الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزو الفكري
إعداد
الدكتور أبو بكر دكوري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من أساليب الغزو الفكري إثارة الشبه حول تطبيق الشريعة:
يتعرض الإسلام اليوم لمختلف أنواع الغزو الفكري كل ذلك للتشكيك في صلاحيته لمسايرة تطورات العصر ومتطلبات المدنية ويقصد من كل ذلك محاولة عزل المسلمين عن دينهم الحنيف ومصدر قوتهم الحقيقية.
ولما كانت الشريعة هي التي تمثل الحياة العملية والسلوك الديني والاجتماعي في حياة المسلمين، وبتمسكهم بها يسعدون ويتفوقون على كافة شعوب الأرض. فإنها جديرة بأن توجه إليها سهام الأعداء، فكان لزامًا علينا نحن المسلمين أن ندافع باستمرار عن هذه الشريعة الغراء ونذود عنها أمام الهجمات المتواصلة من المدنية الغربية والشيوعية على حد سواء، وما هذا البحث إلا مساهمة متواضعة مني في هذا السبيل فبالله التوفيق وعليه التوكل.
أقول: الشريعة في اللغة المواضع التي ينحدر الماء منها، قال الليث: وبها سمى ما شرع الله لعباده من الصوم والحج والنكاح وغيره شريعة (1) .
(1) راجع لسان العرب: 2/ 299، والنهاية في غريب الحديث ودائرة معارف القرن العشرين: 5/ 378
ويقول الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) : "إن الشريعة هي النظم التي شرعها الله أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه وعلاقته بأخيه المسلم وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون وعلاقته بالحياة"(1) .
ومن هذا التعريف نعرف أن الشريعة هي كل شيء بالنسبة للمسلم، إن تمسك بها سعد في الدنيا ونجا في الآخرة؛ لأنها صادرة من عند الله تعالى الذي خلق كل شيء بما فيه الإنسان والزمان والمكان، فكان طبيعيًّا أن يكون أدرى بما يصلح لهذا الإنسان وما يسعده في كل زمان ومكان ، وقد صدق الله العظيم بما حين قال:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .
ومن تتبع الشريعة الإسلامية وأمعن النظر في أدلتها وأحكامها، يجد أنها تمتاز عن أي قانون آخر بأنها مزجت بين الدين والدنيا من حيث ترتيب الأحكام الشرعية بهما سواء في ذلك ما يتعلق بالعقوبات أو ما يتعلق بتحقيق مصالح العباد، وهذا ما حمل المسلمين على طاعة الشريعة في السر والعلن وفي السراء والضراء؛ لأنهم يؤمنون بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله تعالى، وأنهم مثابون على هذه الطاعة، ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ويتفادى العقاب فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروي، وغضب الرب عليه وكل ذلك يساعد على قلة الجرائم، ويؤدي إلى حفظ الأمن وصيانة نظام الجماعة، بخلاف القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من يطبقها أو تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، فمن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ما وهو آمن من سطوة القانون، فليس هناك ما يمنعه من ارتكابها من خلق أو دين، لذلك نلاحظ كثرة الجرائم وازديادها في الدول التي تطبق القوانين.
(1) راجع كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" ص 22
(2)
سورة المائدة: الآيتان 15 ـ 16
موقف الناس من الشريعة الإسلامية:
يختلف الناس في تصورهم للشريعة الإسلامية وفي تعاملهم معها باختلاف حالاتهم وبيئاتهم، فهناك فريق تلقى هذه الشريعة بالقبول وهم المؤمنون الصادقون الذين فهموا الإسلام عقيدة وشريعة ، فهؤلاء وجدوا في الشريعة الخلاص، ووجدوا فيها السعادة، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى:"إن أحكام الشريعة ما شرعت إلا لمصالح الناس"(1) . فما دام الأمر كذلك فيجب التمسك بالشريعة شرعًا وعقلًا، أما شرعا؛ فلأنها صادرة عن الله تعالى، فلا يجوز للمسلم أن يعدل عنه، يقول الله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) .
وقد حذر الله المسلمين من التحاكم إلى غير ما أنزل، أو الرضا بغير حكم الله تعالى فقال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (4) .
وقال في آيات أخرى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} (5) .
(1) راجع الموافقات: الآية 2/ 92
(2)
سورة القصص: الآية 50
(3)
سورة الجاثية: الآيتان 18 ـ 19
(4)
سورة النساء: الآية 60
(5)
سورة المائدة: الآيات 44 ـ 45 ـ 47
ومن هذه الأدلة يتبين أن المسلم ملزم باتباع الشريعة من غير خيار ، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) .
ولا يكفي ذلك بل لا بد بعد العمل بالشريعة من الرضا التام والتسليم المطلق ، وفي ذلك يقول تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
هذا من حيث الشرع، وأما عقلًا فلأننا باستقراء أحكام الشريعة الإسلامية يتبين أنه روعي فيها مصالح العباد، ففيها العدالة وفيها المساواة وفيها اليسر وفيها المرونة وفيها الكمال والسمو والدوام؛ لأن نصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان، وهي مع ذلك تظل محتفظة بصلاحيتها في كل زمان ومكان، ومن تتبع التاريخ وجد أنها ما من مجتمع حكم فيه شرع الله إلا سعد هذا المجتمع، ولاشك أن قانونًا يتمتع بكل هذه الميزات ويجري على تحقيق العدالة الاجتماعية وإسعاد المجتمع البشري باختلاف أجناسهم وطبقاتهم وأوطانهم، لجدير بأن يتشبث به العقلاء ويذودوا عنه وهذا ما فعله المؤمنون الصادقون كما أسلفت.
الفريق الثاني: وهم المعادون للإسلام ، إما جهلًا بتعاليمه السامية، وإما حسدًا من عند أنفسهم كما هو شأن اليهود والنصارى، فهؤلاء لا يستغرب أن يقفوا موقف العداء من الشريعة الإسلامية ويتهموها بأبشع التهم، لينفروا الناس منها، وذلك كوسيلة من وسائل الغزو الفكري للصد عن الإسلام والقضاء على نفوذه.
وأهم شبهة يثيرها أعداء الإسلام حول الشريعة الإسلامية ويروجونها في جميع المحافل ادعاؤهم بأن الشريعة الإسلامية لا تصلح للعصر الحاضر، وبعد التحقيق يتبين أن ادعاءهم هذا لا يقوم إلا على الجهل والافتراء، إذ أنهم لم يقدموا أي دليل ملموس ولا حجة بينة على دعواهم، وهذا لا يكون مقبولًا لدى ذوي العقول المفكرة، ولو أنهم قالوا أن مبدأ معينا أو مبادئ بذاتها لا تصلح للعصر الحاضر وبينوا السبب في عدم صلاحيتها لكان لادعائهم قيمة علمية، ولوجب مناقشتهم لتزييف أقوالهم، أما أن يدعوا أن الشريعة كلها لا تصلح للعصر ولا يقدموا على قولهم حجة واحدة؛ فذلك دليل على أنهم مدفعون بدافع الحقد على هذا القول وهذا الزعم الباطل، ولكن نظرًا إلى أن بعض السذج تأثر بمثل هذه الترهات فجعل يعادي الشريعة الإسلامية وينتقص من مكانتها، نجد لزامًا علينا أن ندافع عن هذه الشريعة الغراء، ونرد على ما يثيره هؤلاء المغرضون المفترون من شبهات حول الشريعة، ويكفينا للرد عليهم ما يقوله بنو جلدتهم، وأبناء عقيدتهم من النصارى المنصفينن يقول العلامة سانتيلانا:"إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل إن فيه ما يكفي للإنسانية كلها"(3) .
(1) سورة الأحزاب: الآية 36
(2)
سورة النساء: الآية 65
(3)
انظر كتاب روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة: ص 310
ويقول البحاثة الأمريكي "هوكنج" أستاذ الفلسفة بجامعة هارفرد في كتابه روح السياسة العالمية وذلك معرض حديثه عن مصير الثقافة الإسلامية: "إن سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب الغربية التي تدعي أن الدين ليس فقط ما يملى من حياة الفرد اليومية ومن القانون والنظم السماوية (1) .
وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدرًا للنمو والتقدم، وأحيانًا يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية، فالجواب على هذه المسألة هو أن في نظام الإسلام كل استعداد داخلي للنمو ، لا بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل كثيرًا النظم الأخرى، والصعوبة لم تكن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي وإنما في انعدام الميل إلى استخدامها، وإني أشعر بكوني على حق حين أقدر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض". (2) ويقول الدكتور "انريكو انسابا توحيد":"إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل في خلال القرون ويبقى محتفظًا بكامل ما له من قوة الحياة والمرونة فهو الذي أعطى للعالم أرسخ الشرائع ثباتًا. وشريعته تفوق في كثير من تفاصيلها الشرائع الأوروبية". (3)
هذه بعض شهادات علماء القانون في الغرب المسيحي الذي لم يعم التعصب بصيرتهم فأنصفوا الشريعة الإسلامية.
ولا يفوتنا كذلك أن نذكر القرار الذي اتخذه المؤتمر الدولي المنعقد في لاهاي سنة 1932م للقانون المقارن باعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر القانون المقارن. فهؤلاء المؤتمرون الذين لهم مكانتهم العلمية وخبرتهم القانونية لم يتخذوا هذا القرار إلا لإيمانهم المطلق وقناعتهم التامة بأن الشريعة الإسلامية غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الفرد والجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
ومن الشبه التي يثيرونها ادعاؤهم بأن بعض أحكام الشريعة مؤقت:
يرى بعض الأوروبيين أو بعض أذنابهم ممن تتلمذ عليهم أو تثقف بثقافتهم يرون أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر إلا أن بعض أحكامها جاءت مؤقتة، ويقصدون بذلك بعض الأحكام الجنائية التي لا مثيل لها في القوانين الوضعية كالرجم والقطع فيحاولون التلخص منها بادعاء أنها أحكام مؤقتة، وهذا أكبر دليل على جهلهم بالإسلام؛ لأن أحكام الإسلام دائمة لا مؤقتة ولأن ما لم ينسخ منها قبل موت الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز نسخه بأي حال إلى يوم القيامة، وقد صرح القرآن بأن الإسلام قد اكتمل عقيدة وشريعة فلا زيادة فيه ولا نقص ، وذلك في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
(1) هكذا في الأصل ولعل صوابه: "النظم السياسية
(2)
روح الدين الإسلامي: ص 312
(3)
روح الدين الإسلامي: ص 312 نقلا عن كتاب: "الإسلام وسياسة الحلفاء
(4)
سورة المائدة: الآية 3
ومن الشبه التي يثيرونها حول الشريعة ادعاؤهم بأنها من آراء الفقهاء وابتكاراتهم:
ويحاولون أن يقنعوا الناس بأن ما تتمتع به الشريعة الإسلامية من مبادئ ونظريات سامية ومتميزة لا يرجع إلى كونها من عند الله تعالى، وإنما يرجع إلى عبقرية علماء المسلمين وجودة تفكيرهم واتساع أفقهم، وهذه الدعوى خطيرة؛ لأنه يقصد منها سلب قدسية الشريعة، وإقناع المسلمين بعدم وجوب طاعتها، لأنها من آراء الرجال، فإذا ثبت ذلك فلكل عصر رجاله، وهم أدرى من غيرهم بمشكلات عصرهم، وأقدر على وضع حلول لهذه المشكلات نظرًا إلى اختلاف الأحداث والوقائع من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى.
وللرد على هذه الشبهة نقول: إن فقهاء الإسلام قد بذلوا مجهودًا كبيرًا في خدمة الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية، ولكن دورهم محدود يتمثل في أنهم وجدوا أمامهم شريعة غنية بالمبادئ، والنظريات فقاموا بشرح النظرية أو المبدأ، وبينوا شروط تطبيق كل منهما، وحاولوا جمع ما يدخل تحت هذه النظريات والمبادئ من جزئيات، وهم في كل هذه الاجتهادات وهذه المحاولات يقيدون أنفسهم بنصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية، فتبين خطأ من يظن أن الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية من ابتكار المسلمين، يقول الشهيد عبد القادر عودة:"إن الفقهاء لم يبتكروا نظرية المساواة المطلقة ولا نظرية الحرية الواسعة ولا نظرية العدالة الشاملة، وإنما عرفها الفقهاء من نصوص القرآن والسنة التي جاءت بها"(1) .
وقد أورد أمثلة كثيرة من المبادئ والنظريات القانونية، أخذها الفقهاء من نص القرآن كنظرية الطوارئ المسماة في عرف القانون بنظرية تغيير الظروف، فإن فقهاء الشريعة قد أخذوا هذه النظرية ، من هذه النصوص القرآنية قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . (2) .
وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) .
وكأخذهم نظرية إعفاء المكره والمضطر من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (5) .
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (6) .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (7) .
وليس الفقهاء هم الذين ابتكروا نظرية إعفاء الصغير والمجنون والنائم من العقاب، وإنما أخذوا ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يصحو وعن المجنون حتى يفيق)) (8) .
ولا هم الذين فرقوا بين أحكام العمد وأحكام الخطأ وإنما أخذوا ذلك من نص القرآن ، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنا إِلَاّ خَطَئا وَمَن قَتَلَ مُؤمِنا خَطَئا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهلِهِ....} (9) .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (10) .
وقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (11) .
وهكذا نجد الأمثلة كثيرة جدًّا كلها تبطل الدعوى بأن مبادئ الشريعة ترجع إلى آراء الفقهاء.
(1) راجع كتابه: "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه": ص 59
(2)
سورة البقرة: الآية 286
(3)
سورة الحج: الآية 78
(4)
سورة الأنعام: الآية 119
(5)
سورة النحل: الآية 106
(6)
سورة البقرة: الآية 173
(7)
رواه ابن ماجه في الطلاق 16 بلفظ "إن الله تجاوز عن أمتي
…
" الحديث
(8)
رواه البخاري في الطلاق وفي الحدود وكذلك رواه كل من أبي داود والترمذي والنسائي، والإمام أحمد، راجع مسنده: 1/ 116 ـ 118
(9)
سورة النساء: الآية 92
(10)
سورة البقرة: الآية 178
(11)
سورة الأحزاب: الآية 5
ومن الشبه التي يثيرونها للحيلولة دون تطبيق الشريعة الإسلامية، قولهم إن الإسلام فيه فرق دينية كثيرة، ولكل فرقة منها فقه مستقل عن فقه غيرها، فإذا تقرر تنفيذ الشريعة الإسلامية في قطر ما فَفَقْهُ أية فرقة منها يكون على أساسه القانون؟
فنقول لهم أن هذا الاعتراض الذين يعلقون عليه آمالًا كبيرة في تفريق كلمة المسلمين، وينالون منه بغيتهم في إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة العامة والخاصة للمسلمين، ليس هو بمعضلة أصلًا كما يظنون؛ لأنه لم يَحُل دون تطبيق الشريعة الإسلامية عبر قرون طويلة وفي أكثر من بلد إسلامي؛ لأن الجهاز الأساسي لقانون الإسلامي الذي يشتمل على ما فرض الله تعالى من الأحكام والقواعد والحدود القطعية لم يزل ولا يزال معترفًا به على صورة واحدة بين جميع فرق المسلمين وطوائفهم، ولم يكن بينهم شيء من الخلاف في ذلك قديمًا وحديثًا، وإنما الخلاف في تبعير الأحكام والمسائل الاجتهادية وقوانين دائرة الإباح وضوابطها وحسب، أما ما يعتبر قانونًا يلزم به الناس فلا بد من أن ينعقد عليه إجماع الأمة أو أغلبيتها ويسلم به جمهور أو تجري به الفتوى من علماء الأمة المعتمدين، أما ما يستخرجه إمام من الأئمة بقياسه واجتهاده أو ما يصدره من فتوى على أساس الاستحسان، فإنه لا يرقى إلى درجة القانون، فعندما يقول العلماء في كتبهم:"هذا ماعليه الفتوى" أو "عليه الجمهور" أو "عليه الإجماع " يقصد منه أن هذا ليس مجرد رأي أو اقتراح فقط، وإنما أصبح جزءًا من القانون لإجماع المسلمين أو اتفاق جمهورهم عليه، فالحكم الشرعي إذا انعقد عليه الإجماع أصبح قانونًا رسميًّا لا يجوز مخالفته في أي زمان ولا مكان، ولا يجوز إعادة النظر فيه، فإن لم ينعقد عليه الإجماع فما ارتأته الغالبية من أهل الحل والعقد من المسلمين في كل بلد يعد قانونًا لذلك البلد، ويكفينا أن يكون ما يحتكم إليه المسلمون في بلد إسلامي مصدره الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة.
ومن الشبه التي يثيرها البعض ادعاؤهم بعدم قدرة الشريعة على الاستجابة لمتطلبات العصر الحديث، فكثيرًا ما يقولون: كيف يصلح قانون قديم مر عليه أربعة عشر قرنًا ليلبي حاجات مجتمع عصري ودولة متحضرة؟
وبعد إمعان النظر في هذه الشبهة يتبين أن مثيريها لم يفهموا شيئًا من الشريعة الإسلامية، لاعتقادهم أن الشريعة مجرد أحكام محدودة مقيدة بنصوص قديمة محدودة وهذا الاعتقاد هو الذي دفعهم إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تستوعب الأحداث المتنوعة والمتطلبات العصرية.
نقول لهم: إنهم وقعوا في هذا الخطأ عندما سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر ، فنحن نعلم أن القوانين الوضعية القائمة الآن تختلف اختلافًا جذريًّا عن القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي، لأن القوانين الوضعية الحديثة تقوم على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، ونحن وإن كنا نتفق معهم في الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، ولكن لا نتفق معهم حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية، وهذا القياس الذي دفعهم إلى القول بأنه ما دامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر، فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى ، ولا يخفى بطلان هذا القياس لأن القياس إنما يكون بين متماثلين، ولا تماثل بين الشريعة والقوانين الوضعية، فبينهما اختلافات أساسية، وتتميز الشريعة بمميزات جوهرية والقاعدة المعروفة لدى جميع العلماء أنه إذا انعدمت المساواة والمماثلة بين شيئين فلا قياس، أو كان القياس باطلًا، وبذلك يبطل ادعاؤهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر؛ لأنه بني على قياس باطل وما قام على الباطل فهو باطل (1) .
ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدنا فيها من القواعد والمبادئ ما يتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة وتعددت الحاجات وتنوعت؛ لأنها جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، فلا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات، فكل ما عرض للناس من الحاجات والمرافق في مختلف أيامهم يمكن لعلماء الإسلام أن يجدوا له حلًّا شرعيًّا ، إما بالنص بوجه من وجوه دلالائه المتعددة، وإما بالقياس على النص بنوع من أنواع القياس الكثيرة، أو بغيرهما كالإجماع والاستحسان والمصالح فكل ذلك مما يثبت به الحكم الشرعي إذا توفرت الشروط.
(1) تاريخ التشريع الإسلامي: 1/ 13 ـ 14
ومن الشبه التي يثيرونها: اتهامهم الشريعة بالهمجية والوحشية:
وكثيرًا ما يذكرون على سبيل المثال عقوبات رجم الزاني وقطع يد السارق وطريقة تنفيذ حكم القصاص في الشريعة الإسلامية.
وأنا كنت أحضر دورة للغة الفرنسية في باريس عام 1983م، فرأيتهم أكثر من مرة يعرضون على التلفزيون صورة لشخص نفذ فيه حكم الإعدام في المملكة العربية السعودية، والرجل ملطخ بدمائه وفي بعض المرات يكون رأسه مفصولًا عن جسده، ويعرضون الصورة مدة طويلة بدون أن يذكروا الجرائم التي ارتكبها هذا الشخص حتى استحق هذه العقوبة، وقصدهم من ذلك إثارة المشاهدين وتنفيرهم عن الإسلام؛ لأنهم لو ذكروا لهم ما ارتكبه هذا الشخص من جرائم منافية لكل القيم الدينية والمبادئ الإنسانية لوجدوا أن هذه العقوبة كانت مناسبة له، بل وخفيفة في حق هذا الشخص، ولكن يتعمدون إخفاء ذلك ولسان حالهم للمشاهدين انظروا إلى وحشية الإسلام فإنه دين يتسم بالقسوة والهمجية ولا يصلح دينًا للإنسان المتحضر أو للمجتمع الراقي إلى آخر ما يقولونه من أباطيل.
ونقول: إن هؤلاء يصدق فيهم قول الشاعر العربي:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرًّا به الماء الزلال
فهؤلاء قد نجم عن فساد ذوقهم ومرض قلوبهم وطمس بصيرتهم أمران:
أحدهما: أنهم أصبحوا لا يرون الباطل باطلًا ولا يقيمون وزنًا للقيم والمبادئ الخلقية، فالزنا مثلًا واللواط وشرب الخمر والتعري في الأماكن العامة والتزاوج بين الرجال يعتبر عندهم أمورًا عادية، ولا يتحملون أن يلام عليها الإنسان فضلًا عن أن يعذب عليها، ولا يخفى على إنسان عاقل ما في هذه المعاصي من أضرار مادية ومعنوية للأفراد وللمجتمع فلا يستسيغها إلا من كان مريض القلب فاسد الذوق.
ثانيهما: أنهم لا يهمهم أمر الأبرياء والمظلومين الذين وقعوا ضحايا لهؤلاء المجرمين، بينما يظهرون شفقتهم على هؤلاء المجرمين ويتأملون لما ينالهم من عقاب شرعي يستحقونه، فهذا منتهى الوقاحة ومنتهى الضلال؛ لأنهم يقولون: إن الرجم عقوبة تتسم بالوحشية ، ولكنهم يغضون الطرف عما يقوم به الزاني من إشاعة الفاحشة في المجتمع وإلحاق العار بالأسر الكريمة ، وتدمير مستقبل البنات بحيث يقضين كل حياتهن في شقاء لا يتقدم لهن أي إنسان شريف، أضف إلى ذلك تفشي الأمراض الفتاكة في المجتمع بما فيها الأمراض المستعصية على الطب الحديث والقديم، وهي الأمراض التي تهدد بقاء جنس الإنسان على هذا الكوكب الأرضي، وما أمر "السيدا" أو " الأيدز " بخاف على أحد. وكذلك اختلاط الأنساب بحيث يقضي الإنسان كل عمره ينفق على ولد يظن أنه ولده، يعالجه إذا مرض ويسعى جاهدًا من أجل تعليمه وتربيته، ويسعى من أجل إسعاده وتأمين مستقبل سعيد له، فإذا هو في حقيقة الأمر ليس ولده، ألا يستحق كل من تسبب بهذه الجرائم عقوبة تكون جزاء له وتكون رادعة لأمثاله من الوقوع في مثل هذه الجرائم ، وتطهر المجتمع من المجرمين؟ فعندما يرجم الإسلام الزاني بالحجارة جزاء له على كل ما ارتكبه من جرائم في حق الأفراد وفي حق المجتمع، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ولكن عندما ترجم حكوماتهم الشعوب البريئة بالقنابل المحرقة والصواريخ المدمرة لأجل استعمارها ونهب خيراتها، أو عندما تنزل هذه الحكومات على معارضيها السياسيين أشد أنواع العقوبات، فإنهم لا يرون في كل ذلك بأسًا ، ومن ذا الذي يعرف الوسائل والطرق القاسية التي تتوسل بها الحكومات المتحضرة في هذا الزمان إلى استنطاق المتهمين حتى يعترفوا بجرائم على أساس الشبهات فقط؟ كل ذلك أمر سائغ ومقبول أما عندما توقع الشريعة الإسلامية عقوبة مناسبة لمجرم محترف يتهمونها بالوحشية ، فيا عجبًا لهذا العالم المتحضر وقد صدق الشاعر العربي عندما قال:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وإذا انتقلنا إلى عقوبة قطع يد السارق نجد أنه خير وسيلة لمعاقبة من يرتكب مثل هذا النوع من الجريمة، لأن السارق يريد أن يعيش عيشة كريمة على حساب الآخرين، فكم من أسر بريئة تشردت بسبب اللصوص، وكم من شخص كدا واجتهد وعانى كثيرًا من المتاعب طيلة سنوات عديدة لتوفير مال يعتمد عليه في حالة عجزه عن العمل ، إما لكبر وإما لمرض، فيأتي لص يبدد كل هذه الأمال ويستولي في دقائق على هذه الثروة التي جمعت في عشرات السنين ، وكثيرًا ما يتم ذلك تحت تهديد بالسلاح ، بل وبالقتل والجرح في بعض المرات، فهل يليق في نظر العقلاء أن يحبس هذا المجرم وينفق عليه من أموال الشعب، يأكل ويشرب وينام ملء جفونه؟ وهل هذه عقوبة رادعة؟ طبعًا لا، بدليل أن السارق لا يكاد يخرج من السجن حتى يسرق مرة أخرى ويعود إلى سجنه؛ لأنه يجد في السجن مرتعًا خصبًا يأكل ويشرب وينام كما يريد دون أي تعب أو عناء.
وما ذنب الشعب حيث تؤخذ منه الضرائب، والرسومات المختلفة لينفق على هؤلاء المجرمين الذين يهددون أمن البلاد وأمن المواطنين؟ أليس من المناسب عقلًا قطع يد اللص جزاء وفاقًا لما ارتكبه في حق الأبرياء؟ فيتعذب بالقطع وتتشوه خلقته به، فنكون قد عاملناه على نقيض قصده؛ لأنه ما قصد السرقة إلا ليتمتع بالحياة بدون أي تعب ولا معاناة، بل وبتخريب بيوت الآخرين، فنفوت عليه هذا القصد بقطع يده؛ لأنه حتى لو كسب المال بالسرقة فإنه لا يمكن أن يتمتع به، ولا أن يكون سعيدًا في الحياة لأجل علامة العار التي تلازمه أينما حل وارتحل، وقد أثبتت التجارب أن هذه العقوبة رادعة تحقق الأمن والاستقرار في أي مجتمع ينفذ فيه هذا الحكم الشرعي، فقد رأيت بنفسي عندما دخلت الديار المقدسة لأول مرة في عام 1967م دكاكين مليئة بالذهب والماس يتركها أصحابها بدون إغلاق، وإنما يكتفون فقط بإسدال أستار من القماش الرقيق عليها، فيذهبون إلى المساجد لأداء صلاة الظهر، ثم يعودون إلى بيوتهم للغداء والراحة ولا يعودون إليها إلا بعد صلاة العصر، فيجدون هذه الدكاكين كما تركوها لم تمس بأي أذى، ولا يشك إنسان في أن سر ذلك يرجع إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية.
أما الدول التي تدعي الحضارة والتقدم المادي، فلا يخفى على أحد ما يجري فيها من الفوضي وعدم الاستقرار على الرغم من البلايين والدولارات التي تنفق في الأمن، فمثلًا في مدينة نيويورك التي تعتبر أكبر مدن العالم وأكثرها تحضرًا وتطورًا، فإنه يجري فيها في كل ثانية عشرات الجرائم وذلك حسب إحصائيات الحكومة الأمريكية نفسها.
فنطلب من هؤلاء أن يتركوا المغالطات وأن يتخلوا عن تعصبهم الأعمى ويعودوا إلى الشريعة الإسلامية إذا ما أرادوا الأمن والاستقرار والسعادة؛ لأنها صادرة عن الله تعالى الذي خلق البشر، فهو أعلم بما يصلح لهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
الدكتور أبو بكر دكوري
مصادر البحث
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
3 ـ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
4 ـ صحيح البخاري.
5 ـ صحيح مسلم.
6 ـ نيل الأوطار.
7 ـ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
8 ـ لسان العرب لابن منظور.
9 ـ دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي.
10 ـ حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد.
11 ـ الموافقات للإمام الشاطبي.
12 ـ الإسلام عقيدة وشريعه لمحمود شلتوت.
13 ـ مبادئ الإسلام لأبي الأعلى المودودي.
14 ـ التشريع الجنائي الإسلامي المقارن للشهيد عبد القادر عودة.
15 ـ الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه للشهيد عبد القادر عودة.
16 ـ روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة.
17 ـ تاريخ التشريع الإسلامي لمناع قطان.
من أساليب الغزو الفكري:
الطعن في القرآن الكريم
عرض وتفنيد
الدكتور محمد نبيل غنايم
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص البحث
1 ـ هذا البحث تعريف موجز بالغزو الفكري في ماضيه وحاضره وتعريف بتاريخه ووسائله، وبيان لأهدافه وأنواعه.
2 ـ وهو يعرض لمطاعن أعداء الإسلام من مبشرين ومستشرقين في القرآن الكريم، وقد عرض معظم هذه المطاعن في أسلوب موجز وعرض سريع لينتقل من ذلك إلى الأهم وهو مناقشتها والرد عليها.
3 ـ ناقش هذا البحث مطاعن الأعداء في القرآن الكريم في سبعة بنود مناقشة تفصيلية تكشف بالأدلة عن كذبها وتقيم الحجة على بطلانها.
4 ـ قدم هذا البحث أربعة عشر دليلًا على أن القرآن الكريم وحي وليس بشريًّا ولا من عمل محمد صلى الله عليه وسلم.
5 ـ وقدم هذا البحث خمسة أدلة عامة وستة تفصيلية وتطبيقية على أن القرآن الكريم غير مقتبس من الكتب السابقة.
6 ـ وقدم خمسة أدلة على أن القرآن الكريم معجز بل هو المعجزة الكبرى والخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم.
7 ـ وقدم هذا البحث سبعة أدلة مختلفة على إبطال دعوى التحريف والتبديل في القرآن الكريم.
8 ـ وقدم هذا البحث أربعة أدلة إجمالية واثني عشر ردًّا تفصيليًّا على مزاعم الغزاة بأن القرآن الكريم يناقض بعضه بعضًا فأبطل هذا الادعاء.
9 ـ ورد هذا البحث في سبع فقرات على ادعاءات الغزاة بما زعموه أخطاء في القرآن الكريم.
10 ـ أثبت البحث أن القرآن الكريم قدم في الماضي وما زال يقدم في الحاضر وسيظل يقدم في المستقبل وإلى أن تقوم الساعة كل ما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم، ولو أخذ الناس به فلن يحتاجوا إلى شيء آخر.
11 ـ أكد البحث أن القرآن الكريم لم تنقض عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وما زال يتسع للعديد من الدراسات والبحوث.
12 ـ أكد البحث أن القرآن الكريم كتاب الله المحفوظ بعنايته الميسر للذكر، الهادي إلى صراط الله المستقيم.
13 ـ مهما حاول الأعداء والغزاة النيل من القرآن الكريم فستدور الدائرة عليهم وترتد سهامهم إلى نحورهم وسيبقى القرآن الكريم عاليًا شامخًا منتصرًا محفوظًا إلى يوم الدين ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيده تعالى بالقرآن ، وجعله أعظم معجزاته وأقوى أدلته ، ورضي الله تعالى عن أصحابه الذين حفظوه وجمعوه وتدارسوه، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين فتعلم القرآن وعلمه، وبعد.
فهذا البحث عن: أسلوب خبيث من أساليب الغزو الفكري وهو "الطعن في القرآن الكريم" وقد جعلته في ثلاثة فصول. تناول الفصل الأول منها تعريفًا بالغزو الفكري بصفة عامة في ماضيه وحاضره وأهدافه ووسائله وأنواعه وذلك بشكل موجز.
أما الفصل الثاني فجعلته لسرد مطاعن الغزاة في القرآن الكريم وقسمته طبقًا لهذه المطاعن إلى سبعة بنود، تناول كل بند منها مجالًا من مجالات الطعن في القرآن. فبند عن بشريته، وآخر عن اقتباسه، وثالث عن عدم إعجازه، ورابع عن تحريفه، وخامس عن أخطائه العلمية واللغوية والتاريخية والتشريعية، وسادس عن تناقض آياته مع بعضها البعض، وسابع عن عدم تقويمه للنظريات والمبادئ العامة.
وخصصت الفصل الثالث ـ وهو بيت القصيد ـ لتفنيد تلك المطاعن والرد عليها وإبطالها، فتناولتها بندًا بندًا وناقشتها فكرة فكرة ، وقدمت الأدلة النقلية والعقلية على إبطالها، ففي البند أولًا قدمنا أربعة عشر دليلًا منوعًا على أن القرآن وحي من عند الله وليس بشريًّا أو من عمل محمد صلى الله عليه وسلم وفي البند ثانيًا قدمنا خمسة أدلة عامة وستة تطبيقية على أن القرآن ليس مقتبسًا من التوراة ولا الإنجيل، وفي البند ثالثًا قدمنا خمسة أدلة على أن القرآن معجز وفي قمة الإعجاز، وفي البند رابعًا قدمنا سبعة أدلة على أن القرآن الكريم معافى من أي تحريف أو تبديل على عكس الكتب السابقة، وفي البند خامسًا ذكرنا أربعة أدلة إجمالية على إبطال دعوى التناقض بين بعض آيات القرآن ثم وضحنا ذلك في اثني عشر موضعًا مما استندوا إليه ووضحنا بطلانه، وفي البند سادسًا ناقشنا ما أسموه أخطاء في القرآن الكريم حتى بينا أنهم هم المخطئون وأن القرآن الكريم في قمة الأداء والمعنى ولكنهم لا يفهمون، وفي البند سابعًا ناقشنا موضوع النظريات التي يتساءلون عنها وبينا ما قدمه القرآن في هذا المجال مما لم يسبق إليه ولم يلحق فيه. ودعمنا ذلك كله بأقوال العلماء والمفكرين وبعض المنصفين من أعداء الإسلام والقرآن.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا البحث وأن يجعله خالصًا لوجهه إنه خير مسؤول وأعظم مأمول.
الفصل الأول
الغزو الفكري ماضيه وحاضره
إن عداوة اليهود المشركين، ومن على شاكلتهم من المبشرين والمستشرقين للإسلام والمسلمين قائمة منذ فجر التاريخ، فقد عادوا رسالات الله التي جاءت كلها بالإسلام، وتآمروا على رسل الله الذين حملوا إليهم هذه الرسالات، وقتلوا الأنبياء الداعين للإسلام، وعبدوا العجل وغيره من الأصنام، وآمنوا بالجبت والطاغوت، واتبعوا ما تتلوا الشياطين، وحرفوا كتاب الله تعالى وبدلوه، وكتبوه بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلًا، وكفروا بأنعم الله تعالى الظاهرة والباطنة، وبدلوا قولًا غير الذي قيل لهم، وعصوا أوامر الله تعالى واعتدوا على حدوده وحرماته، وظل حالهم كذلك حتى بعث الله تعالى خاتم النبيين والمرسلين محمدًا صلى الله عليه وسلم فازدادت عداوتهم وأفصحوا عن حقدهم، فكانوا ـ رغم علمهم به ـ أول كافر به، ولم يكتفوا بكفرهم، بل شنوا على المؤمنين به حملات العداء والتشهير، ووضعوا أيديهم في أيدي المشركين والنصارى لمهاجمة الإسلام ورسوله وكتابه وكل من آمن به، وصدق الله العظيم:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) .
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلى ما قام به اليهود والنصارى ضد الإسلام ورسوله وأصحابه، من كفرهم به، وصد الناس عن الإيمان به، ومحاولات تشويهه والنيل منه، وشن الحروب على أهله، ونقض العهود معهم، وتدبير المؤامرات ضدهم، وخيانة الأمانات إلى غير ذلك؛ يقول الله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
فهذا عن كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، أما عن صدهم عن سبيل الله وعن الإيمان ، فمنه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (4) .
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (5) .
وأما عن تلبيس الحق بالباطل فيقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) .
(1) سورة المائدة: الآية 82
(2)
سورة البقرة: الآية 101
(3)
سورة البقرة: الآية 89؛ قال السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس أن يهودًا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه. فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو الذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: [وَلَمَّا جَاءهُم كِتَابٌ مِّن عِندِ اللهِ
…
] الآية، لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي، هامش المصحف الشريف بتفسير الشيخ حسنين مخلوف
(4)
سورة النساء: الآيتان 51 و 52
(5)
سورة آل عمران: الآية 99
(6)
سورة آل عمران: الآية 71
بل حاولوا مع المسلمين أن يردوهم إلى الكفر بعد الإيمان، وفي سبيل ذلك كان بعضهم يدخل الإسلام أول النهار ويكفر آخره ليحذو حذوه المسلمون، يقول الله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) .
وقال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) .
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم. فأنزل الله فيه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إلى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . (3)
هذا قليل من كثير مما كان عند اليهود والنصارى من العداوة للإسلام والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقد استمرت هذه العداوة تتنامى وتتضاعف بمرور السنين حتى لبست أثوابًا جديدة في العصر الحديث، وتجلت فيما يعرف الآن: بالغزو الفكري الذي يصوب سهامه المسمومة إلى أغلى ما يعتز به المسلمون من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يقول الدكتور دراز رحمه الله: "ومن تتبع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقل الكلمات دورانًا على ألسنتهم، وإن أكثرها ورودًا في جدلهم هي نسبته إلى نفس صاحبه، وهذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم "الوحي النفسي" زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءوا برأي علمي جديد وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم لا يختلف عنه في جملته ولا تفصيله، وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة من الماضي في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصر الجاهلية الأولى:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) .
وقبل أن نتناول هذه السهام الحديثة نقف وقفة قصيرة مع هذا الغزو الحديث نتعرف من خلالها على تاريخه وأهدافه وأنواعه وأساليبه.
(1) سورة البقرة: الآية 109
(2)
سورة آل عمران: الآية 72
(3)
لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ، هامش المصحف الشريف بتفسير الشيخ حسنين مخلوف والآيات من سورة آل عمران الآيات 71 ـ 73
(4)
سورة البقرة: الآية 118؛ وانظر النبأ العظيم، د. محمد عبد الله دراز: ص 67 هامش
تاريخ الغزو الفكري:
عرفنا أن الحملة على الإسلام ومصادره قديمة، منذ بزغت شمسه، أما الغزو في ثوبه الجديد، فقد بدأ بعد فشل الحروب الصليبية، وذلك أن الصليبيين لما خسروا المعارك الحربية ضد الإسلام وأهله، ولم يتمكنوا من الاحتفاظ ببيت المقدس، فكروا في حروب أخرى للقضاء على الإسلام الذي هو سر قوة المسلمين ومصدر توجيههم فلجأوا منذ ذلك الوقت إلى الغزو الفكري، يقول غاردنر: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي
…
" ثم يقول: "والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام"، أما ليفونيان فيرى ـ وهو على حق ـ "أن الحروب الصليبية كانت أعظم مأساة نزلت بالصلات بين المسلمين والنصارى في الشرق الأدنى، لقد أحب الصليبيون أن ينتزعوا القدس من أيدي المسلمين بالسيف ليقيموا للمسيح مملكة في هذا العالم، إنهم لم يستطيعوا أن يقيموا تلك المملكة، ولكنهم تركوا بعدهم العداوة والبغضاء، خابت دول أوروبا في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف، فأرادت أن تثير على المسلمين حربًا صليبية جديدة من طريق التبشير (1) .
وكان "ريمون لل" الأسباني أول من تولى هذا الغزو التبشيري، فقد استطاع في عام 1299م، أن يحصل على إذن من الملك يعقوب صاحب أرغونة ليبشر في مساجد برشلونة محتميًا بالسلطة المسيحية في أسبانيا، ثم جال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة" (2) .
وظلت عمليات التبشير تتنامى وتتكاثر وتتكون لها جمعيات ومؤتمرات عالمية كما يذكر ذلك "أدوين بلس" في كتابه "ملخص تاريخ التبشير" من مثل مؤتمر القاهرة 1906م برئاسة "زويمر" وكتابه "العالم الإسلامي اليوم"، ومؤتمر "أدنبرج" التبشيري 1910م، ومؤتمر لكنو التبشيري في الهند 1911 (3) .
أما عن الاستشراق وهو الجناح الثاني من أجنحة الغزو الفكري، فقد بدأ منذ دقت جيوش الفتح الإسلامي أبواب أوروبا، وتحققت لهم السيادة العالمية في شتى المجالات، فبدأ الأوروبيون الذين كانوا غارقين في ظلام العصور الوسطى يبحثون عن أسباب نهضة المسلمين، وبدأ بعض رجال الكنيسة يدرسون اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وزادت هذه الدراسات وكثر الاهتمام بها في أعقاب فشل الحروب الصليبية، ولما قامت النهضة الأوروبية، وتفتحت أنظار الأوروبيين إلى استعمار البلاد العربية والإسلامية ـ وهذا هو الجناح الثالث للغزو ـ كثر اهتمام الأوربيين بالدراسات الشرقية الاستشراقية فشجعوا عليها وفتحوا لها أقسامًا خاصة في جامعاتهم، وبدأوا يعقدون المؤتمرات والجمعيات، وينشرون التقارير والمجلات، وبدأت هذه الأعمال الاستشراقية تحقق ثمارها ونتائجها في مهاجمة الإسلام وتشويهه والنيل منه، فالتقت في ذلك مع التبشير وأعمال المبشرين، وتضافرت معها، ومن أشهر المستشرقين: المستشرق الإنجليزي جب، والفرنسي ماسينيون، والإنجليزي مرجليوت، والمجري جولدزيهر، والألماني بروكلمان، وغيرهم كثيرون (4) .
(1) انظر: التبشير والاستعمار، خالدي وفروخ: ص 115
(2)
التبشير والاستعمار: ص 115
(3)
انظر: أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة: ص 28 ـ 54
(4)
انظر: التبشير والاستعمار: ص 115؛ وأجنحة المكر الثلاثة: ص 115؛ وانظر أيضا الفكر الإسلامي الحديث: ص 447 ـ 452
ويذكر الدكتور محمد البهي أن الغزو الفكري بدأ بعد الحرب الصليبية، وذلك أن الاحتكاك في هذه الحروب على مدى قرنين جعل الصلييبيين يقفون على أمرين هما: عقيدة الإسلام في قوتها وضعف المسلمين في مجتمعهم، وسعة ما يملكون من ثروة في بلادهم ،فبدأوا بعد الفشل في الحرب يعدون أنفسهم ويرسمون خططهم انتهازًا لزيادة ضعف المجتمع الإسلامي وتفككه، والاستفادة من ثروته، وأعقب هذا الاتصال الاقتصادي نفوذ سياسي ثم استعمار عسكري منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وقد استخدم هذا النفوذ السياسي والعسكري للتنفيس عن الهزيمة الصليبية في الحروب الماضية، وعن الحقد الصليبي على بقاء بيت المقدس في ظل السيادة الإسلامية يقول:
فكيف يستمر للغرب نفوذه السياسي على الشرق الإسلامي؟
وكيف يبقى تخلف المسلمين؟ وكيف تنفس النفس الصليبية عن حقدها؟
ليس له ـ الغرب ـ هنا طريق آخر لتحقيق هذه الغاية سوى تناول "مادة التوجيه" المحلية وجعلها غير صالحة، ولم يكن هناك في توجيه الشرق الإسلامي سوى "الإسلام" والتراث الإسلامي الذي خلفه المسلمون في شرح إسلامهم، فإفساد الإسلام والتراث الإسلامي إذن غرض أول للمستعمر الغربي (1) ، وهذا ما سنبينه في الفقرة التالية.
(1) الفكر الإسلامي الحديث: ص 16
أهداف الغزو الفكري:
لا تختلف أهداف الغزو الحديث عن مؤامرات الماضين ومكائدهم فهي كلها تدور حول النيل من الإسلام وتشويه حقائقه ورموزه الكبيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وصد الناس عن الإيمان به والدخول فيه، وإفساد من تم إسلامهم بالتنصير أو التشكيك والإلحاد، وبذلك وغيره يتم القضاء على الإسلام واستغلال أهله وأرضه، يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ولقد غزانا الغرب في العصور الحديثة بكل ما يملك، بالسلاح والقلم، وقد كانت مهمة القلم في هذا المجال واسعة متنوعة، فقد تناول كُتّابهم الإسلام عقيدة وتشريعًا وأخلاقًا وتاريخًا محاولين أن يزيفوا الحقائق في كل ميدان من ميادين الدين، وحاولوا أن يقللوا من شأن الإسلام ومن شأن العرب، وحاولوا بكل ما أتوا من وسائل في الدعاية أن يبعثوا في النفوس روح التحلل والفساد الأخلاقي
…
"، ثم يقول: "إن الغربيين يريدون بكل وسيلة القضاء على الإسلام كقوة لها ذاتيتها وأصالتها ومنهجها في الحياة وهم يستعملون من أجل ذلك كل الوسائل" (1) .
ويقول الدكتور البهي: "فإفساد الإسلام والتراث الإسلامي إذن غرض أول للمستعمر الغربي، واختار وسيلة لذلك فيما أبرزه من المفارقة بين الغرب والشرق من تقدم الأول وتأخر الثاني، وابتدأ العلم وابتدأت الدراسة هناك تبحث عن أسباب هذه المفارقة وتركزت الأسباب أخيرًا في المقابلة بين المسيحية والإسلام، المسيحية دين المتقدمين والإسلام دين المتخلفين...."(2) .
ويضيف الشيخ محمود شاكر
…
" لم يكن غرض العدو أن يقارع ثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالًا بهدى، أو أن يصارع باطلًا بحق، أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة، بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولًا لا تدرك إلا ما يريد لها هو أن تدرك، ولا تبصر إلا ما يريد لها هو أن تبصر، ولا تعرف إلا ما يريد لها هو أن تعرف، فكانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت إلى هذا اليوم كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلًا بمثل، وقد كان ما أراد الله أن يكون، وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد
…
" (3) .
(1) القرآن والنبي: ص 20، 396
(2)
الفكر الإسلامي الحديث: ص 17
(3)
مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 12
ومن هذا يتبين أن الهدف الرئيسي لأئمة الغزو الفكري وقياداته هو القضاء على الإسلام وأصوله وتراثه، وهناك أهداف أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية كالحيلولة دون وحدة الأمة الإسلامية، ونهب خيراتها وثرواتها وبذر بذور التفرق والقومية بين صفوفها، ولكنا إذا أمعنا النظر في هذه الأهداف وجدناها ترجع في حقيقتها إلى الهدف الرئيسي الديني:" وهو القضاء على الإسلام وعلى كل ما يقويه ويحفظه ".
وقد أحصى هذه الأهداف إجمالًا وتفصيلًا الأستاذ عبد الرحمن حسن فقال: "وأخطر أهدافهم في الأمة الإسلامية تحويل المسلمين عن دينهم وتقطيع أوصال جماعتهم الإنسانية الكبرى، وبثها إلى وحدات صغرى متقاطعة متنافرة متدابرة يقاتل بعضها بعضًا، ولتحقيق ذلك لجأ الغزاة إلى الأعمال الجزئية الآتية:
1 ـ التشكيك بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 ـ إنكار كون القرآن كتابًا منزلًا من عند الله.
3 ـ أن الإسلام ليس دينًا سماويًّا ولكنه ملفق من اليهودية والنصرانية.
4 ـ التشكيك في صحة الحديث النبوي.
5 ـ التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي.
6 ـ التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي.
7 ـ تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري وإضعاف ثقتهم فيه.
8 ـ إضعاف روح الإخاء الإسلامي ببث الأفكار القومية والنعرات العصبية" (1) .
(1) أجنحة المكر الثلاثة: ص 94 ـ 97
وسائل الغزو الفكري:
اتخذ الغزاة من الوسائل كل ما يؤدي أو يساعد على تحقيق أهدافهم جملةً وتفصيلًا، ولم يتركوا وسيلة تساعد على تحقيق هدف ولو جزئي إلا استعملوها، ولذلك نجدهم تارة يستخدمون السلاح، وأخرى يستخدمون السلام، وحينًا يستخدمون العلم، وتارة يستخدمون الطب، وأخرى يستخدمون المساعدات الاقتصادية بأشكالها المختلفة من مساعدات غذائية إلى مساعدات كسائية، إلى مساعدات نقدية كمعاشات ومرتبات شهرية أو مكافآت سنوية، وفي مناسبات كثيرة يكون الكذب والباطل وإثارة الشبهات والضلالات وسيلتهم لتحقيق تلك الأهدف أو بعضها، بل إن ذلك يكاد يكون الطابع العام مع كل الوسائل السابقة، يقول الشيخ محمود شاكر:"وميادين معركة الثقافة والعقل ميادين لا تعد بل تشمل المجتمع كله في حياته وفي تربيته، وفي معايشه، وفي تفكيره، وفي عقائده، وفي آدابه وفي فنونه، وفي سياسته، بل كل ما تصبح به الحياة حياة إنسانية كما عرفها الإنسان منذ كان على الأرض، والأساليب التي يتخذها العدو للقتال في معركة الثقافة أساليب لا تعد ولا تحصى لأنها تتغير وتتبدل وتتجدد على اختلاف الميادين وتراحبها وكثرتها، وأسلحة القتال فيها أخفى الأسلحة"(1) .
ويفصل الدكتوران خالدي وفروخ هذه الوسائل ويعددانها ويبينان أن العدو لم يترك واحدة منها، ولم يفوت مناسبة إلا واستخدمها، فما دامت الغاية واضحة والهدف محددًا نحو الإسلام فقد سلكوا كل السبل الشريفة وغير الشريفة لتحقيق هذه الغاية يقولان: "ولقد استخدم المبشرون جميع الطرق في سبيل التبشير، واستغلوا جميع المناسبات؛ فصناعة التطبيب والتعليم والوعظ، ونقل الكتب من لغة إلى لغة كلها يجب أن توجه توجيها يفيد التبشير.. والمبشرون مجمعون على أن جميع الوسائل ـ مهما كانت ـ يجب أن تستغل في سبيل التبشير، حتى أعمال البر يجب أن تستغل استغلالًا بحتًا، من ذلك قولهم ـ المبشرين ـ كان التطبيب والتعليم من وسائل التبشير ويجب أن يبقيا كذلك، أما أعمال الإحسان فيجب أن تستعمل بحكمة كي لا تذهب في غير سبيلها، يجب أن تعطى الأموال أولًا للبعداء عن الكنيسة ثم تقل تدريجيًّا كلما اقترب أولئك من الدخول في الكنيسة
…
" "وكان المبشرون يتخذون من زيارة المسجونين ومن العمل في المستشفيات وسيلة إلى التبشير.. كما لجأوا إلى الرشوة يفسدون بها ضمائر الذين يستميلونهم ، واتخذوا سماسرة يجلبون لهم الذين كانوا يرضون أن يبدلوا دينهم، وكانوا يدفعون عن كل رأس عشرة قروش ذهبًا
…
" (2) .
(1) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 11
(2)
التبشير والاستعمار: ص 48 ـ 50
أما الدكتور البهي فيبين أن أعداء الإسلام من مبشرين ومستشرقين ومستعمرين اتخذوا لتحقيق أهدافهم في القضاء على الإسلام وإضعافه وإضعاف أهله وسيلتين أساسيتين هما:
1 ـ خلق جيل جديد من أبناء المسلمين يكون تابعًا لهم متحدثًا باسمهم، متشبعًا بثقافتهم، مقتنعًا بأهدافهم، راضيًا بسيادتهم واحتلالهم.
2 ـ قيام الغربييين بالتركيز على تشويه الإسلام والسخرية من المسلمين.
يقول رحمه الله: "وسائل الاستعمار لإضعاف المسلمين في إسلامهم تنحصر في توجيه الفكر الإسلامي نحو تحقيق هذه الغاية، وقد برز هذا التوجيه في صورتين تنم كلتاهما عن هذه الغاية:
الصورة الأولى: قيام بعض مفكري المسلمين بحركة تقدمية في الإسلام، تبغي تقرير سلطة المستعمر وتثبيت ولايته على المسلمين من الوجهة الإسلامية.
الصورة الثانية: قيام بعض الغربيين الأوروبييين المسيحيين بإبراز الخلافات المذهبية، وتأكيد الفجوات والثغرات بين طوائف المسلمين وشعوبهم من الوجهة الشعوبية أو الجغرافية، أو نظام الحكم، مع شرح كثير من مبادئ الإسلام شرحًا يشوهها وينحرف بها عن أهدافها الأصلية، وذلك كله بالإضافة إلى تمجيد القيم المسيحية والحضارة الغربية والنظام السياسي والسلوك الفردي للشعوب الغربية" (1) .
وهذا الذي حصره الدكتور البهي في هاتين الصورتين لا يختلف عما ذكره العلماء السابقون من وسائل متعددة بل يتفق معه تمامًا، وكل ما هنالك من فرق أن السابقين فصلوا الوسائل والدكتور البهي جمعها، فالطب والتعليم والمساعدات والزيارات والإعلام والثقفافة والبر والإحسان و
…
و.... كل ذلك ينتهي إلى إحدى هاتين الصورتين، والهدف النهائي هو: القضاء على الإسلام وتنصير أهله، أو إضعاف شأنه ومكانته عند أهله وغيرهم بما يثيرونه حوله من شبهات وأباطيل، وسيقوم بذلك أحد شخصين أو هما معًا؛ إما مسلم ضعيف الإسلام صنعه الاستعمار على هواه، وإما كافر حاقد لا يريد بالإسلام وأهله خيرًا كالمبشرين والمستشرقين، ومن هذا يتبين لنا أن أعداء الإسلام سلكوا كل الوسائل واتخذوا كل الأساليب، واستغلوا كل المناسبات، ووجهوا كل الخطط، وقضوا على الأساليب المضادة لتحقيق أهدافهم الخبيثة في القضاء على الإسلام وأهله.
(1) الفكر الإسلامي الحديث: ص 28
أنواع الغزو الفكري:
يتخذ الغزو الفكري صورًا وأشكالًا بعضها واضح مكشوف تحت عنوان خبيث هو تحقيق الإصلاح والتقدم الحضاري، وبعهضا خفي حتى لا يثير أية مشكلة تتعلق بقوانين البلاد وأمنها وتقاليد أهلها فمن ذلك:
(أ) الاستشراق والتبشير:
وهما جناحان لطائر واحد فكلاهما يصب في الآخر ويدعمه ويسانده، فالاستشراق هو الجانب النظري والعلمي والتبشير هو الجانب العلمي والحركي (1) ، ولكنهما يسعيان لغاية واحدة ويتعاونان في الوصول إلى هدف واحد وكلاهما يستخدم خطط الآخر وأساليبه ويتبادلانها، ولهذا النوع مراكز عديدة يتحرك من خلالها لتحقيق الهدف المشترك منها:
1 ـ أجهزة التعليم من مدارس ومعاهد وجامعات.
2 ـ الجمعيات والمراكز الثقافية.
3 ـ الأندية الرياضية والاجتماعية.
4 ـ المنشآت الطبية والدوائية.
5 ـ الملاجئ وجمعيات التكافل الاجتماعي.
6 ـ الكنائس وتحركاتها التبشرية.
(ب) الاستعمار العسكري والاقتصادي والسياسي:
حيث يغرق الدول الفقيرة بديون تكبلها ثم يتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية بدعوى حفظ مستحقاته وديونه، وقد يلجأ إلى الاستعمار العسكري وإقامة القواعد الدائمة، ثم يعمل على بث أفكاره ومبادئه بين أبناء تلك الشعوب عن طريق حكامها أو عن طريق الأقلام المريضة للعملاء الذين يصنعهم أو يشتريهم من أهل تلك البلاد.
(ج) الماسونية والصهيونية:
وهي حركات سرية عنصرية استخدمت الشيوعية والاستعمار في هدم الأديان والقيم الدينية والسيطرة على الشعوب النامية والتخطيط لقيادة العالم والاستيلاء على مقدرات الأمم.
(د) عملاء الاستعمار من الوطنيين:
وهؤلاء يروجون للأفكار الدخيلة سواء منها ما ينتمي إلى المعسكر الشرقي أو المعسكري الغربي، ومن هؤلاء من يدعو إلى ترك اللغة الفصحى، وتشجيع العامية (2) . ومنهم من يدعو إلى تغيير الأحكام الشرعية لأنها قاسية ولم تعد صالحة للتطبيق (3) . إلى غير ذلك.
(هـ) تلاميذ المستشرقين والمبشرين:
ممن درسوا على أيديهم أو تتلمذوا على أفكارهم، ولم ينالوا الشهادات العالمية العالية من ماجستير ودكتوراه إلا بعد ترديد هذه الأفكار والاقتناع بها والدفاع عنها (4) .
(و) إنشاء ومساندة الفرق الضالة المرتدة عن الإسلام:
فقد ظهر في القرن الماضي بعض من ادعى النبوة وحرف الإسلام وشوه العقيدة وأفسد العبادة وغير القيم والأخلاق ، فغذاهم الاستعمار وساعدهم ووقف إلى جانبهم حتى أثمرت دعواتهم الباطلة فرقًا تضم جماعات من الناس مثل: البابية والبهائية والقاديانية وغيرها من الحركات التي ادعت زورًا وبهتانًا أنها حركات تجديد وإصلاح في الإسلام والمسلمين (5) .
(1) انظر: التبشير والاستعمار: ص 224
(2)
انظر: الفكر الإسلامي الحديث: ص 18
(3)
انظر: التشريع الجنائي الإسلامي: ص 12 وما بعدها
(4)
انظر مقدمة رد مفتريات على الإسلام، د. عبد الجليل شلبي: ص 12 ـ 14؛ والفكر الإسلامي الحديث: ص 19، 195
(5)
انظر: الفكر الإسلامي الحديث: ص 17
الفصل الثاني
مطاعن الغزاة في القرآن الكريم
(أ) لماذا الطعن في القرآن:
من المعلوم أن القرآن الكريم هو كتاب الله الخالد الذي تولى حفظه بنفسه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
وهو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبرى التي تحدى بها الإنس والجن إلى يوم الدين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (2) .
وهو مادة الإسلام ومصدره الأعظم في العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق والمعاملات وجميع نظم الحياة، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (3) .
وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر نزوله بالأحكام والإجابة عن الأسئلة. والفصل في الخلافات والأوامر والنواهي والحلال والحرام وشؤون العباد. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه ـ مستعينين بالنسبة النبوية ـ في كل ما يتنزل بهم أو يطرأ عليهم، وكذلك سار التابعون والأئمة المجتهدون والمفسرون والمحدثون والفقهاء والمتكلمون، والخلفاء والوزراء والفلاسفة والعلماء. وهكذا كان القرآن الكريم ـ وما زال ـ مرجع الإسلام والمسلمين في كل شيء إما بالنص عليه أو بالفهم والاجتهاد في ضوئه، ونظرًا لهذه المكانة السامية، والمنزلة الكبرى لكتاب الله تعالى كان القرآن الكريم مستهدفًا من قِبَل الغزاة على اختلاف أجناسهم ووسائلهم، فسلطوا حربهم في الدرجة الأولى عليه، ووجهوا معظم سهامهم المسمومة إليه؛ لأنه كما ذكرنا أساس الإسلام، فإذا قضي عليه ـ وهذا مستحيل ـ قضي على الإسلام، وفي ذلك يقول جون تاكلي:"يجب أن نستخدم كتابهم ـ القرآن الكريم ـ وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تمامًا، يجب أن نري هؤلاء الناس ـ المسلمين ـ أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا "(5) ، ونحو ذلك من الأقوال التي سنتعرف عليها في الفقرات القادمة.
(1) سورة الحجر: الآية 9
(2)
سورة الإسراء: الآية 88
(3)
سورة الإسراء: الآية 9
(4)
سورة الأنعام: الآية 38
(5)
التبشير والاستعمار: ص 70؛ وكتابنا: في التشريع الإسلامي: ص 61
(ب) بداية الطعن في القرآن:
يردد الغزاة من أعداء الإسلام اليوم ما ردده أجدادهم من أعداء الإسلام في الماضي منذ فجر الدعوة الإسلامية، ومع البدايات الأولى لنزول القرآن الكريم في مكة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكى القرآن الكريم ما قاله المشركون واليهود والنصارى على القرآن الكريم وعلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) .
فالآيات تبين أن المشركين وأضرابهم من الكافرين ادعوا ظلمًا وزورًا وبلا بينة أن القرآن من صنع محمد وكذبه، وساعده في ذلك آخرون (2) .
وادعوا مرة أخرى أن القرآن من أساطير الأولين يملى على محمد ويكتبه صباحًا ومساء، وقد رد الله تعالى عليهم في آيات أخرى بما أفحمهم وبين أنه من عند الله ووحيه، وقوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (3) .
(1) سورة الفرقان الآيات 4 ـ 6
(2)
قيل قوم من اليهود، وقيل عبيد كانوا للعرب من الفرس أحدهم: أبو فكيهة مولى الحضرميين، وجبر، ويسار، وعداس وغيرهم؛ انظر تفسير ابن عطيه: 11/ 5
(3)
سورة النحل: الآيات 101 ـ 103
فالآيات تبين أن المشركين ادعوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفتري القرآن الكريم ويختلقه كما ادعوا أن شخصًا أعجميًّا يساعده في ذلك (1) فرد الله تعالى عليهم بأن القرآن من تنزيله عز وجل ولكنهم يجهلون، وقد نزله الله تعالى بوحيه ليثبت المؤمنين ويهدي ويبشر المسلمين، وأما ادعاؤهم أن شخصًا أعجميًّا يساعده فينقضه الواقع ويبطله البيان فكيف بأعجمي لا يكاد يُبِينُ يعلِّم محمدًا هذا البيان العربي الحكيم المبين؟ وقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
هكذا كان موقف أجداد الغزاة المعاصرين ـ من المشركين واليهود والنصارى ـ من القرآن الكريم إبان نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم وظل الأمر كذلك حتى نشر الله تعالى الإسلام وأقام دولته ومكن له في الأرض، وسُمِع دوي القرآن الكريم في أرجاء المعمورة، وقامت المساجد في القرى والمدن وعقدت مجالس العلم ومدارسه في كل مكان، ونشأت علوم كثيرة لخدمة القرآن.
(1) قيل إنه: بلعام، وقيل يعيش، وقيل جبر ويسار وقيل سلمان وهذا ضعيف؛ انظر: تفسير ابن عطية: 8/ 510
(2)
سورة الصف: الآيات 6 ـ 8
(3)
سورة البقرة: الآيات 89 ـ 91
وبعد دهر نبتت نابتة الشيطان في أهل كل دين، وجاءوا بالمراء والجدل، وشققوا الكلام بالرأي والهوى، وعندئذ نجم الخلاف وانتهى الخلاف إلى الجرأة، وأفضت الجراة يومًا إلى رجل في أواخر دولة بني أمية يقال له الجعد بن درهم، وكان شيطانًا خبيث المهب تلقى مذهبه عن رجل من أبناء اليهود يقال له طالوت، فكذب القرآن في اتخاذ إبراهيم خليلًا، وفي تكليم موسى، وإلى هذا وشبهه ، وكان من قوله "إن فصاحة القرآن غير معجزة، وإن الناس قادرون على مثلها وأحسن منها" ولم تكد دولة بني العباس ترسي قواعدها حتى دخلت بعض العقول إلى فحص إعجاز القرآن، فقام بالأمر كهف المعتزلة ولسانها " النظّام " فأتاه من قبل الرأني والنظر (1) ، واستمر الأمر كذلك إلى أن تبنى المعتزلة فتنة القول "بخلق القرآن" في زمن الخليفة المأمون، الذي أيديهم وتبنى وجهة نظرهم ومبادئهم التي منها تقديم التحسين العقلي على الشرعي، ومما زاد في كثرة الفتن أمر المأمون بترجمة التراث الروحي للثقافات الأخرى من فارسية ويونانية (2) .
ويقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ومهما تحدث المتحدثون عن الازدهار والقوة والمجد في عصر المأمون، ومهما قالوا من أنه العصر الذهبي للأمة الإسلامية، فإنه مع ذلك عصر يتسم بسيئتين: الأولى: دخول المأمون في النزاع الذي كان بين علماء المسلمين في مسألة خلق القرآن، لقد دخل المأمون في هذا النزاع بقوة الدولة رغبة ورهبة، لقد دخل متحيزًا لفئة منكلًا بالفئة الأخرى، لقد تحيز للمعتزلة وهم قوم حكموا أهواءهم في الدين، وحسبوا أن ما يقولونه هو حكم العقل..، والثانية: أنه برغم موقف جمهور المسلمين الحاسم من التراث الروحي للأمم الأخرى، وبرغم معارضتهم الشديدة للغزو الفكري، فإن المأمون تحداهم تحديًا سافرًا، آمرًا بترجمة التراث الروحي والأخلاقي للأمم الأخرى يونانية كانت أو فارسية أو غيرهما"(3) .
(1) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 40
(2)
وكان ذلك سنة 212؛ انظر كتاب دول الإسلام: الذهبي: 1/ 130، وانظر في إبطال القول بخلق القرآن، شرح العقيدة الطحاوية: ص 173 ـ 176، ص 298
(3)
القرآن والنبي: ص 148 ـ 152
ثم تتابعت العصور على ذلك الجدل في القرآن وعلى ما هو أشنع منه حتى أفضينا به في العصر الحديث إلى أقبح الشناعة يوم فرض الاستعمار الغربي الغازي على مدارسنا منهجًا من الدراسة يضعف دراسة اللغة العربية، وينحيها رويدًا رويدًا، ويشجع العامية ويدعو إليها حتى يقطع الصلة بين الأمة وكتابها العزيز فيصبح كتابًا غير مفهوم، فيهجره الناس، كما فعل المشركين من قبل:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} (1) .
وبهجر القرآن وعدم القدرة على فهمه يكون قد تم القضاء على المصدر الأعظم للإسلام وبالتالي يتم القضاء على الإسلام.
وقد سلك الغزاة الجدد في سبيل القضاء على القرآن كل السبل والوسائل، ولكن كان الله تعالى ـ وما يزال ـ لهم ولأمثالهم بالمرصاد ففشلت كل محاولاتهم، وضلت جميع وسائلهم، وبقي القرآن الكريم وسيبقى إلى يوم الدين كما أنزله الله تعالى قويًّا عزيزًا محفوظًا:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
(1) سورة الفرقان: الآية 30
(2)
سورة الحجر: الآية 9
(3)
سورة البروج: الآيات 19 ـ 22
(ج) ماذا يقول الغزاة عن القرآن الكريم؟
قال الغزاة عن القرآن الكريم كلامًا كثيرًا ـ وما زالوا يقولون ـ منه ما يتعلق بنزوله، ومنه ما يتعلق بموضوعاته، ومنه ما ينصب على إعجازه، ومنه ما يعود إلى معانيه وأحكامه، ومنه ما يتعلق باللغة، وبالعلم، وبالتاريخ، ومنه ما يتعلق بالتشريع والأخلاق، ومنه ما يتعلق بالنظم والنظريات، ومعنى هذا أنهم لم يتركوا سبيلًا إلى النيل من القرآن الكريم إلا سلكوه، ولم يجدوا وسيلة لتحقيق هدفهم إلا أخذوا بها وسعوا إليها، ونحن في هذه الفترة نعرض نماذج مختلفة ومتعددة من أقوالهم، ثم نقوم في الفصل الثالث إن شاء الله بتفنيدها واحدة واحدة.
1 ـ قالوا: إن القرآن ليس وحيًا من عند الله، ولكنه من عند محمد، فهو من نوادر الأعمال الإنسانية، وتأليف كتاب ما في نهاية البلاغة والفصاحة لا يعد معجزة (1) يقول موريس بوكاي ـ وهو يعقد موازنة بين الإنجيل والقرآن ـ:"ومرة أخرى تفرض الموضوعية أن نشير إلى ادعاء هؤلاء الذين يقولون ـ بدون أي أساس ـ إن محمدا مؤلف القرآن"(2) .
ويقول المستشرق نيكلسون: "والقارئون للقرآن من الأوروبيين لا تعوزهم الدهشة من اضطراب مؤلفه ـ وهو محمد ـ وعدم تماسكه في معالجة المعضلات، وهو نفسه لم يكن على علم بهذه المتعارضات، كما لم تكن حجر عثرة في سبيل صحابته الذين نقل إيمانهم الساذج القرآن على أنه كلام الله"(3) . وتقول الموسوعة الروسية (4) : "كتب القرآن في زمن الخليفة الثالث عثمان (644 ـ 656) ونظر إليه المسلمون نظرة تقديس، ويبدو من الدراسات التي بين أيدينا أن القرآن ظل يتحور ويتطور حتى بداية القرن الثامن، على أن تحليل مواضيع القرآن قد دلت على أن بعض أجزائه ترجع إلى زمن محمد وبعضها الآخر لا بد من إرجاعها إلى أزمان متأخرة أو متقدمة".
وهكذا لم يكتف الغزاة بنسبة القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نسبوه إلى غيره، ممن لحقوا به أو سبقوه.
(1) الباكورة الشهية في الروايات الدينية لطائفة من المبشرين والمستشرقين: ص 183؛ والإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي: ص 511
(2)
الكتب المقدسة والمعارف الحديثة: ص 105؛ وانظر: رد مفتريات على الإسلام ص 232
(3)
الصوفية في الإسلام. نيكلسون: ترجمة نور الدين شريبه: ص 7 ـ 8؛ انظر: الفكر الإسلامي الحديث: ص 168 وص 177 وما بعدها
(4)
الموسوعة الروسية: 28/ 964؛ انظر: كتابنا دراسات في الثقافة الإسلامية: ص 216
2 ـ وقالوا: إن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل، اقتبسه محمد، فأكثر القضايا الشرعية فيه مقتبسة من كتاب التوراة، وجميع القصص فيه ما عدا قصتي صالح وهود مقتبس من التوراة، فإذا نسخنا من القرآن كل ما هو مقتبس من التوراة من الشرائع والسير لا يبقى فيه إلا ما لا يستحق الذكر، واستشهد بعضهم على ذلك بمثل ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والوصايا كالتي في سورة الأنعام والتي في سورة الإسراء (1) . فمثلها موجودة في التوراة، وأكدوا ذلك بأن القرآن اعترف بهذا في قوله:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} (2) .
ومن القائلين بذلك الخوري الحداد، وقد عرض الأستاذ محمد عزة دروزة أقواله التي منها: "إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية توراتية مسيحية يهودية، وإن القرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها، وإنه كتاب توراتي إنجيلي يهودي نصراني في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله
…
" (3) .
ولم يكتفوا بنسبة الاقتباس هذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل أضافوا عليها كذبًا آخر حيث نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في اقتباسه واتباع الهوى والنفس في النقل، يقول الدكتور البهي عنهم:"والإسلام الذي وضعه محمد تأثر فيه بالتعاليم الدينية السابقة عن تعاليم اليهودية والمسيحية، وبالأخص مسيحية الكنيسة السريانية.. ثم إن محمدًا في اقتباسه من المسيحية حرف الفهم فيما اقتبسه؛ لأنه حكم نفسه ومنزلته وقيمته الإنسانية في فهمها، فقد أنكر ألوهية المسيح متأثرًا بنفسه كإنسان، ولم يرق هو في تصور نفسه إلى منزلة عيسى حتى يتصور أنه إله كما كان عيسى"(4) .
(1) آيات الأنعام: 151 ـ 153، وآيات الإسراء من الآية: 23 إلى الآية: 39
(2)
سورة الشعراء: الآيتان 196 و 197
(3)
القرآن والمبشرون: ص 94؛ الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 593؛ ورد مفتريات ص 93
(4)
الفكر الإسلامي الحديث: ص 168
3 ـ وقالوا: إن القرآن ليس معجزًا، ويمكن أن يحاكى ويؤتى بمثله؛ لأنه كلام بشر صيغ في أعلى وأرفع الأساليب العربية بلاغة وفصاحة (1) ومنهم من اعتبر الإعجاز في هذا المجال فقط ـ مجال الفصاحة والبلاغة والنظم ـ وذلك يرجع إلى عبقرية محمد لا إلى أن القرآن معجز في ذاته، يقول الخوري الحداد:"إن المسلمين يلتمسون اليوم للقرآن الشمول من كل وجه، ويحاولون أن يجدوا فيه إعجازا إلهيًّا في العقيدة، وإعجازًا إلهيًّا في الشريعة، وإعجازًا إلهيًّا في الفلسفة، وإعجازًا إلهيًّا في العلم الحديث، وفاتهم جميعًا على أن تاريخ الإسلام يجهل مثل هذا التفكير ومثل هذه المحاولات وأن القدماء إنما جمعوا على أن إعجاز القرآن هو في نظمه"، ثم قام الخوري بعد ذلك بالطعن في نظم القرآن، ونقض رأي القدماء في إعجازه ليخلص من ذلك أن القرآن ليس معجزًا (2) .
وهكذا يدعي الخوري كذبًا أن القدماء أجمعوا على أن الإعجاز القرآني في النظم فقط، ثم نقض ذلك كما أنكر ما يذكره المسلمون في الماضي والحاضر من تعدد جوانب الإعجاز في القرآن الكريم وعدم توقفها أو اقتصارها على النظم، وهو يرمي من وراء ذلك الكذب والإنكار أن ينتهي إلى أن القرآن ليس معجزًا.
4 ـ وقالوا: إن القرآن قد حرف وبدل، واستدلوا لذلك بمثل قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4) .
وادعوا أن جزءًا من القرآن قد ضاع من سورة الأحزاب كان مكتوبًا في ورقة فأكلها جدي، كما ذكر تيوثاوس أسماء سور لا أساس لها من كتاب الله وهي سور الخلع والحفد والنورين، وقد أخذ هذه الأسماء من أدعية قنوت (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6) ..
(1) الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 10
(2)
القرآن والمبشرون: ص 328
(3)
سورة البقرة: الآية 106
(4)
سورة النحل: الآية 101
(5)
كقوله صلى الله عليه وسلم: (نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد....)
(6)
رد مفتريات على الإسلام: ص 102
5 ـ وقالوا: إن آيات القرآن يناقض بعضها بعضًا في اللفظ أو في المعنى، وضربوا لذلك أمثلة ـ لا أساس لها من الصحة كما سيتبين بعد ـ كقوله إن الآية 15 من سورة يونس، وهي قوله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1) تتناقض مع الآية 101 من سورةالنحل، وهي قوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
والآية 106 من سورة البقرة: وهي قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3)
تتناقض مع الآية 27 من سورة الكهف، وهي قوله تعالى:{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (4)
والآية 9 من سورة الحجر، وهي قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) تتناقض مع الآية 39 من سورة الرعد، وهي قوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (6) .
وهكذا الآية 4 من سورة السجدة تتناقض مع الآية 4 من سورة المعارج والآية 1 من سورة البلد مع الآية 3 من سورة التين، والآية 44 من سورة الزمر والآية 4 من سورة السجدة مع الآية 3 من سورة يونس، والآيتان 13، 14 من سورة الواقعة تتناقضان مع الآيتين 39، 40 من سورة الواقعة، والآية 85 من سورة الحجر تتناقض مع الآية 72 من سورة التوبة، والآية 274 من سورة البقرة تتناقض مع الآية 28 من سورة التوبة، والآية 47 من سورة الأحزاب تتناقض مع الآية 65 من سورة الأنفال، والآية 20 من سورة آل عمران تتناقض مع الآية 89 من سورة النساء، إلى غير ذلك من الأمثلة (7) التي تتشابه جميعها في القيام على أساس واحد وهو الجهل وعدم المعرفة، أو العلم المكتوم بالحقد والكراهية أو هما معًا.
ومن التناقض في المعاني ما يقوله العقاد عن هؤلاء الأعداء: "قرأنا لبعضهم أخيرًا كتابًا عن الشيطان يلم فيه بصفة إبليس في الإسلام ويستغرب فيه ـ من هذا الدين ـ أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم
…
مع أنه الدين الذي اشتهر بغاية التشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله
…
" (8) .
(1) سورة يونس: الآية 15
(2)
سورة النحل: الآية 101
(3)
سورة البقرة: الآية 106
(4)
سورة الكهف: الآية 27
(5)
سورة الحجر: الآية 9
(6)
سورة الرعد: الآية 39
(7)
رد مفتريات على الإسلام: ص 37
(8)
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 276
6 ـ وقالوا: إن في القرآن أخطاء كثيرة، وأنه يتعارض مع العلم، واستشهدوا لذلك بأمثلة منها:
أـ ما ذكره فردريك بلس من أن القرآن الكريم لم يفرق بين مريم والدة عيسى عليه السلام وبين مريم ابنة أخت موسى وهارون، يقول بلس: "خاطب القرآن مريم على لسان قومها بعد أن ولدت عيسى ولم يكن لها زوج بقوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (1) .
ثم إنه قال: كيف تكون مريم أخت موسى التي عاشت قبل المسيح بألف وأربعمائة سنة هي أم المسيح" (2) .
ب ـ قول تيموثاوس: "جاء في القرآن في سورة الكهف عند الحديث عن ذي القرنين قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} (3) .
وعلق المجلس الملي القبطي على ذلك مستغربًا ومستنكرًا: "الشمس تغيب في بئر"!! وقال البيضاوي إن الإسكندر الأكبر رآها ورأى طينها وماءها وناسًا عرايا حولها
…
" (4) .
جـ ـ ومن الأخطاء التاريخية قولهم: جاء في سورة القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (5) .
وجاء في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (6) .
وهذا خطأ لأن الملك احشويروش ملك الفرس الذي جاء ذكره في سفر استير كان له وزير يهودي يسمى هامان، وعاش هذا الملك بعد فرعون بنحو ألف سنة ، وهذا هو خطأ القرآن في نظرهم (7) .
(1) سورة مريم: الآية 28
(2)
التبشير والاستعمار: ص 41
(3)
سورة الكهف: الآية 86
(4)
رد مفتريات على الإسلام: ص 128
(5)
سورة القصص: الآية 8
(6)
سورة غافر: الآية 36
(7)
رد مفتريات على الإسلام: ص 158
د ـ ومن الأخطاء اللغوية ـ في زعمهم ـ رفع اسم إن كقوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (1)
، ونصب الفاعل في قوله:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (2) .. ونصب المضاف إليه في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} (3) .
إلى مثل ذلك من الأمثلة (4) التي تدل على جهل كامل باللغة العربية وأسرارها.
هـ ـ ومما زعموه من الأخطاء التشريعية: عدم اتسوية بين المرأة والرجل في الميراث وغيره، وإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، وقطع يد السارق حيث يصبح السارق بعد قطع يده عالة على المجتمع، وتحريم المطلقة على زوجها حتى تنكح زوجًا آخر (5) .
وـ وأخطاء أخلاقية منها: إباحة الكفر عند الإكراه كقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (6) .
ز ـ ومن الأخطاء العلمية ـ في زعمهم ـ ما جاء في سورة لقمان من قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (7) .
وقال رجال المجلس الملي القبطي إن هذا يتعارض مع العلم فقد أثبت العلم أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة (8) .
(1) سورة طه: الآية 63
(2)
سورة البقرة: الآية 124
(3)
سورة هود: الآية 10
(4)
انظر ذلك في: رد مفتريات على الإسلام: ص 169 وما بعدها
(5)
انظر ذلك في: رد مفتريات على الإسلام: ص 174
(6)
سورة النحل: الآية 106
(7)
سورة لقمان الآية 10
(8)
رد مفتريات على الإسلام: ص 130
7 ـ هناك مطاعن أخرى تأخذ صفة العموم كقول دي بوي: "جاء القرآن للمسلمين بدين ولم يجئهم بنظريات (1) وتلقوا فيه أحكامًا ولم يتلقوا فيه عقائد"(2)
وما قاله مرجليوث وطه حسين عن الشعر الجاهلي ثم تطبيق ذلك على القرآن بما يبين أنه صورة للبيئة وانطباع لها أكثر من الشعر الجاهلي المنتحل.
وهكذا نجد الهجوم الصليبي اليهودي على القرآن الكريم من شتى الجوانب، في أصله ونزوله، وفي أصالته وتقليده، وفي إعجازه وإنسانيته، وفي بلاغته وفصاحته، وفي ألفاظه ومعانيه، وفي صحته وخطئه، في سلامته وتناقضه، وفي أحكامه وتشريعاته، وفي مضمونه ومحتواه، ولكنه ـ كما سنبين في الفقرات التالية إن شاء الله ـ هجوم هش ومعركة خاسرة، وسهام طائشة مردودة إلى نحور أصحابها من الغزاة الحاقدين أعداء القرآن والمسلمين.
(1) يريد ـ كما يقول العلمانيون ـ أن الدين خاص بالآخرة ، أما شئون الحياة والسياسة والاقتصاد والمجتمع فلها أنظمتها الخاصة التي تختلف من بيئة لأخرى ومن شخص لآخر وفق المصالح والمنافع
(2)
القرآن والنبي: ص 100
الفصل الثالث
تفنيد المطاعن السابقة والرد عليها
في هذا الفصل نذكر المطاعن السابقة حسب ورودها في الفصل السابق لنناقش كلًّا منها ونقيم الأدلة على زيفها وبطلانها في الفقرات التالية:
أولًا ـ قولهم إن القرآن بشري من عمل محمد وليس وحيًا.
والرد على ذلك من عدة جوانب:
(أ) أن القرآن الكريم كان الدليل الذي قدمه النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين لإثبات نبوته وصدق دعوته، فدل ذلك على أنه كلام غير عادي، وليس من عند محمد، إذ لو كان عاديًّا أو من عند محمد لما صح أن يكون دليلا لأنه لا يخرج عن كلامهم، ولا بد أن يكون الدليل شيئًا آخر، وقد أحس المشركون بذلك لولا عنادهم واستكبارهم، وفي ذلك يقول الشيخ محمودشاكر:"ولم يكن من برهانه ولا مما أمر به أن يلزمهم الحجة بالجدال حتى يؤمنوا إنما هو إله واحد، وأنه هو لله نبي، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويقروا له بصدق نبوته، بدليل واحد هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة إلا أن هذا المقروء عليهم كان هو نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو ، ولامن كلام بشر مثله، ثم أيضًا لا معنى لها البتة إلا أن يكون في طاقة هؤلاء السامعين أن يميزوا واضحًا بين الكلام الذي هو من نحو كلام البشر والكلام الذي ليس من نحو كلامهم".
ثم انتقل إلى قضية التنجيم (1) في نزول القرآن الكريم وابتدائه قليلًا مبتاعدًا ثم تكاثره وتتابعه ليبين أن قليله ككثيره في الدلالة على أنه موحى به، ودليل على نبوة حامله صلى الله عليه وسلم يقول:"وكان هذا القرآن ينزل عليه منجمًا، وكان الذي نزل عليه يومئذ قليلًا كما نعلم، فكان هذا القليل من التنزيل هو برهانه الفرد على نبوته، وإذن فقليل ما أوحي إليه من الآيات يومئذ، وهو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تنامت وتجمعت في القرآن جملة كما نقرؤه اليوم مُنْطَوٍ على دليل مستبين قاهر يحكم له بأنه ليس من كلام البشر، وبذلك يكون دليلًا على أن تاليه عليهم ـ وهو بشر مثلهم ـ نبي من عند الله مرسل"(2) .
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إلي، فأن أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) (3) .
(1) التنجيم أي نزول القرآن منجّمًا أي مفرقًا على دفعات على مدى ثلاثة وعشرين عامًا ما بين آيات إلى سور حتى اكتمل نزوله قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل
(2)
مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 21
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي: 2/ 186، والسراج الوهاج: 1/ 126
فالقرآن هو آية الله تعالى في الأرض، آيته المعجزة من الوجه الذي كان به معجزًا للعرب ولكل البشر وللثقلين جميعًا. ومن هنا كان حقًّا على كل عاقل، وعلى كل بليغ، وعلى كل متذوق، وعلى كل فاهم أن يقر وأن يعترف حيث لا مناص له عن ذلك بأن القرآن وحي الله، وآيته لخلقه ولا دخل لأي بشرية فيه لا من محمد ولا من غيره، يقول الشيخ شاكر: "لقد فات بيان القرآن طاقة بلغاء الجاهلية وكانت له خصائص ظاهرة تجعل كل مقتدر بليغ مبين، وكل متذوق للبلاغة والبيان لا يملك إلا الإقرار له بأنه من غير جنس ما يعهده سمعه وذوقه، وأن مبلغه إلى الناس نبي مرسل، وأنه لا يطيق أن يختلقه أو يفتريه؛ لأنه بشر لا يدخل في طوقه إلا ما يدخل مثله في طوق البشر، وأنه إن تقول غير ما أمر بتبليغه وتلاوته بان للبشر كذبه، وحق عليه قول منزله من السماء سبحانه:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (1) .
(ب) أو نزوله منجمًا في ثلاثة وعشرين عامًا على حسب الغايات الربانية، والأهداف التربوية على الرغم من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم لنزوله قبل ذلك أو في وقت أسرع دليل على أنه وحي يوحى، يمضي حسب المشيئة الإلهية وليس الأهداف والرغبات الشخصية، وكم من مرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حاجة ماسة لنزول الوحي فيتأخر عنه، وكم من مرة نزل على غير ما يحب ويتوقع، يقول الكتور دراز: " بل كان يأتي أحيلنًا على خلاف ما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم ويريده فيخطئه في الرأي، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرًا تلقاه القرآن بالتعنيف الشديد، والعقاب القاسي، والنقد المر، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) .
(1) سورة الحاقة: الآيات 44 ـ 47
(2)
سورة التحريم: الآيتان: 1، 2
وقد وضح ذلك الدليل بشيء من التفصيل الأستاذ مالك بن نبي في حديثه عن الخصائص الظاهرية للوحي وتطبيقها على القرآن ومن هذه الخصائص التنجيم فقال: "يضم الوحي في مجموعه ثلاثة وعشرين عامًا، فهو لا يكون ظاهرة مؤقتة أو خاطفة، ولقد نزلت الآيات منجمة بين كل وحي وما يليه مدة انقطاع تتفاوت طولًا وقصرًا، ولقد ينقطع الوحي مدة أطول مما ينتظره النبي وبخاصة عندما يلزمه أن يتخذ قرارًا يعتقد أن من الواجب ألا يصدره قبل تصديق السماء عليه " وأوضح مثال على ذلك موقفه إزاء قرار الهجرة، فلقد غادر أصحابه مكة فارين بدينهم بينما كان يعقد أنه لا بد فيما يتعلق بشخصه أن ينتظر أمرا صريحًا من الوحي، ومثال آخر: عندما كان الأمر بالنسبة له يحتم اتخاذ قرار في موقف محير مريب، بينما ينتظر ـ على أحر من الجمر ـ وحي الله الحاسم، ولقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذه الحيرة في حادثة الإفك (1) التي لم يفصل فيها الوحي إلا بعد شهر من الانتظار على مضض (2) .
وهكذا كان ينزل القرآن الكريم وفق المشيئة الإلهية ولتحقيق الغايات التربوية في المناسبات والنوازل بالرسول والأمة في مدى ثلاثة وعشرين عاما يعزز الجهود ويثبت الأفئدة ويواسي المصابين، ويبشر الصابرين، ويشد من أزر المجاهدين، يقول مالك بن نبي:"وكلما كان الإسلام ينتشر في رُبا الحجاز ونجد كان الوحي يتنزل بالدرس الضروري في المثابرة والصبر والإقدام والإخلاص يلقنه أولئك الأبطال الأسطوريين، أبطال الملحمة الخارقة.. ولو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحول سريعًا إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية لا مصدرًا يبعث الحياة في حضارة وليدة، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم"(3) .
وفي هذا كله يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (4) .
(1) انظر الآيات: 11 ـ 26 من سورة النور؛ وانظر: لباب النقول في أسباب النزول، وتفسير ابن عطية: 1/ 449 ـ 475، وعون الباري لحل أدلة صحيح البخاري: 4/ 220 ـ 237 وغيرها
(2)
الظاهرة القرآنية: ص 220، والنبأ العظيم: ص 24
(3)
الظاهرة القرآنية: ص 222
(4)
سورة الفرقان: الآيتان 32، 33
(ج) الوحدة الكمية في القرآن الكريم؛ وهذا دليل آخر من أدلة الوحي، وذلك أنه على الرغم من نزول القرآن منجمًا كما أشرنا من قبل، إلا أن بين آياته كلها وآيات السورة الواحدة، والسورة مع السور الأخرى ترابطًا وانسجامًا لا يستطاع لعبقرية بشرية، ويعرض علينا الدكتور دراز نماذج متعددة من هذه الوحدة سواء منها القطعة الواحدة (الجملة) من القرآن مع غيرها منه، أو في السورة الواحدة مع آياتها أو في السور جميعها مع بعضها البعض، أو في القرآن كله من أوله إلى آخره، ونكتفي هنا بهذه الفقرة من كلامه في هذا المعنى يقول رحمه الله: "فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلم إلى النظر في السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز، ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبل الإطالة والتزام جانب الإيجاز ـ بقدر ما يتسع له جمال اللغة قد جعله هو أكثر الكلام افتتانًا، نعني أكثره تناولًا لشؤون القول وأسرعه تنقلًا بينها من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شؤون وشؤون، أو لست تعلم أن القرآن ـ في جل أمره ـ ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان يتنزل بها آحاد مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها والاختلاف الذاتي بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتواصل والترابط، ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام، وتقطيع أوصاله، إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة. وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا، ووحدتها تمزيقًا، ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني
…
" (1) .
(1) النبأ العظيم: ص 145، 146
وهكذا يقدم لنا الدكتور دراز الأسباب والأدلة التي جعلت من هذا التنجيم في نزول القرآن مع هذا التأليف والانسجام بين ما نزل أولًا وما نزل آخرًا، وما هو مكي وما هو مدني، وما هو في القصص وما هو في الأحكام، وما هو في السلم وما هو في الحرب، وما هو في الأخلاق والشؤون الاجتماعية وما هو في المعاملات والشؤون المالية، نسيجًا مختلفًا عن تأليف البشر ونظامًا لا ترقى إليه عبقرية ولا تطيقه أية قوة غير إلهية، ومن هذا يثبت أن القرآن ليس بشريًّا وإنما هو وحي الله العظيم.
وفي توضيح هذا المعنى أيضا يقول الأستاذ مالك بن نبي: "الوحي ظاهرة منجمة فهو في أساسه متفاصل شأن مجموعة عددية، أي أنه متكون من وحدات متتالية هي الآيات، وهذه الخاصة توحي إلينا بفكرة الوحدة الكمية، فكل وحي مستقل يضم وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنية، بيد أن هذه الوحدة القرآنية ليست ثابتة، فهي لا تماثل الوحدة التي تزيد في مجموعة الأعداد حين يضاف واحد إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليؤيد إلى الوحدة العددية التالية، فإن للوحي مقياسًا متغيرًا هو كميته أو سعته، تلك السعة التي تتراوح بين حد أدنى هو الآية وحد أقصى هو السورة"، ثم يمضي في تفسير هذا المعنى ببيان صلته بالنبي صلى الله عليه وسلم لينتهي من ذلك إلى نفي أي تأثير بشري في هذا الوحي، وتأكيد خلوصيته وتمام نسبته إلى الوحي الإلهي فيقول: "وتأمل هذه الوحدة يتيح لنا بعض الملاحظات المفيدة عن العلاقة بين الذات المحمدية والظاهرة القرآنية، إذ هي تتناسب في الزمن مع الحالة الخاصة التي سميناها (حالة التلقي) عند النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأينا ـ بصفة خاصة ـ أن إرادته تنعدم مؤقتًا؛ إذ هو عاجز في تلك اللحظات عن أن يغطي وجهه المحتقن المتفصد عرقًا، فعن هذه الذات العاجزة فجأة ـ وللحظات ـ تصدر وحدة التنزيل، على هذه الذات الغارقة في حالة لا شعورية تقريبًا يطبع الحي فجأة فقراته الوجيزة.. ههذ الوحدة تؤدي بالضرورة فكرة واحدة، وأحيانًا مجموعة من الفكر المنتظمة في أسلوب منطقي يمكننا ملاحظته في آيات القرآن، ودراسة هذه الفكر في ذاتها وفي علاقاتها ببقية حلقات السلسلة تكشف عن قدرة خالقه ومنظمة لا يمكن أن تنطوي عليها الذات المحمدية في تلك الظروف النفسية الخاصة بحالة تلقيها الوحي بل حتى في ظروفها الطبيعية
…
" (1) .
(1) الظاهرة القرآنية باختصار: ص 223
ويؤكد الدكتور دراز هذا المعنى بالنظر في أي آية من آيات القرآن أو سورة من سوره فيقول: "اعمد إلى سورة من تلك السورة التي تتناول أكثر من معنى واحد، وما أكثرها في القرآن فهي جمهرته، وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدئت وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها، وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطأت أولاها لآخرها؟ وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به سواء أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى
…
" (1) .
ثم يتعجب ويستنكر كيف يوجد بعد هذا النظام البديع والترتيب المعجز من يقول إنه بشري؟ وكيف يكون عاقلًا أو فاهمًا بعد اطلاعه على هذا النسيج العجيب من يقول إنه إنساني؟ ومتى وأين وجدنا إنسانًا لديه مثل هذه القدرة على هذا العمل العظيم؟ حاشا لله أن يكون من عند غير الله. يقول: "أي تدبير محكم، وأي تقدير مبرم، وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى ولا يتردد ولا يتمكث كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها وهداها في إبان تشتيتها إلى ما قدره لها حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟ سبحان الله! هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري، وأن هذا الرأي الأنف (2) البدائي الذي يقول في الشيء: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت أو قدمت أو أخرت، لم يك أهلًا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير، أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآن ليس من وضع بشر، وإنما هو صنع العليم الخبير؟ بلى"(3) .
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4) .
(1) النبأ العظيم: ص 154
(2)
أنف كل شيء أوله أي أن هذا الرأي مغرق في البدائية والجهل
(3)
النبأ العظيم: ص 157
(4)
سورة النساء: الآية 82
أما الأستاذ مالك بن نبي فيسوق أمثلة لهذه الوحدة الكمية منها الوحدة التشريعية في سورة النساء، والوحدة التاريخية في سورة المنفافقون.
(د) ومن الأدلة أن القرآن وحي إلهي لا صنع بشري ولا عمل محمدي أسلوب القرآن وصوره الأدبية العالية، ذلك الأسلوب القرآني الفريد المتميز الذي فاق جميع الأساليب العربية المعروفة وغير المعروفة إبان نزوله مما جعل أصحاب البلاغة وأساطين الفصاحة يتحيرون معه فلا هو شعر مثل أشعارهم ولا رجز ولا سجع ولا نثر، إنه ذلك كله وأعظم من كل ذلك، ذلك الأسلوب الذي استحوذ على إعجاب الماضين والحاضرين، وكل من يسمعه رغم التقدم العلمي الكبير الذي لم يعد يحفل بالصور والأساليب الأدبية والتعبير البياني، يقول الدكتور دراز: "أما الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعًا لا يلتبس معه بغيره، ولا يجعل طامعًا يطمع أن يحوم حول حماه، بل يدع الأعناق تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور، كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كفتي ميزان ثم نظر بإحدى عينيه، أو سمعه بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي (1) وأساليب سائر الناس، وكان قد رزق حظًّا ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها استدلالًا بصنعة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على صانع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
وهكذا يؤكد أسلوب القرآن الفريد وتميزه العجيب وتفوقه على كل الأساليب أنه صنع الله ووحيه، وليس للصنعة البشرية أي موضع فيه، يقول الأستاذ مالك بن نبي:"إن القرآن يؤكد صراحة سمو بيانه الذي أعجز به العبقرية الأدبية في عصره حين قذف في وجوه معاصريه بهذا التحدي المذهل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) ولم يذكر التاريخ أن أحدًا قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب، وأن إعجازه الأدبي قد أفحم عبقرية ذلك العصر"(4) .
ليس ذلك العصر فحسب بل جميع العصور وكل العبقريات والإنس والجن إلى يوم القيامة.
(1) رغم أن صاحبه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم
(2)
سورة الشورى: الآية 11؛ والنبأ العظيم: ص 100
(3)
سورة البقرة: الآية 23
(4)
الظاهرة القرآنية: ص 232
(هـ) ودليل آخر على أن القرآن وحي الله لا عمل محمد وذلك هو مضمون الرسالة الذي احتواه القرآن الكريم في وضوح وشمول وإيجاز وإطناب وإجمال وتفصيل، ذلك الشمول التام لمفردات الإسلام وكلياته من عقائد وعبادات وتشريع وأخلاق ومعاملات وقصص وحكم وأمثال وحلال وحرام وترغيب وترهيب وعلوم وتاريخ وأخبار ماضية وحاضرة ومستقبلة، هذا كله وغيره لم يكن لنا أن نعرفه لولا حديث القرآن الكريم عنه ذلك الحديث القديم الجديد الذي لا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن رحابة الموضوعات القرآنية وتنوعها لَشيء فريد طبقًا لتعبير القرآن نفسه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) .
فهو يبدأ حديثه من ذرة الوجود المستودعة باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار ـ كقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (2) إلى النجم الذي يسبح في فلكه نحو مستقره المعلوم كقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (3) .
وهو يتقصى أبعد الجوانب المظلمة في القلب الإنساني فيتغلغل في نفس المؤمن والكافر بنظرة تلمس أدق الانفعالات في هذه النفس وهو يتجه نحو ماضي الإنسانية البعيد، ونحو مستقبلها، كما يعلمها واجبات الحياة، وهو يرسم لوحة أخاذة لمشهد الحضارات المتتابع ثم يدعونا إلى أن نتأمله من عواقبه عظة واعتبارًا، وإن درسه الأخلاقي لهو ثمرة نظرة نفسية متعمقة في الطبيعة البشرية تصف لنا النقائص التي ينهى عنها وينفر منها، والفضائل التي يدعو إلى التأسي بها من خلال حياة الأنبياء، أولئك الأبطال والشهداء في سجل ملحمة السماء، وعلى هذا الأساس يدفع القرآن المؤمن إلى الندم الصادق حين يعده بالغفران، أساس التربية الجزائية في الأديان السماوية
…
" (4) .
(1) سورة الأنعام: الآية 38
(2)
سورة لقمان: الآية 16
(3)
سورة يس: الآية 40
(4)
الظاهرة القرآنية باختصار: ص 237
(و) ودليل آخر على أن القرآن وحي من الله تعالى لا صنعة لأحد فيه ذلك الأثر البالغ والتأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم في قلوب كل من يقرأه أو يستمع إليه، والشواهد على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر مما يؤكد أن القرآن الكريم كان وما يزال وسيظل وراء إسلام الآلاف والملايين، ولولا العناد والاستكبار لآمن به كل من سمعه ونَقَدَ ما يدعو إليه. لقد بكى النجاشي حين استمع إليه من جعفر بن أبي طالب في أعقاب الهجرة إلى الحبشة، وقال قولته المشهورة:"إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مكشاة واحدة"، وكان سببًا في إسلامه فور وصول كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه (1) .
ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بعضه على الوليد بن المغيرة ـ وهو الذي جاء لإغراء النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغريات لعله يرجع عن دعوته ـ ارتد إلى قومه وهو يقول: "والله لقد سمعت كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه" وقال عتبة بن ربيعة لقومه بعد أن استمع من النبي صلى الله عليه وسلم لجزء من سورة فصلت: "يا قوم أطيعوني في هذا الأمر اليوم، واعصوني فيما بعد، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذناي كلامًا مثله، وما دريت ما أرد عليه"(2) .
وقال توماس كارليل في كتابه "الأبطال" عن القرآن: "هذا صدى متفجر من قلب الكون نفسه".
يقول مالك بن نبي في تعليقه على ذلك: "وفي هذه الصرخة الفلسفية نجد أكثر من فكرة جافة لمؤرخ، نجد بعض ما يشبه الاعتراف التلقائي لضمير إنساني سامٍ بُهِتَ أمام عظمة الظاهرة القرآنية، وإن العقل الإنساني ليقف فعلًا حائرًا أمام رحابة القرآن وعمقه
…
" ويضيف: "إنه لو أتيح لأحد من الناس أن يقرأ القرآن قراءة واعية يدرك خلالها رحابة موضوعه، فلن يمكنه أن يتصور الذات المحمدية إلا مجرد واسطة لعلم غيبي مطلق" (3) .
وهكذا يكون تأثير القرآن الكريم باعتراف الأعداء دليلًا على أنه وحي وأنه غير بشري.
(1) خاتم النبيين: 1/ 496
(2)
خاتم النبيين: 1/ 470
(3)
الظاهرة القرآنية: ص 238
(ز) التحدي القائم إلى يوم القيالمة: فنحن نعلم أن الله تعالى تحدى العرب أن يأتوا بمثل القرآن - إن كان بشريًّا أو كان محمد كاذبًا - فعجزوا، فسهل عليهم الأمر وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، فسهل عليه الأمر أكثر وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا، فثبت من ذلك أنه ليس من كلام البشر وإلا لاستطاعوا إليه سبيلًا لتوفر كل الأسباب الداعية إلى ذلك عندهم. فعجزهم هذا المطبق دليل على أنه وحي يوحى. يقول الشيخ شاكر: "ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عامًا، والمسلمون قليل مستضعفون في أرض مكة، وظل الوحي يتتابع وهو يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات، فلما انقطعت قواهم، قطع الله عليهم وعلى الثقلين جميعًا منافذ اللدود والعناد فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) .
وكذلك كان، فكان هذا البلاغ القاطع الذي لا معقب له هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر النزاع فيه، لا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه من العرب فحسب، بل بينه وبين البشر جميعًا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، لا بل بينه وبين الإنس والجن مجتمعين متظاهرين، وهذا البلاغ الحق الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه هو الذي اصطلحنا عليه فيما بعد وسميناه "إعجاز القرآن"(2) .
وإعجاز القرآن هذا هو دليل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، وعلى أنه رسول من الله يوحى إليه هذا القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف إعجاز القرآن من الوجه الذي عرفه منه سائر من آمن به قومه العرب.." إلى أن يقول:"فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، وأما النبوة فليست برهانًا على إعجاز القرآن"(3) .
(1) سورة الإسراء: الآية 88
(2)
مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 24؛ وانظر أيضًا النبأ العظيم: ص 44 ـ 88
(3)
مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 17 ـ 18 باختصار
(ح) ومن الأدلة على أن القرآن وحي إلهي لا عمل بشري أنه صحح العقائد الإلهية؛ فقد كانت العقيدة في الله قبل القرآن الكريم يشوبها الكثير من الشرك والانحراف عن التوحيد حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن من عند الله، فأبطل الباطل وأتم الناقص، وأقام المعوج حتى استقامت عقيدة التوحيد كما لم تكن من قبل ، وذلك دليل على أن القرآن وحي من عند الله، فلم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لغيره لولا الوحي الإلهي أن يقوم بذلك، يقول الأستاذ العقاد رحمه الله:" فالله رب العالمين، مالك يوم الدين، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية، بل كان هو الأصل الذي يثوب إليه من ينحرف عن العقيدة في الإله كأكمل ما كانت عليه وكأكمل ما ينبغي أن يكون، ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات، أو في مذاهب الفلسفة، ومباحث الربوبية، فهي عقيدة كاملة صححت وتممت عقيدة في الهند في: الكارما والنرفانا (1) لأنها عقيدة في خواء أو فناء مسلوب الذات لا تجاوب بينه وبين أبناء الحياة، وهي عقيدة كاملة صححت وتمممت عقيدة المعلم الأول أرسطو بين فلاسفة الغرب الأقدمين؛ لأنه كان على خطأ في فهم التجريد والتنزيه، ساقه هذا الخطأ إلى القول بكمال مطلق كالعدم المطلق في التجرد من العمل والتجرد من الإرداة، والتجرد من الروح، ودين يصحح العقائد الإلهية ويتممها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضارتها ومذاهب فلاسفتها ، تراه من أين أتى؟ ومن أي رسول الله مبعثه ومدعاه؟ من صحراء العرب، ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات، إن لم يكن هذا وحيًا من الله فكيف يكون الوحي من الله؟ ليكن كيف كان في أخلاد المؤمنين بالوحي الإلهي حيث كان، فما يهتدي رجل أمي في أكناف الصحراء إلى إيمان بالله أكمل من كل إيمان تقدم إلا أن يكون ذلك وحيًا من الله، وإنه لحجر على البصائر والعقول أن تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا؛ لأنه لا يصدق عليها في صورة من صور الحدس والخيال"(2) .
(1) صورتان من صورة التنزيه للإله عند الهنود القدماء، وهما بالمعاني الذهنية اشبه منهما بالكائنات الحية، وإحداهما ـ وهي النرفانا ـ إلى الفناء أقرب منها إلى البقاء، وانظر حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 44
(2)
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 54 ـ 55
إذن تصحيح العقيدة في الله بهذا الشكل التوحيدي النقي الذي صحح أعوجاج العقائد السابقة وأتم نقصانها لا يستطيعه شخص أمي من بيئة صحراوية، ولا عبقري من بيئة حضارية، فلم يكن لهذا ولا ذاك أن يصل إلى هذا الكمال الذي لم يعرف إلا من القرآن إلا عن طريق الوحي الإلهي، فتحصّل من ذلك القرآن الذي صحح هذه العقائد الإلهية لا بد أن يكون وحيًا ويستحيل أن يكون غير ذلك، فالذي جاء به لم يسبق إليه، ولن يلحق فيه، ويضيف الدكتور دراز أن الإسلام والقرآن لم يصححا عقيدة التوحيد فحسب، بل إنه "يشرح حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب.. ثم يخبر عن مستقبل الإسلام في نفسه، وفي شخص كتابه ونبيه، وعن مستقبل حزب الله وحزب الشيطان
…
" (1) .
(ط) أمية النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذا دليل آخر على القضية التي ننحن بصددها وهي إثبات أن القرآن وحي إلهي لا عمل بشري محمدي. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة الجميع أميًّا لا يقرأ ولا يكتب فكيف لأمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يؤلف مثل هذا الصرح العظيم بل أقل منه ملايين الدرجات، هذا فضلًا عما تضمنه القرآن الكريم من تاريخ الماضي السحيق الذي لا يعرفه العلماء المتخصصون، فكيف بالأميين، وكذلك الإخبار عن المستقبل والعلماء لم يستوعبوا الحاضر بعد، وما اشتمل عليه القرآن من حقائق علمية لم يعرفها المتخصصون منذ بضع سنوات وما زال بعضها غير معروف، فكيف بأمي في أمة أمية يعرف ذلك لو لم يكن وحيًا، والمتتبع لمؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم يعرف الكثير من ذلك الذي اشار القرآن الكريم إليه منذ نزوله ولم يعرفه العلماء إلا هذه الأيام، وقد اندهش الكثيرون منهم لما وجدوا ذلك في القرآن وآمن بعضهم ولولا الكبر والعناد لآمن الآخرون. وهذا بالإضافة إلى ما في القرآن الكريم من الأحكام التشريعية العظيمة والأخلاق الفاضلة الكريمة، من كل ما يحفظ للإنسانية أمنها وسلامتها وسعادتها، فكيف بمحمد الأمي يعرف كل ذلك لو لم يكن القرآن الكريم وحيًا إلهيًا؟
(1) انظر: النبأ العظيم: ص 40، 42
يقول الدكتور دراز: "فلينظر العاقل: هل كان هذا لنبي الأمي ـ صلوات الله عليه ـ أهلًا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟ سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم، فقد كان له من ذكائه الفطري، وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئًا في السماء تُناوله الفراسة أو تلهمه الفطرة، أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل، وتأملاته الصادقة ،ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله صلى الله عليه وسلم ولكننا نسأله: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتية التي لا مجال فيها للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم"(1) .
وفي ذلك كله يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .
ويقول سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (3) .
ويقول الشاعر: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
(1) النبأ العظيم: ص 36
(2)
سورة الشورى: الآية 52
(3)
سورة العنبكوت: الآية 48
(4)
سورة الجمعة: الآية 2
(5)
سورة الأعراف: الآية 158
(ي) أضاف الأستاذ مالك بن نبي كثيرًا من الأمور التي تدل كل منها ـ فضلًا عن جميعها ـ تدل على أن القرآن وحي من عند الله تعالى وليس بشريًّا من عمل محمد منها: إرهاص القرآن: أي أخباره عن بعض أحوال المستقبل فجاءت فيما بعد كما أخبر القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (1) .
والقرآن لم يكن ثقيلًا في بداية نزوله ونجومه ولكن أصبح كذلك بعد اكتماله ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ثقل الفكرة الدينية والإيمان وليس مجرد القرآن ، فقد حفظه الله تعالى ويسره للذكر، ومنها تصدير أو ختم بعض الموضوعات والقصص القرآنية بالإشارة إلى أن ما قصصناه عليك من أنباء الغيب كقوله تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (2) في صدر قصة يوسف ، وقوله في نهايتها:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (3) .
ومثل ذلك في قصة مريم (4) ، وفي قصة نوح (5) وهكذا.
ومن ذلك: فواتح بعض السور ببعض الحروف المقطعة التي لا مجال للعقل فيها (6) .
ومنها: المناقضات التي كانت تقع بين الميول والاتجاهات الطبيعية لدى النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما يعتريه خلال تلقيه الوحي، فمن ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (7) .
حيث صادرت الآية الكريمة إرادة النبي صلى الله عليه وسلم في الترديد والحفظ أثناء عملية الوحي ووعدته في آية أخرى بالحفظ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (8) .
وبالإضافة إلى هذه المناقضات كانت هناك الموافقات العدة مع البحوث العلمية الحديثة كقوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (9) .
هذا التوافق الذي يخص شكل الأرض ودحو قطبيها، تلك الخاصة المساحية التي أثبتها العلم الحديث عمومًا، ويضاف إلى ذلك المجاز القرآني والقيم الاجتماعية التي جاء فيها القرآن بما لا يحصى (10) .
(1) سورة المزمل: الآية 5
(2)
سورة يوسف: الآية 3
(3)
سورة يوسف الآية: 102
(4)
سورة آل عمران: الآية 44
(5)
سورة هود: الآية 49
(6)
كأوائل السور: البقرة، آل عمران، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، مريم، الطواسين، الحواميم، ق، ن
(7)
سورة طه: الآية 11
(8)
سورة القيامة: الآيات 16 ـ 19
(9)
سورة الأنبياء: الآية 44
(10)
بتصرف من الظاهرة القرآنية: ص 325 ـ 360
(ك) بقيت قضية أخرى تتعلق بادعاء "بشرية القرآن" وذلك بتفسير هذه البشرية من الجانب النفسي وهو "اللاشعور" وقد حلل الأستاذ مالك بن نبي هذه المقولة وأبطلها أولًا لغموضها ، وثانيًا لأنها في أولها ، فاللاشعور مهما اختلف عن الشعور فهو لا يخرج عن كونه نشاطًا إنسانيًّا نفسيًّا، ولا علاقة له بالوحي، يقول:"لعبت كلمة لا شعور دورًا نظريًّا هامًّا في تفسير الظاهرة القرآنية، فإذا أردنا أن نفهم معنى هذا المصطلح في نظريات علم النفس وجدناه في منتهى الغموض، فهو لا يعني شيئًا محددًا كما تعني مثلًا المصطلحات المعروفة كالتذكر والإرادة، إن نظرية "اللاشعور" ما تزال في مرحلة نشوئها ومع ذلك فقد استخدموها لكي يفسروا لنا ـ كما يدعون ـ الظاهرة القرآنية بطريقة موضوعية، ومن الصعب علينا أن نعتقد أن هؤلاء المؤلفين قد بذلوا أقل الجهد لكي يتفهموا الموضوع، فمما لا شك فيه أن الذات الإنسانية تحتوي على مجال معين تتكون فيه الظواهر النفسية الغامضة التي لا تخضع لسلطان الشعور كالأحلام مثلًا، فهذا المجال المظلم الذي تدوي فيه بعض طوارئ الحياة النفسية الشعورية في الفرد ذو علاقة واضحة بالحالات الشعورية، فلو أردنا لأطلقنا لفظ "لا شعور" على هذا المجال المظلم، وجميع العمليات التي تتم فيه أشكال محورة خاصة لفكرة أو واقع مر الشعور، فيمتص اللاشعور هذه العناصر الشعورية ويودعها مخيلته لكي يقلبها غالبًا إلى رموز، إلى أحلام، إلى حديث نفسي، إلى إلهام، ولكن هذه الرموز تحتفظ بمعالم الفكرة أو الواقع الذي تولدت عنه، لا شك أن هذه العلاقة تتفاوت في غموضها، ولكن التحليل قد يكشف عنها، إذ من الممكن أن نجد في حلم أو كابوس الطريقة التي اتبعها "اللاشعور" في صياغة رمزه بالرجوع إلى حادث سابق تسبب فيه، فهو حساسية خاطفة، أو تذكار قاس، أو هو راجع إلى يسر الهضم أو عسره.. إلخ، فاللاشعور يعمل هنا عمل المستقبل الكهربي بالنسبة للمولد الكهربي الذي هو الشعور، وعليه ففي هذا المجال الأخير يجب أن نلتمس دائمًا مصدر العمليات النفسية التي يصفونها باللاشعورية، وعندما يتضح أن فكرة ما لا تخضع مطلقًا للذات الشعورية فمن الممكن أن نفهم من هذا أنها بالضرورة أجنبية عن هذه الذات، وأنه لا محل لها في اللاشعور"" (1) .
وهكذا يثبت الأستاذ مالك بن نبي أمرين: أولهما أن اللاشعور في الإنسان غير مستقل عن الشعور، ولكنه ترجمة محورة له ورموزه معبرة عنه فهو بهذا عملية نفسية إنسانية، وثانيهما: أن اللاشعور إذا جاء بشيء مستقل عن الشعور ولا علاقة له به كان ذلك خضوعًا وفي المستقبل فهو ليس من اللاشعور النبوي بل هو بالضرورة أجنبي عن هذه الذات، ولا مجال لذلك إلا أن يكون القرآن وحيًا وهو المطلوب.
(1) الظاهرة القرآنية: ص 214 ـ 215
(ل) دليل السيرة النبوية: فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قومه على مدى أربعين سنة قبل الوحي بالصادق الأمين، وأصبح ذلك علمًا عليه، فإذا أطلق انصرف إليه صلى الله عليه وسلم ولم تمنع العداوة التي كانت عند المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، أن يستمروا على ما عرفوه ويشهدوا به في كل مكان كما حدث من أبي سفيان عند هرقل ملك الروم (1) ، فمن غير المعقول بعد هذا الرصيد الطويل وهذه الشهادة العامة أن يكذب محمد في نسبة القرآن إلى الله (2) .
وصدق الله العظيم: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) .
وكان الواجب عليهم بعد هذا الإقرار النبوي أن يأخذوا منه الدليل على صدقه في نسبة القرآن إلى الله، لا تكذيبه والشك فيه.
(1) رواه الشيخان: انظر الحديث بتفاصيله في عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري: 1/ 77 ـ 112
(2)
النبأ العظيم: ص 23
(3)
سورة يونس: الآية 16
(م) دليل العقل والمنطق: ومؤداه أن العقل والمنطق يقضي بأن ينسب محمد القرآن إلى نفسه لو كان من عنده ليكسب من وراء ذلك التفوق على أقرانه بهذا البيان العظيم البلاغة الفائقة، كما يفعل بعض الأدباء والعلماء الذين يسطون على أعمال غيرهم ليحققوا من وراء ذلك شهرة ومكانة، ولكن محمدًا لم يفعل ذلك، بل نسب القرآن ـ على حقيقته ـ إلى الله لأنه ليس فيه حول ولا طول، فإذا قيل: إنما فعل ذلك ليحقق منزلة أعظم ومكانة أكبر واستجابة أعم، أجيب بأن ذلك غير صحيح، وإلا لنسب كل أقواله ـ كالسنة النبوية ـ إلى الله، فإذا لم يفعل دل ذلك على أن لله قولًا موحى به هو القرآن الكريم، وللنبي صلى الله عليه وسلم قولًا آخر وهو السنة النبوية المطهرة (1) .
(ن) وأخيرًا يقدم لنا الدكتور البهي دليلًا حاسمًا في هذه القضية يسأل فيه المنكرين إن كانوا يؤمنون بوحي سابق نزل على موسى وعيسى وغيرهما أو لا يؤمنون، فإن كانوا يؤمنون فالقضية واحدة ولا بد لهم أن يسلموا إما بالجميع أو بإنكار الوحي عمومًا، أما أن يؤمنوا به في جهة وينكرونه في جهة أخرى فهذا لا يقبله العلم ولا المنطق والموضوعية، وإن كانوا ينكرون الوحي بعامة فلن يجدي معهم أي دليل. يقول:"لو واجهنا بالقرآن غير المسلم من متعصبي أهل الكتاب، فإنه ـ القرآن ـ لا يكون له دليل هداية واقناع على أن القرآن وحي من الله، وإنما الذي يجب أن يسلك معه مطالبته بتحديد موقفه من الوحي كقضية عامة للديانات الثلاث، وليست قضية الإسلام وحده ، فما يقوله الغرب المسيحي باسم العلم تأييدًا لوحي عيسى أو موسى يصح أن يقال تأييدًا لوحي محمد، فإذا كان الوحي كأمر غير عادي يخضع للطريقة العلمية الحديثة، أو لا بد أن يقف عند حد اعتقاد المؤمنين به في كل دين فكل أنواع الوحي سواء في هذا أو ذاك، أما الأمر الذي يجب أن ينكره البحث العلمي ـ بهذا التحديد ـ فهو أن يناقش نوع من الوحي ويتشكك فيه باسم العلم، ثم يصان نوع آخر منه على أنه بديهي التسليم، وبعيد عن مجال الجدل العقلي والنظري أو العلمي التجريبي"(2) .
(1) النبأ العظيم: ص 22
(2)
الفكر الإسلامي الحديث: ص 194
وبعد، فقد ثبت لنا بالعديد من الأدلة القطعية التي قدمناها في هذه الفقرة سواء منها ما يتصل بذات القرآن الكريم من حيث لفظه ونظمه وأسلوبه وبلاغته ونزوله وترتيبه، ومن حيث مضمونه وما احتواه من عقائد صحيحة وأحكام مناسبة ومعاملات سليمة وأخلاق فاضلة، ومن حيث أخباره الماضية العتيقة والمستقبلة البعيدة وأسراره التي لم تحل وغيبياته التي لم تكشف ، أو ما يتصل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث أميته وسيرته وحالته في التلقي، وحرصه على الحفظ وانتظاره قبل اتخاذ القرار وبعده عن الشعور واللاشعور، كما رأينا أن العقل والمنطق والعلم والموضوعية كلها تشهد بأن القرآن الكريم وحي إلهي عظيم، فلا مجال بعد ذلك كله إلا الاعتراف والتسليم لأي باحث متدبر وعالم عاقل، وسيبقى القرآن الكريم عزيزًا يغلب كل مغالب، ويعلو على كل شاعر وكاتب، وستنقضي الأحقاب والأجيال قبل أن تنقضي عجائبه وقبل أن يحيط الناس بكل ما فيه:{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (1) .
أما من ينكر بعد كل ذلك فهو إما ممن غرق في حمأة العناد ممن يقولون: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (2) .
أو ممن لا يجدون طمأنيتهم إلا في اضطراب الشك يقولون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (3) .
وهؤلاء وأولئك لا سبيل لنا عليهم ولا ينفعهم نصحنا إن كان الله يريد أن يغويهم، إذ ليس من شأننا أن نسمع الصم أو نهدي العمي، ولا الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم فإذا هم لا يسمعون، أو يضعون أكفهم على أعينهم فإذا الشمس الطالعة ليست بطالعة:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (4) .
وإنما سبيلنا أن ننصب الحجة لجاهلها من طلاب الحق ونوضح الطريق لسابلها من وراء اليقين (5) ، ولعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ومعجزات، لعمري إنه في ترتيب آية على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات. (6)
(1) سورة الأعراف: الآية 53
(2)
سورة الأعراف: الآية 132
(3)
سورة الجاثية: الآية 32
(4)
سورة المائدة: الآية 41
(5)
النبأ العظيم: ص 78
(6)
النبأ العظيم: ص 211
ثانيًا ـ قولهم: إن معظم القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل، فإذا نسخنا منه ما هو مقتبس منهما لم يبق منه ما يستحق الذكر (1)
وهذه دعوى باطلة وغاية في السخف والنكارة والرد عليها من عدة وجوه:
(أ) فالقرآن الكريم لا يشبه التوراة ولا الإنجيل في اللفظ أو الأسلوب أو النظم، فالقرآن كما رأينا في الفقرات السابقة في قمة البلاغة والفصاحة والبيان والإعجاز، أما التوراة والإنجيل ـ بعد تحريفهما ـ ليس في أي منهما شيء من البلاغة ولا الفصاحة ولا البيان، بل إنهما عند الاطلاع على أي منهما يتبين أنهما يقعان في أدنى درجات التعبير والبيان، وفيهما الكثير من الركاكة والألفاظ السوقية حتى ليقلان في أحيان كثيرة عن مستويات التعبير العادية والصحفية.
(ب) أن القرآن الكريم في موضوعاته ومعانيه وما يقدمه من عقائد وعبادات وحلال وحرام وأخلاق ومعاملات يختلف كثيرًا جدًّا عما في التوراة والإنجيل وبخاصة بعد تحريفهما، بل إن فيهما الكثير مما يرفضه القرآن الكريم كما ترفضه العقول السليمة والفطرة الصحيحة، وإذا كان بينهما بعض التشابه في بعض الوصايا والأحكام وأصول العقيدة والشريعة ومكارم الأخلاق، فهذا أمر طبيعي ولازم بين كل الرسالات والكتب السماوية، بل وفي كل المجتمعات المتحضرة؛ لأن المصدر لهذا كله واحد وهو الله تعالى الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب وأودع في كل نفس فطرتها الصحيحة؛ ولأنها جميعًا تهدف إلى غايات واحدة وهي: إصلاح الناس وإسعادهم في الدنيا والآخرة، ولذلك قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (2) .
فهذا في الأصول، وأما الفروع فإنها مختلفة غالبًا لاختلاف الأحوال والبيئات ، ولذلك قال سبحانه:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . (3) .
(1) انظر في هذه الدعوى: إسلام في مواجهة الاستشراق: ص 539 ـ 565، والفكر الإسلامي الحديث: ص 168
(2)
سورة الشورى: الآية 13
(3)
سورة المائدة: الآية 48
(ج) أن الله سبحانه وتعالى وهو رب العالمين ومنزل الكتب كلها ـ قد جعل القرآن الكريم ـ وهو وحيه الذي تولى بنفسه حفظه ـ مصدقًا لما سبقه من الكتب ومهيمنًا عليها قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) .
فالقرآن الكريم يصدق الكتب السابقة ويؤيدها ويوافقها فيما لم تمتد إليه يد التحريف، كما أنه الحكم على هذه الكتب فيما أصابه التحريف وما لم يصبه لأنه الكتاب الوحيد الذي تولى الله تعالى حفظه فبقى كما أنزله الله، فكيف يكون القرآن حاكمًا عليها وهو مقتبس منها؟
(د) أننا قد عرفنا في الفقرة السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميًّا ولم يجلس إلى معلم قط، ولم يعرف شيئًا من القراءة والكتابة، ومن باب أولى لم يطلع على الكتب السابقة، وقد بعث في مكة وهي إبان بعثته صلى الله عليه وسلم خالية من اليهود والنصارى أو على الأقل من الكثرة التي يمكن أن يكون لها تأثير ما في ثقافته ونشأته، ونحن نعلم أن الاقتباس مرحلة عالية من الفهم والعلم لدى من يقتبس منه، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا ولم يلتق بمعلم ولم تكن البيئة يهودية ولا نصرانية فمن أين له حينئذ الاقتباس أو القدرة عليه، قد يقال إن ورقة بن نوافل وبحيرا الراهب قد التقى بهما محمد ولدى كل منهما علم بالكتب السابقة؟ فيجاب عن ذلك بأن التاريخ لم يذكر من اللقاء بينهما وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين، وكان لقاؤه بالراهب وهو صغير، فهل يعقل لصغير في لقاء واحد أو لقاءين أن يقتبس كل ذلك الذي لا يحصى علمًا وخبرًا وأحكامًا؟ فكيف إذا علمنا أن ما تناقلته كتب التاريخ التي سجلت مادار في هذه اللقاءات لم تشر من قريب أو بعيد إلى شيء مما في التوراة والإنجيل أو القرآن، وكل ذلك مسجل ومحفوظ فمن أين وعلى يد أي معلم تعلم محمد التوراة والإنجيل حتى يقتبس منهما؟ وذلك الرومي الحداد "بلعام" الذي زعم المشركون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تعلم منه، كان أعجميًّا لا يعرف من العربية إلا بضع كلمات، فإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه ـ كما نعلم ـ فكيف يعلم هذا الأعجمي رسول الله صلى الله عليه وسلم التوراة والإنجيل أو هما معًا فضلًا عن أن يعلمه هذا الكلام المعجز "القرآن الكريم"؟ وإذا كان "بلعام" معلمًا فلماذا لم يسرعوا إليه ويتعلموا منه كما فعل محمد كما يدعون؟ وإلى هذا الافتراء العجيب يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2) .
(1) سورة المائدة: الآية 48
(2)
سورة النحل: الآية 103
(3)
سوة الفرقان الآيات 4 ـ 6
(هـ) وإذا كان مقتبسًا من كتبهم كما يزعمون ، فلماذا كفروا به وكذبوه؟ ألم يخبرهم الله تعالى في كتبهم أنه سيرسل محمدًا وينزل عليه قرآنًا وعليهم أن يؤمنوا به؟ إن كفرهم بالقرآن والرسول وتكذيبهم لهما دليل قاطع على أنه شيء آخر غير التوراة والإنجيل، كما أن هذا الكفر بالقرآن والرسول كفر بالتوراة والإنجيل، قال الله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
(و) أن القرآن الكريم نفسه أكد أن بينه وبين الكتب السابقة تشابهًا وصلة ولكن على طريقته الخاصة وبأسلوبه الفرد الذي يصدق ما بقي صحيحًا في الكتب السماوية السابقة، ويصحح ما أصابه التحريف فيها، ويفصل الأحكام الكلية ويبين الأحكام الفرعية بما لم يسبق إليه، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) .
يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن القرآن يؤكد مستعلنًا صلته بالكتاب المقدس، فهو يطلب دائمًا مكانه في الدورة التوحيدية، وهو بهذا وذاك يثبت باعتداد التشابه بينه وبين التوراة والإنجيل وهو يؤكد هذه القرابة صراحة، ويلفت إليها النبي نفسه كلما وجدت مناسبة"(4) .
(1) سورة البقرة: الآيات 89 ـ 91
(2)
سورة البقرة: الآية 101
(3)
سورة يونس: الآية 37
(4)
الظاهرة القرآنية: ص 240
إذن فليس التشابه كما يزعمون اقتباسًا قام به محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه تنزيل رب العالمين الذي أنزل هذا وذاك، ويبقى للقرآن بعد ذلك التشابه التفرد المطلق والعجيب والمختلف عن الكتب السابقة في كثير من الأمور ولنأخذ لذلك بعض الأمثلة التي تقطع باستقلالية القرآن عما سواه وبطلان دعوى الاقتباس:
1 ـ في قضية التوحيد: يعرض القرآن الكريم العقيدة الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقًا، وفي اتجاه أكثر روحية، فالله واحد، ومخالف للحوادث، وهو رب العالمين:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} على حين نجد هذه القضية في الكتب السابقة يشوبها التشبيه والقومية، ثم اخترعت المسيحية من جانبها للإله ذاتًا إنسانية في الأقانيم الإلهية، وبهذا نشأت عقيدة جوهرها "الرب الحي بجسد إنسان" وتولد عن هذه العقيدة التفسير المسيحي الذي أنشأ عقيدة دينية ثالوثية قائمة على الثالوث الأقدس، وقد أشار الأستاذ العقاد أيضًا إلى هذه القضية وبيان التفاوت فيها بين القرآن وغيره ليخلص من ذلك إلى إبطال القول بالنقل أو الاقتباس، يقول: "جاء الإسلام بالدعوة إلى إله منزه عن لوثة الشرك منزه عن جهالة العصبية وسلالة النسب، منزه عن التشبيه الذي تسرب من بقايا الوثنية إلى الأديان الكتابية.. وللباحث في مقارنات الأديان أن يقول ما يشاء عن هذا الإله الواحد رب العالمين، ورب المشرقين ورب المغربين إلا أن يقول إنه نسخة مستمدة من عقائد عرب الجاهلية أو عقائد الفرق الكتابية التي خالطت عقائد الجاهليين على النحو الذي وصفه جورج سيل في مقدمته لترجمة القرآن الكريم، فإن العقيدة الإلهية التي تستمد من تراث الجاهليين لن تكون لها صبغة أغلب من صبغة العصبية، ولا مفخرة أظهر من مفاخر الأحساب، ولن تخلو من لوثة الشرك ولا من عقابيل العبادات التي امتلأت بالخبائث، وحلت فيها الرقى والتعاويذ محل الشعائر والصلوات، ومعجزة المعجزات أن الإسلام لم يكن كذلك بل كان نقيد ذلك في صراحة حامسة حازمة لا تأذن بالهوادة ولا بالمساومة
…
" (1) .
2 ـ قضايا الآخرة: من قيامة وبعث وحشر وحساب وجنة ونار إلى غير ذلك من المشاهد، لم تلق الكتب العبرية عليها إلا شعاعًا خافتًا، ولكن القرآن الكريم يبرز هذا المجال الأخروي إبراز مؤثرًا، يقص رواية الخلود الأخروي بنبرة خاشعة رهيبة في أسلوب فاق الذروة في بلاغته، وقد ثبت في أنحائه صورًا ومشاهد تسكب الخشية في قلوب العباد مما لا يمكن معه لإنسان حتى في هذه الأيام أن يصدف عن هذه المشاهد الهائلة (2) وهي مشاهد لا تحصى ولا تعد في القرآن الكريم حيث لا تكاد تخلو سورة من القرآن عن شيء منها إلا نادرًا.
(1) حقائق الإسلام: ص 53
(2)
الظاهرة القرآنية: ص 244
3 ـ قضية الخلق: في الكتب السابقة لا نجد لها تفسيرًا شافيًا ولا صورًا توضيحية فكل ما هنالك إشارات مجملة كهذه الجملة "وقال الله ليكن نور فكان نور"(1) على حين نجد القرآن الكريم يولي هذه القضية اهتمامًا كبيرًا، ويقدم بشأنه العديد من التفاصيل والتوضيحات التي تزيل أي لبس أو غموض بشأنها، ويتدرج القرآن الكريم في ذلك ـ شأنه في كل الأحوال ـ فيبدأ بالحديث عن وحدة مادة الكون الأولى في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (2) .
ثم يحدثنا عن الحالة البدائية لتلك المادة في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) .
ثم ينتهي إلى الظاهرة الحيوية في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (4) .
وهناك آيات كثيرة تكمل هذه اللوحة النموذجية لصورة التكوين في القرآن. (5) .
4 ـ قضية الأخلاق: تقوم في الكتب السابقة على أساس سلبي، فهي تأمر الناس بالكف عن فعل الشر في حالة ، وبعدم مقاومة الشر في حالة أخرى، أما القرآن الكريم فيأتي بمبدأ إيجابي أساسي وهو لزوم ووجوب مقاومة الشر، فهو يخاطب معتنقيه بقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (6) .
في حين يعيب على الآخرين وينكر عليهم أنهم كانوا يسكتون عن المنكر: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (7) .
كما أن القرآن الكريم يحترم منافع الآخرين بإزاء المنفعة الشخصية، كما يقيم الأخلاق على أساس من فكرة الجزاء والثواب، فيقيم القرآن الكريم بناءه الخلقي على أساس القيمة الخلقية للفرد، وعلى العاقبة الدنيوية للجماعة (8) .
(1) سفر التكوين، الإصحاح الأول، فقرة 4
(2)
سورة الأنبياء: الآية 30
(3)
سورة فصلت: الآية 11
(4)
سورة الأنبياء: الآية 30
(5)
الظاهرة القرآنية: ص 246
(6)
سورة آل عمران: الآية 110
(7)
سورة المائدة: الآية 79
(8)
الظاهرة القرآنية: ص 248
5 ـ ويقارن الأستاذ مالك بن نبي (1) بين قصة يوسف في القرآن الكريم والتوراة وينتهي من المقارنة بأن ما بين القصتين من الاختلاف أكثر مما بينهما من الاتفاق، وأن ما اتفقا فيه يتميز فيه القرآن بالوضوح والبيان بما يجعله ذا طباع خاص متفرد ويبطل فكرة الاقتباس من أساسها، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إنه لم يثبت أن كان بمكة وضواحيها أي مركز ثقافي ديني ليقوم بنشر فكرة الكتاب المقدس التي عبر عنها القرآن
…
ومن ناحية أخرى: لو أن الفكرة اليهودية المسيحية كانت قد تغلغلت حقًّا في الثقافة والبيئة الجاهلية فإن من غير المفهوم ألا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس، وهناك حدث مؤكد فيما يتصل بالعهد الجديد الإنجيل وهو أنه حتى القرن الرابع الهجري لم تكن قد وضعت له ترجمة عربية، نعرف هذا من مصادر الغزالي الذي اطر أن يلجأ إلى مخطوط قبطي كي يحرر رده". (2)
وقد ذكر الأب شدياق أن أول نص مسيحي ترجم إلى العربية كان مخطوطًا بمكتبة القديس بطرسبرج كتب حوالي 1060م بيد رجل يدعى "ابن العسال".
وهكذا لم تكن توجد ترجمة عربية للإنجيل، فهل كان يمكن أن توجد ترجمة للتوراة وهي الأقدم؟ إن القرآن الكريم يقول لليهود:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) .
أفليس هذا دليلًا على أنه لم يكن يوجد من يقرأ العبرية من العرب من ناحية، وعلى أنه لم تكن توجد ترجمة عربية للتوراة من ناحية أخرى؟ وعليه فلا شيء أقل احتمالًا من وجود تأثير توحيدي في البيئة الجاهلية لانعدام المصادر اليهودية والمسيحية المكتوبة فيها بحيث يصبح من المستحيل أن نقول بإمكان حدوث امتصاص لا شعوري للذات المحمدية في هذا الوسط الجاهلي (4) .
(1) الظاهرة القرآنية: ص 252 ـ 306
(2)
يشير إلى كتاب الغزالي: الرد الجميل على من ادعى ألوهية المسيح لصريح الإنجيل
(3)
سورة آل عمران: الآية 93
(4)
الظاهرة القرآنية: ص 310 ـ 312؛ وانظر مقارنات أخرى في: الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 543 ـ 565
6 ـ ويضيف الأستاذ العقاد فارقًا آخر بين القرآن والكتب السابقة وذلك في صدر حديثه عن النبوة قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مما يبين أن دعوى الاقتباس دعوى باطلة ولا محل لها، يقول رحمه الله: "نمت نبوة الإسلام نماءها الأوفى حين خلصت من دعوى الخوارق والمغيبات وهي آية النبوة الكبرى في عرف الأقدمين، وفرق الإسلام بين طريقين شاسعتين في تاريخ الأديان: طريق موغلة في القدم تنحدر إلى مهد النبوات الوثنية حيث تشتبك العبادة بالسحر والكهانة، ثم تتقدم في خطوات وئيدة يلتقي فيها الخبل باليقظة، وتختلط فيها الخرافة بالإلهام الصادق والموعظة الحسنة، وطريق تليها، موغلة في المستقبل يفتتحها صاحب النبوة الأخيرة فيعلن أنه يفند السحر والكهانة ويزري بقداسة الجنون أو جنون القداسة، ويروض بصيرة الإنسان على قبول الهداية وإن لم تروضها له روعة الخوارق ودهشة الغيب المجهول؛ لأنه يروض البصيرة الإنسانية على أن تنظر وتبصر ولا يستوي الأعمى والبصير
…
" إلى أن يقول: "وأبعد شيء عن البحث الأمين أن تنعقد المقارنة بين هذ النبوة الإسلامية ونبوءات أخرى تقدمتها فيزعم الباحث أنها نسخة محرفة منها أو منقولة عنها، فإن الفارق بين نبوة تقوم حجتها على هداية العقل والضمير، ونبوءات تقوم حجتها الكبرى على الغرائب والأعاجيب لهو من الفوارق البينة التي لا يمتري فيها باحثان منصفان، ودع عنك الفارق بين نبوءة تدعو إلى رب العالمين، ونبوءة تدعو إلى رب سلالة أو رب قبيل، وربما اعترى الخطأ مقياسًا من مقاييس البحث فتساوت لديه الزيادة والنقص وتعادل أمامه الراجح والمرجوح، فإما أن يرجح النقص على الزيادة فذلك هو الخطأ الذي لا ينجم إلا من زيغ في الطبع أو عناد يتعامى عمدًا عن الشمس في رائعة النهار". (1) .
(1) حقائق الإسلام: ص 58 ـ 61
ثم يقول: "وبعد ستة قرون من آخر رسالة في بني إسرائيل يستمع العالم إلى صوت من جانب الجزيرة العربية يدعو إلى رب العالمين رب العربي والأعجمي، ورب الأبيض والأسود، ورب كل عشيرة وكل قبيلة، لا يستأثر بقوم ولا يؤثر قومًا على قوم إلا من عمل صالحًا واتقى حدود الله، صوت نبي ينادي كل من بعث إليه أنه لا يعلم الغيب ولا يملك خزائن الأرض، ولا يدفع السوء عن نفسه فضلًا عن قومه، ولا يعلم أن الخوارق والمعجزات تنفع أحدًا لا ينتفع بعقله ولا يتفكر فيما يسمع من نبي أو رسول، صوت نبي يقول للناس إنه إنسان كسائر الناس، وهو بشير يهدي إلى الرشد والحق، نذير يحذّر من الباطل والضلال. أي مشابهة بين الصوتين؟ بل أي اختلاف قط بينهما يجاوز هذا الاختلاف؟ يرثي لمن يقول: إن الصوتين سواء، فأما من يقول: إن النداء باسم رب العالمين نسخة محرفة من النداء برب القبيلة بين شركائه من أرباب القبائل، فإنما هو خطأ حقيق أن يسمى عجزًا في الحس؛ لأنه أظهر للحس من أن يحتاج إلى إطالة بحث أو تعمق في تفكير"(1) .
كما يضيف بعد حديثه عن الشيطان في العقائد السابقة والعقيدة الإسلامية قوله: "بهذه العقيدة الوجدانية الفكرية أقام الإسلام عرش الضمير وثل عرش الشيطان، ومن حق البحث الأمين على الباحث المنصف أن يضيفها إلى عقائد الإسلام في الله وفي النبي صلى الله عليه وسلم وفي الإنسانية ـ فإذا عرف الإنصاف فما هو بقادر على أن يزعم أن الإسلام ديانة محرفة من ديانة محرفة من ديانة سبقت، وإذا عرف الصواب فما هو بقادر على أن يجحد مرتقاه في أطوار الإيمان وأنه غاية ما ارتفع إليه ضمير المؤمن في ديانات الأقدمين والمحدثين". (2)
وقل مثل ذلك في العبادات والمعاملات وغيرها من الأحكام مما يقطع ويبطل أي شبهة في القول باقتباس القرآن الكريم من الكتب السابقة، فمقاصد القرآن الكريم وتوجيهاته وعقائده وعباداته وأخلاقه ومعاملاته وقصصه وأخباره وحلاله وحرامه وحكمه وأمثاله ولفظه ونظمه وبلاغته وفصاحته تختلف عن كل من التوراة والإنجيل اختلافًا يوحى بانقطاع الصلة بينهما اللهم إلا في القليل النادر منهما الذي بقي صحيحًا.
هذا هو حكم العقل والنقل والواقع فمن لم يقبل بهذه الموازين فقد ظلم نفسه وأوردها موارد الضياع والهلكة، وما له من الله من عاصم وويل للذين ظلموا من النار.
(1) حقائق الإسلام: ص 72، 73
(2)
حقائق الإسلام: ص 105
ثالثًا ـ قولهم: إن القرآن ليس معجزًا أو أنه مجرد عمل إنساني نادر:
وهذا قول منكر وادعاء باطل لأسباب كثيرة منها:
1 ـ ما سبق أن أشرنا إليه في الفقرة الأولى من أدلة أثبتت أن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى ومن هذه الأدلة إعجازه المتواصل والمستمر بشكل فاق كل الحدود وتجاوز كل ما ذكره العلماء من أنواع الإعجاز وفنونه إلى حد لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
2 ـ أن التحدي بالقرآن كان وما زال قائمًا ولم يستطع أحد إبان نزوله ولا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لم يستطع ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سورة من مثله ولا بسورة واحدة من مثله، ومعنى ذلك العجز الكامل في الماضي والحاضر والمستقبل ليس للبشر وحدهم، ولكن للجن أيضا أنه معجز وأن إعجازه مستمر.
3 ـ أن هذه المقولة ليست جديدة فقد قالها المشركون إبان نزول القرآن وادعوا أنهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بما قالوا فبقي كلامهم وكلام المعاصرين اليوم مجرد ادعاء لا قيمة له ولا دليل عليه، قال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (1) .
قال السيوطي: اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: ((قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرًا عقبة بن أبي معيط وطعمة بن عدي والنضر بن الحارث ، وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله ، قال المقداد يا رسول الله: أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول: في كتاب الله ما يقول، قال: وفيه أنزلت هذه الآية: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} الآية)) (2) .
وجاء المبشرون والمستشرقون اليوم يرددون نفس المقولة بادعائهم أن القرآن عمل إنساني نادر غير معجز، فهل استطاعوا أو استطاع أسلافهم المشركون أن يقولوا شيئًا مثله أم عجزوا كما عجزوا ، فتبين بطلان مقولتهم وسخفها؟ قال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (3) .
(1) سورة الأنفال: الآية 31
(2)
لباب النقول في أسباب النزول بهامش المصحف الشريف
(3)
سورة الطور: الآيتان 33 ـ 34
وفي ذلك يقول الدكتور المطعني: "في هذه الآية صور القرآن الأمين موقفهم في مواجهة الدعوة حيث قالوا إن محمد صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وادعى أنه من عند الله، ثم طالبهم في الآية الثانية بأن يأتوا بكلام مثل القرآن في علو منزلته، أي كلام غير مقيد بطول أو قصر كثر أم قل، فمحمد عليه السلام بشر مثلهم وعربي مثلهم، فإذا كان هو صاحب هذا الكلام بحق فليحاكوه إن كانوا صادقين في دعواهم، والقرآن في هذه المواجهة يثيرهم ويحرك مشاعرهم ليأتوا بكلام مثل القرآن وجعل هذا الإتيان شرطًا في صدقهم فإن لم يأتوا فما هم بصادقين.
إن بواعث الخصوم على المحاكاة هنا لا بد أن تكون قد بلغت درجة الفوران، ولكنهم لم يقدموا على المحاكاة، فما هو السبب؟ أهو زهدهم في المحاكاة مع القدرة عليها؟ أم هو رغبتهم عن الصدق مع شدة افتقارهم إليه؟ إنهم لو كانت المحاكاة في مقدرتهم وأتوا فعلًا بمثل القرآن لقضوا في تلك الجولة على الرسالة والرسول، ولكنهم لم يفعلوا مع قيام كل الدواعي الشعورية والخصومية على تلك المحاكاة المدعاة، وليس لهذا التقاعس والقصور أي تفسير مقبول إلا عجزهم الفعلي عن المحاكاة لأن "المحاكى" فوق طاقة البشر والجن.. لقد تحدى القرآن خصومه، واستحثهم على الدفاع عن أنفسهم ولكنهم وجموا أمام ذلك التحدي وهم أحوج ما يكونون إلى الدفاع عنها، إنهم عاجزون وكفى" (1) .
وقد ذكر الله تعالى أنهم لم يستجيبوا للتحدي ويأتوا بمثل القرآن أو بشيء من مثله فليعلموا أنما هو من عند الله، قال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2)
، ثم جاء القرآن بعد ذلك التدرج في التحدي من مثل القرآن إلى عشر سور من مثله إلى سورة واحدة من مثله لينتهي بعد ذلك إلى إثبات العجز المطلق لكل الكائنات ، فقال في سورة البقرة ليشمل التحدي أهل الكتاب مع المشركين:{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّم تَفعَلُوا وَلَن تَفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ} (3) ..
ثم أكد في سورة الإسراء أن العجز عن محاكاة القرآن شامل للجن أيضًا مع الإنس فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (4) .
وبهذا حكم الله تعالى بالعجز على الجميع من لدن نزول القرآن أي قيام الساعة، فهل هناك إعجاز أعظم من ذلك؟ وهل هناك دليل على صدق الرسول والرسالة أقوى وأوضح من ذلك؟
(1) الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 518 ـ 519
(2)
سورة هود: الآيتان: 13، 14
(3)
سورة البقرة: الآيتان: 23، 24
(4)
سورة الإسراء: لآية 88
4 ـ وإليك الآن صورًا محدودة من الإعجاز المستمر للقرآن الكريم، وقد أقر بها المنكرون والعلماء من غير المسلمين، من هذه الصورة: ما يتصل بالكون بصفة عامة كخلق السموات والأرض وما بينهما، ومنها ما يتصل بالأرض نفسها وما فيها من آيات، ومنها ما يتصل بحركة النجوم والكواكب والليل والنهار والرياح، ومنها ما يتصل بالماء، ومنها ما يتصل بالإنسان وخلقه إلى غير ذلك وهو كثير جدًّا عرف العلماء بعضه، وما زالوا يجهلون الكثير مما وعد الله تعالى بتعليمهم إياه في قوله:{سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) .
وفي آية جامعة - أو تكاد - يقدم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعض آياته للعاقلين تؤكد أن القرآن الكريم وحي معجز ، قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) .
يقول الدكتور المطعني: لقد خطا العلم خلال القرنين الأخيرين خطوات لم يسبق لها مثيل في شتى المجالات، ولم يظهر للآن مكتشف علمي يتنافر مع دلالات القرآن الحكيم، وموقف العلوم الحديثة من دلالات القرآن يتخذ ثلاث سمات:
الأولى: التوافق التام بين المعارف الحديثة ودلالات القرآن الكريم وهذه هي السمة الغالبة.
الثانية: تصحيح دلالات القرآن لأخطاء كانت عن بعض الظواهر العلمية.
الثالثة: وقوف العلم الحديث من بعض دلالات القرآن الكريم موقف العاجز عن الوصول إلى فهم الحقيقة العلمية التي يشير إليها القرآن، وأمل العلماء في هذا الفرع كبير في أن يصل العلم البشري في عصر مقبل إلى فهم الحقيقة القرآنية إذا ما توفرت بعض الظروف اللازمة لذلك الفهم.
فمما وقع التطابق فيه تامًّا مسألة انفصال السموات والأرض بعد أن كانتا كتلة واحدة، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (3) .
والرتق هو الالتصاق بلا فصل، والفتق هو الفصل بينهما بالهواء (4) .
وقد أثبت العلم الحديث ذلك بعد أن ذكره القرآن من ألف وأربعمائة عام.
ومما صححت فيه الدلالات القرآنية أخطاء كانت شائعة من عهد أرسطو إلى عصر النهضة؛ أن العيون المائية تستمد ماءها من بحيرات جوفية في أعماق الأرض، فجاء القرآن وصحح هذا الخطأ وأشار إلى أن العيون المائية تستمد تموينها المائي من مياه الأمطار حيث جاء فيه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (5) .
وقد أثبت العلم ذلك وقارن العلماء بما قاله أرسطو وما ذكر القرآن ، فتبين لهم خطأ أرسطو ومن تباعه من العلماء فترة طويلة وثبت صحة ما قاله القرآن الكريم (6) .
(1) سورة فصلت: الآية 53
(2)
سورة البقرة: الآية 164
(3)
سورة الأنبياء: الآية 30
(4)
كلمات القرآن تفسير وبيان للشيخ حسنين مخلوف؛ وانظر: الصحاح في اللغة والعلوم مادة رتق: ص 365؛ وفتق: ص 842
(5)
سورة الزمر: الآية 21
(6)
انظر: الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 582 ـ 583
5 ـ وأما ما قاله "الخوري الحداد" من أن القدماء أجمعوا على أن إعجاز القرآن في نظمه فقط تم تشكيكه في ذلك بعد لينتهي من ذلك أي مقولة أهله وأصحابه من أن القرآن غير معجز فقد تولى الرد عليه بشكل واضح ومفصل ومفحم الأستاذ محمد عزة دروزة، ونحن بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرات السابقة من إبطال هذه المقولة وإثبات إعجاز القرآن نجتزئ من ردود الأستذا دروزة العديدة بعض ما قاله ، يقول: "والخوري كاذب من حيث الأصل في قوله إن القدماء مجمعون على أن إعجاز القرآن في نظمه وحسب ، فهناك آثار وأقوال قديمة كثيرة ينطوي فيها تقرير كون إعجاز القرآن في نظمه وفي محتواه على السواء، فالقرآن حينما يقرر أنه كتاب هداية وإرشاد، ونور وشفاء، وتبشير وإنذار، إما يقرر إعجاز القرآن في المحتوى في الدرجة الأولى الذي يمثله ما في القرآن المكي والمدني معًا من إعجاز إلهي في العقيدة، وإعجاز إلهي في التشريع، وإعجاز إلهي في الحكمة، وإعجاز إلهي في الإرشاد أي خير سبل السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وإعجاز إلهي في التبشير والإنذار والترغيب والترهيب، وإعجاز إلهي في عرض بدائع الكون ومشاهد عظمته وروعة نواميسه الماثلة في كل شيء، والبرهنة بها على وجوب وجود الله وقدرته وإحاطته، وإعجاز إلهي فيما احتواه قصصه من مواعظ وأمثال وتذكير وحكم بالغة، وإعجاز إلهي فيما احتواه من الغيبيات السالفة والغيبيات الآتية، وإعجاز إلهي في صلاح ما أتى به من كل ذلك لكل زمان ومكان وجنس ولون وعقل وثقافة، وكل هذا بارز ملموح بكل قوة وبكل روعة وبكل نفوذ وبكل قطعية في مختلف سور القرآن المكية والمدنية، ولا يمكن أن يكابر فيه ويتعامى عنه إلا أحمق غبي أو حقود مغرض، والقرآن في متناول جميع الناس في كل مكان وزمان، ومن هذا المنطلق قرر القرآن أنه المعجزة الكافية لصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تضمنته آيات سورة العنكبوت:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
ثم يقول: والآن نورد الدليل على كذب الخوري، فالخوري يجعل كتاب (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي) مصدرا رئيسيا من مصادره وينقل عنه كثيرا، أن السيوطي أورد حقا أقوال لبعض العلماء بأ إعجاز القرآ هو في نظمه وبلاغته فإه قال: إن جمهور العلماء يقررون أن إعجازه هو في نظمه ومعانيه على اختلاف نواحيها" (2) . مقتطفات عديدة من أقوال عدد منهم ومن جملة ذلك فصل للخطابي أحد علماء القرآن في القرن الرابع الهجري نورده كمثال على أقوال العلماء القدماء.
(1) سورة العنكبوت: الآيتان 50 ـ 51
(2)
الإتقان في علوم القرآن: 2/151
يقول الخطابي: وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور منها: أنعلمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأياء المحمولة على تلك الألفاظ ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه المنظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فتواصلوا باختيار الأفضل من الأسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، إنما يقوم الكلام بهذه الاشياء الثلاثة: لفظ حاصل، معنى به قائم، رباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الامور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الالفاظ افصح ولا اجزل ولا اعذاب من الفاظه، ولا ترى نظما احسن تاليفا وأشد تلاوة وتشاكلا من نظمه، اما ما معانيه، فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فإن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، مخرج من هذا أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان طريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم، منبئا عن الكوائن المستقلة في الأعصار الآتية من الزمان جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل عنه، ومعلوم أن الإتيان أوكد للزوم ما دعا إليه، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن اإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتنسق أمر يعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، ومناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة أخرى إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب وقرعا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إنه له لحالوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة يقولون بجهلهم إنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجله والعجز، وإنك لا تمسع كلاما غير القرآن منظومصا ولا منثورا إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة، قال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
(1) سورة الحشر: الآية 21
(2)
سورة الزمر: الآية 23
وقال ابن كثير رحمه الله: ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) .
فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، وكل من لفظه ومعناه لا يجاري ولا يداني، يقول ابن عطية في تفسير هذه الآية الكريمة: أحكمت أتقنت وأجيدت شبه ما تحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكاه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة فتم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل، إذ الإحكام صنعة ذاتية، والتفصيل إنم هو بحسب من يفصل له والكتاب بأجمعه محكم ومفصل (2) . فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهي عن كل شر كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (3) .
ثم قال دروزة: ولو كان الخوري يخضع للحق والحقيقة أو يتحراها لكان راعى ما قاله جمهور العلماء القدماء، ولما قال ما قال عنهم من الموقف السلبي بأسلوب حاسم، ومن غبائه أنه لا يخطر لباله أن كتب القدماء والكتب التي ينقل عنها ليست عنده وحده، ونحن إذ نركز الكلام في هذا المبحث على الإعجاز الإلهي في المحتوى فليس ذلك منا إغفالا للإعجاز الإلهي في النظم القرآني، فهذا من المسلمات التي لا تتحمل إطنابا جديدا، وقد وفاها العلماء قديما وحديثا حقها بما لا محل للمزيد عليه، وإنما كان ذلك منا؛ لأنه مقتضى الكلام والحافز عليه من جهة، ولأننا نعتقد أن الإعجاز القرآني هو في المحتوى في الدرجة الأولى هو ما اهتم القرآن للتنويه به أكثر والله أعلم (4) .
(1) سورة هود: الآية 1
(2)
تفسير ابن عطية: 7/233 ـ 234
(3)
سورة الأنعام: الآية 115
(4)
راجع: القرآن والمبشرون: ص 334 ـ 335، ص 327 ـ 328
ومما سبق يتبين بكل قوة ووضوح بطلان ما ادعاه المبشرون والمستشرقون في الماضي والحاضر من أن القرآن غير معجز، وتبين بما لا يقبل ذرة من الشك، الإعجاز العظيم للقرآن الكريم فيما عرفناه من لفظ ومعنى ونظم ومحتوى وعلم طبيعي أو أخلاقي وغيب ماضي وغيب مستقبلي إلى ما لم نعرفه بعد من أسرار وأن إعجاز هذا باق إلى يوم القيامة، وصدق رسول الله: إلا أنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله؛ فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1) . من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" (2) .
وبعد هذا الوصف الشائق الشامل المروي عمن أنزل عليه القرآن والذي هو أدرى الناس بمدى إعجازه على الذين ادعوا أنه ليس معجزا أن يأتونا بما لديهم من توراة وإنجيل لنرى أي الكتب خير وأيها أصدق. فهل بقي بعد هذا كله أي شبهة أو أثر لتلك المقولة السخفية: أن القرآن ليس معجزا! وإذا كان القرآن غير معجز فما المعجز إذن وكيف يكون الإعجاز؟ حقا إذا لم تستح فاصنع ما شئت!!
(1) سورة الجن: الآيتان: 1، 2
(2)
المسند: 1/91، وسنن الدارمي: 2/435، وسنن الترمذي: 8/218، حديث رقم 2070، انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمد رأفت سعيد: 1/42، وهامشها، وذكره ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز؛ المقدمة: 1/13 ـ 14 وهامشها
رابعا ـ قولهم: إن القرآن قد حرف وبدل:
وهذا قول كاذب وادعاء باطل، ساقهم إليه حقد دفين وبغض شديد وفهم خاطئ للقرآن الكريم، أرادوا به أن يردوا الصاع صاعين للقرآن الكريم الذي فضحهم وعراهم وأثبت تحريفهم للتوراة والإنجيل، وأردوا أن يحاربوه ويهاجموه بنفس سلاحه فوضعوا كعادتهم الكلمات في غير مواضعها، واستخدموا لسوء فهمهم الألفاظ في غير معانيها، وعادت سهامهم المسومة إلى نحورهم، وإليك بيان ذلك بالتفصيل:
1 ـ فأما قولهم: إن القرآن قد حرف وبدل فيرده المعلوم من تاريخ القرآن على مر العصور والكثير من الآيات القرآنية التي تبين كيف كان ينزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم كان حريصا على حفظه ومراجعته مع الروح الأمين جبريل عليه السلام وأنه صلى الله عليه وسلم كان يمليه على أصحابه ومن بينهم كتاب الوحي ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فور نزوله، فانضم بذلك تدوين السطور إلى حفظ الصدور عند أكثر من واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَلَم يَكُن لَّهُم آيَة أَن يَعلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسرَائِيلَ وَلَو نَزَّلنَاهُ عَلَى بَعضِ الأَعجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكنَاهُ فِي قُلُوبِ المُجرِمِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} (1) .
وقال: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (2) .
وقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (5) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد نزوله وتلقيه وحفظه بإحكام وإتقان، فمن الذي حرف إذن وبدل! جبريل الذي نزل به بأمانة؟ أم محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقاه
بلهفة وعناية، أم أصحابه الذين حفظوه وكتبوه تحت مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم؟
(1) سورة الشعراء: الآيات 192 ـ 201
(2)
سورة النمل: الآية 6
(3)
سورة القيامة: الآيات 16 ـ 19
(4)
سورة فصلت: الآيتان 41 ـ 42
(5)
سورة هود: الآية 1
2ـ ينفي القرآن الكريم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أي تدخل في نزول القرآن الكريم بحروفه وكلماته ومعانيه، وأنه مجرد حافظ ومبلغ، ثم مفسر ومبين، قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (1) .
(2)
.
إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي بقطع ووضوح أي تدخل من سول الله صلى الله عليه وسلم في آيات القرآن فمن الذي بدل إذن؟
3ـ عرفنا من الفقرة السابقة ـ الأولى ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي ونزوله بالقرآن الكريم فيما يخصه شخصيًا وفيما يخص الأمة وفيما يخص الرسالة وفي اتخاذ القرارات، وفي إجابات الأسئلة التي توجه إليه، ورغم الحرج الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض له سواء فيما يخصه شخصيًا أو فيما يخص الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر بفارغ الصبر نزول الوحي بالقرآن الكريم، فلو كان يمكنه التحريف أو التبديل أو الزيادة أو النقصان لفعل ذلك خصوصًا في أوقات الشدة أو فيما يخصه ويخص بيته كحديث الإفك، ولكان يغير ما يسمه شخصيًا بالعتاب والمؤاخذة كسورة عبس أو سورة براءة وموافقة من بعض المنافقين أو موضوع أسرى بدر أو خلافاته مع زوجاته
…
إلى غير ذلك.
4ـ إن الله تعالى تولى بنفسه حفظ القرآن الكريم من أي تغيير أو تحريف أو زيادة أو نقصان، من نزوله إلى قيام الساعة، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
فلا يمكن أن يصل إليه أي تحريف مهما كان وهذا بخلاف الكتب السابقة التي ألقى الله تعالى مسؤولية حفظها على أهلها فامتدت أيديهم إليها بالتحريف والتغيير، قال ابن عطية في تفسير هذه الآية:(المعنى: لحافظون من أن يبدل أو يغير كما جرى في سائر الكتب المنزلة) ، وفي آخر ورقه من البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما أن التبديل فيها إنما كان في التأويل، وأما في اللفظ فلا، وظاهر آيات القرآن أنهم بدلوا اللفظ، ووضع اليد على آيه الرجم هو في معنى التبديل الألفاظ (4) . وقيل: لحافظون باختزانه في صدور الرجال والمعنى متقارب، وقال قتادة هذه الآية نحو قوله تعالى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (5) . (6) .
فمن يستطيع أن يغير ما حفظه الله؟ ثم كيفق يحدث ذلك؟ وأين هو؟ وقد عرفنا من الفقرة الأولى أن القرآن وحى في لفظه ونظمه ومعناه وترتيبه فمن عساه يغير حرفًا من ذلك الوحي؟
(1) سورة الحاقة: الآيتان 41ـ42
(2)
سورة النساء: الآية 82
(3)
سورة الحجر: الآية 9
(4)
البخارى، باب المناقب
(5)
سورة فصلت: الآية 42
(6)
تفسير غبن عطية: 8/285.
5ـ جمع القرآن الحكيم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين: المرة الأولى في خلافه أبى بكر بمشورة عمر رضى الله عنهما بعد موقعة اليمامة، وكان هذا الجمع بإشراف كاتب الوحي زيد بن ثابت رضى الله عنه وكان عبارة عن ترتيب الصحف المتفرقة من جلد وحجارة وعظام بناء على المحفوظ في الصدور بحيث يضمها رباط واحد بدل بعثرتها وتفرقها، وكان ذلك خوفًا من مرور الوقت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاة الصحابة القراء الحافظين فيختلف الترتيب فيما بعد عما نزل وحفظ فجمعه أبو بكر في إطار واحد وأجمع عليه الصحابة وحفظ ذلك المصحف المجموع المرتب عند أبى بكر ثم عمر ثم حفصة رضوان الله عليهم أجمعين، أما المرة الثانية فكانت في خلافة عثمان رضى الله عنه حين بلغه أن خلافات قد بدأت تظهر في قراءة القرآن نتيجة كثرة الفتوحات ودخول أجناس جديدة بلغاتهم في الإسلام فكان لا بد من حسم الأمر وقطع دابر الاختلاف مهما كان ولو صغيرًا، وقام عثمان بتشكيل لجنة بقيادة زيد بن ثابت رضى الله عنه أيضا لكتابه القرآن من مصحف أبى بكر بلغه واحدة هي لغة قريش، وقد تم ذلك ونسخ منه عدة نسخ وزعت على جميع العواصم في الأمصار الإسلامية لتكون المرجع الذي يعتمد عليه ويرجع إليه، وبذلك تم قتل الفتنه منذ ولادتها والحمد لله
(1)
ومن يومها والأمة الإسلامية تتلقى القرآن الكريم بهذا لرسم العثماني بالتواتر المنقطع النظير حتى يومنا هذا، ولم يتح ذلك لغير القرآن الكريم فهو أصدق وثيقة على الإطلاق بالدنيا، وقد حاول بعض الأعداء تغيير بعض الآيات والكلمات ففضحهم الله تعالى أكثر من مرة وبقى القرآن بحمد الله تعالى وحفظه كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم تطبيقًا وتحقيقًا لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
فأين ذلك التغيير الذي تدعون؟ وأين التحريف الذي تزعمون؟ وقد شهد بذلك بعض المنصفين من غير المسلمين يقول لوبلو: (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر)، وكان ((موير)) قد أعلن ذلك قبله إذ قال:(إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد إلى يد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف قد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل يستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجه ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا والذي يرجع إلى الخليفة المنكوب عثمان الذي مات مقتولًا)(2)
(1) مدخل إلى القرآن الكريم: ص 40
(2)
انظر: مدخل القرآن الكريم: ص 36ـ38، انظر: تفسير ابن عطية: 1/50ـ53.
6ـ لم يبق بعد ذلك من حجج أو شبهات إلَاّ ما استندوا إليه 0 لسوء فهمهم ـ من بعض الأيات، أو فهموها ولكن حقدهم أعمى بصائرهم حتى قالوا ما قالوه؛ فقد كان من رحمة الله تعالى بعبادة وتيسيره عليهم أن تدرج معهم في تكاليفه وتشريعاته في نقلهم من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام ونظامه وضوابطه، وقد اقتضى هذا التيسير والتدرج أن ينسخ الله تعالى بعض الآيات ويأتي بآيات أخرى وأحكام أخرى أخف وأيسر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أصحابه بذلك بعد نزول جبريل عليه السلام بالتغيير وتعريفه بالنسخ، فالمغير إذن هو الله تعالى، والمبدل هو الله عز وجل لا رسوله وأصحابه وأمته، هذا باب معروف من أبواب علوم القرآن والتشريع الإسلامي وهو ((النسخ)) وفيه يقول الله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
وقد يكون النسخ للتلاوة والحكم معًا وقد يكون لأحدهما مع بقاء الآخر وذلك المعروف في القرآن الكريم، وفد نعى الله تعالى على المشركين وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة ممن يشبههم في مقولتهم عن ذلك النسخ بأنه تحريف وتبديل كما فعل اليهود والنصارى ووصفهم الله تعالى بالجهل وسوء الفهم، فقال الله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
فالناسخ والمبدل هو الله تعالى رحمة بعباده وتيسيرًا عليهم لعلمه عز وجل بما ينفعهم ويصلحهم، أما اليهود والنصارى فقد كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويكتبون الكتاب بأيديهم ويكذبون ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا.
(1) سورة البقرة: الآية 106
(2)
سورة النحل: الآية 101
7ـ وأنا ما نقص من سورة الأحزاب أو غيرها فليس كما يقول تيموثاوس لأن جديًا أكله، وإنما لأن الله تعالى نسخه، ومن ذلك الآية المشهورة في رجم الزاني والزانية (الشيخ والشيخة إذ زنيا فإرجموهما البته نكالًا من الله والله عزيز حكيم)(1) .
وغيرها مما ورد في حديث عمر رضى الله عنه (2) . وهذا مما نسخ تلاوة وبقى حكمًا؛ وأما أسماء السورة التي ذكرها تيموثاوس وأدعى أنه فقدت من القرآن الكريم في أساس لها فسور القرآن الكريم أربع عشرة ومائة توقيفًا وإجماعًا وتواترًا، وما هذه الأسماء التي ذكرها إلا أسماء وردت في قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أدعيته، وليست أسماء لسور القرآن، فالقرآن كما أشرنا من قبل، حفظ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الصدور والسطور، ثم جمع في عهد بلغة واحدة في عدة مصاحف ثم بقى هكذا وسيظل إلى أن تقوم الساعة محفوظًا بحفظ الله وعنايته.
وأنا ورد في الموسوعة الروسية مما سبقت الإشارة إليه فتخريف من قائليه ومدونيه يدل على عدم فهمهم للقرآن الكريم الذي جمع بين أخبار الماضيين والحاضرين والمستقبل، وظنوا أن ذلك الجمع تطور من الكتاب الذين تلقوه ولم يفهموا أن ذلك من إعجاز العظيم وأن يد التحريف لا تمتد إليه.
(1) تفسير غبن كثير: 3/465.
(2)
انظر سنن ابن ماجه بتحقيق الألباني: 2/81، حديث رقم 2553، وتفسير ابن عطية: 12/1 وهامشها
يقول الأستاذ مالك بن نبي: (ولقد أمتاز القرآن الكريم بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ أربعه عشر قرنًا دون أن يتعرض لأدنى تحريف أو ريب، وليست هذه حال العهد القديم ((التوراة)) الذي لم تعترف له بالصحة الدراسة النقدية للشراح المحدثين فيما عدا واحدًا من كتبه هو كتاب (أرمياء) وليس العهد الجديد (الإنجيل) بأسعد حالًا فقد ألغى مجمع أساقفة (نيقيه) كثيرًا من أخباره مما زرع الشك حول ما تبقى منه وهو (الإنجيل) وهذه الأخيرة بدورهما لا تعتبر الآن من الصحاح لأن النقد أثبت أنها قد وضعت بعد المسيح بأكثر من قرن أي بعد عصر الحواريين الذين تنسب إليهم تعاليم المسيحية، وعلى هذا فإن شكوكًا كثيرة تحوم حول القضية التاريخية للوثائق اليهودية والمسيحية)
(1)
.
ثم يقول: (هذا التحديد الكامل للنص القرآني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يعد ظاهرة جديرة بالملاحظة من وجهة علم الاجتماع وعلم النفس بخصوص الوسط العربي في العصر المحمدي، فتلك نقطة جوهرية تستحق البحث والوقوف أمامها، إذ ليست هناك مشكله تدوين بالنسبة للقرآن كما هو الأمر بالنسبة للكتاب المقدس وهي أيضا مؤيده بحقائق التاريخ التي ينبغي أن تلفت إليها انتباه القارئ ليلاحظ هو أيضا توافق واقع التاريخ مع هذه الآية:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ومع ذلك فإن لهذا لحفظ تاريخه، فكلما كان الوحي يتنزل كانت آيات القرآن تثبت في ذاكرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وتسجل فورًا بأيدي أمناء الوحي حيث كانوا يستخدمون من أجل ذلك كل ما يصلح للكتابة كعظام الكتف أو قطع الجلد، حتى إذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن محفوظًا في الصدور مدونا في الصحف، فكان من الممكن كلما دعت الحاجة إلى مقارنة الآيات بعضها ببعض، ولا سيما حين يعرض اختلاف من نوع صوتي أو لهجى، وفضلًا عن ذلك فسنجد أن هذه المقارنة تحد مرتين، والطريقة التي نفذت بها هي ذاتها حدث فذ في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، فللمرة الأولى تتجلى الصفات الطريقة المنهجية في عمل عقلي، كما تتجلى الدقة التي هي الآن وقف على التفكير العلمي
…
وبهذا يكون القرآن الكريم هو الكتاب الديني الوحيد الذي يتمتع بامتياز الصحة التي لا جدل فيها بحيث لم يثر النقد أية مشكله حوله سواء أكان ذلك من حيث الشكل أم الموضوع (2) . فمن أين يجئ التحريف والتبديل؟ وكيف يقع بعد كل هذه الإجراءات الربانيه والنبوية والصحابيه والإسلامية؟ أليس ذلك كمل رأينا مستحيلًا؟ وهذا ما جعل المستشرق الفرنى الأستاذ دمومبين يقول في كتابه عن الإسلام: (إن المصنف لا مناص له من أن يقر بأن القرآن الحاضر هو القرآن الذي كان يتلوه محمد)(3) .
(1) الظاهري القرآنية: ص 111ـ 112؛ انظر أيضا: الإسلام في مواجهة الاستشراق ص 273 ـ 276
(2)
الظاهرة القرآنية: ص 113ـ114 بإختصار
(3)
القرآن والنبي: ص 59
خامسًا ـ إدعاء التناقض في القرآن:
أدعى أعداء الإسلام والقرآن أن القرآن يتناقض بعضه بعضًا، أحيانًا في اللفظ وأحيانًا في المعنى، وساقوا لذلك عددًا من الآيات الكريمة لا تناقض بينها في شيء ـ كما سنرى ـ إلَاّ في فهمهم البليد، أو سبب حقدهم البغيض، وقد ذكرنا في الفصل الثاني نماذج من هذه الدعوى وسنناقشها في هذه الفقرة لنبيين بطلانها، وقبل هذه المناقشة نذكر بما سبق أن قدمناه من الحقائق التي تؤكد عدم وجود أي ثغرة للتناقض في القرآن الكريم.
1-
فهو ـ كما عرفنا ـ من وحي الله تعالى والتناقض مستحيل عليه عز وجل.
2-
وهو معجز والإعجاز قمة الأداء فإذا دخله التناقض لم يكن كذلك.
3-
وهو محفوظ بعناية الله تعالى في صدور عبادة وسطور مصاحفهم، فكيف يقع التناقض فيه وهو من مظاهر الخلل لا الحفظ.
4-
وهو الذي أثبت الله له الإحكام ونفي عنه الباطل فكيف يقع التناقض فيه؟
بعد هذه الحقائق الثابتة الكافية في إبطال هذه الدعوى نسوق الآيات التي إستشهدوا بها لنبين سوء فهمهم وجهلهم وحقدهم البغيض للقرآن.
تتناقض مع الآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وذلك الذي زعموا لأنهم فهموا أن الآية الأولى تنفي التبديل في القرآن والآية الثانية تثبته، وهكذا فهموا فهل هذا فهم صحيح؟ كلا لأن الآية الأولى تنفي أن يقوم رسول الله ** بتبديل شيء من القرآن تلبيه لطلب المشركين لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له من أمر القرآن شيء فهو لا يستطيع أن يغير أو يبدل فيه شيئا وإلَاّ تعرض للعذاب العظيم، والآية الثانية تؤكد هذا المعنى لأنها نسبت التبديل إلى الله تعالى وحده، وهذا ينفي إمكانية ذلك لغير الله تعالى فمضمون الآيتين واحد وهو أن المبدل هو الله وليس محمدًا، أما التناقض الحقيقي فهو في موقف المشركين الذين كانوا يطالبون الرسول بالتبديل والتغيير، فإذا وقع من الله تعالى تبديل عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم واتهموه بالكذب والافتراء، وما أشبه تناقض اليهود والنصارى يتناقض المشركين فكلهم يقولون على الله ورسوله وكتابه ما لا يعلمون.
(1) سورة يونس: الآية 15
(2)
سورة النحل: الآية 101
(ب) قالوا: إن الآية {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) .
تتناقض مع الآية: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}
(2)
.
وليس ذلك صحيحًا لأن الآية الأولى يبين الله تعالى فيها أنه يراعى أحوال العباد ومصالحهم فإذا نسخ آيه أو حكمًا فإنه يأتي بما هو خير منه للناس في معاشهم ومعادهم والآية الثانية تبين أنه لا يستطيع أحد أن يبدل كلام الله أو شيئا منه، فهل نفلا التبديل عن الخلق يشمل الخالق عز وجل؟ كلا. فأين التناقض؟
(ج) قالوا: إن الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
تناقض الآية: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (4) .
فهل هذا صحيح؟ كلا، فالآية الأولى تؤكد حفظ الله تعالى للقرآن من أن تمتد له يد التحريف والتغيير كما امتدت إلى الكتب السابقة، ولكنها لا تحجر على الله تعالى أن يمحو وينسخ ما يشاء من آياته ويثبت ويبقى ما يشاء، كما جاء في الآية الثانية، فهم يخططون بين الله تعالى وخلقه وحاشا الله أن يكون كذلك فهو سبحانه يمحو من الأحكام ما يشاء، ويثبت من الأحكام ما يشاء، وما يمحوه أو يثبته لا تمتد إليه يد أحد بالتغيير أو التبديل لأن الله حافظه.
(1) سورة البقرة: الآية 106
(2)
سورة الكهف الآية 27.
(3)
سورة الحجر: الآية 9
(4)
سورة الرعد: الآية 39
(د) قالوا: إن الآية {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1)
تتعارض مع قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (2)
فهل هذا صحيح؟ كلا والله فالعدد في الآيتين يقصد به حقيقة وإنما هو كتابه عن الطول، وهذا معروف في البلاغة وفي عرف الناس، كلفظ السبعين في قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (3)
فلا يعنى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو استغفر لهم أكثر من سبعين يغفر الله لهم، وإنما معناه: لا فائدة من الاستغفار لهم فلن يفغر الله لهم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لو علمت أنى إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت)) (4) . وكما تقول لصديقك: جئتك عشر مرات أو أكثر، تريد أنك زرته كثيرًا، فالقرآن يعبر عن يوم القيامة بألف سنه أو خمسين ألف سنة ولا يريد عدد السنوات، وإنما يريد أنه يوم طويل، فأين التناقض إن كنتم تفهمون؟
(1) سورة السجدة: الآية 5
(2)
سورة المعارج: الآية 4
(3)
سورة التوبة: الآية 80
(4)
رواه أحمد والبخاري والترمذي النسائي وابن أبى حاتم وغيرهم، انظر تفسير ابن عطية: 2/581
(هـ) قالوا: إن الآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} والآية {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} متناقضتان، فالآية الأولى تنفي القسم والثانية تثبته. وهكذا يقولون لأنهم لا يفهمون العربية واستخداماتها ودلالات حروفها وتنوعها، لقد ظنوا أن (لا) نافيه، ورتبوا على ذلك أنه لا أقسم فكيف يقسم بعد ذلك؟ ونقول لهم: إن (لا) ليست نافيه ولكنها تأكيد للقسم كقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) .
وهذا شائع في اللغة العربية لمن يعرفها ويتذوقها (2) . فلا تناقض بين الآيتين.
(و) قالوا: إن الآية {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
تتناقض مع الآية {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (4) .
والآية {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (5) .
فهل هذا صحيح؟ كلا، لأنهم فهموا خطأ أن الآية الأولى تقصر الشفاعة على الله، والآيتان الأخريان فيهما الشفاعة لغير الله، وهذا فهم خاطئ فالأمر كله لله تعالى، وما دام الأمر كذلك فليس لأحد شفاعة من دون الله، ولكن إذا أذن الله لأحد أن يشفع كان له ذلك بإذن من الله، فالأمر كله لله إن إذن في الشفاعة وجدت وإن لم يأذن فلا شفاعة، فأين التناقض؟
(1) سورة النساء: الآية 65.
(2)
انظر: مفتريات على الإسلام: ص.70.
(3)
سورة الزمر: الآية 44
(4)
سورة السجدة: الآية 4
(5)
سورة يونس الآية 3.
(ز) قالوا: إن الآيتين {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} (1) .
تتناقض مع الآيتين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} (2) .
وهذا خطأ لأن الآيتين الأوليين تتحدثان عن السابقين المقربين، وهم كما تشير الآية الأولى كانوا الكثيرين في صدر الإسلام ثم قالوا بعد ذلك، أما الآيتان الآخريان فتتحدثان عن أصحاب اليمين بصفة عامه، وهؤلاء كثيرون بحمد الله في أمتنا وفي الأمم السابقة، أو في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفيمن جاء بعد ذلك، فلا تناقض لأن الموضوع مختلف.
(ح) قالوا: إن الآية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (3) .
تتناقض مع الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (4) .
لأن الأولى تأمر بالصفح والثانية تأمر بالقتال. فهل هذا صحيح؟ كلا، لأن الآية الأولى من سورة الحجر وهي مكية ولكم يكن قد نزل الأمر بالجهاد بعد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر والصفح والعفو، فلما هاجروا إلى المدينة إذن الله لهم في القتال وفرض عليهم الجهاد كما جاء في الآية الثانية، إذن لا تناقض لأن كل أيه في مرحله ولآن لكل آيه موضوعًا ومناسبة وليستا في موضوع واحد.
(ط) قالوا: إن الآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) .
لأن الآية الأولى حرمت الربا فعلًا، والثانية فرضت الجزية وليس الربا على أهل الكتاب، فأين الربا المحرم من الجزية المفروضة؟ أليس التناقض في زعمهم وحدهم؟
(1) سورة الواقعة الآيتان 13ـ14
(2)
سورة الواقعة: الآيتان 39ـ40.
(3)
سورة الحجر: الآية 85
(4)
سورة التوبة: الآية 72.
(5)
سورة البقرة: الآية 275
(6)
سورة التوبة: الآية 29.
(ى) قالوا: إن الآية {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}
(1)
.
حيث الآية الأولى تأمره بترك الكافرين والمنافقين، والثانية تأمره بقتالهم وعدم تركهم، وهذا غير صحيح لأن الآية الأولى أمر بترك الأذى لا بترك الجهاد، والأذى منه ما هو قولي وما هو فعلى ثم جاءت الآية الأخرى لتؤكد على الجهاد ومهما كان عدد المسلمين قليلًا فالفرد منهم بعد التخفيف من الله بفردين والجهاد من صميم التوكل على الله. فلا تناقض كما رأينا.
فالآية الأولى ذكرت أنه ليس على الرسول إلَاّ البلاغ، والآية الثانية أمرته بقتال المنافقين وجهادهم. هكذا يقولون فهل هذا صحيح؟ كلا، فالآية الأولى تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين، والثانية تتحدث عن المنافقين، والأولى تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس مسؤولًا إلَاّ عن التبليغ حتى لا يحزن عليهم، أما الثانية فتبين وجوب قتالهم وعدم الحزن عليهم لأنهم قد أبلغوا وأساءوا إلى أنفسهم وإلى المؤمنين فلا تجوز مصادقتهم ولا السكوت عنهم ولا الحزن عليهم، فأين التناقض؟.
وهكذا قدموا نماذج أخرى من هذه الأمثلة التي تدل كما رأينا على أحد أمرين، إما جهل باللغة العربية وبلاغتها ودلالات ألفاظها وطرق أساليبها ولذلك لم يفهموا فحكموا بالتناقض بين غير المتناقضين، وإما أنهم يفهمون ولكن حقدهم أعمى عيونهم وبصائرهم حتى قالوه ما قالوه.
(1) سورة الأحزاب: الآية 48.
(2)
سورة الأنفال: الآية 66
(3)
سورة آل عمران: الآية 20
(4)
سورة النساء: الآية 89
(ل) أما التناقض من جهة المعاني فيقدم لنا الأستاذ العقاد نماذج منها ويرد عليها نكتفي ببعضها يقول: (قرأنا لبعضهم أخيرًا كتابًا عن الشيطان يلم فيه بصفة إبليس في الإسلام ويستغرب فيه من هذا الدين أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم، مع انه الدين الذي اشتهر بغاية التشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله، ومرد الخطأ فيما بدر إلى الكاتب من التناقض بين التوحيد وبين السجود لآدم أنه فهم السجود بمعنى الصلاة دون غيرها من معاني الكلمة في اللغة العربية، وفاته أن الكلمة عرفت في اللغة العربية قبل أن يعرف العرب صلاة الإسلام، ولم يفهموا منها أنها كلمة، تنصرف إلى العبادة دون غيرها، لأنهم يقولون: سجدت عينه أي أغضت، وأسجد عينه أي غض منها، وسجدت النخلة أي مالت، وسجد أي غض رأسه بالتحية وسجد لعظيم أي وقره وخشع بين يديه، ولا تناقض على معنى من هذه المعاني بين السجود لآدم وتوحيد الله، وإنما السجود هنا هو التعظيم المستفاد من القصة كلها، وهو تعظيم الإنسان على غيره من المخلوقات، وبعضهم يرى أن الإسلام مناقض بطبيعته للعمل والسعي في سبيل الحياة لأنه يفهم من الإسلام أنه التواكل وتسليم الأمر إلى الله بغير حاجة إلى الحول والقوة لأنه لا حول ولا قوة إلَاّ بالله، وجهل هؤلاء بالفهم أكبر من جهلهم باللغة لأن الإسلام إلى الله وحده وتحريم الإسلام لغيره يأتي على المسلم أن يسلم للظلم أو يسلم للتحكم من الناس أو من صروف الحياة، وينهاه أن يستسلم للخيبة وللقسمة الجائرة، وأن يستسلم لكل قضاء لا يرضاه، ويعلم أن الله لا يرضاه، وبعضهم يرى أن الإسلام والسلم نقيضان لأنه يفهم من كلمة أسلم أنها التسليم في الحرب أو التسليم قبل الحرب خوفًا من القتال، فكل مسلم فهو خاضع للسيف هزيمة بعد الحرب أو خوفًا من الحرب قبل إشهارها عليه، وهؤلاء الذين يتحذلقون على اللغة العربية التي يجهلونها يفوتهم أن كلمة أسلم في ميدان الحرب هي نفسها مأخوذة من إعطاء اليد أو بسطها للمصافحة، وأن المقصود بهذه الكلمة في الدين أنها استقبال الله والاتجاه إليه، فمن أسلم وجهه لله فقد استقبل طريقه وأعطاه وجهه ولم يتحول عنه إلى غيره
…
) وهكذا نجد الأستاذ العقاد يعزو ما فهمه أعداء الإسلام على أنه تناقض فيه إلى خلل في أنفسهم راجع إلى سوء فهمهم للإسلام وللغة العربية يقول: (ويندر أن نقرأ في كلام ناقد من الأجانب عن اللغة العربية شيئًا من مآخذ التناقض في الإسلام إلَاّ بدا لك بعد قليل أنه مخطئ، وأن مرد الخطأ عنده إلى جهل الإسلام أو جهل اللغة العربية، وبعضهم يجهلها وهو من المستشرقين لأنه يستظهر ألفاظها ولا يتذوقها، ولا ينفذ إلى لبابها من وراء نصوص القواعد والتراكيب.. وأكثر ما اطلعنا عليه من النقائص المزعومة فهو من قبيل هذه الأخطاء في التفرقة بين الكلمات على معانيها المطلقة وبين هذه الألفاظ على معانيها التي قيدها الاصطلاح أو خصصتها لغة القرآن الكريم، وفيما عدا هذه النقائص وما إليها يروع الباحث في الإسلام ذلك التناسق بين عقائده وأحكامه وأخلاقه)(1) .
وهذا الذي نبه إليه الأستاذ العقاد ذكرته مستشرقة إنجليزية واعترفت به على إخوانها من المستشرقين والمبشرين، وهذا أبلغ رد على هؤلاء الجاهلين الحاقدين تقول المستشرقة تشاريس وادي:(إن الغربيين لم يعرفوا الإسلام إلَاّ من الغربيين ولم يعرفوه من اهله، ولا من مصادره، فهم عرفوه من أعدائه، ولو أن هؤلاء حذقوا اللغة العربية وتذوقوا بلاغة القرآن لأدركوا إعجازه وأنه تنزيل من حكيم حميد)(2) .
وبهذا بطلت دعوى هؤلاء الأعداء بتناقض آيات القرآن وألفاظه أو معانيه، وبقي القرآن، وسيبقى إلى قيام الساعة في قمة العظمة من البلاغة والفصاحة والاتساق والانسجام محفوظًا بعناية الله لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد وكيف لا وهو تنزيل الحكيم الحميد سبحانه وتعالى.
(1) حقائق الإسلام: ص 276ـ278 بتصرف واختصار
(2)
رد مفتريات على الإسلام: ص 104
سادسًا ـ ادعاؤهم أن في القرآن أخطاء كثيرة وأنه يعارض مع العلم:
عرفنا من قبل أن أعداء الإسلام اتهموا القرآن الكريم بالوقوع في أخطاء كثيرة، بعضها تاريخي، وبعضها لغوي، وبعضها تشريعي، وبعضها علمي، وسقنا هناك أمثلة مما قالوه، ونحن هنا بعون الله تعالى وتوفيقه نبين بطلان هذه الاتهامات، وزيف الافتراءات وردها على أصحابها الحاقدين الجاهلين، وإليك البيان:
(أ) ما زعمه (فردريك بلس) أن القرآن الكريم لم يفرق بين مريم والدة عيس عليه السلام وبين مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، ويشير بذلك إلى قوله تعالى في قصة أم عيس: ما زعمه (فردريك بلس) أن القرآن الكريم لم يفرق بين مريم والدة عيس عليه السلام وبين مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، ويشير بذلك إلى قوله تعالى في قصة أم عيس:{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (1) .
يقول بلس: (فكيف تكون مريم أخت موسى التي عاشت قبل المسيح بألف وأربعمائة سنة وهي أم المسيح)(2) .
(1) سورة مريم: الآية 28
(2)
التبشير والاستعمار: ص 41
ونقول: إن بلس أساء فهم القرآن الكريم ولم يتذوقه لغته العربية شأنه في ذلك شأن كل إخوانه ممن سبقت الإشارة إلى جهلهم بالإسلام واللغة العربية في الفقرة السابقة، فلم يعرف بلس أن هذا الخطاب من باب الكناية في علم البلاغة، فليس المقصود أنها أخت هارون عليه السلام في النسب والسن، وإنما أخته في الدين والخلق والعفة، فكما أن هارون عليه السلام لا يقع منه الفحش فكذلك مريم عليها السلام لا يقع منها ذلك، ومن ذلك قولنا وقول السابقين: يا أخا العرب، يا أخا اليهود، ونحو ذلك لمن يتخلق بأخلاقهم ولو لم يكن من بني جلدتهم، ولا يمت لهم بصلة، فليس المراد من: يا أخت هارون، أنها أخته من أبيه وأمه، وإنما هي أخته وشبيهته في التقوى والطهارة، والأمر كذلك فيما جاء عنها في سورة التحريم:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (1) .
وهي ليست ابنته نسبًا إنما هي ابنته في الدين والتقوى ورعاية الله عز وجل وبركته واصطفائه (2) . وقد يكون عمران هذا ليس أبا موسى وهارون ولكنه عمران بن ماثال رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود عليهما السلام (3) . وسواء كان المراد هذا أو ذاك فمريم ليست ابنة أو اختا لأي منهما على الحقيقة، ولكن كما عرفنا على المجاز، قال ابن عطية: واختلف المفسرون في معنى قوله عز وجل: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} .
فقالت فرقة: كان لها أخ اسمه هارون لأن هذا الاسم كان كثيرًا في بني إسرائيل تبركًا باسم هارون أخى موسى عليهما السلام. وروى عن المغيرة بن شعبة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى نجران في أمر من الأمور، فقالوا: إن صاحبك يزعم أن مريم هي اخت هارون (4) وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون باسم الأنبياء والصالحين)) (5) . وفي هذا إشارة إلى أن الأخوة على الحقيقة وأن مريم كان لها أخ يسمى هارون تبركا باسم هارون أخي موسى عليهما السلام. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى أنه اسم وافق اسما، وقال السدي وغيره: بل نسبوها إلى هارون أخي موسى لأنها كانت من نسله، وهو كما تقول لرجل من قبيلة: يا أخا فلانة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:((إن أخا صداء أذن، ومن أذَّن فهو يقيم)) (6) . وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ليست بأخت هارون أخي موسى، فقالت عائشة: كذبت، فقال لها يا أم المؤمنين: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر وإلَاّ فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة، قال: فسكتت (7) . وقال قتادة: كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته، قيل: إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة، ما كنت أهلًا لما أتيت به، وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمن فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ، ذكره الطبري، ولم يسم قائله، والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلًا لهذه الفعلة فكيف جئت بها أنت؟ (8) .
(1) سورة التحريم: الآية 12
(2)
انظر: رد مفتريات على الإسلام: ص 164
(3)
انظر: تفسير ابن عطية: 2/83
(4)
وهذا يؤكد أن الادعاء قديم يردده المعاصرون
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل (الدر المنثور)
(6)
أخرجه الترمذي في الصلاة وابن ماجة في الآذان وأحمد في مسنده: 4/169
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين (الدر المنثور)
(8)
انظر فيما سبق: تفسير ابن عطية: 9/459ـ461
إذن فنحن أما عدة أقوال بعضها يستخدم الأخوة على حقيقتها وهارون المذكور أخو مريم من النسب، والبعض يستخدمها على المجاز والكناية سواء كان هارون عبدًا صالحًا أو أخا موسى، ولم يقل أحد كما رأينا إنها تعني أخت هارون أخا موسى على الحقيقة حتى يجئ هؤلاء المغفلون ويستنكرون ذلك على القرآن ويعتبرونه خطأً فاحشًا فالاستنكار عليهم ولا خطأ من فهمهم أو من حقدهم لأن أحد الأقوال إن مريم أم عيسى هي أخت هارون وموسى عليهم جميعًا السلام لأن بينهم كما قال ستمائة عام أو كثر. ولذلك تراجع كثير من مرددي هذه الدعوى القديمة عن ذكرها، ولكن بعض المعاصرين يحييها وذلك دليل جهله وتخلفه.
(ب) قول تيموثا قول تيموثاوس: جاء في القرآن في سورة الكهف في الحديث عن ذي القرنين قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} (1) .
وعلق المجلس الملي القبطي على ذلك بهذه الجملة: (الشمس تغيب في بئر) مستغربًا ومستنكرًا، ثم أكدوا ذلك بقول البيضاوي:(إن الإسكندر الأكبر رآها ورأي طينها وماءها وناسًا عرايا حولها)(2) .
والواقع أن هذا الإدعاء باطل كسابقه، راده ـ كغيره ـ إلى الجهل وسوء الفهم للغة العربية وألفاظها ودلالاتها وبلاغتها، فلم يقل أحد إن الشمس تغيب في بئر حقيقي كما فهموا وعبروا، وإنما التعبير تشبيه تمثيلي كأن الشمس عند الغروب على سطح المحيط، وعند اختلاط الصفرة والحمرة من أشعتها مع ماء المحيط تبدو لمن يراها من بعيد كأنها تسقط في عين حارة ملتهبة أو بئر متفجرة بالنيران، وكثيرًا ما رأينا الرسامين يعبرون في لوحاتهم عن هذا المنظر (منظر الغروب) كما عبر عنه القرآن الكريم، فالكلام ليس على الحقيقة ولكنه التشبيه والتمثيل، وحين رجعنا إلى التفسير وجدنا هذه المقولة من كلام كعب الأحبار الذي كان يهوديًا ثم أسلم، فبضاعتهم ردت إليهم، واستغرابهم واستنكارها يرجع إلى توارتهم.
(1) سورة الكهف: الآية 86
(2)
رد مفتريات على الإسلام: ص 128
قال ابن عطية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} على وزن فعلة أي ذات حمأة، ويقرأ عاصم في رواية أبي بكر والباقون (في عين حامية) أي حارة، وقد اختلف في قراءة ذلك معاوية وابن عباس، فقال ابن عباس رضي الله عنهما (حمئة) وقال معاوية (حامية) فبعث إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة؟ فقال لهما: أما العربية فأنتما اعلم بها مني (1) . ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثأط، والثأط الطين
…
وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين فقال: يحتمل أن تكون العين حارة ذات حمأة فكل قراءة وصف من أحوالها وذهب بعض البغداديين إلى أن في بمنزلة عند كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي لعين حمئة) (2) .
وقال الدكتور عبد الجليل شلبي: (وما تقوله الآية هو أن هذا الرجل جال في الأرض حتى وقف على شاطئ بحر أو محيط فرأي الشمس عندما تصل في مرآه إلى الأفق تغيب في الماء وأن الماء الأزرق حيث تغيب الشمس تشوبه صفرة أو حمرة تجعله عكرًا، فهذه هي عين الماء الحمئة، ليست البئر)(3) .
فتبين من ذلك أن المقصود التشبيه والتمثيل وليس الحقيقة كما فهم رجال المجلس القبطي، وإذا فرض أنها على الحقيقة فهي من توراتهم كما روى عالمهم القديم كعب الأحبار.
(1) هكذا يكون الأدب، وكان الواجب على هؤلاء الجاهلين المعاصرين أن يقتدوا بسلفهم في الأصل، ويردوا علوم العربية وألفاظها إلى أهلها ما داموا لا يفهمون!!
(2)
تفسير ابن عطية: 9/393 ـ 394
(3)
رد مفتريات على الإسلام: ص 129
(ج) نسبوا إلى القرآن الكريم أخطاء تاريخية ـ في زعمهم ـ كحديثه عن هامان الذي ذكره القرآن وزير الفرعون مع أنه كان بينه وبين فرعون ألف سنة ولم يكن وزيرًا له بل كان وزيراٍ للملك أحشويروش ملك الفرس، كما جاء في سفر (استير) يشيرون بذلك إلى قوله تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (1) .
وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (2) .
وللرد على هذا الزعم نقول:
1-
لا مانع أن يكون هناك أكثر من شخص باسم هامان في قرون مختلفة.
2-
إن فرعون لقب ملك مصر في زمن موسى عليه السلام وليس اسما لشخص، فلا مانع أن يكون قد استوزر هامان أكثر من فرعون أو ملك.
3-
أنهم اعتمدوا على سفر من أسفار التوراة، وقد علمنا ممن الفقرات السابقة أن القرآن أصدق منها لأنه محفوظ بعناية الله، وهي امتدت إليها أيدي التحريف فلا يحتج بالمحرف على الصحيح، بل العكس هو الصحيح، وقد أكد ذلك الدكتور عبد الجليل شلبي فقال:(جاء اسم هامان في أوراق بردية (3) . أما هامان استير فشخصية خيالية والدارسون المحدثون يثبتون أن قصة استير كلها قصة موضوعة خيالية لا أصل لها ورجحوا أنها مقتبسة من أسطورة بابلية قديمة، ولكنها صورت إلى ما يناسب طبيعة اليهود من اعتمادهم على النساء في التجسس، ودفعهن إلى الملوك والقواد لاستمالة قلوبهم بجمالهن وإغرائهن بمفاتن أجسادهن
…
ويرى الباحثون أن القصة وضعت نموذجًا لتحتذيه الإسرائيليات، أما أدلة كذبها فهي أنها لم تذكر في غير التوراة) (4) . فليس هناك إذن خطأ تاريخي ولا غيره، إنما إفك وافتراء اخترعه أعداء القرآن ليلحقوا به أي نقص، وأنىَّ لهم ذلك؟
(1) سورة القصص: الآية 8.
(2)
سورة غافر: الآية 36
(3)
يريد أنه مصري لا فارسي
(4)
رد مفتريات على الإسلام: ص 158ـ159
(د) ونصبوا أنفسهم حكامًا على لغة القرآن ـ وهم الجاهلون بها وبأولياتها ـ فقالوا إن في القرآن أخطاء لغوية منها رفع إسم إن كقوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (1) .
ونصب الفاعل في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} . (2)
ونصب المضاف إليه في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} (3)
إلى نحو ذلك من السخافات والجهالات، ولمزيد جهلهم سموها لغوية، وإنما هي كما يريدون نحوية، وهي تدل دلالة قاطعة على خيبتهم ورسوبهم في امتحان أوليات النحو العربي حيث لم يفهموا من المفعول به، ولم يعرفوا الفرق بين المنصرف وغير المنصرف كما لم يعرفوا إعراب المثنى، فإبراهيم في الآية الكريمة مفعول به لا فاعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي ابتلاه، وضراء مضاف إليه ولكنها من الممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة فتجر بالفتحة ولا تجر بالكسرة كما ظنوا، أما اسم الإشارة: هذان بعد إن ففيه قراءات عديدة بالرفع بالألف، وفي إن قراءات عديدة، والبعض يعمل إن والبعض يلغي عملها، والبعض بفسرها تفسيرات أخرى غير إن المؤكدة الناصبة. (4)
وهكذا ليس في الأمر خطأ نحوي كما زعموا ولكن بعض ما زعموه جهل، والبعض الآخر له تفسيرات أخرى ولكنها صحيحة ومعروفة في اللهجات العربية والنحو العربي وعند أهل الفن والاختصاص، وأين هؤلاء من أولئك؟
(1) سورة طه: الآية 63
(2)
سورة البقرة: الآية 124.
(3)
سورة هود: الآية 10
(4)
انظر في ذلك تفسير ابن عطية: 10/47 – 49
(هـ) وأما ما زعموه من وجود أخطاء تشريعية في القرآن الكريم من مثل: عدم التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث وغيره، وقطع يد السارق، وإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، فهو زعم باطل وضلال مبين، ومرده إلى أمرين:(1) أحدهما: أنهم لم يفهموا حكمة التشريع الإسلامي العظيم، والثاني: أنهم يفهمون، ولكنهم بحقدهم على الإسلام يروجون بهذه الأباطيل إلى العلمانية لهدم الإسلام والقضاء على أحكامه وتشريعه، ولا مانع من اجتماع الأمرين معًا فيهم فهم يجمعون كما رأينا بين الجهل والعلمانية.
وبالرجوع إلى فلسفة التشريع الإسلامي العظيم يتبين جماله وعظمته فيما شرع وقرر وبيَّن من أحكام، فهو يسوي بين الذكر والأنثى في جميع الأمور ولا يستثني من ذلك إلَاّ أمور خاصة قليلة تتناسب مع خصائص ومسؤوليات كل نوع، فهو إنما ميز الرجل على المرأة في الميراث لأنه ألقى على الرجل مسؤوليات مالية كثيرة أعفي منها المرأة، ولو قارنا بين ما يبقي الرجل من الميراث بعد قيامه بمسؤولياته وبين ما أخذته المرأة من الميراث لوجدنا أن حظ المرأة أعظم، وهي التي كانت قبل الإسلام بلا ميراث، وما تزال في الغرب بلا نصيب.
(1) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي: ص12، وما بعدها
وأما قطع يد السارق فلحماية المجتمع من خطره وحمايته أيضًا من الهلاك، فقطع يد سارق واحد ـ زجرًا له وردعًا لغيره ـ يقي المجتمع مما آل إليه أمره الآن في ظل الغياب هذا الحد الشرعي إلى كثرة السارقين وتفشي خطرهم ونهب أموال المجتمع إلى معوقين. أي أنهم جميعًا سارقون. ولو أقيم حد الله مرة لكان السارق قد درع وأمن المجتمع كله من هذا البلاء، ونحن نعلم أن الإسلام لا يطبق هذا الحد إلَاّ بعد استيفاء الجوانب والأدلة التي لا تجعل للسارق عذرًا أو شبهة فيما فعل، وهذا من عظمة الإسلام.
واما إباحة التعدد في الزوجات، فقد أحاطها الإسلام بسياج العدل والتقوى، وهو حينئذِ علاج لكثير من الأوضاع الاجتماعية غير الصحيحة، بدليل أن كثيرًا من الأوربيين والأوربيات قد امتدحوه، فأيهما أفضل: أن تكون المرأة زوجا أو خلية وعشيقة؟ وقد حرم الإسلام التعدد عند عدم العدل ليقي المرأة والمجتمع مما آل إليه أمره من الخيانات والأبناء غير الشرعيين.
وكذلك كانت إباحة الطلاق بابًا لحل العقيدة الزوجية، وخروجًا من عشرة غير موفقة وشركة غير مستقرة تنتهي به المشاكل وتستأنف بعده حياة جديدة، أما أن يبقيا على خلاف ونكد في ظل تحريم الطلاق، فذلك يدفع ـ كما هو واقع الآن ـ إلى الإجرام والجنايات الزوجية، ولذلك بدأت الصيحات تعلو في البلاد التي تحرمه منادية بتحليله كما فعل الإسلام، ونحن نعلم أن الإسلام لم يحله إلَاّ لحاجة وبعد استفاد كل وسائل التفاهم والإصلاح (1) .
فأين الأخطاء التشريعية في هذه الأسباب الحياتية الاجتماعية العظيمة؟
(1) انظر: كتابنا في التشريع الإسلامي: ص 81ـ88
(و) ونسبوا إلى القرآن أخطاء أخلاقية منها أن يبيح الكفر عند الإكراه عليه كقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (1) .
وكذبوا في قولهم إن هذا الخطأ أخلاقي بل هو قمة الكرم والأخلاق والجمال الإسلامي، فالمكره لا حول له ولا قوة إزاء المكره القوي الظالم وهو بين أمرين كلاهما مر، إما أن يموت في سبيل إصراره على الإسلام، أو يقول كلمة الكفر عند الضرورة ليخرج من المأزق ثم يستأنف الجهاد، وكلمة الكفر في هذه الحال أنفع للإسلام والمسلمين من إزهاق روح بريئة مسلوبة الإرادة، وفرق بين هذا وبين التضحية بالروح في سبيل الإسلام والدعوة، فهذه تضحية يحث عليها الإسلام ويرغب فيها ويجعلها أعظم الأعمال حين تقوم على الإرادة الصادقة والنية المخلصة، بينما المكره لا حول له ولا إرادة، فماذا يستفيد الإسلام من موته مكرهًا في سبيل المبدأ؟ إن الإسلام يقدم مصلحة الشخص وحياته في هذا الموقف ويأذن له في كلمة الكفر حتى يصبح حر الإرادة فيموت بحريته أو يعيش مسلمًا بإرادته، وهذا موقف أخلاقي أسمى وأعظم من الموت على الإسلام تحت الإكراه والظلم، وإذا رجعنا إلى سبب نزول الآية وقفنا على الحق، قال القاضي أبو محمد رحمه الله:(كان عبد الله بن أبي السراج ومقبس بن صبابة وأشباهها ممن كان آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية – السابقة على آياتنا – أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنين المعذبين بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمة وخباب وصهيب وأشباههم، ولذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من اسلم من هؤلاء الضعفه، ويعذبونهم ليرتدوا ـ فربما سامحهم بعضهم بما أرادوا من القول، وروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فإستثناء الله في هذه الآية، وبقيت الرخصه عامه في الأمر بعده، وروى أن عمار إشتد عليه ما قاله فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ((كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟)) قال، لا، قال: فأنزل الله {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (2)
ولهذا أتضح لنا الأمر كان صعبا والإكراه كان شديدا فإذن الله لهم ولمن في مثل أحوالهم بذلك قولا وفعلا وهذه رحمة من الله وفضل. أما من ينشرح صدره لكلمة الكفر وبلا ضغط ولا إكراه، فهذا مغضوب عليه من الله وله عذاب عظيم.
(1) سورة النحل: الآية 106
(2)
تفسير ابن عطية: 8/515، وهامش: ص 517.
(ز) وإدعوا أن في القرآن أخطاء علميه لأنه يتعارض مع العلم، فمن ذلك قوله:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (1)
ومعنى هذا أن الأرض ثابتة بينما أثبت العلم أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة.
وهذا إدعاء كاذب – كما نرى – فالقرآن الكريم لم يقل إن الأرض ثابته، وإنما قال: إن فيها رواسى وهى الجبال تقيها من الأضطراب حتى يستطيع البشر أن يقيموا عليها ويمارسوا كل أسباب الحياة من حل وترحال نوم وحركه وصناعه وزراعه، ولو كانت بلا رواسى لأضطربت وعجز الناس عن ألإستقرار عليها، ولا معنى حفظها من الأضطراب بالجبال والرواسى والأوتاد أن يكون غير متحركه، فنحن ننام في الطائره وهى مسرعه وفى لاقطار وهو يتحرك، وفى السفينه وهى تمخر عباب البحر، فإذا إضطرب واحد منها بخلاف سرعته المعتاده وحركته العاديه إستيقظنا وشعرنا بالدوار والتعب الخوف، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئا يسكنها لتثبت ولا يعنى تثبيتها أن تقف ولا تتحرك، بل أن ينقطع أضطرابها، وتستمر حركتها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحركه في قوله تعالى:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (2)
و (كل) : كلمة تشمل الشمس وتوابعها من الأرض والقمر والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل الكواكب والنجوم (3) ، وهو مع هذا يرسي حركتها ويمنعها من الاضطراب، بل إن القرآن الكريم كان أول من لفت مدارك العلماء لوظيفة الجبال من أنها أثقال لتثبيت الأرض في دورانها وحفظها من الإضطراب (4) .
فهل يقال بعد ذلك إنه يتعارض مع العلم؟ وكيف يقال ذلك وجميع ما تم التوصل إليه من حقائق العلم سبق القرآن الكريم إليه، وأخبر به، وما يزال فيه الكثير من الحقائق لم يصل إليها العلم بعد. يقول الدكتور دراز:(قول قاصر أن نقول إن القرآن دائرة معارف عصره، فلقد كانت لجميع العصور أوهامها التي أعتبرتها حقائق مقررة، ولم يثبت خطؤها إلا فيما بعد، ولكن القرآن في مسلكه بين محالات العلم لا يتأرجح أبدا، والحقائق التي يسوقها كانت وستظل لا تقهر)(5)
(1) سورة لقمان: الآية 10
(2)
سورة يسن: الآية 40
(3)
رد مفتريات على الإسلام: ص 31.
(4)
الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص576.
(5)
مدخل إلى القرآن الكريم: ص 180.
سابعا – ومن المطاعن الحديثه:
قول دى بوي: (جاء القرآن للمسلمين بدين، ولم يجئهم بنظريات، وتلقوا فيه أحكاما ولكنهم لم يتلقوا فيه العقائد)(1) . وما قاله مرجليوت وطة حسين من التشكيك في الشعر الجاهلى لأنه لا يمثل البيئه الجاهليه وأن القرآن هو الذي يمثلها لبينتهوا من ذلك إلى أنه عمل إنسانى (2)
أما مقولة دى بوى فبطلانها ظاهر، فقد علمنا مما سبق بشمول الإسلام ولإتساقه في عقائده وعباداته وأخلاقه وتشريعاته وأحكامه، وتكاليفه بصورة لم يسبق إليها ولم يلحق بها، وقد إستطاع بما جاء به أن يخلق أمه ويبنى حضارة وينشر ثقافه في بضع سنوات، ونظرة منصفه إلى دستور الإسلام الحى القرآن الكريم والسنه النبوية ترينا وترى كل منصف ما في الإسلام من نظريات وقوانين ومبادئ وقواعد تحقق لكل من يأخذ بها اسباب السعاده والأمن في الدنيا والآخرة، كيف لا وهو تنزيل الحكيم الخبير، وتشريع الرحمن الرحيم،
يقول الدكتور عبد الحليم محمود: (فى هذه الفترة من صدر الإسلام – فترة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم – كان القرآن وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه يلبيان حاجات الأمه إعتقاديه كانت أو تشريعيه أو خليقه، وكانت الأسئله تترى موحهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيجيب عنها الوحى القرآنى تارة وتجيب عنها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تاره أخرى، وأسئله المجتمع إذ ذاك لم تكن تنتهى إلى حد، وكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة فقد سألوه عن الروح، وسألوه عن القدر، وسألوه عن الأزل، وسألوه عن المصير، وسألوه عن الله، وعن الإيمان الإسلام والإحسان والساعه، وسألوه عن الخمر والميسر والمأكل والمشرب، والأهله والمحيض، وسألوه عن كل ما يجول في أذهانهم، وكان القرآن سجلا يصور الكثير من الأسئله ويعطى الإجابه عنها)(3) .
(1) القرآن والنبى: ص 100
(2)
الظاهرة القرآنيه: ص56؛ الفكر الإسلامي الحديث: ص187.
(3)
إقرأ الآيات التي صدرت بقولة تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} وهى كثيرة.
ثم يقول: (أظن أننا بعد هذا لسنا بحاجه إلى الرد على الأستاذ دى بوى، فلقد رأينا بوضوح أن القرآن جاء للمسلمين بدين وبنظريات، وبأحكام وبعقائد)، ولا شك أن الأمام الرازى كان أصدق رأيا وأعمق غورا إذ يقول معبرا عن الحقيقة:(إن الآيات الوارده في الأحكام الشرعيه أقل من ستمائة آيه، وأما البواقى ففى بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين)، ويقول:(وأما محمد علية الصلاة والسلام فإشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل، ولم يرفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته على المسلمين) ، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
(لقد أكمل الله للمسلمين الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداوقد أتمه عز وجل فلا ينقصه أبدا وقد رضية فلا يسخطه أبدا)(2)
فدين هذا شأنه من الكمال والتمام ماذا ينقصه؟ لقد صحح العقائد التي أفسدتها الأمم السابقه، وقوم الشرائع التي إنحرفت عنها الأمم السابقه. وهدى الفطرة إلى أصلها الإلهى بعد أن أفسدتها القوانين والفلسفات الوضيعه، ووضع نظاما للعبادة ونظاما للمال، ونظاما للأسرة، ونظاما للعقوبات، ونظما للسياسة والإجتماع، والعلاقات الدولية والحرب والسلام وحتى نستطيع أن نقول بكل تأكيد وثقة، ولا تحتاج البشرية إلى شيء بقدر حاجتها إلى الإسلام، وإذا أخذت به فلن تحتاج إلى شيء آخر.
(1) سورة المائدة: الآية 3
(2)
القرآن والنبى: ص98-100.
ويقدم الدكتور دراز العديد من النظريات القرآنيا والقواعد والمبادئ التي جاء بها (1) فمن ذلك قوله (إن النفس الإنسانيه لا تتغذى بالحقائق النظريه وحدها فبجانب حاجة الإنسان إلى المعرفه والإعتقاد يحتاج في إلحاح إلى القاعدة العلمية القادرة على توجية نشاطه في كل لحظة من حياته، سواء في تصرفاته مع نفسه أو في عرقاته من غيره أو مع خالقه، ولقد قدم القرآن إلى هذه الحاجه النظام الوافى بأوسع وأدق طريقه ممكنه، وخط في كل فرع من فروع النشاط الإنسانى خطا واضحا يسلكه الإنسان في أمان واطمئنان)(2)
ويقول رحمة الله: (إذا كان القرآن بعيدا عن أي عامل خارجى قد اثر بصفة دائمه على عقول جد مختلفه فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى ما له من جاذبيه خاصه بتوافقه الكامل مع أسلوب الناس الفطرى في التفكير والسعور، وبإستجابته لما تتطلع إليه نفوسهم شؤونه العقيده والسلوك، وبوضعه الحلول الناجعه للمشكلات الكبرى التي تقلق بالهم، وبمعنى آخر أنه ينطوى على ما يشبع حاجتهم إلى الحق والخير والجمال، بما يجمع من صفات العمل الدينى والأخلاقى والأدبى في آن واحد)(3)
اما مرجليوت وطه حسين، فقد قدم الأول فرضه عن الشعر الجاهلى القائم على الشك فيه والقول بأنه منتحل لأنه لا يصور البيئة الجاهليه تصويرأ صحيحا. ثم جاء طه حسين في كتابة (فى الشعر الجاهلى) فكرر هذا الكلام ثم إنتقل إلى القرآن فذكر أنه اصدق من الشعر الجاهلى في تصوير البيئة، يريد من وراء ذلك أن يصل إلى أنه عمل إنسانى، ثم يشكك في قصة إبراهيم وإسماعيل كما ذكرهما القرآن.
أما القضية الثانيه وهى القول بأن القرآن عمل إنسانى فقد بحثناها بإستفاضه في البند أولا من هذا الفصل، وأما القضية الأولى وهى التشكيك في الشعر الجاهلى فإنها تتناول القرآن الكريم بشكل أو بآخر، ومن هنا كانت خطورة هذا المنهج الدراسى الغربى للشعر الجاهلى على القرآن الكريم، وفى هذا يقول الشيخ محمود شاكر:(لقد نشر مرجليوت فرضه سنة 1952 في إحدى المجلات الاستشراقيه، وفى خلال عام 1926 نشر طه حسين كتابه المشهور (فى الشعر الجاهلى) ، وربما لم يكن فرض مرجليوت ليحتوى على شيء خاص غير عادى لو أنه حين نشر لم يصادف ذلك الترحيب الحار من المجلات المستعربه ومن بعض الرسالات التي تقدم بها دكاترة عرب محدثون حتى لقد كسب هذا الفرض قيمة (المقياس الثابت) في دراسة الدكتور صباغ عن (المجاز في القرآن) فقد رفض هذا الدكتور رفضا مقصودا مغرضا للإعتراف بالشعر الجاهلى كحقيقة موضوعيه في تاريخ الأدب العربى، فالمشكلة بوضعها الراهن إذن تتجاوز نطاق الأدب والتاريخ وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله، ذلك المنهج القائم على المقارنة الأسلوبيه معتمدا على الشعر الجاهلى كحقيقة لا تقبل الجدل) (4)
(1) انظر: مدخل إلى الرقآن الكريم: ص 106-113، ص: 175-179.
(2)
المصدر السابق: ص 87.
(3)
المصدر السابق: ص 69.
(4)
مقدمه الظاهرة القرآنية: ص 56-57.
إذن فنظرية مرجليوت التي شككت في الشعر الجاهلى وجعلت بعض الدارسين ينكرونه على إعتبار أنه منتحل لأختلاف رواياته، ولأنه لا يمثل البيئة الجاهلية، ولأن فيه تقاربا مع الصور الدينيه التي جاءت في القرآن، ثم منهج الشك الديكارتى الذي أعتمده طه حسين مضافا إلى فروض مرجليوت في الشعر الجاهلى كان لهما تأثير على الثقة في القرآن الكريم الذي كان كثيرا ما تقارن فصاحته وبلاغته ولغته بهذا الشعر، وبذلك يصبح القرآن الكريم أيضا مجالا للشك، ومن هنا وجدنا طه حسين ينكر قصة إبراهيم وإسماعيل الوارده في القرآن الكريم ولا يعتبر ورودها فيه كافيا لأثباتها، ومن هنا قامت الدنيا وقعدت إبان ظهور هذه النظرية الخطيرة، وبدأ البحث الفعلى الجاد عن جوانب أخرى في إعجاز القرآن الكريم غير اللغه والبلاغه (اللفظ) الذين سادا في الشعر الجاهلى والأدب العربى عموما.
وقد ناقشنا قضية الإعجاز القرآنى برمتها في البند ثالثا وبينا أن إعجازه متعدد لا يقتصر على اللفظ أو الأسلوب أو اللغة أو البلاغة أو المعنى والمحتوى أو النظم والتركيب أو الموضوعات والأخبار أو ما مضى وما سيأتى
…
إلخ، وبينا أن ذلك الإعجاز الشامل مستمر إلى يوم القيامه بصرف النظر عن ثبوت الشعر الجاهلى أو الشك فيه.
وبهذا تبطل نظريه مرجليوت وطه حسين في القرآن الكريم الذي لم يتأثر إعجازه بالشعر الجاهلى ولا غيره. ولقد عبر (لا متز) في كتابه (مهد الإسلام قبيل الهجرة) عن أسفة لأن هذا الكتاب لم يقدم معلومات أو تفاصيل توصف بها بلاده من حيث العلوم المناخيه والجوية، بينما يطيل تأملاته أمام النجوم والجبال والسحاب والمظاهر العاديه الأخرى التي يصفها بالعجائب، ورد عليه الدكتور دراز رحمة الله فجعل هذا المأزق حسنة من حسنات القرآن ودليلا من أدلة إعجازة وعظمته وبرهانا على أنه من عند الله وليس إنتاجا محليا أو صورة للبيئة كما أدعى مرجليوت وطه حسين، فقال:(وهنا يكمن في رأينا الدليل على أن القرآن ليس إنتاجا محليا لأن الحقائق التي يقدمها هي من النوع الذي يسهل على جميع العقول إدراكه وإستخلاص العقائد الأخلاقيه منه، ولهذا نرى مكانه سامقا فوق كل الإعتبارات الجغرافيه والعنصريه عنها، ولا يركز إلا على العبر والدروس التي تفيد في تربية الإنسان، إن هذا المنهج الكامل والمتكامل الذي ينفرد به القرآن وحده هو ذاته برهان وأى برهان)(1) . وبعد:
فهذا هو القرآن الكريم كتاب الله ووحية الذي قال فيه وقوله الحق:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2)
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (3)
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (4)
{الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (7)
{الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (8)
{وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ} (9)
{وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (10)
{مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (11)
{هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (12)
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (15)
وصلى الله على سيدنا محمد الهادى {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (16)
والحمد لله رب العالمين أولا وأخرا.
الدكتور محمد نبيل غنايم
(1) مدخل إلى القرآن الكريم: ص 180-181.
(2)
سورة هود: الآية 1
(3)
سورة البقرة: الآية 2
(4)
سورة فصلت: الآية 2
(5)
سورة الأسراء: الآية 9-10.
(6)
سورة الأعراف: الآية 2
(7)
سورة يونس: الآية 1.
(8)
سورة يوسف: الآية 1
(9)
سورة ق: الآية 1
(10)
سورة آل عمران: الآية 58.
(11)
سورة يونس: الآية 57.
(12)
سورة البقرة: ألآية 185.
(13)
سورة المائده: الآية 16.
(14)
سورة الكهف: الآية 1 –4
(15)
سورة الفرقان: الآية 1
(16)
سورة الشورى: الآية 53.
المراجع
1-
القرآن الكريم.
2-
أجنحة المكر الثلاثه. عبد الرحمن حنبكه، دار القلم، بيروت.
3-
الإسلام في مواجهة الاستشراق. د. عبد العظيم المطعنى. دار الوفاء. المنصورة.
4-
الباكورة الشهية في الروايات الدينية. مجموعة من المستشرقين.
5-
التبشير والإستعمار. د. مصطفى خالدى د، عمر فروخ، المكتبه العصريه، بيروت.
6-
التشريع الجنائى الإسلامى. أ. عبد القادر عودة، دار الثرات، القاهرة.
7-
تفسير إبن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) غبن عطية. إدارة إحياء التراث، قطر.
8-
تفسير إبن كثير (تفسير القرآن العظيم) إبن كثير، دار إحياء التراث العربى، بيروت.
9-
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. عباس العقاد. المكتبه العصريه، بيروت.
10-
خاتم النبين. محمد أبو زهرة. إدارة إحياء التراث. قطر.
11-
دراسات في الثقافه الإسلامية. د. محمد نبيل غنايم وآخرون، مكتبه الفلاح. الكويت.
12-
رد مفتريات على الإسلام. د. عبد الجليل شلبى. دار القلم، الكويت.
13-
سنن ابن ماجه بتحقيق الألبانى. ابن ماجه. المكتب الإسلامى، بيروت.
14-
شرح العقيدة الطحاوية، لأبن أبي العز الحنفى، المكتب الإسلامى، بيروت.
15-
الصحاح في اللغة والعلوم، نديم وأسامه مرعشلى. دار الحضارى العربيه، بيروت.
16-
صحيح مسلم بشرح النووى، النووى، المطبعه المصرية، القاهرة.
17-
الظاهرة القرآنيه. مالك بن نبى، الأتحاد الإسلامي العالمى.
18-
عون البارى لحل أدلة صحيح البخاري، صديق خان. إدارة إحياء التراث، قطر.
19-
الفكر الإسلامي الحديث. د. محمد البهي. مكتبة وهبة. القاهرة.
20-
في التشريع الإسلامى. د. محمد نبيل غنايم. دار الهدايه. القاهرة.
21-
القرآن والمبشرون. محمد دروزة، المكتب الإسلامى، بيروت.
22-
القرآن والنبى. د. عبد الحليم محمود / دار المعارف، القاهرة.
23-
كتاب دول الإسلام. الذهبى. إدارة إحياء التراث الإسلامى، قطر.
24-
لباب النقول في أسباب النزول. السيوطى. هامش المصحف الشريف. دار الشروق.
25-
الإتقان في علوم القرآن، السيوطى. مصطفى الحلبى، القاهرة.
26-
مدخل إلى القرآن الكريم. د. محمد عبد الله دراز. دار القلم، الكويت.
27-
مقدمه الظاهرة القرآنيه. محمود شاكر، الإتحاد الإسلامي العالمى.
28-
النبأ العظيم. د. محمد عبد الله دراز. دار القلم، الكويت.
29-
الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع. الخطيب البغدادى، تحقيق. د. محمد رأفت سعيد. مكتبة الفلاح، الكويت.