خطير فهل نمنعه من المضاربة مثلًا إذا كانت تؤدي إلى نفس النتائج؟
نعم لو اشترط في هذا العقد شروطًا تؤدي في الواقع إلى نفس الالتزام بأي أثر من آثار البيع وتحول العملية إلى قرض معقد كما تفعله بعض البنوك التي تحاول الفرار من الربا فهذا أمر يرفضه العرف ويجعله من مصاديق الربا وللعرف حقه في تشخيص المصاديق للأدلة الشرعية كما مر لنا بحث في اجتماع سابق لمجمع الفقه في هذا الصدد كما أنه لا ينافي كل آثار العقد، وكذلك فهو لا ينافي الأثر المنظور بالتركيز العرفي وهو التمليك وترتيب آثار الملك إجمالًا.
نعم لا يبقى لدينا إلا المنافاة لإطلاق العقد في ترتيب كل آثار التمليك وقد رأينا عدم الضرر في ذلك.
ومن هنا فنحن نرى أن هذا الشرط في نفسه صحيح لا غبار عليه.
- على أن هناك بحثًا مفصلًا في أداء الشرط الفاسد إلى فساد العقد لا مجال لنا هنا لطرحه وإنما نقول إجمالًا أن هذا الشرط لما كان محط النظر للمتعاقدين فلو فسد فإن المرجح هو فساد العقد.
أما بالنسبة للأدلة التي ذكرت للمجيزين ففيها نظر أيضًا.
فقد ذكروا أن هذا العقد رغم مخالفته للقواعد لكنه لما قام عليه العرف والتعامل خرجنا عن مقتضى القاعدة فيه كعقد الاستصناع فهذا أمر فيه نظر كثير.
إذ كيف يسوغ لنا أن نخرج عن القواعد الشرعية المقررة لمجرد حصول التعامل العرفي به؟.
إننا لا نستطيع أن نخرج عن القواعد الشرعية إلا بدليل شرعي فما هو الدليل الشرعي المذكور هنا؟
إنه العرف وقد ذكرنا أن العرف ليس دليلًا شرعيًّا قائمًا برأسه وإلَّا لما احتجنا إلى الشريعة وإنما العرف يمكنه أن يشخص لنا مصاديق الأدلة ومداليل الألفاظ ومرادات المتكلمين كما يمكنه أن يكشف لنا عن إمضاء الشارع المعصوم للقاعدة الأصولية كالاستصحاب أو الحكم الفرعي شريطة أن يمتد إلى عصر المعصوم فيكون عرفًا عامًّا في زمانه ومن خلال عدم نهيه عنه يكتسب مشروعية التقرير طبعًا مع التأكد من كل هذه الأمور أي الامتداد إلى ذلك العصر حتمًا وعدم صدور النهي قطعًا.
كما هو الحال في عقد الاستصناع - كما يدعى - وهذا أمر يختلف عن الحال في عقد نشك في امتداده إلى ذلك العصر بل يقال أنه ظهر أول ما ظهر في القرن الخامس الهجري في مدينة بلخ وهو أمر مرفوض خصوصًا إذا لاحظنا الروايات الآتية عن أهل البيت (ع) وعلى أي حال فإننا لا نستطيع تحكيم العرف هنا والخروج فيه عن القواعد والقوانين الشرعية.
أما بالنسبة لما استقر عليه الرأي والذي عبر عنه الأستاذ الزرقاء بالبيع الجديد المشابه (للبيع الصحيح والفاسد والرهن) . كما عبرت عنه الموسوعة بأنه (مركب من العقود الثلاثة كالزرافة فيها صفة البعير والبقرة والنمر) . فهو أيضًا لم نستطع أن نتبين الوجه في تصحيحه. إذ أننا تارة نحاول التشبيه وأخرى نحاول التماس الدليل الشرعي للحكم الشرعي الذي نريد استنباطه. وهل يكفي مجرد الشبه لنقل حكم من المشبه به إلى المشبه؟
كما أن وجود عنصر فاسد - وهو المفروض لديهم - في هذا العقد يفسد المجموع - كما مر ذلك. ولا نستطيع بعد هذا أن نجيز شمول أدلة الوفاء لمثل هذا العقد والحال هذه.
ولذا رأينا الأستاذ الزرقاء يكتفي بنقل القول دون تأييده بل رأينا أبا شجاع والسعدي والماتريدي يعدلون عن هذا الرأي ويلجأون إلى تصحيحه باعتباره عقد رهن كامل وبالتالي يمنحونه كل أحكام الرهن وهذا أيضًا لم نر له وجهًا بعد أن لم يقصده المتعاقدان مطلقًا ومع هذا فلا مجال لفرض ضرورة الالتزام به كقول جامع وعدم تسويغ الخروج عليه.
ولا ننسى أن نشير إلى من جوزه لحاجة الناس إليه فلا نرى ذلك أيضًا دليلًا مسوغًا اللهم إلا أن يتحول إلى ضرورة وللضرورات أحكامها وليس الأمر كذلك.
إشكال الغرر:
ولو بقينا نحن والقواعد الأولية وقبل الرجوع إلى أي دليل آخر خاص بهذا المورد فإن هناك إشكالًا عامًّا قد يطرح على صور هذا العقد وهو إشكال الغرر وهو ما لم أُلاحظه في كتب المتقدمين وإنما ذكره الإمام الخميني رحمه الله في كتاب البيع وناقشه بالتفصيل (1) فمهما صورنا هذا الشرط من قبيل:
(أ) أن يكون الشرط هو الخيار المتقيد برد الثمن.
(ب) أن يؤخذ الرد فسخًا فعليًّا.
(ج) أن يشترط انفساخ العقد حال رد الثمن من قبيل شرط النتيجة ولا مانع من ذلك.
(د) أن يشترط الإقالة أو البيع الجديد أو نقل المبيع إليه (وستأتي الإشارة إلى هذه الصور في بحث الفروع) .
نعم في كل هذه الصور يبدو أن الجهالة حاصلة والغرر قائم فلا يعلم متى يتحقق رد الثمن ليتم رد المثمن.
نعم لو تم تحديد زمان الرد بالتعيين ارتفع الغرر.
أما لو أطلق الأمر واشترط الرد عند الرد خلال هذه المدة الممتدة فهل يتحقق الغرر لأن المعلق عليه مجهول من حيث مدة حصوله؟
والذي يبدو أن الغرر بهذا المقدار لا يضر عرفًا شريطة أن لا تخرج المدة المضروبة عن الحدود المتعارفة بحيث لا يصدق في التصور العرفي حصول غرر رغم كثرة البدائل فما أكثر ما يمنح العرف الفرصة لتحقق الشروط دون أن يتصور أن هناك جهلًا وغررًا في البين وبهذا دفعنا إشكال الغرر في عقد الضمان بعد توفر تحديدات للأقساط والمدد وأمثال ذلك.
ولهذا أيضًا نجد المعارضين له لا يشيرون إلى عنصر الغرر هذا باعتباره مغتفرًا بهذا المقدار.
(1) البيع للإمام الخميني، الجزء الرابع: ص223.
بيع الوفاء عند الإمامية:
والملاحظ أنهم فرغوا عن كونه بيعًا وإنما ركزوا على شرط الخيار ولذلك بحثوه غالبًا في بحث (الخيارات) وفي مبحث خيار الشرط بالتحديد كما ذكره صاحب (الغنية) في أمثلة الشروط الجائزة.
فهو إذن بيع خالص تنتقل فيه العين بكل تبعاتها وحقوقها إلى المشتري والثمن بكل توابعه إلى البائع إلا أن هناك شرطًا للرد عند الرد يلتزم به الطرفان كما سيتوضح فيما يلي:
حكم بيع الوفاء وفق القواعد العامة:
وهو المنهج الذي يتبعه فقهاء الإمامية المتأخرون عندما يبحثون أي مسألة فإنهم يطرحونها أولًا على ضوء القواعد العامة فإذا كانت النتيجة إيجابية اعتبرت النصوص الواردة في هذا المورد الخاص تأكيدًا وتطبيقًا لتلك القواعد أما إذا كانت سلبية اعتبرت النصوص الخاصة استثناء، ولذا يؤخذ من الاستثناء خصوص ما تم القطع بخروجه عن القواعد العامة ويرجع في الباقي إليها، على تفصيلات دقيقة تراجع في مظانها.
وقد ذكرنا أنهم لم يناقشوا في كونه بيعًا تنطبق عليه كل صفات عقد البيع وبالتالي تشمله أدلة الوفاء بالعقود من هذه الجهة.
كما أنهم لم يروا في هذا الشرط أية مخالفة لمقتضى العقد بل هم لم يبحثوا هذه المسألة لوضوحها لديهم وإنما ركزوا على مسائله الفرعية فقط دون المساس بأصل المشروعية.
فهذا العلامة الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر يقول: (وكذا يجوز اشتراط الخيار مدة معينة - لا مجهولة ولا مطلقة - بشرط أن يرد البائع فيها الثمن ويرتجع بالمبيع إن شاء إجماعًا في أصل المسألة
…
ونصوصًا عمومًا وخصوصًا) (1) .
فهو يرى أن النصوص العامة وهي أساس من أسس مشروعية هذه القواعد تنسجم مع هذا البيع.
ويقول الشيخ العلامة الأنصاري: (والأصل فيه بعد العمومات المتقدمة في الشرط النصوص المستفيضة)(2) والعبارة تحمل نفس المدلول.
ويقول الإمام الخميني عن هذا البيع: (وهو جائز إجمالًا بالأدلة العامة والخاصة بل عن التذكرة وغيرها الإجماع عليه)(3) .
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 23/34.
(2)
كتاب المكاسب: ص229.
(3)
البيع: 2/223.
فهو إذن بالإضافة إلى انسجامه مع الأدلة العامة يملك سند الإجماع المنقول كما تنص على صحته نصوص عن أئمة أهل البيت (ع) كما سيأتي الحديث عنها.
إلا أنه راح يذكر صور الاشتراط ويحللها ليجد ما يوافق منها القواعد العامة وما يخالفها وقد مر علينا ذلك قبل قليل ورأيناه يقبل أغلب تلك الصور على تفصيلات إلا أنه يرى أن إشكال الغرر يأتي في أكثرها فيقول:
(ثم إن إشكال الجهالة والغرر يأتي في أكثر الصور فما فيها الغرر بالوجه الذي مر بيانه تبطل على القواعد ولا بد في صحتها من التماس دليل من إجماع أو أخبار خاصة)(1) وهذا ما يستفيده هو بعد تعرضه لتلك الأخبار الخاصة حيث يقول بعد استعراضها:
(وكيف كانت تدل هذه الروايات على صحة الشرط مع الجهالة في المجعول وزمان الخيار أو زمان لزوم الرد أو الفسخ أو الانفساخ)(2) .
الأدلة الخاصة في مورد بيع الوفاء:
وهنا يذكر الإجماع المنقول والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) وقد ذكرت في الباب السابع والثامن من أبواب الخيار في كتاب وسائل الشيعة للمرحوم الشيخ الحر العاملي وعلى النحو التالي.
1-
محمد بن يعقوب عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن علي بن النعمان عن سعيد بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إنا نخالط أناسًا من أهل السواد وغيرهم فنبيعهم ونربح عليهم للعشرة اثني عشر، والعشر ثلاثة عشر ونؤخر ((نوجب)) ذلك فيما بيننا وبين السنة ونحوها ويكتب لنا الرجل على داره أو على أرضه بذلك المال الذي فيه الفضل الذي أخذ منا شراء قد باع وقبض الثمن منه فنعده إن هو جاء بالمال إلى وقت بيننا وبينه أن نرد عليه الشراء فإن جاء الوقت ولم يأتنا بالدراهم فهو لنا فما ترى في الشراء؟ فقال: أرى أنه لك إن لم يفعل وإن جاء بالمال للوقت فرد عليه.
وروى هذا الحديث الشيخ الصدوق بإسناده عن سعيد بن يسار ورواه الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن علي بن النعمان وعثمان بن عيسى جميعًا عن سعيد بن يسار.
2-
محمد بن يعقوب عن أبي علي الأشعري عن فضالة عن أبان بن عثمان عن أبي الجارود عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام (وفي نسخة أخرى عن أبي عبد الله الصادق) قال: إن بعت رجلًا على شرط فإن أتاك بمالك وإلا فالبيع لك.
(1) البيع للإمام الخميني: ص 224.
(2)
البيع للإمام الخميني: ص224.
3-
محمد بن الحسن (الطوسي) بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان، عن إسحاق بن عمار قال: حدثني من سمع أبا عبد الله عليه السلام وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه وتكون لك أحب إليَّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن ترد علي فقال: لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه. قلت: فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة لمن تكون الغلة؟ فقال: الغلة للمشتري، ألا ترى أنه لو احترقت لكانت من ماله.
وروى هذا الحديث الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام.
ورواه الشيخ الكليني رحمه الله عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين عن صفوان.
4-
وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن أبي بشر (وفي نسخة أخرى: بشير) عن معاوية بن ميسرة قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل باع دارًا له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر فشرط إنك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله، قال له: شرطه، قال أبو الجارود: فإن ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين قال: هو ماله. وقال أبو عبد الله عليه السلام : أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت تكون، الدار دار المشتري (1) .
5-
ويضاف إليها رواية جاءت في كتاب دعائم الإسلام عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه سئل عن رجل باع داره على شرط أنه إن جاء بثمنها إلى سنة أن يرد عليه قال: لا بأس بهذا وهو على شرطه)(2) .
وتشكل هذه الروايات محور البحث في الفروع التي طرحت في هذه المسألة وهي متشعبة نذكر هنا بعضها ثم نعقب ذلك بخاتمة.
(1) تراجع كل هذه الروايات في كتاب وسائل الشيعة: 4/352 - 354.
(2)
مستدرك الوسائل الباب 4- من أبواب الخيار الحديث 1.
الفرع الأول
صور الاشتراك ومدى انسجامها مع القواعد العامة
وقد ذكروا له صورًا كما يلي:
الصورة الأولى:
أن يكون الشرط هو الخيار المقيد برد الثمن بمعنى أنه يجعل منذ البدء مضيقًا وحينئذ فله الخيار (بهذا القيد) طول الوقت المعين.
(وهذا لا إشكال في صحته لعدم التعليق فيه وعدم الجهالة في الجعل والمجعول، والجهل بوقت الأداء خارج عن محط الجعل نظير الجهل بأعمال خيار الشرط إذا جعل ثلاثة أيام)(1) .
الصورة الثانية:
أن يعلق الخيار على رد الثمن في الوقت المعين فلا يثبت إلا بعد تحقق المعلق عليه وحينئذ فلا خيار قبل تحقق الرد وتكون مدة الخيار منفصلة دائمًا عن العقد كما يرى الشيخ الأنصاري في حين يرى الإمام أنه ثابت في كل المدة لأن المعلق عليه ليس قيدًا ولا إشكال فيه سوى التعليق وهو غير مضر لعدم الدليل على بطلانه شرعًا، أما إشكال الغرر فقد تقدم الحديث عنه.
الصورة الثالثة:
أن يؤخذ الرد قيدًا للفسخ بمعنى أن له الخيار طوال المدة المعينة على وجه يقارن الرد أو يتأخر عنه ولا مانع منها.
الصورة الرابعة:
أن يعتبر الرد فسخًا فعليًّا وقد ذكر الشيخ الأنصاري أن صاحب الرياض اعتبر هذه الصورة هي الظاهرة من الأخبار.
(1) البيع: 6/223.
الصورة الخامسة:
أن يشترط انفساخ العقد حال رد الثمن فيكون هذا من قبيل شرط النتيجة وقد اعتبرها الشيخ الأنصاري هي الظاهر من رواية معاوية بن ميسرة المتقدمة وهي الصورة التي يبدو أن صاحب الغنية ركز عليها حيث أنه لم يذكر هذا القسم في الخيار وإنما ذكره في أمثلة الشروط الجائزة في متن العقد قائلًا: (أن يبيع ويشترط على المشتري إن رد الثمن عليه في وقت كذا كان المبيع له)(1) .
هذا وقد أشكل عليها بإشكالين.
الأول: أن شرط النتيجة غير صحيح.
الثاني: أنه يعني اقتضاء الشيء عدم فسخه أو انفساخ العقد بلا سبب. أما الإشكال الأول فيقال في توضيحه أن الاشتراط يعني تمليك الشرط للمشروط له تمامًا كما في شرط الفعل والنتائج لا تقبل الإضافة إلى مالك.
ولكنه غير صحيح فالحقيقة هي أن هناك التزامًا من البائع بالفعل أو بالنتيجة ولا مانع في ذلك.
وأما الثاني فيقال في جوابه أن سبب الانفساخ هو الشرط نفسه وليس العقد.
الصورة السادسة:
أن يشترط البائع على المشتري أن يقيله أو يبيعه من جديد أو ينقل المبيع إليه عند رد الثمن وهو الاستظهار الوارد في كتاب الوسيلة حيث قال: (إذا باع شيئًا على أن يقيله في وقت كذا بمثل الثمن الذي باعه لزمته الإقالة إذا جاءه بمثل الثمن في المدة) .
ولا مانع من هذه الصورة أيضًا.
ما يستفاد من الروايات الآنفة:
أما رواية إسحاق بن عمار فهي تحتمل كل هذه الصور وكذلك رواية سعيد بن يسار في حين أن رواية معاوية بن ميسرة الظاهر من لفظها شرط النتيجة (فالدار دارك) ولكنها كلها تحتمل الوجوه الماضية إما مباشرة أو بالكناية.
(1) مكاسب الشيخ الأنصاري: ص230، عنه.
الفرع الثاني
هل يكفي مجرد الرد في الفسخ؟
قيل: أن ظاهر عبارات العلماء هي أن مجرد رد الثمن ليس قاطعًا للبيع.
ذلك أن الذي يتبع الرد هو الخيار لا انقطاع البيع ولا ينفسخ البيع معه إلا بالفسخ وليس الرد بنفسه فسخًا لأنه لا يدل عليه وإن كان علامة على الإرادة والإرادة غير المراد.
ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري يقول: (أما لو فرض الدلالة عرفًا إما بأن يفهم منه كونه تمليكًا للثمن من المشتري ليتملك منه المبيع على وجه المعاطاة وإما بأن يدل الرد بنفسه على الرضا بكون المبيع ملكًا له والثمن ملكًا للمشتري فلا وجه لعدم الكفاية لاعترافهم بتحقق الفسخ فيما هو أخفى من ذلك دلالة وما قيل من أن الرد يدل على إرادة الفسخ والإرادة غير المراد ففيه أن المدعي دلالته على إرادة كون المبيع ملكًا له والثمن ملكًا للمشتري ولا يعتبر في الفسخ الفعلي أزيد من هذا مع أن ظاهر الأخبار كفاية الرد في وجوب رد المبيع بل قد عرفت في رواية معاوية بن ميسرة حصول تملك المبيع برد الثمن فيحمل على تحقق الفسخ الفعلي به)(1) .
وخلاصة كلامه: أنه لا مانع من أن يدل الرد دلالة عرفية على الفسخ وعندئذ يكفي في انقطاع البيع.
وقد استظهر من الروايات الماضية كفاية الرد بل إن رواية معاوية صريحة في ذلك.
في حين أن الإمام الخميني أكد أن الظاهر هو ما يقوله الأصحاب فالرد يتبعه الخيار لا الانقطاع وهو ما نستظهره أيضًا.
نعم لو نص في العقد على أن يكون الرد فسخًا فلا إشكال في ذلك.
(1) المكاسب: ص230.
الفرع الثالث
هل يسقط الخيار بإسقاطه بعد العقد وقبل تحقق الرد؟
يرى الشيخ الأنصاري ذلك وقد ذكرت لتوجيه هذا الرأي وجوه وتعبيرات:
الأول: أن تحقق العقد يعني تحقق سبب الخيار وهو كاف في صحة إسقاط الحق.
الثاني: أن المشروط له مالك للخيار قبل الرد ولو من حيث تملكه للرد الموجب له فله إسقاطه.
الثالث: أن الإسقاط هو على نحو الواجب المشروط (أي المعلق وجوبه على شيء دخيل في أصل ملاكه كالاستطاعة بالنسبة للحج) .
فيكون السقوط (وهو أثر الإسقاط) بعد تحقق الخيار بتحقق الرد.
ويزاد على هذا فيقال أن العلاقة بين الإسقاط والسقوط الاعتباريين ليست كمثلهما في الأمور التكوينية وهنا يرى العقلاء أن هناك وجودًا إنشائيًّا ممتدًّا للإسقاط يستمر حتى يتحقق الرد وبالتالي يتحقق الخيار فيتم بإسقاطه.
الرابع: أن البائع يملك الرد كحق من حقوقه فيصح له أن يسقط حق الرد فيسقط معه الخيار هذا بعض ما يمكن أن يؤيد به نفوذ الإسقاط وأداؤه للسقوط إلا أن الإمام يرد على كل هذه الوجوه.
أما الأول: فيقول فيه أن تحقق السبب وهو العقد لا يخرج الإسقاط عن كونه إسقاطًا لما هو غير حاصل.
وأما الثاني: فيرى فيه أنه صحيح من حيث الإمكان إلا أننا بحاجة لإثبات وجود سلوك عقلاني يقضي ببقاء مثل هذا الإسقاط حتى يتحقق موضوعه فينفذ، وأن يتوفر هذا السلوك في عصر المعصوم عليه السلام فيمضيه ولو بعدم الردع عنه وهو أمر مشكوك التحقق آنذاك.
وأما الثالث: فيقول فيه أنه ليس مالكًا إلا على سبيل التجوز وهو لا يكفي للإسقاط المنجز.
وأما الرابع: فيرى أن كونه من الحقوق دعوى بلا بينة ويكفي بقاء الخيار بعد الإسقاط للشك في تأثيره بل يستظهر أنه ليس من الحقوق.
هذا ما أفاده رحمه الله (1) .
(1) البيع: 2/235 - 237.
الرأي الراجح:
والذي يرجح في النظر هو الإسقاط بالإسقاط والتعبير الثاني رغم كونه مجازيًّا فهو حالة عرفية يلاحظها العرف بأدنى نظر ويراه مالكًا عبر تملكه لسبب الخيار دون مؤونة تذكر فهو دليل محكم.
وكذلك الوجه الثالث باعتبار أن المرتكز في العرف في نظائر هذه المعاملات هو كذلك وقد قبل الإمام نفسه نظير ذلك في تصحيح بيع الفضولي وغيره بل قد قبل جريان الفضولية في الإيقاعات لولا الإجماع على عدمه.
فهذا هو مرتكز العرف في المعاملات وهذا المرتكز نفسه ممضى من الشارع والإلجاء النهي عنه.
وكذلك أيضًا الوجه الرابع فلا ريب في أن من حقوقه أن يشترط الخيار بمقتضى سلطنته فهي حقوق مترتبة على الملكية كما أن من حقوقه نتيجة التعامل أن يكتسب الخيار بالرد وهو بالتالي يملك إسقاط هذا الحق (والله أعلم) .
الفرع الرابع
ما هو الموقف لو كان المردود من غير جنس الثمن
أو فاقدًا للقيد المعتبر كأن يكون معيبًا والمطلوب أن يكون صحيحًا
(ولو لأجل انصراف الإطلاق إلى قيد الصحة) ؟
قيل: بالتفصيل بين المردود من غير جنس الثمن والمردود الذي ظهر معيبًا أو فاقدًا لوصف معتبر فيه فلا يتحقق في الأول ويتحقق في الثاني مع ثبوت حق المطالبة بالاستبدال. وقد قيس هذا على باب البيع إذا وقع على غير الجنس بعنوان الجنس أو على المعيب بعنوان الصحيح حيث يبطل في الأول ويصح في الثاني مع ثبوت خيار تخلف الوصف وكذا لو وقع على الكلي في الذمة وتم أداء الفاقد للوصف المذكور في ذلك الكلي حيث إن للمشتري قبوله وإسقاط الوصف.
وقيل: أنه لم يتحقق الرد في كلتا الحالتين لعدم تحقق المعلق عليه (بل لو رضي الطرف به أيضًا لم يثبت لأن المفروض أن الصحة شرط ولا ينقلب عما هو عليه بتراضيهما)(1) .
أما القياس ففي غير محله لأن قياس المورد على البيع الشخصي فهو مع الفارق إذ البيع وقع على الشخص، وتخلف الوصف لا يوجب تخلف البيع في حين وقع الخيار على رد الشيء الموصوف ومع فقدان الوصف يتخلف الرد فلا يثبت الخيار وأما القياس على الكلي الموصوف فهو أيضًا مع الفارق لأنه لا ينطبق أصلًا على فاقد الوصف.
إلا أن الظاهر أن القول بالتفصيل له وجه وجيه.
فصحيح أن الرد إنما هو للشيء الموصوف ولكنه منصب أولًا وبالذات على الشيء ويعتبر ردًّا حقيقة وإن كان للمشتري حق المطالبة بتحقق الوصف فإن عفى عنه كان ردًّا حقيقة في نظر العرف.
وكذا الأمر في الكلي في الذمة فالانطباق وإن لم يكن قيدًا عقليًّا ولكنه انطباق عرفي خصوصًا بعد العفو عن الوصف المتخلف.
ولذا لا نرى وجهًا عرفيًّا للقول بعدم تحقق الرد حتى بعد رضا المشتري بالعين المعطاة.
(1) البيع: 4/237.
الفرع الخامس
حكم التلف
والتلف قد يتعلق بالمبيع وقد يتعلق بالثمن، وهما أيضًا قد يقعان قبل الرد وأخرى بعد الرد فما هو حكم هذه الحالات؟
أما المبيع فإنه لو تلف قبل الرد أو بعده فهو من المشتري لأنه هو المالك عقديًّا في بيع صحيح ولذا فله نماؤه أيضًا ولكن هل يبقى الخيار؟
هناك من يرى بقاء الخيار للبائع فله أن يسترد المثل أو القيمة حينما يرد الثمن أو بدله.
وهناك من يرى سقوط الخيار باعتبار أن مصب هذا الخيار هو الإلزام بإعادة المبيع عند رد الثمن، والظاهر من هذا هو بقاء المبيع في هذا المورد فإذا تلف المبيع فلا معنى للخيار.
وهذا ما يحتمله الشيخ الأعظم في المكاسب (1) إلا أن الإمام يركز على خصوصية أخرى يختص بها بيع الخيار دون غيره (وهي معهودية رجوع نفس العين برد الثمن أم مثله فإن بيع الخيار بحسب النوع الذي يشذ خلافه إما يقع على المبيع الذي يكون لصاحبه علاقة (عاطفية) به بخصوصه بالثمن الذي هو محل احتياجه ليصرفه فيما يحتاج إليه فيبيع داره التي هي ظل رأسه وضيعته التي هي قرة عينه، وإنما يقدم على بيعها بأقل من قيمتها لأجل العلم والاطمئنان بإمكان أداء الثمن واسترجاعها ولو كان نظره إلى ماليتها لا إلى عينها لما باعها إلا بثمن المثل لتحصيل ماليتها الواقعية ولم يكن وجه لبيعها بالشرط) (2) .
والروايات المذكورة واضحة في هذا المورد كقول البائع في رواية إسحاق: (أبيعك داري هذه وتكون لك أحب إلى من أن تكون لغيرك) .
وعليه فالمراد بالدار هو خصوصها لا ماليتها.
والظاهر أنه رأي قوي لا يمكن العدول عنه ولولا هذه الخصوصية لقلنا هنا كسائر الخيارات برجوع العين بالفسخ ومع التلف يرجع إلى البدل.
هذا وقد ذكر أن التلف لو تم بعد رد الثمن فإنه سيكون مشمولًا لقاعدة (التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له) والمشتري هنا لا خيار له فالتلف منه وحينئذ تنفسخ المعاملة ولا معنى حينئذ للخيار.
(1) المكاسب: ص231.
(2)
البيع: 4/220.
وهذه القاعدة قيل (1) عنها أنها مسلمة لدى الأصحاب واستدل لها بالأخبار والإجماع المنقول ثم جاء التساؤل عما إذا كان هذا الحكم على مقتضى القواعد الأولية باعتبار أن التلف يقوم مقام الفسخ أم لا باعتبار أن المعاملة تامة وأن النقل والانتقال حاصل بالفعل رغم وجود الخيار (وهو المرجح) فتكون الروايات على خلاف القاعدة ويقتصر فيها على مواردها من خيار الحيوان والشرط ولا يمكن الخروج إلى التعميم إلا بقياس مرفوض. هذا وقد استظهر الشيخ الأعظم الأنصاري شمولها لخيار المجلس أيضًا وعلى أي حال فلا تملك هذه القاعدة العموم المطلوب لأنها غير منصوص عليها مباشرة بل هي مستخرجة من نصوص جاءت في موارد خاصة وليس فيها تعميم.
ثم إنها لو شملت المورد فالكلام الآنف يأتي هنا.
أما لو تلف الثمن الشخصي فإن كان بعد الرد وقبل الفسخ فإن قلنا بشمول القاعدة الماضية للمورد يكون التلف من المشتري باعتباره مصداقًا لمن لا يملك الخيار وإن كان ما زال ملكًا للبائع.
ولكن الإشكال في شمول القاعدة للثمن هنا قوي باعتبار أنها واردة في خصوص المبيع في الخيارات الآنفة فقط بالإضافة إلى إشكال آخر يأتي من ضم قاعدة (الخراج بالضمان) إلى الإجماع على أن النماء ما زال للبائع فالضمان عليه لا على المشتري.
فلو شملته القاعدة فمعنى ذلك تلف الثمن من المشتري وانفساخ العقد وعودة المبيع إلى البائع - وقد شككنا في الشمول - وإلا كان التلف من البائع وتأتي هنا فروض الاستبدال وإمكانه وعدمه وقد رجح الشيخ الأنصاري إمكان إرجاع البدل واسترجاع المبيع.
أما لو كان تلف الثمن قبل الرد فهل هو من البائع؟
قيل: إننا لو قلنا بوجود الخيار قبل الرد وقلنا بشمول القاعدة لهذا المورد فالحكم كذلك (أي أن التلف من المشتري وانفساخ العقد وعودة المبيع إلى البائع) إلا أن الإنصاف يقتضي أن لا نعمم القاعدة حتى إلى هذا المورد رغم قولنا بوجود ما للخيار قبل الرد باعتبار امتلاكه للرد نفسه.
وعليه فيكون التلف من البائع خصوصًا بعد ملاحظة أن النماء له وله أن يدفع البدل (على بحث في ذلك) .
(1) القواعد الفقهية، للمرحوم السيد البجنوردي: 2/109.
الفرع السادس
هل للمشتري أن يتصرف تصرفًا ناقلًا للعين؟
لا ريب في أن للبائع أن يتصرف في الثمن لأن التصرف هو المقصود بالعقد ابتداء ولو تصرف به تصرفًا ناقلًا سقط خياره على النحو المتقدم هذا إذا كان الثمن شخصيًّا طبعًا.
أما المشتري فهل يجوز له ذلك؟
هذه المسألة تدخل تحت بحث مهم طرحه علماء الإمامية في باب أحكام الخيار تحت عنوان (عدم جواز تصرف غير ذي الخيار) وقد استعرض الشيخ الأعظم في مكاسبه (1) أقوالهم بإسهاب وذكر أقوال القائلين بالمنع وتفصيلاتها ثم قال رادًّا عليها: (هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه المنع لكنه لا يخلو عن نظر فإن الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حالة تلف العينين هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد المتمكن في حالتي وجود العين وفقدها فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف (التصرف) جوازًا ومنعًا فالمرجع فيه أدلة سلطنة الناس على أموالهم ألا ترى أن حق الشفيع لا يمنع المشتري من نقل العين، ومجرد الفرق بينهما بأن الشفعة سلطنة على نقل جديد فالملك مستقر قبل الأخذ بها غاية الأمر تملك الشفيع نقله إلى نفسه بخلاف الخيار فإنها سلطنة على رفع العقد وإرجاع الملك إلى الحالة السابقة لا يؤثر في الحكم المذكور مع أن الملك في الشفعة الأولى بالتزلزل لإبطالها تصرفات المشتري اتفاقًا وأما حق الرهن فهو من حيث كونه وثيقة يدل على وجوب إبقائه وعدم السلطنة على إتلافه مضافًا إلى النص والإجماع على حرمة التصرف في الرهن مطلقًا ولو لم يكن متلفًا ولا ناقلًا
…
والحاصل أن عموم الناس مسلطون على أموالهم لم يعلم تقييده بحق يحدث لذي الخيار يزاحم به سلطنة المالك فالجواز لا يخلو عن قوة في الخيارات الأصلية.
أما بالنسبة للخيارات المجعولة بالشرط فالظاهر من اشتراطها إرادة إبقاء الملك ليسترده عند الفسخ بل الحكمة في أصل الخيار هو إبقاء السلطنة على استرداد العين) (2) .
(1) المكاسب (طبعة تبريز)، 1375هـ: ص295.
(2)
المكاسب، طبعة تبريز: ص296
وهكذا نجده رحمه الله يفرق بين الخيارات الأصيلة كخيار العيب مثلًا والخيارات المجعولة بالشرط فيجيز التصرف الناقل هناك ويرفض هنا لمنافاته لمصب التعاقد وهو الاسترداد عند الفسخ.
وهناك تفصيلات كثيرة لا يمكننا التعرض إليها إلا أننا نلاحظ تمامًا أن فقهاء الإمامية فرغوا من التمليك كما قلنا وأن العين في مثل موردنا هي ملك المشتري ولكن البحث كله في مانعية التزلزل الناشىء من وجود الخيار من القيام بمثل هذا التصرف، وليس هذا كالعين المرهونة إذ لا يجوز للمرتهن أن يتصرف بها أي تصرف لأنها ليست إلا كوثيقة على دَينِه.
وما يمكن أن يذكر هناك من المنع هو ما ذكره الشيخ الأعظم من أن مصب العقد على إبقاء العين معدة للاسترجاع بمجرد تحقق الرد وقيام البائع بالفسخ (إن لم نقل بأن الرد نفسه فسخ) وربما كان هذا منافيًا لهذا الغرض إلا أن يكون التصرف مما لا يتنافى مع ذلك كالسكنى والإجارة وخصوصًا فيما هو التعارف من الإجارة لنفس البائع بل ويمكن القول بجواز البيع مع بقاء حق الفسخ للبائع الأول متى شاء وتعود العين إليه على تفصيلات في البين.
فإذا منعنا المشتري من البيع وتخلف فباع فهناك بحث في بطلان هذا البيع وعدمه، يقول الإمام الخميني في هذا الصدد:
(ثم إنه على ما ذكرنا في بيع الخيار فاللازم منه وجوب حفظ المبيع لأنه مقتضى القرار والشرط في المقام، ولو تخلف وباعه فهل يقع باطلًا أو لا؟ وجهان مبنيان على ثبوت الحكم الوضعي في الشروط التي تتعلق بالأفعال وعدمه.
وأما ما قيل من أن وجوب العمل بالشرط يوجب تعجيز المشتري عن بيعه فلا يرجع إلى محصل فإن نفس الوجوب لا يوجب إلا الإلزام بالعمل وصيرورته موجبًا لعدم تأثير البيع (لو تخلف) أول الكلام، بل ما هو مقتضى الشرط وجوب حفظه لا حرمة بيعه فلا وجه للبطلان إلا دعوى كون وجوب الشيء مقتضيًا لحرمة ضده الخاص وكونها إرشادًا إلى البطلان وهي كما ترى باطل في باطل) (1) . وفي مجال الفتوى يقول:(وليس للمشتري قبل انقضاء المدة التصرف الناقل وإتلاف العين إن كان المشروط ارتجاعها ولا يبعد جوازهما إن كان (المشروط) السلطنة على فسخ العقد) (2) .
في حين أفتى الإمام الحكيم وتبعه الإمام الصدر بعدم الجواز مطلقًا (3) .
(1) البيع: 2/222.
(2)
تحرير الوسيلة: 2/520.
(3)
منهاج الصالحين: 2/22.
الفرع السابع
حكم الاشتراط من قبل المشتري
ذكروا أنه كما يجوز للبائع اشتراط الفسخ برد الثمن كذا يجوز للمشتري اشتراط الفسخ برد المثمن.
ولو أطلق الاشتراط انصرف الأمر إلى العين نفسها ولو صرح برد البدل مع التلف فلا إشكال أما لو صرح برد البدل مع إمكان رد العين فإنه فيه إشكال كونه خلاف مقتضى الفسخ وهو رجوع كل من العوضين إلى صاحبه.
الفرع الثامن
هل ينتقل بالإرث؟
جاء في تحرير الوسيلة: (لو مات البائع ينتقل هذا الخيار كسائر الخيارات إلى ورّاثه فيردون الثمن ويفسخون)(1) .
وجاء في منهاج الصالحين للإمام الحكيم وبهامشه تعليق الإمام الصدر قوله: (إذا مات البائع قبل إعمال الخيار انتقل الخيار إلى ورثته فلهم الفسخ بردهم الثمن إلى المشتري ويشتركون في المبيع على حساب سهامهم ولو امتنع بعضهم عن الفسخ لم يصح للبعض الآخر الفسخ لا في تمام البيع ولا في بعضه ولو مات المشتري كان للبائع الفسخ برد الثمن إلى ورثته)(2) .
وهذا الحكم هو مقتضى القاعدة.
(1) تحرير الوسيلة: 2/522.
(2)
منهاج الصالحين: 2/23.
خاتمة
ونريد أن نشير في الخاتمة إلى أمور:
الأمر الأول:
مقارنة بين حكم هذا البيع لدى الإمامية مع حكمه لدى غيرهم.
من خلال ما تقدم يتضح:
أن هذا البيع كان معروفًا لديهم بمقتضى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وليس عقدًا جديدًا عرف في بلخ في القرن الخامس الهجري كما قيل.
كما أن مثل هذا البيع ليس بيعًا فاسدًا كما كان السائد قديمًا لدى علماء المذاهب الأربعة وليس عقدًا جديدًا كما تصوره أصحاب القول الجامع كما أنه ليس من مصاديق عقد الرهن كما تصوره بعض الحنفية.
وليس عقدًا جائزًا من الطرفين بل هو عقد لازم وللبائع فيه أن يرد الثمن ويستفيد المثمن ويتم انتقال ملكية العين والثمن إلى الطرفين وبالتالي يتبع النماء مالك العين أو الثمن.
الأمر الثاني:
أشار الأستاذ الزرقاء في ورقته المقدمة للمجمع إلى أن المعتاد في بيع الوفاء أن يكون الثمن أقل من قيمة المبيع بفارق كبير كما في الرهن.
وقبل صدور القانون المدني المصري الجديد سنة 1949 كانت عقود بيع العقارات بالوفاء في مصر تتضمن شرطًا أنه إذا لم يرد البائع ثمن العقار المبيع بالوفاء في الموعد المحدد ينقلب البيع باتًّا فتم نهب العقارات الكثيرة وحصل ظلم كبير فراح واضعو القانون الوضعي الجديد ينصون على بطلان بيع الوفاء.
والحقيقة: هي أن فقهاء القانون الوضعي لهم أن يضعوا ما شاءوا وحسابهم واضح.
إلا أن الذي نريد التعقيب عليه هو أن تسمى عملية تحول العقد إلى بيع بات نهبًا بعد أن تمت بكل رضا ورأينا أنها تحمل كل مقومات العقد الصحيح.
وقد حلت مثل هذه البيوع مشاكل كثيرة وفتحت مجالات التخلص من الربا بلا ريب ودون أن تشكل غطاء له.
ولا نريد أن نبرر سوء تصرف البعض من الأغنياء واستغلال حاجة الضعفاء، فإذا رأى الحاكم الشرعي ذلك كان له أن يتدخل في مثل هذه الموارد فيصدر بمقتضى ما يملكه من سلطات أمرًا بوضع تحديدات معينة تمنع من سوء الاستغلال.
الأمر الثالث:
جاء في عناوين البحوث المطروحة هنا عنوان: (هل يجوز انتفاع الراهن أو المرتهن بالعين المرهونة) .
ونحن لا نرى مجالًا لهذا البحث في ذيل بحث بيع الوفاء بعد أن رأينا أن هناك فاصلًا كبيرًا بين العقدين فهنا بيع كامل وانتقال للثمن والمثمن إلى الطرفين وحينئذ فلكل منهما التصرف غير الناقل بما يملكه بل رأينا أن هناك من يجيز التصرف الناقل بعد فرض إمكان الفسخ والعودة إلى البائع الأول أو المالك الأول.
وما نود الإشارة إليه هنا أن المقصود من هذا البيع هو التصرف في الشيء المنتقل بهذا العقد وذلك في طرف الثمن أو المثمن فلا مجال في رأينا لمثل هذا البحث هنا.
وعلى هذا الغرار يعلم أيضًا أن لا محل للبحث في عنوان: (حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء ببيع الوفاء) .
الأمر الرابع:
الآثار الاقتصادية لبيع الوفاء:
نعتقد - على ضوء ما سبق - أن هذا العقد يمكنه أن يشكل سبيلًا شرعيًّا للتخلص من الربا وآثاره التخريبية فهو يحدث برغبة من كل من طرفي العقد في الانتفاع بما لدى الطرف الآخر. فالبائع بحاجة للتصرف في الثمن لسد حاجة من حاجاته من جهة فيتم العقد ولا يشعر حينئذ بأنه يدفع شيئًا لقاء حصوله على الثمن ثم هو يحتاط كثيرًا في تصرفه لئلا يفقد ما باعه ببيع الوفاء ليمكنه التسديد حين سعيه لرد العين، والمشتري بحاجة للاستفادة من العين المبيعة والانتفاع بمنافعها مع ضمان تام لعودة رأسماله المدفوع في المدة المشترطة بل لعله أيضًا يترقب استقرار البيع عليه عند انقضاء تلك المدة وهذا مما يشكل حافزًا قويًّا للإقدام على التعامل.
وهكذا نجد الدوافع متكافئة والإقدام طبيعيًّا على مثل هذا العقد دونما حاجة للولوج في الربا المحرم وعلى هذا فإن هذا العقد يمكنه أن يشكل أحد العقود التي يمكن للبنك اللاربوي أن يتعامل بها إلى جانب عقود المضاربة والمزارعة والمساقاة والشركة والإجارة بشرط التمليك وغيرها.
وكلما أمكننا أن نوسع من دائرة العقود المشروعة أمام البنك استطعنا أن نعطيه بل ونعطي المتعاملين معه الفرص الأكثر لاختيار البدائل الأفضل.
الشيخ محمد علي التسخيري
* * *