المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخوله.. ووسائل مقاومتهإعدادالدكتور عمر يوسف حمزة - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخوله.. ووسائل مقاومتهإعدادالدكتور عمر يوسف حمزة

‌الغزو الفكري في حياة المسلمين

منافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومته

إعداد

الدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

كليه الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة قطر

قسم التفسير والحديث

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأكرم المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.. وبعد:

فإن الغزو الفكري للعالم الإسلامي حقيقة واقعة تبدت في الماضي، وتتجلى في الحاضر، ويخطط لها في المستقبل.

فعشرات الأجهزة شرقية وغربية، سرية وعلنية، حكومية وأهلية، دينية وإلحادية، عسكرية ومدنية، تجمع صفوفها، وتحشد قواها لغزونا من الداخل بعد إنحسار مرحلة الغزو من الخارج، ومع أن الغزو الخارجي ليس مستحيلًا ـ وأفغانستان خير دليل وشاهد ـ إلا أن الغزو الداخلي أكثر إستقرارًا، وأرسخ دعائمًا وأعتى نفوذًا (1) .

ومن هنا يظهر لنا أن مقاومة الغزو الفكري ليست ترفًا فكريًّا، أو محاربة طواحين هواء، بل شرط وجود، وجوهر بقاء.

إن الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام من الموضوعات التي تشد اهتمام الواعين من أبناء الأمة الإسلامية، وتحتاج من الباحثين والدارسين إلى أن يبذلوا فيها من الجهد ما يكشف عن خباياها ويوضح أبعادها.

(1) وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص7، د. حسان محمد حسان سلسلة دعوة الحق، والعدد 5 السنة الأولى. شعبان 1401 هـ

ص: 2190

ولقد كان الإسلام في الماضي جولة مع أهل الباطل والضلال وأصحاب الأهواء والمتجبرين في الأرض، ولقد حقق المسلمون انتصارات كبيرة على جميع أعدائهم، ومن ثم عادى الإسلام كل ضال وكل ذي هوى، ووقف في وجه هديه ومنهاجه كل طاغية وكل ظالم، وقامت المعارك ضارية متعددة على مر التاريخ بين الإسلام وهؤلاء الأعداء.

يخطئ من يظن أن الحرب بين الإسلام وأعدائه قد وضعت أوزارها ، إنما الحق أن أعداء الإسلام يدبرون لحربه كل يوم وسيلة، ويحشدون للوقوف في وجهه كل يوم قوة، وليس خطر الكلمة والفكرة بأقل من خطر الجندي والسلاح في المعركة الضارية التي يشنها أعداء الإسلام عليه. شنوا حرب التشويه والتخريب للإسلام منهجه وتاريخه، ورجاله وتراثه ولغته وقرآنه، وتحالفوا وتآزروا وابتكروا حديث الوسائل وخبيث التيارات والأساليب، فغزوا المسلمين في قلوبهم وأفكارهم وأخلاقهم وأزيائهم وشنوا على العالم الإسلامي من الغارات مالا يخفي أمره على كل ذى بصيرة، وقفت الصهيونية والتبشير والاستعمار ، والمبادئ والنظريات والفلسفات يشد بعضها أزر بعض في حرب الإسلام وأهله. ومن مجموع تلك الوسائل والأساليب كان الغزو الفكري للمسلمين. (1) .

إن الغزو الفكري هو أن تتبنى أمة من الأمم ـ وبخاصة الأمة الإسلامية معتقدات وأفكار الأمة الأخرى من الأمم الكبيرة وهي غير إسلامية دائمًا ـ دون نظر فاحص وتأمل دقيق لما يترتب على ذلك التبني من ضياع لحاضر الأمة الإسلامية ـ في أي قطر من أقطارها ـ وتبديد لمستقبلها، فضلًا عما فيه من صرفها عن منهجها وكتابها وسنة رسولها ـ وما يترتب على ذلك الصرف من ضياع أي ضياع، إذ لا يوجد مذهب سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يغنى الأمة الإسلامية عن منهجها الإلهي، ونظامها الشامل المتكامل في كل زمان ومكان.

(2)

(1) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود 1401 هـ 1981م: ص 5 بتصرف، بحث أعده الدكتور / على عبد الحليم.

(2)

الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود 1401 هـ 1981م ص9

ص: 2191

لا ريب أن من يرى مؤسسات التبشير والاستشراق، وما يصدران من شبهات وتحديات، يحكم بما لا يدع مجالًا للشك بوجود الغزو الفكري الذي يرمى إلى خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه، ثم تحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية وتسييدها على حضارات الأمم، ولا سيما الحضارة الإسلامية.

ولقد ذكر المبشرون والمستشرقون أن هدفهم هو خلق أجيال جديدة من العرب والمسلمين تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية بل الشرقية، وإبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه (1) .

هذه هي بعض مفاهيم الغزو الفكري، وتلك هي تياراته المعادية للإسلام فيما يظهر لى، وسوف أتناول في ثنايا هذا البحث الغزو الفكري من خلال المحاور التالية:

المحور الأول: المنافذ التي يدخل منها الغزو الفكري:

1-

الاقتصاد.

2-

التعليم.

3-

الصحة.

4-

السياسة.

5-

وسائل الإعلام.

المحور الثاني: أساليب الغزو الفكري في التشكيك:

1-

الطعن في القرآن.

2-

الطعن في السنة.

3-

اعتماد ما جاء في كتب السيرة.

4-

النظريات لبعض الفرق الإسلامية الشاذة.

5-

محاربة الفكر الإسلامي والدعوة إلى فصله عن جذوره وقواعده.

المحور الثالث:

1-

العلمانية والحداثة واتجاهاتهما الخطيرة في محاربة الإسلام.

2-

الطريق الأنجع في دفع تحركاتهما العدوانية، ورد نشاطاتهما المتنوعة في المجالات: الفكرية، والتعليمية، والإعلامية.

وسوف أخص كل محور من هذه المحاور الثلاثة بشيء من التفصيل وسيكون حديثي عن عناصر هذه المحاور مستندا إلى الأدلة والبراهين التي تدعم أقوالي والله المستعان وهو ولى التوفيق.

(1) شبهات التقريب في غزو الفكر الإسلامي: ص13، أنور الجندي، الطبعة الأولى 1398 هـ 1978 المكتب الإسلامي

ص: 2192

المحور الأول

المنافذ التي يدخل منها الغزو الفكري

1-

آثار الغزو الفكري في الاقتصاد:

2-

يمر المسلمون اليوم بفترة من أقسى فترات التحدي الحضاري في تاريخهم الطويل، ويبلغ هذا التحدي مداه في مجال العلوم والتقنية حيث تخلفت الدول الإسلامية تخلفًا ملحوظًا، بينما تقدمت المعارف في هذين المجالين تقدمًا مذهلًا خلال القرن الحالي بصفة عامة. وفي النصف الأخير منه بصفة خاصة. مما ميز عصرنا بأنه عصر العلوم والتقنية، وهذا المجال لم تدخله الدول الإسلامية في معظمها بعد ـ أو دخلته بعضها بجهود فردية محدودة لا تكاد تساير تقدم العصر في ذلك، مما تسبب في وجود هوة شاسعة جعلت الدول الإسلامية (في زمرة الدول النامية) ، واستمرت النهضة العلمية والتقنية التي بدأت في القرن التاسع عشر في نموها، وظهرت الصناعات المتقدمة في السيارات والطائرات والصواريخ ورحلات الفضاء، كما ظهرت أقوى أسلحة الحرب وأفضل وسائل الانتقال المدنية وتطورت صناعة اللدائن والأنسجة الصناعية، وتمت ميكنة الزراعة، وتحسين المحاصيل عن طريق الأبحاث في كل من علم الوراثة وعلم كيمياء التربة. وأدخلت المخصبات الزراعية والمبيدات الحشرية كأساليب جديدة في تحسين الزراعة.

وفي غمرة هذا التقدم العلمي والتقني المذهل تخلف العالم الإسلامي تخلفًا شديدًا بعد أن حمل لواء المعرفة العلمية والفكرية والصناعية لعشرة قرون كاملة (من القرن السادس الميلادي إلى مشارف عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي)(1) فقد أسقطت الخلافة الإسلامية في سنة 1924م، بعد احتلال مساحات كبيرة من أرض المسلمين. كما تم تمزيق هذا الجسد الواحد إلى أكثر من خمسين دولة متباينة المساحة وتعداد السكان، بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية، تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هذه الدول.

(1) قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، د. زغلول راغب النجار: ص23، كتاب الأمة، الطبعة الأولى صفر 1409هـ

ص: 2193

كما أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى انقسامه إلى دول متخمة الثراء إلى حد البطر، وأخرى معدمة إلى حد الفاقة، وبسبب انتشار الفقر أهملت عمليات التنمية البشرية والمادية، فقد أهمل التعليم، وبإهماله تفشت الأمية، وأهملت الرعاية الصحية، وبذلك تفشت الأمراض وساءت الأحوال الصحية، كما أهملت التنمية الزراعية والصناعية والاجتماعية، وبإهمالها تقلص الاقتصاد، وزادت الديون وغرقت الأمة في الربا، ولم يعد هناك مجال للأخذ بأسباب التقدم العلمي أو التقني، ويرجع السبب الرئيسي في فقر الدول الإسلامية إلى هذا التفتيت الذي لم يجعل لأي منها القدرة على القيام بذاتها، فغالبية الدول المعاصرة لا تمثل كيانات حقيقية نمت من خلال التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المدى التاريخي الطويل كما تنمو الدول عادة، ولكن في غالبيتها كيانات رسمت حدودها الراهنة الاستعمارية العالمية، وحافظت عليها لتبقى الأمة على هذه الصورة من التفتيت الذي لا يمكن أيًّا منها من تشكيل وحدة اجتماعية اقتصادية متكاملة أو شبه متكاملة.

وبهدف الحيلولة دون قيام أدنى قدر من التعاون بين الأشقاء، ودون تحرك المال الإسلامي بين الدول الإسلامية على شكل استثمارات تعين على تنشيط عمليه التنمية، قامت الدول الكبرى بترتيب سلسلة من الانقلابات العسكرية، والانقلابات المضادة لتحدث جوًّا من عدم الاستقرار السياسي والفوضى الاقتصادية، التي لا تشجع على تحرك أية أموال بينها، حتى لاتجد فوائض الدول الغنية فيها طريقها إلا إلى خزائن وبنوك الدول الكبرى.

وقد أدى إفقار الدول الإسلامية إلى تفشى الأمية بين البالغين من أبنائها بصورة مزعجة، تتراوح نسبتها بين 50 % ـ 80 % بمتوسط حوالي 58 % بينما تقل نسبة الأمية في الدول الغنية عن 2 %، ولا تتعدى هذه النسبة 45 % في المتوسط في دول العالم الثالث ما يعنى بوضوح أن أعلى نسبة للأمية بين البالغين في العالم اليوم هي الدول الإسلامية.

(1)

.

فالتخلف الاقتصادي الذي أحاط بالعالم الإسلامي لا يحتاج إلى جهد في بيان أسبابه الحقيقية في حياة الأمة.

نعم، لقد كانت هناك أسباب خارجية قوية أسهمت في هذا التخلف ولكنها وحدها لاتبرره وتفسره.

(1) انظر: قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، د. زغلول راغب النجار، كتاب الأمة، الطبعة الأولى صفر 1409هـ: ص26

ص: 2194

لقد كانت أوروبا الصليبية تسعى ـ منذ القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس ـ إلى تطويق العالم الإسلامي، وإضعافه بكل الوسائل، وكان من بين الوسائل التي اتخذتها السعي الدائب لتحويل التجارة العالمية إلى أيديهم، وانتزاعها من يد المماليك، الذين كانوا يمسكون بزمامها عن طريق سيطرتهم على البحر الأحمر والبحر الأبيض، فتدر عليهم أموالًا طائلة، وعلى العالم الإسلامي كله كذلك.

ومنذ أن اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، بمعاونة بحارة من المسلمين وعلى هدى الخرائط الإسلامية، بدأوا يتجهون إلى الشرق الأقصى ليستولوا على أرضه وخيراته، وينقلوها على سفنهم عن طريق رأس الرجاء الصالح فيحرموا منها دولة المماليك، ويحرموا منها العالم الإسلامي كله.

وحدث ذلك بالفعل، وتأثرت اقتصاديات العالم الإسلامي تأثرًا بالغًا بما حدث (1) .

(1) واقعنا المعاصر: ص179 فما بعدها، الأستاذ محمد قطب، الناشر، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1407هـ 1986م

ص: 2195

ولكن هذا هو التفسير؟! أو هذا هو التدبير؟!

أين كانت مراكز القوة يوم قامت الدولة الإسلامية أول مرة، سواء القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية؟! ألم تكن كلها في يد فارس والروم؟

فما الذي حدث في التاريخ؟

لقد خرجت الأمة المؤمنة تنشر الإسلام في الأرض فأزالت قوى الباطل ودكتها دكًّا، وأقامت في مكانها دولة الإسلام، واستولت هي على مراكز القوة فأصبحت أكبر قوة في الأرض، وشملت قوتها كل جانب، فصارت في يدها القوة الحربية والسياسية والاقتصادية، وكان ذلك كله تحقيقًا لوعد الله للمؤمنين من هذه الأمة في قوله الكريم:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)

فما الذي غير الحال بعد ذلك، وسلب مراكز القوة من يد المسلمين؟

ربما يقال: ضعفت قوتهم الحربية بينما ازدادت قوة أعدائهم فتغلبوا عليهم. فنقول: نعم، تلك هي الأسباب الظاهرة، ولا شك، ولكن قراءة التاريخ بالأسباب الظاهرة وحدها لا تؤدى إلى الحقيقة، بل قد تضلل عن الحقيقة

يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) .

والذي يشغل النفوس المؤمنة هو الأيمان.. والذي يتغير في النفوس هو حقيقة الإيمان.

فحين تكون الأمة (متقدمة) في الإيمان، يتحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والتأمين، وحين تكون (متخلفة) يحدث تغيير النعمة (أي سلبها) ويذهب عن الأمة الاستخلاف والتمكين والتأمين.

فسلب التجارة من يد المسلمين، واستيلاء أوروبا الصليبية عليها، له أسبابه الكامنة في التخلف العقيدي الذي أصاب الأمة في مجموعها، والتقلص والضمور التي ترتب عليه في كل اتجاه.

فتضاؤل القوة الحربية الذي مكن الأعداء من أجزاء متزايدة من العالم الإسلامي هو ذاته، أثر من أثار التخلف العقيدي.

ولكن آثار التخلف العقيدي في الميدان الاقتصادي الخاص لا تحتاج إلى تأكيد.

(1) سورة النور: الآية 55

(2)

سورة الرعد: الآية 11

(3)

سورة الأنفال: الآية 53

ص: 2196

وإذا سلمنا بأن التجارة الخارجية قد سلبت من أيدي المسلمين لسبب قاهر لا يقدرون على رده، فهل تتوقف ثروة العالم الإسلامي على التجارة وحدها في ذلك الحين أو في أي حين؟

إنَّ بلاد المسلمين من أقصاها إلى أقصاها هي ـ بقدر من الله ـ أغنى بقعة في الأرض، وأكثرها خيرات، وقد كانت ـ وما تزال حتى هذه اللحظة ـ لم تستثمر الاستثمار الكامل، الذي يستغل كل مواردها.

والسبب في عدم الاستعمار هذه الثروات هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه من قدر الله لا ينبغي السعي إلى تغييره خوفًا من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله.

إن الأمة غير الإسلامية يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله، بل كلما زادت بعدًا عن الله زادت في القوة والتمكين.. كما هو الحال أوروبا الكافرة الجاحدة اليوم، لأن هذا من السنن الربانية في معاملة الكفار: قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (1) لفترة من الزمن يقدرها الله.. ثم يأتى التدمير:

{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .

أما أمة الإسلام فإنها تعامل بسنة خاصة.. لا يمكَّنوا إلا على الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين، ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقه، فيزيدوا انحرافا حتى يصلوا إلى الكفر فتأخذهم سنة الكافرين: قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .

فمن رحمته سبحانه بهذه الأمة أنه لا يمكنها أبدًا وهي منحرفة عن السبيل لكي تعود إليه، فيمكنها وهو راض عنها، ويدخر لها في الآخر ما يدخره لعباده الصالحين (4) .

(1) سورة الأنعام: الآية44

(2)

سورة الأنعام: الآية 44، 45

(3)

سورة هود عليه السلام: الآيتان 15 ـ 16

(4)

واقعنا المعاصر: ص 182

ص: 2197

وإذا كان من أهداف الغزو الفكري، صرف المسلمين عن دينهم، وعن قرآنهم، وليكونوا بعد ذلك ما يكونون، فإذا عجزوا تنصيرهم كما كانوا يشتهون ويخططون في البدء، فينبغي على الأقل أن ينتزعوا من قلوبهم ذلك الشيء المرهوب الذي يزعجهم ويفزعهم حتى وهو كامن في قلب (الرجل المريض)، كما صرح أحد الكتاب في كتاب (الغارة على العالم الإسلامي) حيث قال:(إن أوروبا كانت تفزع من الرجل المريض لأن وراء ثلاثمائة مليون من المسلمين على استعداد للجهاد بإشارة من أصبعه)(1) .

وإذا كان المراد بالغزو الفكري الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية، وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك.

فإذا كان هذا هو هدف الغزو الفكري، فلا يمنع ذلك من وجود أطماع اقتصادية هائلة لأوروبا في الشرق الغني بالخامات والموارد، التي لا يكاد أصحابها يستثمرون منا إلا القليل، بينما تحترق أوروبا شوقا إلى شيء منها.

ولكن هذا لا ينبغي أن يخفي عنا مجموعة من الحقائق في هذا الشأن:

الأولى: أن الباعث الصليبي كان الباعث الأول الذي حرك أوروبا إلى الاستيلاء على العالم الإسلامي كما هو ثابت من رحلتي فاسكو دى جاما، وماجلان، والرحلات (الاستكشافية) الأخرى ـ في أفريقيا خاصة ـ التي حملت المبشرين بكميات هائلة إلى أماكن لم يكن الاستعمار الاقتصادي فيها محدود المعالم أول الأمر، وإن كان قد حدث على نطاق واسع فيما بعد، حين اكتشف المحتلون مصادر الثروة وأخذوا في الاستعمار.

الثانية: أن التحرك الاقتصادي الأول من أوروبا نحو الشرق كان هدفه الأول حرمان المسلمين من مصادر قوتهم لإضعافهم، وهو هدف صليبي واضح تتخذ له جميع الوسائل، وما الوسيلة الاقتصادية إلا واحدة من هذه الوسائل فحسب، وليس هي الغاية كما يزعمون، ويزعم معهم المستبعدون لهم من المثقفين، خاصة الذين يرددون في غير تفكير القول بأن الغرب لا يريد إلا تأمين مصالحة الاقتصادية فحسب، ولا يهمه شيء غير ذلك.

(1) انظر: الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص: محيي الدين الخطيب، مساعد اليافي، مكتبة أسامة بن زيد، بيروت

ص: 2198

الثالثه: أنه حين برز العامل الاقتصادي في حياة أوروبا فيما بعد، وأصبح ـ في ظاهر الأمر ـ هو المحرك الأول لجميع تصرفاتهم، بقى هنا فارق واضح بين (الاستعمار الاقتصادي) في بلاد الإسلام، والاستعمار الاقتصادي في البلاد غير الإسلامية التي استولوا عليها في مرحلة التوسع وتكوين الإمبراطوريات (1)

فمع أن الاستعمار في جميع أحواله ظالم للبلاد المحتلة المستغلة، أناني النزعة، لا يهمه إلا تحقيق مصالحه الخاصة على حساب أهل البلاد الأصليين، مع ذلك كله فإنه في البلاد غير الإسلامية لا يتعرض لعقائد الناس وأفكارهم وتقاليدهم بشيء من العنف على الإطلاق، مكتفيًا بما يتسرب إلى حياتهم تدريجيًّا من التأثير الناشئ من رغبة المغلوب في تقليد الغالب، أما في البلاد الإسلامية فقد كانت هناك دائمًا تدبيرات وترتيبات يقصد بها قصدا إلى إزالة مظاهر الحياة الإسلامية، ومحاولة سحق الإسلام في نفوس المسلمين بالعنف، أو صرفهم عنه صرفًا خبيثًا بوسائل أخرى غير العنف.

وكان من أول هذه التدبيرات والترتيبات في كل بلد إسلامي وقع في قبضتهم تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ووضع القوانين الوضعية بدلًا منها، وهو أمر لا علاقة له من قريب ولا بعيد (بالمصالح الاقتصادية) التي يزعم الغرب ويزعم معه أتباعه المستبعدون له أنها الهدف الأول والأخير من استيلائهم على العالم الإسلامي.

ومن هذا يتبين أن الدافع الصليبي كان موجودًا مع الغزو الأوروبي لبلاد الإسلام، سواء كان يعمل منفردًا كما كان في منطلقه الأول، أو متمزجًا بالدافع الاقتصادي كما حدث فيما بعد، ولكنه في جميع أحواله حاد النزعة لا يهدأ ولا يسكن، بل ازدادت حدته في القرن الأخير خاصة مع بروز حركات البعث الإسلامي (2) .

(1) واقعنا المعاصر: ص194

(2)

واقعنا المعاصر: ص195

ص: 2199

2ـ آثار الغزو الفكري في التعليم:

لقد ترك الغزو الفكري أثارًا عصيبة في المجتمع الإسلامي في كافة نواحيه الثقافية والتعليمية والتشريعية والأخلاقية والاجتماعية.

وبذل المستشرقون والمبشرون كل ما في وسعهم وطاقتهم سائرين على الوسائل والطرق التي تحقق أهدافهم، فحاولوا استغلال حركات الإصلاح الإسلامية، يقول (كامفماير) المستشرق الألماني: إن الأب بانيرث المبشر الألماني يرى أن: حركة الإصلاح الإسلامي على النحو الذي يسير فيه الآن يجب أن تقابل من المسيحية الغربية بالتشجيع ،ويتساءل هذا المستشرق: هل يستطيع الإسلام أن يستعيد وحدته الداخلية في ظل التجزئة السياسية القائمة وتحت تأثير الآراء العصرية والعلوم الغربية؟

وهل سيكون الإسلام عند ذلك عدوًّا للغرب أم صديقًا وحليفًا، أم أن الإسلام في سبيله التي التفتت إلى وحدات قومية تعكس كل منها التأثيرات الأوروبية على طريقتها الخاصة وبأسلوبها المستقل؟

ويبرز الكاتب في إجابته على هذه الأسئلة ثلاث نقاط:

1-

أهمية الكتلة العربية وخطورتها في نظره.

2-

أهم العوامل التي تستمد منها هذه الأمة وحدتها هي الاشتراكية في اللغة العربية الفصحى واشتراكها في العناية بالتراث الإسلامي القديم وتاريخه وآدابه.

3-

يتمنى أن يحدث في مصر ما حدث في تركيا من قطع كل صلة بالماضي الإسلامي واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية.

ويهتم الغربيون بأن يجرى التعليم في البلاد الإسلامية على الأسلوب الغربي والمبادئ الغربية والتفكير الغربي كوسيلة لفرنجة البلاد الإسلامية وتغريبها، يقول (جب) : هذا هو السبيل الوحيد فقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين (1) .

ومن أقوى الوسائل التي تمكن بها (الغزو الفكري) من الوصول إلى هدفه:

هي التربية والتعليم والثقافة الأجنبية، إذ بواسطة ذلك تم الاتصال بالمسلمين.. وقد دخل الغزو إلى العالم الإسلامي من باب يخيل إلى السطحيين من النَّاس أنه الباب الطبيعي، إذ حمل اسم العلم والمعرفة والتمدن، ومن يحارب ذلك إلا الجاهل الأحمق؟

(1) الغزو الفكري والتيارات الإسلامية المعادية للإسلام: ص 481

ص: 2200

يقول (القس زويمر) : (المدارس أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكم بالمسلمين)(1) .

لقد أقبل المسلمون على هذه المدارس بكثرة كاثرة، يزدردون مناهجها، ولا يميزون بين صحيحها من فاسدها، وقد بنيت هذه المناهج على أسس تختلف عن أسس الإسلام الصحيحة في العقيدة والشريعة والنظرة إلى الكون والحياة والإنسان، على أن هذه المدارس كانت تساندها جمعيات كثيرة تمدها بالمال وبكل ما تحتاجه، ونستطيع أن ندرك أهمية هذه المدارس في أعمالها التخريبية باهتمام المستعمرين بها ،إذ أنهم ما دخلوا بلدًا إلا كان ما فعلوه أن فتحوا المدارس، وقد قال القائد الفرنسي (بيير كيللر) عن المعاهد الفرنسية في لبنان:(فالتربية الوطنية كانت بكاملها تقريبًا في أيدينا، وفي بداية حرب عام 1914 ـ1918م كان أكثر من اثنين وخمسين ألف تلميذ يتلقون دروسهم في مدارسنا، وكان بين هؤلاء فتيان وفتيات ينتمون إلى عائلات إسلامية عريقة)(2) .

وقد أدت هذه المدارس دورًا عجزت عن أدائه أجهزة التبشير والاستشراق كلها، ويكفينا أن نعلم أن مؤتمر (أدنبرج) التبشيري الذي عقد عام 1910م وحضره 1200 من مندوبيه كان مما قرره ما يأتي:"اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها"(3) .

ويقول المبشر (تكلى) : "إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمرًا صعبًا جدًّا"(4) .

ويقول المستشرق (هاملتون جب) : "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي من طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ـ ولو من غير وعى منهم ـ أثرًا يجعلهم في مظهرهم العام (لا دينيين) إلى حد بعيد، ولا ريب أن ذلك هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار"(5) .

ولم يعد دعاة الشر يقنعون بالكلام فحسب، ولم يعد شرهم مقصورًا على محاولة نشر سمومهم بالدعاية لها، فقد نجحوا في التسلل إلى مناصب تمكنهم من أن يدسوا برامجهم ومناهجهم على المسؤولين من رؤسائهم وينفذونها في صمت، ودعاة الشر هؤلاء يعملون في ميادين كثيرة لا يكاد يخلو منهم ميدان، ولكن أخطر ما يكون إفسادهم إذا تسلل إلى ميدان التعليم، ولهم أساليب خبيثة في الوصول إلى أهدافهم (6) .

ولقد تغلغل الغزو الفكري إلى أجهزة التعليم، وتمت السيطرة على التعليم قلبًا وقالبُا وفلسفة وتنظيمًا، ومحتوى ومستوى، وتمويلًا وإرادة، ومناهجًا وطريقة، وتدريسًا ولغة، ومدرسين وإدارة.

(1) الغارة على العالم الإسلامي: ص 48، الطبعة الثانية 1384هـ

(2)

الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، للدكتور محمد محمد حسين: 2/ 272، الطبعة الثانية

(3)

الغارة على العالم الإسلامي: ص 57

(4)

التبشير والاستعمار للأستاذين مصطفي الخالدي وعمر فروخ: ص88، الطبعة الثانية 1957

(5)

من التبعية إلى الأصالة، للأستاذ أنور الجندي: ص 132، طبعة دار الاعتصام القاهرة 1977م

(6)

انظر مزيدًا من التفصيل في كتاب: حصوننا مهددة من داخلها، الدكتور محمد محمد حسين، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة

ص: 2201

وخطورة هذه السيطرة أنها تضمن تشكيل الأجيال الناشئة وفق أهداف محددة تتلخص في النقاط التالية:

1-

تشويه صورة الإسلام: وهذا التشويه لا يقتصر على جانب واحد ولا يشكك في نقطة بعينها، بل يشمل الإسلام بجميع جوانبه، وفي كل ركائزه.

2-

التشكيك في تاريخ الأمة: لكى تبتر صلة هذه الأمة بتاريخها، فلابد من تشويه، والتشكيك في مفاخره، والتركيز على مباذله، بحيث تنمو أجيال لا تعرف منه إلا عصور الظلم والاستعباد وفترات القلق والاضطهاد، وبذلك كله يرى الناشئ تاريخ أمته مسلسًا من العذاب، وحلقات من السواد (1) .

3-

التشكيك في حاضر الأمة: لا يقتصر الأمر على تاريخ بل يمتد إلى حاضر، فإذا شكل الشباب الجديد على كراهية لهذا الحاضر، ونفور من تخلفه واقشعرار من رجعيته، فالسلوك الطبيعي أن يبحث له عن مخرج، وأن يستطلع نافذة جديدة يستنشق منها الهواء الصحي والصحيح.

4-

التشكيك في مستقبل الأمة: إذا كان الماضي رجعيًّا، والحاضر عفنًا، فكيف سيكون المستقبل؟!.... لابد أنه ظلام وبوار وخراب

إذن فلنغض البصر عن ماضينا، ولننصرف عن حاضرنا، ولنندمج في غيرنا لكى يأتى المستقبل مشرقًا زاهرًا وضاء.

فالتخلف الإسلامي لا علاج له إلا بالمستقبل الغربي أوالشرقي.

5ـ تشويه شخصية الأمة: بعد التشويه، والتشكيك، تتم مرحلة التذويب بحيث تفقد الأمة الإسلامية هويتها، وتذوب فيما يغاير طبيعتها، وينافر عقيدتها.

وتذويب شخصية الأمة من الممكن أن يتم بعشرات الوسائل مباشرة وغير مباشرة، وواضحة وضمنية.

6ـ إحلال عناصر ثقافية جديدة بعد التشويه، والتشكيك، والتذويب لا يبقى غير زراعة ثقافة جديدة توجه العقول، وتحكم السياسية، وتصنع القرارات، وتحرك الشخصيات، وتشوه الضمائر.. فلو ضمنت أجهزة الغزو أن المسلمين حملوا دينًا غير دينهم، أو فهموا دينهم فهمًا خاطئًا، وانحرفوا عن جادة الطريق فذلك هو الانتصار الكبير، وتلعب بالقيادات.

(1) راجع تفاصيل التشويه في كتاب: الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامي المعاصر لمؤلفه: على عبد الحليم محمود، دار البحوث العلمية، الكويت / 1399هـ: ص 31ـ120 وراجع عباس محمود العقاد ما يقال عن الإسلام، موسوعة العقاد الإسلامية، المجلد الخامس، دار الكتاب العربي، بيروت 1391هـ

ص: 2202

هذه كانت أهم أهداف الغزو الفكري بلورت في ست نقاط من تشويه، إلى التشكيك، إلى التذويب، إلى إحلال لعناصر جديدة (1) .

وهناك كثير من الأدلة على طريقة إحكام السيطرة على التعليم يكفي أن نُشير إلى بعضها:

1-

فرض اللغة الأجنبية، فما من مرة وضع الاحتلال قدمه في بلد إلا وتحولت لغة التعليم والتدريس إلى لغته الأجنبية.. حدث هذا في جميع البلاد الإسلامية التي تعرضت للاستعمار، والأمثلة على ذلك كثيرة (2) .

2-

تغيير جميع مناهج المواد الاجتماعية والإنسانية لكى تتواكب مع أهداف الغزو ومخططاته، ومن أكبر البراهين على ذلك ما حدث للمناهج الليبية إبان الاحتلال الإيطالي، وما حدث للمناهج الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي، وما حدث للمناهج التركية بعد إعلان العلمانية سنة 1924م، وما حدث للمناهج الإندونيسية إبان سيطرة الشيوعيين، وما حدث ويحدث في المدارس الفلسطينية تحت ضغط الاستيطان الصهيوني.. إلى غير ذلك من الأمثلة، ومن يتتبع ذلك يدرك مكان الخطورة، ومواطن الدس وقنوات السم.

3-

إنشاء مؤسسات تعليمية لتوجية تعليمنا الوجهة المناسبة لغزوهم.. وهناك تفاصيل كثيرة عن مؤسسات التبشير والتغريب التعليمية التي أنشئت في فلسطين والشام، بدءًا من دور حضانة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت (3) والقاهرة، وإستانبول.. وتفاصيل عن كلية (غوردون) المنشأة بالسودان سنة 1902م وكلية (ماكريري) في يوغندا التي كان يرسل إليها أبناء جنوب السودان خاصة، لاستكمال دراستهم وفقًا للأهداف والتوجيهات الإنجليزية (4) ، وغير ذلك من المؤسسات التعليمية التي أنشأها المبشرون والمستشرقون للقضاء على الإسلام.

ولقد استطاعت المناهج التعليمية الوافدة القائمة على النظرية المادية المنكرة للدين والأخلاق بناء على غير قيم الإسلام، وقام المبشرون والمستشرقون بفرض مناهج الغرب على المدارس الإسلامية ، مما كان له أبعد الأثر في تدمير الشخصية الإسلامية الناشئة وحرمانها من التعرف على حقيقتها ودورها وهدفها.

فإن خطة السيطرة على المناهج التعليمية التي قام بها النفوذ الأجنبى (وورثها لمن جاء به من حكومات وقيادات نشأت في إطار الإيمان بالغرب والإعجاب به والتسليم له) قد شملت مختلف الميادين من السلوك الفردى والآداب الاجتماعية إلى الآداب والفنون.

وقد تحولت الأساليب من التبشير المباشر إلى التبشير الخفي الذي يتصل بالثقافة والصحافة حيث يقوم الكتاب التغربيون بأداء دور خطير في تحويل الأهداف الماسونية إلى حقائق مطبقة.

(1) انظر: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص67

(2)

انظر: التعليم باللغات الأجنبية في المدارس الرسمية العربية، تاريخه، أسبابه، آثاره؛ القاهرة سنه 1400هـ

(3)

راجع تفاصيل ذلك في: مصطفي خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية: ص76ـ112 وعلى عبد الحليم محمود، الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامي المعاصر: ص127 ـ140

(4)

انظر: ضرار صالح ضرار، تاريخ السودان الحديث، مكتبة الحياة، بيروت الطبعة الرابعة، سنة 1968م: ص 246ـ247

ص: 2203

وقد أسهمت المنظمات الدولية في هذا المجال بما في ذلك الأمم المتحدة، واليونسكو والتربية الأساسية على وجه الخصوص، والتي تعتبر امتدادًا لمخططات ترمي إلى فصل الدين عن الدولة، وتخريج شباب متميع منهزم خاضع للأهواء والشهوات، ولقد أدرك قسم من المسلمين الخطر الرهيب الذي يتمثل في غزو مناهج التعليم في بلاد المسلمين من قبل المستعمرين، فعملوا على أن يحتفظوا بتراثهم الإسلامي، وذلك ببناء مدارس وجامعات تدرس فيها العلوم الإسلامية، من غير أن يكون للفكر الدخيل تأثير فيها.. لكن المسلمين لم يستطيعوا التوصل إلى ما يريدون، ذلك أن الإرساليات التبشيرية كانت تتمتع بنفوذ قوى، وكانت الجامعات التبشيرية تساندها قوى مادية كبرى، فوق النفوذ الذي كان لدول الجامعات التبشيرية.

وهكذا نشأ في المجتمع الإسلامي تياران متعارضان في الثقافة والتعليم: التيار الإسلامي القديم وتيار الجامعات الأجنبية الجديدة.

أما مدارس الدولة، فكانت مناهجها قريبة جدًّا من مناهج الإرساليات التبشيرية والمدارس الأجنبية. (1)

فمن الوسائل الخبيثة التي سار عليها الغزو الفكري: فصل العلوم الدينية عن العلوم الأخرى فصلًا يجعل بينهما هوة سحيقة، واصطناع الخلاف والشقاق، ثم الخلاف والشقاق، ثم العداء بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وبين علماء هذين القسمين، وتيسير سبل المال والمجد الدنيوى لمتعلمى علوم الدنيا، وحجبها عن نظرائهم من متعلمى علوم الدين، ولم تقتصر عملية الفصل هذه على مستوى التعليم التخصصى العالى، ولكن المكيدة كانت شاملة تهدف إلى عزل طلاب علم الدنيا عن الدراسات المتعلقة بعلوم الدين عزلًا تامًّا في الصيغة والطريقة والمضمون، وإلى عزل طلاب علوم الدين عن الدراسات المتعلقة بعلوم الدنيا عزلًا تامًّا أيضًا، لئلا تتكشف الملاءمة التامة بين الأصول الصحيحة لقسمى علوم الدين وعلوم الدنيا، فينصر الحق من كل منهما الحق من صاحبه، وينفي عنه الدخيل الدعي، ولئلا تتكامل منهما المعرف على صراط الله المستقيم، فيحتل المسلمون الصادقون مجد الدنيا والآخرة (2) .

ومن طبيعة هذا الفصل أن يولد مع الزمن تعصب كل فريق لنوع دراسته ولمنهج بحثه، ولطريقة تقصيه للحقائق، وإن كان فيها نقص لا يتأتى تكميله إلا بالتعاون والتآزر مع الفريق الآخر.

وبمرور الزمن يتم الفصل بين الدين والحياة، وحينئذ تجد الأمة نفسها مضطرة لأن تقتبس لنظام حياتها من الأنظمة المستوردة من صادرات أعدائها، وهي أنظمة قائمة على أسس لا صلة لها بالدين، ولا تعترف بشريعة الله.

وبذلك يحقق الغزاة هدفهم من غزو الأفكار والنفوس والقلوب، وهدفهم من غزو سلوك المسلمين، وهذا يمهد لعمليات الاحتلال الكامل، الذي تعدو به على الأمة عوادي الكفر.

(3)

.

(1) المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، إبراهيم النعمة، طبعة ثانية: ص 15

(2)

انظر: بحث الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميدانى: ص 510، ضمن كتاب الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، مرجع سابق

(3)

بحث الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميدانى: ص 511، ضمن كتاب الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام

ص: 2204

3ـ آثار الغزو الفكري في الصحة:

حينما أيقن أعداء الله أنه لا سبيل إلى الإسلام وعقيدته حية في قلوب المسلمين فكان بداية التبشير مع نهاية الحروب الصليبية فشلًا في مهمتها، وهو ما يصرح به (ملخص تاريخ التبشير)(1)

يقول القسيس المبشر زويمر: إن جزيرة العرب التي هي مهد الإسلام لم تزل نذير خطر للمسيحية (2) . ويكمل وليم جيفور بالكراف المعنى فيقول: متى توارى القرآن ومدينة مكة وبلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربى يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه (3) .

واتخذ التبشير لدعوة المسلمين أساليب عديدة من أوضحها ما يأتى:

(أ) المدارس المختلفة التي فتحت في أرحاب العالم الإسلامي، وتحدثت عنها بشيء من التفصيل فيما تقدم (راجع آثار الغزو الفكري في التعليمِ) .

(ب) ومن أخطر هذه الوسائل البعثات المسيحية الغربية، وأول مثل لأثر البعثات ما حدث لرفاعة الطهطاوى الذي أقام في باريس من سنة 1242هـ (1826م) إلى سنة 1247هـ (1831م) فقد عاد ذلك الشيخ بغير العقل الذي ذهب به (4) وقس على الشيخ رفاعة.. من ذهبوا بعده (5) .

(جـ) ثم تأتى سائر وسائل التبشير؛ فتح المستشفيات، وبعث الإرساليات الطبية التي يقرر كثير من المبشرين في مؤتمرات وكتاباتهم.. أنها أدت إلى نتائج أسرع وأفضل من عمل القسس التبشيرية. يقول الطبيب بول هاريسون في كتابة (الطبيب في بلاد العرب) : لقد وُجدنا في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى (6) .

(1) كتاب ملخص التبشير لأدوين بلس، أشار إليه آرل شاتليه، نقلها إلى العربية محيى الدين الخطيب ومساعد اليافي، تحت عنوان: الغارة على العالم الإسلامي

(2)

قالها زويمر في مؤتمر لكنو بالهند سنة 1329هـ (1911م) وكان هو رئيس المؤتمر لما له في التبشير من سجل حافل ـ الغارة على العالم الإسلامي: ص102

(3)

قالها وليم جيفور في مؤتمر للتبشير المنعقد سنة 1324هـ ـ 1906م في منزل أحمد عرابى الذي صادره الإنجليز بعد ثورته

(4)

انظر: مزيدًا من التفصيل لهذا الموضوع في أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 31، د. على محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق، دار الإعتصام

(5)

راجع تحليلًا رائعًا للأستاذ الدكتور محمد محمد حسين ـ أستاذ الأدب الحديث بجامعة، الإسكندرية ـ في كتابة الإسلام والحضارة الغربية، نشر دار الفتح، ط2، سنه 1393هـ، والكتيب عبارة عن محاضرتين ألقاهما بالكويت سنة 1385هـ، وهو يتناول أثر التغريب وله في نفس الخط مؤلف آخر تحت عنوان (حصوننا مهدده من الداخل) مجموعة مقالات نشرها في مجلة الأزهر

(6)

إبراهيم خليل أحمد، المستشرقون والمبشرون في العالم العربى والإسلامي، من مكتبة الوعى العربى بالقاهرة 1384هـ

ص: 2205

ويذكر الأستاذ أبو الحسن الندوى في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية) : أن الأفغانيين الذين خلعوا ملكهم

أمان الله خان لأنه سمح لزوجته أن تخرج سافرة قبلوا بعد ذلك أن يلغوا الحجاب، وتم ذلك عن طريق القابلات ودور الولادة الطبية التي أنشأها المبشرون. وقد صنف القسيس زويمر كتابًا جمع فيه بعض تقارير عن التبشير وسماه (العالم الإسلامي اليوم) .

جمع هذا الكتاب ونشره القسيس (فلمينغ) الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة (نشرة خاصة) بمعنى أنه طبع لينتقل في أيدي فئة خاصة من رجال التبشير لا ليطلع عليه كل الناس ، وقد ضمّنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه بنداءين استنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال مشتركة وعمومية فيستولوا على أهم الأماكن الإسلامية، والنداء الثاني خاص بأعمال نسائية.

أما الفصل الأول من الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي انتهاجها في التبشير، وعما إذ كان مفيدًا ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير الوثنيين وفضّل بقاءهما منفصلين.

وفيه البحث أيضًا عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا؟ وقد صرح (الدكتور لبسيوس) في مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد إلا أن القسيس زويمر خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين، لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة.

وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام، وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم، وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيرًا، وعرض مناظر الفانوس السحرى عليهم، وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم

إلخ، وقد بحث مؤتمر القاهرة التبشيرى الذي عقد سنة 1906م مسألة إرساليات التبشير الطبية، فقام المستر (هارير) وأبانَ وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية، لأن رجالها يحتكون دائمًا بالجمهور، ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. وهنا ذكر (المستر ربر) حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفي مصر القديمة ، ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانية في باب اللوق، وكانت نهاية أمرها أن عرفت كيف تعتقد بالمسيح بالمعنى المعروف عند النصارى، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ص: 2206

ثم قام الدكتور أراهاس طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عامًا وهو في عمله لم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه.

وأورد إحصاء لزبائنه فقال: إن 68 % منهم مسلمون ونصف هؤلاء من النساء.. وختم كلامه قائلا: يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينس ولا في لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك. (1) .

وقام بعده الدكتور تمبانى وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهتني التبشير والطب كما حدث معه هو، إلا أن ما بذله من المجهودات قد أعانه على النجاح حتى تمكن من تأسيس مستشفي التبشير من طريق الاكتتابات ، وكان أول مكتتب لهذا المستشفي التبشيرى رجلًا مسلمًا (2) .

وما تزال الإرساليات الطبية التي تعتبر من أخطر أدوات الغزو الفكري منتشرة في كثير من بلاد المسلمين. وتدخل إلى هذه البلاد الإسلامية تحت أسماء وشعارات متعددة.

(1) الغارة على العالم الإسلامي: ص23

(2)

الغارة على العالم الإسلامي: ص24

ص: 2207

4-

آثار الغزو الفكري في السياسة:

أما في عالم السياسة فلم يكن الأمر أقل سوءًا، بل ربما كان أشد خطورة.. لقد حاول نابيلون من قبل تنحية الشريعة الإسلامية، ووضع (قانون نابليون) بدلًا منها.

ومنذ أن تسلط الغرب الصليبي على الشرق الإسلامي.. أخذ يحدث التغيير السياسي اللازم.. لبقاء سيطرته أولًا ثم لتحقيق الهدف من هذه السيطرة ثانيًا فكان:

إحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، ولتونس سنة 1881م، ومراكش سنة 1912م، وللشام سنة 1920م، وكان احتلال بريطانيا سنة 1857م للهند إيذانًا بزوال إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن التاسع عشر، وإحتلالها لمصر سنة 1882م، وللعراق سنة 1914م، ولفلسطين سنة 1920م.

وقد كان هذا التوزيع نتيجة للاتفاق المبرم بين بريطانيا وفرنسا سنة 1322هـ 1904م عن جانب من سياسة تقطيع أوصال العالم الإسلامي (1) .

وصحب ذلك التقسيم إثارة القوميات المختلفة كالقومية الطورانية في تركيا،والقومية العربية في البلاد العربية، حتى اقتتل المسلمون تحت قيادة النصارى باسم القومية والتحرير.

وقد صحب ذلك دعوة خبيثة إلى العلمانية.. بمعنى فصل الدين عن الدولة تبنتها جماعات مشبوهة الصلات والأهداف

القومية العربية كبديل عن الإسلام:

وكان الشيء الخطير في هذه الدعوة إلى (القومية العربية) أنهم جعلوها بدلًا عن الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم (2) من أن العروبة بغير الإسلام، تصبح لفظًا بلا معنى، وجثة بلا روح.

وماذا يبقى في تاريخ العرب لو أننا فرغناه من تاريخ الإسلام، وأمجاد المسلمين، وما خلفه أعلامهم وعلماؤهم وأبطالهم من روائع؟ هل يبقى فيه إلا حرب البسوس وداحس والغبراء وغيرها من أيام العرب، وغارات بعضهم على بعض. مضافًا إليها بعض قصص الكرم والشجاعة والنجدة التي لا تكون تاريخًا له اعتبار (3) .

(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص45

(2)

بهذا العنوان (القومية العربية كبديل عن دين الله ورسالة محمد) قدم الدكتور محمد البهي بحثًا إلى المؤتمر الخامس لـ (مجمع البحوث الإسلامية) بالأزهر، هاجم فيه قومية ساطع الحصري ومشيل عفلق وجورج حبش

(3)

الحلول المستوردة، وكيف جنت على أمتنا: ص 302، د. يوسف القرضاوى، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، ربيع 1397هـ مارس 1977م

ص: 2208

ولقد خطط أعداء الإسلام لوقف الزحف الإسلامي الذي كانت تقوده تركيا على أوروبا ، ثم لما توقف المد الإسلامي، وانتقل البحث إلى كيفية تقطيع أوصال الخلافة.. ثم القضاء على الخلافة بعد ذلك.

ومهما يكن من أخطاء وقع فيها سلاطين تركيا، وفي مقدمتها التفرقة الظالمة بين بنى الدين الواحد، وتميز الأتراك على غيرهم من بنى الأوطان الأخرى، فبالرغم مما أخذ على هؤلاء السلاطين، فلقد كانت الخلافة تُظل المسلمين وتجمع شملهم، وترهب عدو الله وعدوهم.

ولم يكتف أعداء الإسلام بتقطيع أوصال دولة الخلافة، بل جاوزوا ذلك إلى القضاء على الخلافة نفسها.. ومنع قيامها بعد ذلك في أي بلد إسلامي.

لقد تم لهم ما أرادوا بإلغاء مصطفي كمال ـ الشهير بأتاتورك ـ الخلافه استجابة للتخطيط اليهودى الصليبي (1)

ولقد ترتب على ذلك نتيجة خطيرة ـ أصبحت منذ ذلك الحين جزءًا من واقع هذه الأمة ـ هي استيراد النظم والمبادئ ـ المسلمين ـ من عند أعداء الإسلام، فقد كانت هذه هي المره الأولى في حياة الأمة، التي تستورد فيها (المبادئ) من خارج الإسلام، وتستورد النظم ـ السياسية والاقتصادية والاجتماعية ـ من خارج الإسلام.

وتوالت جهود أعداء الله من اليهود والنصارى لحرب الإسلام والمسلمين على ما يقرب من قرنين من الزمان بلا هوادة ولا توقف، بل بعنف متزايد على الدوام.

(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص46

ص: 2209

وقد اتخذت هذه الجهود صورتين مختلفتين على فترتين متميزتين من الزمن، وإن كانت الفترة الثانية قد اعتمدت على الأولى اعتمادًا كبيرًا.

المرحله الأولى: تمتد بصفة عامة إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كانت السيطرة الصليبية (اليهودية) في يد بريطانيا وفرنسا، وهما اللتان تقومان ـ أساسًا ـ بمحاربة الإسلام، وزحزحة الأمة الإسلامية عنه.

وتبدأ المرحله الثانية: من بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت السيطرة الصليبية (اليهودية) إلى أمريكا، وتولت هي ـ أساسًا ـ حرب الإسلام، وإن كان حرب الإسلام ـ دائمًا جهدًا مشتركًا بين كل أعدائه. يقوم كل منهم بنصيبه فيه. (1) .

وقد كان الشعار المرفوع في الفترة الأولى هو (الوطنية) من جهة و (الديمقراطية) من جهة أخرى، والذي يقوم باللعبة هو الأحزاب السياسية التي صنعها الغرب لتخدم أهدافه بعملية (التغريب) .

ولم يكن الإسلام في هذه الفترة يحارب حربًا دموية عنيفة ـ وإن كانت الحرب الدموية وقعت في نهاية هذه الفترة ـ وإنما تسلل أعداء الله إلى المسلمين عن طريق الغزو الفكري، وعن طريق الغزو الفكري، وعن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام، وعن طريق إخراج المرأة إلى الشارع وإفساد أخلاقها وتحويلها في (فتنة) لنفسها وللرجل ، وعن طريق إيجاد مؤسسات لا تحكم بما أنزل الله، وإعطائها ثقل (الأمر الواقع) الزعم بأنها هي الصورة الوحيدة الممكنة.

في تلك الفترة عني المخططون بعدم مهاجمة الدين هجومًا صريحًا مباشرًا ـ وإن هوجم تحت شعار محاربة (التقاليد) العتيقة البالية ـ وقد قلص الإسلام من الحياة العامة تقليصًا لعامة تقليصًا كبيرًا، ونحيت الشريعة الإسلامية عن الحكم.

(1) واقعنا المعاصر: ص348

ص: 2210

وحينما تسلمت أمريكا راية الحرب الصليبية اليهودية ضد الإسلام ـ تميز عهدها بتغيرات جذرية في (اللعبة) السياسية.

فقد استخدمت لحرب الإسلام في المنطقة العربية بالذات عنصرين جديدين تمامًا، ولا عهد للمنطقة بهما: أولهما الانقلابات العسكرية يتلخص في الآتى:

1-

لأنها تلبى الأوامر الخارجية، وتلتزم بها حرفيًّا، وهذا راجع إلى ما تعلموه في الحياة العسكرية.

2-

لأن سيطرتها على الحكم أقوى ، وتستطيع أن تقضي على أي معارضة.

3-

وقد أعدت إعدادًا خاصًّا يجعلها (علمانية) و (غربية) لا تنكر الإنحلال لنفسها ولا لغيرها، ومن ثم فهي أنسب الفئات لتنفيذ مخطط الإبعاد من الإسلام.

4-

أنها تقطع الطريق على أي عناصر دينية تريد أن تصل إلى الحكم عن الطريق الشعبي العادي (1) .

إلى غير ذلك من الوسائل التي يمكن بها السيطرة على الحكم في أي بلد ويظهر لنا من كل ما تقدم أن أعداء الإسلام قد اتفقوا على علمنة التعليم وعلمنة الإعلام، وعلمنة المجتمع كله عن طريق المرأه والشباب

ليبتعد بذلك عن الإسلام. ونجد ذلك في الدول الإسلامية رغم اختلاف نظم الحكم الحاكمة.. لأن التغيير السياسي وإن اختلف أسلوبه.. فالهدف لا يختلف وهو التغيير الاجتماعي أو التغريب، أو بعبارة أوضح: الإبعاد عن الإسلام.

وهو في نفس الوقت أن تتجه الأمة الإسلامية إتجاهًا علمانيًّا وطنيًّا أو قوميًّا، وهو في بدايته ونهايته اتجاه دخيل، يتخذه الغرب قبلة وإماما في جل شؤون الحياة، وعلى هذا الأساس يمكن الإشارة إلى عناصر هذا الاتجاه كما طبقت في العالم الإسلامي؛ وأهم هذه العناصر والمقومات هي:

1-

العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة.

2-

النزعة الوطنية والقومية.

3-

الاقتصاد الرأسمالي والإقطاعي.

4-

الحرية الشخصية ـ بالمفهوم الغربي ـ وخاصة حرية في التبرج والاختلاط.

5-

التمكين لقوانين الأجنبية الوضعية.

6-

ظهور الحياة النيابية البرلمانية وإعلان أن الأمة مصدر السلطان.

وكان لهذه العناصر أثر بارز في حياة الأمة الإسلامية المادية والروحية، الفكرية والسلوكية، الفردية والاجتماعية (2) .

(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 53

(2)

الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: ص46، انظر الإسلام والمدينة الحديثة: ص 23

ص: 2211

5-

آثار الغزو الفكري في وسائل الإعلام.

إن الغزو الفكري لم يقف على مناهج التعليم فحسب، في حربه مع الإسلام، وإنما تعدى ذلك إلى أداة أخرى لا تقل خطرًا إن لم تكن أخطر، تلك هي وسائل الإعلام على تنوعها واختلافها.

لقد أدرك المستعمرون ما لهذه الوسائل الإعلامية من خطر فاستخدموها إستخدامًا ناجحًا في غزوهم الفكري المنظم لأمة الإسلام.

يقول مؤلفا (التبشير والاستعمار في البلاد العربية)(1) التبشيرية الأجنبية: (إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط، أو تهيئه لقبول ما ينشر عليه بل هي تخلق الرأي العام) .

ووسائل الإعلام المتخلفة من صحافة وإذاعة وتليفزيون وسينما مسخرة لإشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة، والسعي بالفساد في الأرض بما ترتب على ذلك من زعزعة للعقيدة في النفوس، وتحطيم للأخلاق والقيم والمثل.. وهما ـ العقيدة والأخلاق ـ أساس لبناء الإسلام فإذا انهدم الأساس فكيف يقوم البناء؟ وأجهزة الإعلام أشد خطرًا من المدارس والجامعات، فهي تخاطب جميع فئات الأمة؛ متعلمين وغير متعلمين، وصغارًا وكبارًا، ونساء ورجالًا، وحضريين ورييفين، وأغنياء وفقراء، وقد شكلت هذه الأجهزة وفق قيم ومناظر بعيدة عن الإسلام عقيدة وشريعة (2) .

وإذا كانت السيطرة على أجهزة التعليم والتشريع متعذرة في بعض البلاد فإن التغلغل إلى أجهزة إعلامه الداخلية، وإغراق سوقه بمنتجات إعلامية موجهة وجهة تغريبية يضمنان تطبيع أجياله تطبيعًا مدمرًا.

وإذا كانت المدارس تقوم بتدريس الدروس الدينية، والمساجد ما زالت عامرة بالمصلين فإن توجيه عشرات أجهزة الإعلام توجيهًا تغريبيًّا يضمن حدوث خلل نفسى، وتناقض وجدانى، وتمزق عقلى، وإزدواج في الشخصية.

وبذلك استطاع الغزو الفكري أن يخلق أجيالًا وفق قيم معينة تتصادم مع قيم أخرى مبثوثة هنا وهناك.

(1) التبشير والاستعمار في البلاد العربية: ص213، الطبعة الثانية

(2)

وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي ، ص72

ص: 2212

وهذه من أخبث حيل التشويه في فكر المسلمين وقيمهم، فإذا كانت المدارس تضم ملايين، فإن الإذاعة والتلفاز تتعامل يوميًّا مع ملايين أكثر عددًا، وأقل حصانة، وإذا كانت الدول الإسلامية تستطيع فرض رقابة على مدارسها وجامعاتها، إلا أنها لا تستطيع أن تفرض سلطتها على البرامج الإذاعية التي تبث من عواصم دول أجنبية، كما لا تستطيع أن تحكم في الأفلام السينمائية وأفلام الفيديو، وإن كثيرًا من الأفلام والشرائط تهرب بطرق بعيدة عن رقابة الدولة.

والعالم اليوم أصبح أشبه بقرية صغيرة، وزالت الحدود والحواجز أمام أجهزة الإعلام المتطورة في هذا العصر.

وإن كثيرًا من الإذاعات المسموعة والمرئية داخل الأقطار الإسلامية وخارجها إنما تجرى على سياسة إشباع الشهوات، لا التوجيه والإرشاد، والإرشاد كثيرًا من برامجها يفسد ولا يصلح، فقصصها المسلسلة مثار للفزع الذي يقلق النفوس ويسقم الناشئة ويجنح بطبائعهم إلى الانحراف.

وقد يكون تأثير مثل هذه البرامج والمسلسلات الملفقة والحوادث المصنوعة ضعيفًا على كبار النفوس وناضجى العقول من ذوى التجربة والمثقفين، لأنهم لا يندمجون فيما يسمعون، فهم دائمًا على ذكر من أن الذي يسمعونه هو مجرد أوهام لا تمت للواقع بصلة، ولكن الشباب والأطفال وضعاف العقول لا يفرقون بين ما يسمعونه في الإذاعة وبين ما يشاهدونه في الحياة، ولا يميزون بين القصة التي يشاهدونها على لوحة الخيال وبين واقع الأمر في الحياة، فهم يندمجون اندماجًا كاملًا فيما يرون وما يسمعون من ذلك كله. فتجذبهم الأحداث إلى الهياج تارة وإلى البكاء تارة أخرى، وتنطبع آثارها في نفوسهم فتصبح جزءًا أصيلًا من مشاهداتهم وتجاربهم، بل إنها تصبح أجمل من كل ما شاهدوا وما جربوا لما يحيطها من عوامل الإغراء والإقناع والتأثير التي افتن فيها مخرجوها وبلغوا في ذلك أقصى الطاقة والجهد (1) ، والهدف من القصص والمسرحيات التي تنشر من خلال وسائل الإعلام ـ هو تحطيم القيم الإسلامية التي تمنع الاختلاط وتنفر من الفاحشة والتحلل الخلقي.. فقد كانت هذه القيم مع ضعفها في حياة المسلمين 0 عقبة ضخمة في سبيل الإفساد الخلقي الهائل الذي تهدف الصليبية إلى إحداثه في المجتمع الإسلامي.

وكذلك من وسائل الإعلام المدمرة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى لغات المسلمين ، فترجمت كثير من كتب القصص الغرامي والفن، وقد كان الفن الذي يترجم هو الفن الذي تخلص تمامًا من القيم الدينية، وراح يدعو إلى إقامة مجتمع حر (طليق) من تلك القيم، مجتمع يهبط تدريجيًّا حتى يصبح مجتمعًا حيوانيًّا في النهاية، ولم تكن هذه النهاية واضحة في القرن الماضي كما هي واضحة اليو لكل ذى حس سليم، وقد كان هناك تشجيع خفي لنشر هذا الفن وترويجه بين الشباب خاصة. الهدف من ذلك واضح (2) .

(1) حصوننا مهددة من داخلها، د. محمد محمد حسين، الطبعة الخامسة، المكتب الإسلامي

(2)

واقعنا المعاصر: ص 137

ص: 2213

أما الكتب التي تحمل الفكر (العلمانى) فالهدف من ترجمتها يوضحه (أ. شاتيليه) في مقدمة كتاب (الغارة على العالم الإسلامي) بقوله:

(ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثولوكية، تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية في قلوب منتحليها، ولم يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوروبا، وتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي وتقضي إرساليات التبشير لبناتها من هدم الفكرة الدينية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها)(1) .

أما الصحافة فشأنها أعظم في نشر الغزو الفكري، فقد استغل المبشرون الصحافة في كثير من بلاد المسلمين، وعلى الأخص في مصر، حيث قامت الصحافة بدور من أخطر الأدوار في حملة (التغريب) فإن مصر في نظر المخططين هي مركز التوجيه الروحي والثقافي بسبب موقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية، وبسبب وجود الأزهر فيها.. فإذا أمكن إفسادها من الناحية الإسلامية كان ذلك عونًا كبيرًا للذين يخططون لإفساد العالم الإسلامي كله؛ لأن الفساد سيصدر يومئذ وعليه خاتم القاهرة، فيكون أفعل في الإفساد مما لو جاء وعليه خاتم لندن أو باريس (2) .

يقول المستشرق الإنجليزى المشهور (جب) في كتابه (وجهة الإسلام) متحدثًا عن أهمية الصحافه في مجال الغزو الفكري (3) : (والواقع أن المدارس والمعاهد العلمية لا تكفي، فليست هي في حقيقة الأمر إلا الخطوة الأولى في الطريق، لأنها لا تغنى شيئًا في قيادة الاتجاهات السياسية والإدارية) .

وللوصول إلى هذا التطور الأبعد ـ الذي بدونه تظل الأشكال الخارجية مجرد مظاهر سطحية ـ يجب ألا ينحصر الأمر في الاعتماد على التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية، بل يجب أن يكون الاهتمام الأكبر منصرفًا إلى خلق رأي عام، والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على الصحافة. ويقرر (جب) :(أن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوروبية وأعظمها نفوذًا في العالم الإسلامي) . كما يقرر (أن مديري الصحف اليومية ينتمون في معظمهم إلى التقدميين) ولذلك كان معظم هذه الصحف واقعًا تحت تأثير الأراء والأساليب الغربية.

ويستعرض الكاتب بعد ذلك صحافة العالم الإسلامي مشيرًا إلى ما بينها من فروق فيقول: (إن الصحافة التركية هي بطبيعة الحال وطنية لا دينية، وهي لا تجرؤ على أن تكون دينية، لأنها مراقبة من الحكومة مراقبه شديدة، أما الصحافة المصرية فهي على العكس من اتجاه الأول ـ الثورى ـ تتطور في بطء وتعرض طائفة من الآراء الجديدة، وهي على كل حال لا دينية في اتجاهتها.

(1) راجع هذه المقدمة في كتاب الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محيي الدين الخطيب

(2)

واقعنا المعاصر: ص 239

(3)

الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: ص 202

ص: 2214

وللأسباب التي ذكرتها وغيرها مما لم أتطرق إليه ـ فإن الدراسات الاجتماعية والتربوية المعاصره تعتبر (صناعة الإعلام) من أخطر وأهم الصناعات على الصغير والكبير، المتعلم والأمى، والمسلم وغير المسلم.

وإذا كانت الانقلابات العسكرية تستهدف أول ما تستهدف الاستيلاء على الإذعة والتلفاز، فإن أجهزة الغزو الفكري تستهدف ذلك بنفس الدرجة وبذات الأهمية، ولكن بطريق ذكية، وبناء على خطة بعيدة المدى.

وإذا كانت المجتمعات الإسلامية تشكو من ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية، فلتكن السيطرة الغازية إذن على المسموع والمشاهد، ولتستمر بذلك الأمية الأبجدية، ولتضاف إليها أمية دينية، وأمية ثقافيه، ولتحل محلها شخصيات ممسوخة قد تحللت من الدين عقيدة وشريعة.

وقد أوصى المؤتمر العالمى لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة المنعقد في عام 1397هـ الموافق 1977م بالمدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ وقد ندد هذا المؤتمر بحال الإعلام في البلاد الإسلامية: (ويندد المؤتمر بالهوة السحيقه التي تردى فيها إعلامنا ولا يزال يتردى، عن علم القائمين به أو عليه أو عن جهل منهم، فبدلًا من أن يكون الإعلام في البلاد الإسلامية منبر دعوة للخير، ومنار إشعاع للحق صار صوت إفساد وسوط عذاب.. وسكت القادة فأقروا بسكوتهم أو جازوا ذلك فشجعوا وحموا.. وزلزلوا الناس في إيمانهم وقيمهم ومثلهم، ولم يعد الأمر يحتمل السكوت من الدعاة إلى الحق)(1)

(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 73

ص: 2215

المحور الثاني

أساليب الغزو الفكري في التشكيك

وسوف أتناول الموضوع بشئ من التفصيل، حتى يتضح لنا مدى خطورة الغزو الفكري، وأثره في تشوية الإسلام، وزعزعة العقيدة الإسلامية عند ضعيفي الإيمان.

1-

الطعن في القرآن الكريم:

إذا كان للمسلمين تراث يعتزون به فليس هناك أعز عليهم من القرآن الكريم، ذلك أن القرآن رسالة السماء إلى الأرض حملها المسلمون ليكونوا خلفاء الله في أرضه، وقادة هذا العالم، وبناة حضارته، وهداته الراشدين.

ومنذ تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت أولى خطواته في دنيا الناس ليأخذ مسيرته، وأخذ المسلمون إذ ذاك يرصدون حركته، ولقد كان لمعاصريه جلي السيرة واضح القسمات والمعالم، فقد شاهدوا كيف تلقاه النبى وحيًا منزلًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، لاتغيب عنهم شاردة ولا واردة، حتى يقسم ابن مسعود رضى الله عنه على أنه ما من آيه نزلت من كتاب الله إلا وهو يعلم فيمن نزلت: وأين نزلت.

قال ابن كثير: (قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت آيه من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته)(1) وسئل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى (سلع)(2) .

وحشد الصحابة جهدهم مع البنى صلى الله عليه وسلم فتلقوه عنه حفظًا في الصدور وتسجيلًا في السطور، حتى غدت أعمالهم في العناية به والدفاع عنه جزءًا من تاريخ الإسلام والمسلمين.

ومحاولة تشوية القرآن الكريم قديمة ممتدة في التاريخ الإسلامي، مواكبة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، حمل لواءها أعداء الإسلام من اليهود، ومن النصارى والوثنين أجيالًا بعد أجيال إلى يومنا هذا.

إن من أخطر ما يواجه المثقفين المسلمين اليوم أن يجدوا بين أيديهم موسوعات ومؤلفات تقدم لهم الفكر الإسلامي، من وجهة نظر (غربية نصرانية) تختلف اختلافًا أساسيًّا عن مفهوم الإسلام الأصيل، وقد كتبت هذه الدراسات والموسوعات من خلال هدف واضح هو (تغريب) الفكر الإسلامي وتزييف مفاهيمه وإثارة الشبهات حول حقائقه (3) .

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 3، مطبعة عيسى البابى الحلبى، بدون تاريخ

(2)

قارن بما جاء في كتاب مباحث في علوم القرآن. د. صبحى الصالح: ص 132

(3)

سموم الاستشراق في العلوم الإسلامية، أنور الجندي: ص 16، دار الجيل، بيروت

ص: 2216

ومن دوائر المعارف التي عبثت بالقرآن الكريم وتعمدت تشويهه كتاب (دائرة المعارف الإسلامية) وبخاصة من كَتَبَ منهم في التعريف بكلمة (الله) سبحانه وتعالى، وهو المستشرق الحاقد الخطر (ماكدونالد) حيث أساء هذا المستشرق وأخطأ وتخبط وأضر بنفسه وبالحقيقة العلمية أكثر مما أضر بالإسلام أو بالقرآن الكريم أو بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن المطلع على ما كتبه هذا المستشرق في دائرة المعارف (1) يرى ما تخبط فيه هذا الكاتب من جهل بتاريخ العقائد عند الجاهلين، ولا يعرف أصول التعبير العربى الصحيح، وقد أعماه تعصبه عن الحق، فقد اتهم هذا المستشرق القرآن بأنه من عند محمد صلى الله عليه وسلم وليس من عند الله، وتلك هي الطعنة التي يوجهونها للقرآن ويلحون في إثباتها بقول (ماكدونالد) في حديثه ذاك: (

كما أنه من المحقق أن أهل مكة جعلوا بينه وبين الجِنة نسبًا.. وجعلوهم شركاء لله.. وقدموا لهم القرابين وكانوا يعوذون بهم، ولسنا نعلم علم اليقين: هل كانت قد وجدت لديهم فكرة عن الملائكة، أو أنهم جعلوهم شركاء لله، وربما كان هذا تفسيرًا من عند محمد) (2) .

والذي يعيننا من هذه العبارة ادعاؤه أن القرآن الكريم تفسير من عند محمد صلى الله عليه وسلم والعجيب أنه بينما يدعى هذه الدعوة الباطلة تجده يعتمد في كلامه أحيانًا على آيات قرآنية. وممن قال بمثل رأي هذا المستشرق مستشرق آخر وهو (جب) فقد تحدث هو الآخر عن القرآن الكريم وأنه من تأليف محمد فيقول: (إن محمدًا ككل شخصية مبدعة قد تأثر بضرورات الظروف الخارجية المحيطة به من جهة، ثم هو من جهة أخرى قد شق طريقًا جديدًا بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه والدائرة في المكان الذي نشأ فيه) .

(1) دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 244، طبعة دار الشعب بالقاهرة.

(2)

: دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 244، طبعة دار الشعب بالقاهرة

ص: 2217

ثم يواصل (جب) حديثه عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فيقول: (إن مكة كانت في حياة زاخرة بالتجارة والسياسة والدين، وإنه وجدت فيها زعامة وزعماء، وإنه وجد ظلم اجتماعي بين سكانها، وإن الرسول محمدًا انطبعت في نفسه كل هذه الجوانب، وكان على وعي تام بها، ترى آثارها في حياته وفي قرآنه وفي كفاحه إلى أن مات)(1) .

وافتراءات (جب) واضحة البطلان بينة البهتان تفقد المنطق وتجانب الصواب، وخلاصة ما يرى (جب) أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد تأثر بالبيئة التي عاش فيها وشق طريقه بين الأفكار والعقائد الشائعة في بيئته، فالقرآن كما يرى (جب) من صنع محمد صلى الله عليه وسلم ومن ملاءمات هذه البيئة التي عاش فيها.

وقمة الباطل عند (جب) ادعاؤه بأن القرآن الكريم كان أثرًا من آثار إحساس الرسول صلى الله عليه وسلم بالظلم الاجتماعي الذي ساد أهل مكة، وأن أثر هذا الإحساس وهو القرآن الكريم بدأ واضحًا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي كفاحه إلى أن مات)

(2)

.

وقد ردد نفس التهم المستشرق (هـ. ج. ويلز) والهدف من ذلك واضح وهو تشويه القرآن وتشويه الإسلام، فقد ردد هذا المستشرق أن القرآن الكريم من صنع محمد صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ذلك في مواضع من كتابه الذائع الصيت:(معالم تاريخ الإنسانية) الذي ترجم إلى العربية، وطوف آفاق العالم الإسلامي، وحظي بالرضا والقبول من الدارسين (3) .

كما آثار المستشرقون ـ بمنهجهم الاستشراقي الذي يقوم على جمع الآراء والظنون والأوهام ـ شبهات أخرى حول القرآن، تحاول أن تجتث أصوله لتأتي على قواعد هذا الدين، وهم نصبوا أنفسهم للقضاء عليه.

(1) جب: المذهب المحمدي: 25 وما بعدها

(2)

قارن بما جاء في: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 30، مرجع سابق

(3)

راجع ما كتبه: هـ. ج. ويلز: معالم تاريخ الإنسانية: 3/ 626 وما بعدها 640، 657

ص: 2218

وبحسبي أن أذكر بعض هذه الشبهات حول تاريخ القرآن الكريم، على سبيل الإجمال دون الخوض في تفاصيلها لأن ذلك يحتاج إلى بحث منفصل وهي كما يلي:

(أ) روايات وشبهات حول تدوين القرآن:

ثبت في صحيح السنة أن النبى صلى الله عليه وسلم جمع القرآن حفظًا، ثم ظاهر الحفظ وأكده بكتابة النص القرآني، فاتخذ كُتّابًا للوحي بلغت عدتهم على ما جاءت به الروايات، ثلاثة وأربعين، وكان من بينهم الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وغيرهم، وكان زيد ألزم كتاب الوحي للنبي (1) .

وقد وردت روايات أخرى صحيحة تؤكد صحة ما دون من القرآن (2) . كما وردت روايات أخرى تتعلق بتدوين القرآن الكريم ـ وهي روايات هزيلة كتلك التي أوردها السيوطي في الإتقان عن زيد بن ثابت قال: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن قد جمع في شيء) وروايات أخرى في الإتقان (3) .

وقد نقد العلماء أسانيد السيوطي وبينوا أنها تشتمل على بعض الرواة الضُعفاء والمجهولين كما في كتب الرجال والطبقات (4) .

على الرغم من ضعف رواية السيوطي فهي أرجح في نظر المستشرقين لمطابقتها ما روي من خوف عمر، وأبي بكر، رضى الله عنهما، لما استحر القتل بالقراء في موقعة اليمامة فلو كان القرآن قد كتب وجمع لما كانت هناك علة لخوفهما (5) ، كما أورد ابن أبي داود وغيره، بعض الروايات الضعيفة، التي تؤكد الروايات السابقة التي تعلق بها المستشرقون وراحوا يؤكدون من خلالها فكرة عدم تدوين الوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (6) .

(1) انظر: تاريخ القرآن لابن عبد الله الزنجاني: ص 42

(2)

راجع: صحيح البخاري، 5/ 183؛ والترمذي: 11/ 225

(3)

الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي: 1/ 57

(4)

دراسات في القرآن: د. السيد خليل: ص 88

(5)

آثر جفري: كتاب المصاحف: ص5

(6)

كتاب المصاحف: لابن أبي داود، آثر جفري: ص 8، 9، 20، وانظر: القرآن بلاشير ترجمة رضا سعادة: ص 29، 30

ص: 2219

(ب) روايات وشبهات حول جمع القرآن:

وإذا انتقلنا من التدوين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، طالعتنا روايات عدة في قضية من قضايا التسجيل في عهده تشير إلى أن زيدًا رضي الله عنه افتقد بعض آيات القرآن.. ومن تلك الروايات المنسوبة إلى زيد رضي الله عنه قوله: (دعاني أبو بكر رضي الله عنه أن أجمع القرآن.. فجعلت أتتبع القرآن ففقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجدها عند أحد فوجدتها عند رجل من الأنصار وهي قوله تعالى: {مِنَ المُؤمِنينَ رِجَالُُ صَدَقُوا مَا عَهَدُوُا اللهَ عَلَيهِ

} (1) فألحقتها في سورتها (2) . وجاء في رواية أخرى طويلة، يقول فيها زيد: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري (3) لم أجدها مع أحد غيره:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر) (4) .

وقد يقع قارئ هذا النص في إشكال منشؤه تصريح زيد بأنه لم يجد آخر سورة التوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، ويزول هذا الإشكال سريعًا إذا علم القارئ أن غرض زيد أنه لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة (5) .

وقد كان ذلك كافيًا لقبوله إياها، لأن كثيرًا من الصحابة كانوا يحفظونها، ولأن زيدًا نفسه كان يحفظها: ولكنه أراد ـ ورعًا منه واحتياطًا ـ أن يشفع الحفظ بالكتابة، وظل ناهجًا هذا المنهج في سائر القرآن الذي تتبعه في عهد أبي بكر: فكان لابد لقبول آية أو آيات من شاهدين، هما الحفظ والكتابة (6) .

(1) سورة الأحزاب: الآية 23

(2)

راجع: تاريخ القرآن بين تساهل المسلمين وشبهات المستشرقين: ص 273، د. إسماعيل الطحان: بحث ضمن حولية كلية الشريعة، بجامعة قطر، العدد الثامن، 1404 هـ 1984م

(3)

وفي رواية: (مع ابن خزيمة الأنصاري الذي جعل النبى صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين)، البرهان: 1/ 234؛ لكن الذي في تهذيب التهذيب: 3/ 140، أن خزيمة بن ثابت الأنصاري هو ذو الشهادتين، فهو غير أبي خزيمة، وفي البخاري (فضائل القرآن) أن زيدًا وجد عند خزيمة هذا آية من سورة الأحزاب، فهل اختلط الأمر على الرواة والمؤرخين؟

(4)

صحيح البخاري: كتاب (فضائل القرآن) الباب الثالث والباب الرابع وكتاب الأحكام، الباب السابع والثلاثون، وفي مسند أحمد: 1/ 13 (وفي طبعة شاكر: 1/ 185 رقم الحديث 76 وقارن بما في (طبقات ابن سعد ج 3/ ق1/ ص 201)

(5)

الإتقان: 1/ 101، وينقل السيوطي هنا عن أبي شامة قوله:(لم أجدها مع غيره أي لم أجدها مكتوبة مع غيره)

(6)

قارن بما جاء في: مباحث علوم القرآن، د. صبحي الصالح: ص 76، دار العلم للملايين، ط 13، 1981م

ص: 2220

وخلاصة القول في تلك الروايات: أن أبا بكر رضي الله عنه اتخذ الصحف المودعة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ركيزة جمعه، وطلب القرآن ممن عندهم محفوظًا أو مكتوبًا، ليعارض المفترق بالمجتمع، وليشترك الجميع في علم ما جمع فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشك في أنه جمع عن ملأ منهم (1) وأن يشهد شاهدان من حفظ أو كتابة على ما يجيء مخالفًا لتلك الصحف أو مفقودًا منها.

أما عمل عثمان رضي الله عنه فهو لا يتعدى النسخ لمصحف أبي بكر المجمع عليه، في عدد من المصاحف لينشر النص القرآني المجموع في عهد أبي بكر المأخوذ مما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بإملائه حين دعت الضرورة إلى نص مكتوب يكون للناس إمامًا ليحسم الخلاف حول ما اعترى القرآن على ألسنتهم من تحريف بالزيادة والنقص واستبدال لفظ بلفظ، وليمتاز به التنزيل عما اختلط به من التأويل في المخطوطات المتداولة، وكما جرى على ألسنة العامة توهمًا أنه من الوحي المنزل، وليكون مرجع الناس في الأخذ بالمُستَيقَنِ المعلوم من نصوص الوحي المنزل، وكل نص خالف عنه ترفض قرآنيته، بل وكل مصحف عداه ليست له شرعية البقاء معه. ومن ثم وجب إحراقه وقاية من كل خلاف، وحماية من أي اختلاط (2) .

وقد جاء في رواية ضعف العلماء سندها أن حفصة رضي الله عنها حين أرسل عثمان رضي الله عنه يطلب منها أن ترسل إليه الصحف التي كانت عندها أبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردنها إليها ، فبعثت بها إليه أخيرًا" (3) .

(1) راجع البرهان: 1/ 238

(2)

انظر تفصيلًا أكثر في كتاب: (من قضايا القرآن)، د. إسماعيل الطحان: ص 77 ـ 79

(3)

راجع كتاب المصاحف: ص

ص: 2221

وعلل المستشرقون رواية الامتناع هذه بأن حفصة قد ورثت هذه الصحف عن أبيها ذمة مالية شخصية إذ أن المصحف الذي بدأه أبو بكر في حياته لم ينته إلا في عهد عمر لقصر حياة أبي بكر في الخلافة، ومن ثم رجحت لديهم رواية أن عمر هو أول من جمع القرآن على حد ما زعمه ابن سعد في (الطبقات) .. وأن دوافع هذا الجمع لدى أبي بكر، بمشورة عمر كانت الرغبة في تملك نسخة من القرآن حتى لا يكون رئيس الجماعة في وضع أقل من بعض الصحابة الذين يملكون نسخًا منه. فكلف أحد كتاب الوحي ممن سبق أن استخدمهم محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الوظيفة بأن يهيئه لهما. ولم يكن في ذهن أبي بكر وعمر أمر فرض مصحف إمام على جماعة المؤمنين (1) .

فلقد أراد المستشرقون، أن يضفوا طابع الشخصية على هذا العمل، ليجردوا هذا المصحف من كل ما تميز به من صفة التواتر وقطعية الثبوت، ليستوي مع غيره من مخطوطات الصحابة وبالتالي فليس هو أولى منها بالالتزام والمتابعة (2) حتى إذا جاء عثمان ليفرض مصاحفه التي حوت ما كان في مصحف أبي بكر وعمر، مع ما ضمه إليها من مقطوعات ظلت مبعثرة أو محفوظة غيبًا ـ لم يستطع ذلك دون مقاومة، فإن الصحابة الذين بذلوا أنفسهم في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى التضحية بالنفس مثل ابن مسعود قد شعروا بالجور إذ تبينوا أن نصوصهم لم تعتمد أساسًا للمصحف الرسمي (3) .

(1) انظر المدخل إلى القرآن: بلاشير: ص 33ـ36؛ وقارن بالقرآن لبلاشير: ص 30

(2)

تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين: ص 110

(3)

القرآن (بلاشير) : ص 34، 35

ص: 2222

(ج) روايات وشبهات حول القراءات:

كما أورد المستشرقون بعض الشبهات حول القراءات، وقد استندت هذه الشبهات إلى روايات ضعيفة، وخلاصة هذه الشبهات: أن ما فعله عثمان بمصاحف الصحابة لم ينه مشكلة الاختلاف حول النص القرآني، لأن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن نص القرآن بحرفه ليس مهمًّا، وإنما المهم هو روحه وأن القراءة التي تقوم على الترداف المحض أمر لا بأس به (1) ، فقد صور المستشرقون (قضية القراءات) على أنها اختيار محض، وتصرف غير مسؤول في ألفاظ القرآن ومعناه. وأثاروا من خلال هذا التصور شكوكًا حول النص القرآني المسجل في صحة معناه، وسلامة ألفاظه من التحريف والتبديل.

واعتمدوا في مزاعمهم هذه على روايات تصيدوها من هنا وهناك، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:((القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابًا، أو عذابًا مغفرة)) . وقوله صلى الله عليه وسلم ((اقرءوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعد عذاب، ولا ذكر عذاب برحمة)) (2)، كما رووا عن أبي شامة قوله: أنزل القرآن أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب الآخرين أن يقرأوه بلغاتهم على اختلافهم في الألفاظ والإعراب (3) .

ولو ذهبت أستقصي شبهات المستشرقين حول القرآن الكريم لما وسعتني مئات الصفحات لأن القرآن الكريم كتاب مقلق للغربيين، ومحيّر لهم ومبلبل لأفكارهم.

يقول (بلاشير) : (قلما وجدنا الكتب الدينية الشرقية كتابًا بلبل بقراءته دأبنا الفكري أكثر من القرآن)(4) .

ولكن الأمر في الواقع ليس مجرد قلق أو حيرة أو بلبلة فكرية، وإنما الأمر أبعد من ذلك بكثير، إنه الشعور بخطورة هذا الكتاب. وقد كان للاستشراق دوره في التحذير من خطورة القرآن على العالم الغربي، فقد تكفل بالكشف عن أخطار القرآن طائفة من المستشرقين الذين أخضعوا بحوثهم العلمية للأهواء الشخصية أو الأهداف السياسية والدينية فأعماهم ذلك عن الحق وأضلهم عن سواء السبيل.

(1) راجع المدخل إلى القرآن (بلاشير) : ص 69، 70؛ وانظر: مقدمة المصاحف آثر جفري: ص 7

(2)

هذه الروايات باطلة المعنى واهية الإسناد وهي مخالفة للمعقول، وما صح من المنقول، وما أجمع عليه المسلمون من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، وقد اعتمدت هذه الروايات على كتاب (الأغاني: 3/ 61) ، وانظر: الرد على هذه الشبهة وغيرها في كتاب: المدخل لدراسة القرآن، د. محمد محمد أبو شهبة: ص 209، ط 2، فإنَّ هذه الأحاديث لم تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى واحد من صحابته رضي الله عنهم.

(3)

المرشد الوجيز، لأبي شامة: ص 95.

(4)

بلاشير، القرآن: ص 41.

ص: 2223

2ـ الطعن في السنة:

السنة النبوية هي المصدر الثاني للإسلام، وقد كان لها الفضل الأكبر في إظهار المراد من الكتاب، وفي إزالة ما قد يقع في فهمه من خلاف أو شبهة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) .

وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) .

وبهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ ما أنزل الله عليه، ومطالبًا ببيانه.

وقد فعل الرسول ما أمره الله به، فكانت سنته المتمثلة في أقواله وأفعاله وتقريراته، بالنسبة للقرآن بمثابة (تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره)(3) .

وبذلك يكون الارتباط بين القرآن والسنة ارتباطًا لا يتصور أن ينفصم في يوم من الأيام، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حين قال:((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) (4) .

ومن أجل ذلك اهتم المسلمون اهتمامًا عظيمًا بالسنة بوصفها الأصل الثاني للإسلام، ومصدرًا للأحكام الشرعية مع القرآن، وانعقد إجماعهم على ذلك، ومضى على ذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم قولًا وفعلًا.

وكذلك استمر الصحابة ومن تبعهم بإحسان وفي الرجوع إلى السنة بعد القرآن لمعرفة ما تعبد الله به عباده من الحلال والحرام، وسائر الأحكام في العبادات والمعاملات.

واستمر من بعد الصحابة والتابعين فقهاء الأمصار وأئمة المذاهب المتبوعة وأصحابهم وتلاميذهم، وغدت السنة للجميع المصدر الغني الخصب في كل أبواب الفقه (5) .

وقد أراد المستشرقون بعد محاولتهم الفاشلة للتشكيك في القرآن الكريم من جوانب مختلفة، وبعد أن أعياهم البحث ـ ولم يكن لهذه المحاولات أي أثر إيجابي لدى المسلمين المتمسكين بقرآنهم، وتبين أن هذه المحاولات لم تكن إلا كما قال الشاعر العربى:

كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهي قرنه الوعل

أراد المستشرقون أن يوجهوا محاولات التشكيك إلى ناحية، وهي السنة النبوية مع الاستمرار في محاولاتهم السابقة الفاشلة (6) .

ومحاولة تشويه السنة عميقة الجذور في تاريخ حربهم للإسلام، وهي محاولات تستهدف حرب القرآن الكريم، وعزل المسلمين عن دينهم بتشويه مصدريه، وهي حرب تدخل حديثًا في الغزو الفكري للمسلمين، وقد جند أعداء الإسلام لتشويه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أقلامًا وكتبًا ومجلات، ملأوا بهذا التشويه كثيرًا من الكتب والمجلات ودوائر المعارف التي تتحدث عن الإسلام، وتعتبر مراجع لفكره وثقافته عند كثير من الباحثين والدارسين الذين لا يستطيعون قراءة الكتب العربية، بل إن كثيرًا من هذه المراجع ترجم إلى اللغة العربية واعتبره كثير من أبناء العربية مراجع هامة عن الإسلام فكره وتاريخه وثقافته (7) .

(1) سورة المائدة: الآية 67

(2)

سورة النحل: الآية 44

(3)

راجع: الموافقات، للشاطبي: 4/ 12

(4)

رواه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه

(5)

المدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي: ص 45، مكتبة المدارس، الدوحة ـ قطر

(6)

راجع ما كتبه، د. محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 100، كتاب الأمة، الطبعة الأولى، صفر الخير 1404 هـ

(7)

الغزو الفكري، والتيارات المعادية للإسلام: ص 37

ص: 2224

وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي (جولدتسيهر) الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي.

ويلخص (بفانموللر) عمل (جولدتسيهر) في هذا المجال فيقول: (لقد كان (جولدتسيهر) أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي، وقد تناول في القسم الثاني من كتابه (دراسات محمدية) موضوع تطور الحديث تناولًا عميقًا، وراح ـ بما له من علم عميق، واطلاع يفوق كل وصف ـ يبحث التطور الداخلي والخارجي للحديث من كل النواحي.

وقد قادته المعايشة العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشك في الحديث، ولم يعد يثق فيه مثلما كان (دوزي) لا يزال يفعل ذلك في كتابه (مقال في تاريخ الإسلام) وبالأحرى كان (جولدتسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني، فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام، ويقدم (جولدتسيهر) مادة هائلة من الشواهد لمسار التطور الذي قطعه الإسلام في تلك العصور التي تم فيها تشكيله من بين القوى المتنقصة والتباينات الهائلة حتى أصبح في صورته النسقية.. ويصور (جولدتسيهر) التطور التدريجي للحديث، ويبرهن بأمثلة كثيرة وقاطعة كيف كان الحديث انعكاسًا لروح العصر وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة، وكيف راحت كل الأحزاب والاتجاهات في الإسلام تبحث لنفسها من خلال ذلك عن إثبات لشرعيتها بالاستناد إلى مؤسس الإسلام، وأجرت على لسانه الأقوال التي تعبر عن شعارتها) (1) .

وهكذا تم اختراع كم هائل من الأحاديث في العصر الأموي عندما اشتدت الخصومة بين الأمويين والعلماء الصالحين، ففي سبيل محاربة الطغيان والخروج عن الدين راح العلماء يخترعون الأحاديث التي تسعفهم في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه راحت الحكومة الأموية تعمل في الاتجاه المضاد، وتضع أو تدعو إلى وضع أحاديث تسند وجهات نظرها، وقد استطاعت أن تجند بعض العلماء الذين ساعدوها في هذا المجال.. ولكن الأمر لم يقف عند حد وضع أحاديث تخدم أغراضًا سياسية، بل تعداه إلى النواحي الدينية في أمور العبادات التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، وقد استمر هذا الحال في وضع الأحاديث في القرن الثاني أيضًا (2) .

هذا مجمل المزاعم التي روجها (جولدتسيهر) ليهدم بها الأصل الثاني للإسلام وهو السنة، ولسنا هنا في معرض الرد التفصيلي على هذه المزاعم، لأن ذلك يحتاج إلى بحث منفصل، وقد تكفل الرد على هذه الأباطيل كثير من أهل العلم، ومن أهم الكتب القيمة في هذا المجال كتاب (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للدكتور مصطفي السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.

ومن المستشرقين الذين تطاولوا على السنة النبوية، المستشرق (ماكدونالد) حيث جاء عنه قوله:(يجدر بنا الآن أن نتكلم على الآراء التي أسندها الحديث إلى محمد صلى الله عليه وسلم، على أننا إذا حاولنا أن نجد في الحديث ما نستطيع أن نقطع بصحة نسبه إليه من الوجهة التاريخية، فإن عملنا هذا يكون لاغنى فيه على الإطلاق. فمن الواضح أن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون قد صدرت عنه. كما أننا لن نستطيع أن نعرف أبدًا الأحاديث التي صدرت عنه حقًّا) ثم يستشهد بأقوال (جولدتسيهر) السابقة في الخلط والتشكيك (3) . وقد أورد (ماكدونالد) كثيرًا من الشبهات حول الحديث النبوي.

ثم يختم (ماكدونالد) كلامه عن الأحاديث النبوية بقوله: (ونستخلص مما تقدم أنه لا شك في أن الأحاديث في ذاتها لا تعتبر أساسًا يمكننا أن نبني عليه الحقائق التاريخية)(4) .

كما تهجَّمَ على السنة النبوية بقصد تشويهها والتشكيك فيها عدد من أعداء الإسلام من المستشرقين والمبشرين والصهيونيين.

وخلاصة القول في الاتهامات التي وجهت إلى السنة يمكن إجمالها فيما يأتي:

(أ) الادعاء بأن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبى صلى الله عليه وسلم.

(ب) لا يوجد حديث يقطع بصحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم.

(ج) الادعاء بأن الفرق الإسلامية عندما اختلفت في الآراء أخذ كل منها يضع لنفسه الأحاديث التي يؤيد بها رأيه.

(د) الأحاديث النبوية ليست إلا سجلًا للجدل الديني في القرون الأولى، الأمر الذي يجعل لها من هذه الزاوية قيمة تاريخية على الرغم من أن هذا السجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية، مليء بالمعلومات المضللة التي لم تؤخذ من مصادرها الأولى.

(1) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 102

(2)

د. مصطفي السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 190، 191، بيروت سنة 1978 م

(3)

دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 255، طبعة دار الشعب، القاهرة

(4)

دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 256 ـ 257، طبعة دار الشعب، القاهرة

ص: 2225

هذا مجمل للاتهامات التي وجهت إلى السنة المشرفة، وجميع هذه الادعاءات لا يستند إلى دليل ولا برهان.

ومن الأمور التي لا يختلف فيها اثنان من أهل العلم المحققين أن الأمة الإسلامية هي الوحيدة من بين أمم الأرض، التي حافظت على القرآن والسنَّة، ويشهد بذلك التاريخ نفسه والمنصفون من المؤرخين. يقول أحد العلماء في الرد على (ماكدونالد) وغيره من أعداء الإسلام:(وقد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا آية آية وكلمة كلمة وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في المصحف، وألفوا في ذلك كتبًا مطولة وافية. وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان للقرآن، وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1)، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) . وقال أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) . وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهته قريش فذكر للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق)) (4) ، ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها ورووا الأحاديث عنه بعضها متواترًا إما لفظًا ومعنى وإما معنى فقط، وبعضها يعرف بالأحاديث الصحيحة الثابتة مما يسمى الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر) (5) .

(1) سورة النجم: الآيتان 3 ، 4

(2)

سورة النحل: الآية 44

(3)

سورة الأحزاب: الآية 21

(4)

رواه أبو داود بإسناد صحيح، وأحمد في مسنده.

(5)

دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 274

ص: 2226

ولعل في بعض ذلك رد على (جولدتسيهر) و (ماكدونالد) وأمثالهما من الحاقدين على الإسلام الراغبين في تشويه مصدريه الأساسيين القرآن الكريم والسنة النبوبة المشرفة، وصفوة القول: إن الأحاديث النبوية لم يتجه إلى دراستها إلا عدد قليل جدًّا من المستشرقين والذين كان لهم نتائج في هذا الميدان لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ومع ذلك فإن بحوثهم لم تكن ناضجة، ومناهج بحثهم لم تكن علمية، ويمثل ذروة هذه الدراسة كتابات (شاخت) التي أصبحت من المصادر الأساسية لكتّاب الغرب بل ولكثيرين من كتاب الشرق أيضًا. وهؤلاء قاموا بأخطر دور في تاريخ البحث العلمي فيما يتعلق بالحديث النبوي وما يتصل به من موضوعات ومن ثم وجهت سهام الطعن إلى السنة النبوية من قبل مختلف الأشخاص ومن الزوايا المتعددة ، وتناول كل فريق منهم جانبًا من جوانبها المختلفة ويمكن إجمال ذلك في النقاط التالية:

1-

فمنهم من فسر السنة بمعنى (الأمر المجتمع عليه في الأوساط العلمية) وأنه ليس معناها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

2-

ومنهم من طعن في حجية السنة النبوية وقيمتها التشريعية.

3-

ومنهم من ادعى أن الأحاديث النبوية لا يمكن الاعتماد عليها، لأن كتابتها تأخرت إلى قرن أو قرون، وربما تكون الذاكرة قد ضعفت في نقلها الأحاديث، وقصرت في الحفاظ عليها خلال هذه الفترة الطويلة.

4-

ومن المستشرقين من شك في الأسانيد وقيمتها العلمية، ومنهم من أثار غير ما ذكرنا من الشبهات والأوهام (1) .

ولقد تجمع جل هذه الأفكار فتجسدت في كتابات (شاخت) الذي اكتشف بعد بحث مضن أنه ليس هناك حديث واحد صحيح وخاصة الأحاديث الفقهية وأنها في الواقع ـ على حد زعمه ـ كلام علماء المسلمين من القرن الثاني والثالث الهجريين وأقاويلهم وضعت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم زورًا وبهتانًا. ونظرًا لما أثير حول السنة النبوية من اعتراضات، وما بذر في طريقها من تشكيكات، أصبح البحث في الأحاديث النبوية ودواوينها أمرًا لازمًا وواجبًا محتمًا، لأن الإسلام وحضارته ومستقبله يقوم على هذا الأساس.

ونود أن نشير هنا إلى أننا لا ننكر وجود كثير من الأحاديث الموضوعة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك لم يكن في يوم من الأيام خافيًا على علماء المسلمين في مختلف العصور ولكن الأمر الذي لا شك فيه أيضًا أن علماء المسلمين الذين اهتموا بجمع الحديث النبوي ولم يفرطوا فيه إطلاقًا ، في ضرورة التدقيق الذي لاحد له في رواية الحقائق، فقد وضع القرآن أمامهم أهم قاعدة من قواعد النقد التاريخي، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2) .

(1) راجع: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه. ج1 ص (ل) ، د. محمد مصطفي الأعظمي، المكتب الإسلامي، سنة 1405 هـ 1985 م

(2)

سورة الحجرات: الآية 6

ص: 2227

وتتمثل هذه القاعدة في أن أخلاق الراوي تعد عاملًا هامًّا في الحكم على روايته، وقد أفاد المسلمون إفادة عظيمة من هذه القاعدة وطبقوها على رواة الأحاديث النبوية، وقد كان تطبيق هذا المنهج النقدي على رواة الأحاديث هو الذي تطورت عنه بالتدريج قواعد النقد التاريخي (1) .

إن الجهود التي بذلها العلماء للعناية بالحديث إنما كانت امتدادًا لجهود الصحابة رضوان الله عليهم في توثيق السنة والعناية بها، وحفظها من كل شائبة.

فقد تلقى الصحابة الكرام السنة على أساس أنها جزء من الدين الذي يدينون به، ففي القرآن الكريم الحث على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفته، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) .

وقد أحَسَّ الصحابة بالحاجة الملحة إلى أخذ السنة والعناية بحملها وصيانتها وحفظها وتسليمها إلى من بعدهم من الأجيال، وحرصوا على عدم الغلط في الأخذ، وفي الأداء، لأنهم أدركوا خطورة الزيادة أو النقصان على حديث رسول الله القائل:((من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده في النار)) (3) لهذا جدوا غاية الجد وأخذوا بكافة الوسائل التي تحقق لهم أخذ السنَّة أخذًا صحيحًا، وأداءها أداء سليمًا، لا تبديل فيه ولا تغيير، ولا زيادة فيه ولا نقصان. ومن هذه الوسائل.

1-

الحرص على سماع الحديث.

2-

التثبت في الرواية أخذا أو أداء:

وكانت لهم وسائل متعددة في التثبت من الرواية من أهمها:

(أ) المقارنة: فلقد كان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار، وخير شاهد على ذلك ميراث الجدة، وتثبته في قبول الخبر الذي ورد بشأنها (4) ، وسن عمر للمحدثين التثبت في النقل (5) .

(ب) طلب إعادة الحديث مع الفاصل الزمني.

(ج) الرجوع إلى مصدر غائب: روى نافع قال: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تبع جنازة فله قيراط من الأجر)) فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة فسألها، فصدقت أبا هريرة. فقال ابن عمر:(لقد فرطنا في قراريط كثيرة)(6) .

(1) د. محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام: ص 160 وما بعدها

(2)

سورة النساء: الآية 80

(3)

متفق عليه، البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم 1/ 35 ـ 36؛ ومسلم، المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1/ 10

(4)

تذكرة الحفاظ: 1 /2

(5)

تذكرة الحفاظ: 1 /2

(6)

متفق عليه، أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل الجنائز: 2/ 89؛ ومسلم واللفظ له، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها: 1/ 653

ص: 2228

(د) الرجوع إلى المصدر الأول، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم (1) .

(هـ) الإقرار: عن سماك عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين يدي الساعة كذابين)) قال: فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (2) قال نعم.

(و) المواجهة: وهي أن الصحابة رضي الله عنهم كان إذا بلغهم حديث عن واحد منهم وشكوا فيه ذهبوا إليه واستيقنوا من روايته للحديث، والأمثلة على ذلك كثيرة (3) .

فهذه الآثار معلم واضح على تحري الصحابة، وما كانوا عليه من التثبت والتدقيق في قبول الأخبار صونًا لها من التحريف، وصيانة لها من التبديل، وليس في تمحيصهم للرواية وتشددهم في قبولها ما يفيد أنهم كانوا يكذّبون ناقل الحديث بل كانوا يخشون الخطأ في النقل، والغلط في الحفظ، والوهم في الضبط، فلا يؤدي الحديث على وجهه (4) .

وتسلم الراية من بعدهم التابعون وأتباعهم، وواصلوا جهد من سبقهم، رواية وحفظًا وتوثيقًا، فلسكوا ذات السبيل واستقاموا على المنهج نفسه، وأضافوا ما توصلوا إليه من دراساتهم وبحوثهم مما اقتضاه المقام وأوجبته الحال، فعنوا بالإسناد الذي يقوم عليه بنيان الحديث، ووقفوا على أحوال الرواة عدالة وضبطًا، وتكلموا فيهم وبينوا أمرهم، ووضعوا شروطًا للتحقق من استقامة الرواة وضبطهم، ودرسوا أحوال المروي ونظروا في ضروب التلقي والتحمل وكيفية الأداء، واتجهوا إلى معرفة علل الأحاديث الخفية والبينة، وميزوا الأحاديث الصحيحة من السقيمة وكشفوا انتحالها وزيفها فاستقام لهم المنهج الذي حفظ من أي تبديل أو تحريف (5) . كما وضع علماء الحديث شروطًا للراوي أجملها الإمام الشافعي بقوله:(ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة (الواحد) حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّث به ثقة في دينه، معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لما يحدث به، عالمًا بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، حافظًا إن حدث من حفظه، حافظًا لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ وافق حديثهم ، بَرِيًّا من أن يكون مدلسًا ـ يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه. ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي ـ ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهي به إليه دونه) (6) .

(1) انظر: صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8/ 179 بشرح النووي

(2)

أخرجه مسلم ، كتاب الفتن وأشراط الساعة: 18/ 45 بشرح النووي

(3)

راجع: ما أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8/ 179 بشرح النووي. والسنن الكبرى، للبيهقي، كتاب البيوع، باب تحريم التفاضل بالجنس الواحد ممن يجري فيه الربا مع تحريم النَّساء: 5/ 279

(4)

أصول منهج النقد عند أهل الحديث: ص 47، عصام أحمد البشير، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، سنة 1410 هـ 1989 م

(5)

أصول منهج النقد عند أهل الحديث: ص 56، عصام أحمد البشير، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، سنة 1410 هـ 1989 م

(6)

الرسالة: ص 370ـ371، للإمام الشافعي.

ص: 2229

وإذا كانت الحجج قد قامت على صحة الأحاديث النبوية فإن هؤلاء المنكرين المبطلين مطالبون بأن ينقضوا هذه الحجج أولًا، ثم يؤكد مزاعمهم بأدلة وبراهين وما هم بمستطيعين هذا، ولا هم بقادرين على ذلك، وقد غبروا في هذه المحاولات السنين وراء السنين، وتطاول زمن الحقد بهم فعجزوا وراحوا يتخبطون في غير هدى، لكنها الرغبة الملحة في تشويه المصدر الثاني للإسلام وهو السنة النبوية المشرفة كي لا يواجهوا بجيل جديد من المسلمين يحسن التمسك بالسنة المطهرة، فينصر الله بهم دين الإسلام، ويحسن إقامة الحق والميزان، ويزرع العدل والإحسان في البشرية كلها.

وهكذا لم يصل المستشرقون إلى ما يريدون من زعزعة اعتقادات المسلمين وخلخلة تمسكهم بإيمانهم وسنة نبيهم، وقد ردد بعض من المسلمين بعض الأفكار الاستشراقية (1) ولكنها لم تجد أيضًا آذانًا صاغية من المسلمين.

(1) د. مصطفي السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 196

ص: 2230

3-

اعتماد ما جاء في كتب السيرة:

يعتمد جمهرة المستشرقين من أعداء الإسلام في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها، فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي عليه اعتقادها.

ولكن أغلب هؤلاء المستشرقين من مسيحيين ويهود يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية، وكثيرًا ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها، ومن الأمثلة على ذلك:

1-

ما زعمه المستشرق (جولد تسيهر) بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم كان لاصقًا بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة، من ذلك ما نقله عن كتاب الحيوان للدميري من أن أبا حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها (1) .

وهذا الكلام يرده أقل الناس معرفة بالتاريخ، فأبو حنيفة وهو من أشهر الأئمة في الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثًا مستفيضًا في فقهه الذي أثر عنه، وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد، ويستحيل على العقل أن يصدق بأنه كان جاهلًا بوقائع سيرة الرسول ومغازيه وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب.

(1) د. مصطفي السباعي: الاستشراق والمستشرقون، ما لهم وما عليهم: ص 44، المكتب الإسلامي

ص: 2231

ويكفي أن نشير هنا إلى كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام.

أولهما: كتاب الرد على سير (1) الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله تعالى.

ثانيهما: كتاب السير الكبير لمحمد رحمه الله، وقد شرحه السرخسي، وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية، وقد طبع أخيرًا تحت إشراف جامعة الدول العربية.

ولا يخفى أمر هذين الكتابين على (جولدتسيهر) وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلًا بالسيرة أو عالمًا بها من غير أن يلجأ إلى رواية (الدميري) في (الحيوان) ، وهو ليس مؤرخًا ، وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ، وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير أن يعني نفسه البحث عن صحتها.

فقد أعرض (جولدتسيهر) عن كل ما دون عن تاريخ أبي حنيفة تدوينًا علميًّا ثابتًا، واعتمد رواية مكذوبة يردها طالب العلم المبتدئ في الدراسة.

وقد دعم (جولدتسيهر) بهذه الرواية المكذوبة ما تخيله من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى.. إلى غير ذلك من الأمثلة التي اعتمد فيها المستشرقون على روايات ضعيفة وردت في كتب السيرة وكتب الأدب، للتشكيك في الإسلام، وتشويه السنة النبوية، وسيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم (2) .

إن كتابة السنة النبوية، وأحداث السيرة قد تأخر قليلًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهي عن هذه الكتابة حتى لا يختلط بالقرآن الكريم غيره، ولقد حاول المنافقون وأعداء الإسلام أن ينفذوا من خلال ذلك لتحقيق أحلامهم بهدم الإسلام من داخله، فاختلقوا أقوالًا، ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففطن إلى ذلك العلماء وبدأوا يكتبون السنة النبوية ويمحصون رواياتها بدقة بالغة.

أما التاريخ الإسلامي، وأحداث السيرة فبدأ المسلمون في تدوينه في منتصف القرن الثاني للهجرة، واكتفي المؤرخون بجمع الأخبار التي يسمعونها في عصرهم بجانب ما يجدونه من المخطوطات، واعتبروا أن الأمانة العلمية تقتضي كتابة ما سمعوه، ولو كان فيه أشياء لا يصدقها الإنسان، لأنهم على يقين أن المسلمين لا يأخذون هذه الروايات دون تمحيصها ومعرفة الصحيح من السقيم والمكذوب، طبقًا لقواعد الجرح والتعديل التي كانت سائدة، وهذا ما اعتذر عنه الطبري عما نقله من أخبار عن بعض الماجنين، حيث نبه أنه نقل ما سمع من شناعات لتخضع للتحقيق والتمحيص بمعرفته أو بمعرفة من بعده من المحققين، وهذا ما شرع فيه ابن العربي وابن خلدون.

(1) راجع مزيدًا من التفصيل في كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 385 وما بعدها

(2)

الغزو الفكري للتاريخ والسيرة، سالم علي البهنساوي: ص 7 وما بعدها، دار القلم بالكويت، ط1، 1406 هـ

ص: 2232

إن بعض أتباع الفكر الغربي قد حاولوا استغلال هذه الأكاذيب لخدمة مذاهبهم، وتقديم السيرة وأحداثها وكذلك الأحاديث التاريخية، بصورة تطوع الإسلام لهذه النظم، بل منهم من صرف الأحداث ومعاني بعض النصوص في القرآن والسنة ليخدم مذهبه (1) . كما أن بعض كتب الأدب التي تحوي هذه الشناعات قد ترجمت إلى معظم لغات العالم، ليقدم صورة سيئة عن تاريخ الإسلام، وتصور أمراء المؤمنين في مجالس الخمر، وتحت تأثير المؤامرات النسائية، وغيرها، حتى أصبحت أسماء بعضهم عنوانًا للفحش والترف والانحطاط، ولقد تلقف بعض المثقفين هذه الأخبار وألفوا كتبًا، وهي تسيء إلى الإسلام والمسلمين، ومنهم من يدرك ذلك ومنهم من لا يدركه. إن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي ترجمة عملية لعقيدة الإسلام، ولهذا عندما كتب هذا التاريخ بأيدي المستشرقين أو تلاميذهم، شاب هذه الدراسة أخطاء، ويرجع ذلك إلى أمرين:

الأول: أن هؤلاء لا يؤمنون بالإسلام وقيمه ومبادئه، ففسروا جهاد المسلمين وأعمالهم تفسيرًا نابعًا من عقيدة هؤلاء الكتاب عن القرآن والسنة النبوية.

والثاني: أنهم اعتمدوا على ما جاء في كتب السيرة من روايات ضعيفة ومكذوبة، ومن مصادرهم كتب الأدب مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وغيره من المصادر التي لم يوثقها أهل العلم.

ولقد استفاد خصوم الإسلام من عدم تحقيق روايات كتب السيرة والتاريخ، فنقلوها كما هي، ونسبوها إلى المؤرخين، ليضعوا عليها جملة من الأكاذيب، فمثلًا ينقل الطبري عن أبي مخنف خبرًا عن التحكيم، ثم نقله عنه ابن مسكون، وكذا ابن الأثير، ثم ابن كثير، وابن خلدون، ويخيل للقارئ أن الخبر قد رواه ستة من الرواة، وورد في ستة مصادر تاريخية، وهو في الحقيقة قد رواه شخص واحد وهو أبو مخنف الأزدي، ومصدر واحد هو الطبري، وهذا المصدر قد نبه صاحبه أنه نقل ما سمع من صحيح وسقيم للأمانة العلمية.

(1) انظر: التاريخ الكبير، للبخاري: 1/ 252

ص: 2233

وقد يخيل إلي القارئ، أن الراوي أبا مخنف الأزدي هو الصحابي الجليل مخنف بن سليم بن الحارث الأزدي (1) . الذي كان أميرًا على أصبهان من قبل الإمام علي رضي الله عنه، وقد روى له أصحاب السنن الأربعة (2) ، ولكن بالبحث الدقيق والعميق يتضح غير ذلك، فأبو مخنف الأزدي يروي عن التابعين، فهو ليس من طبقة الصحابة، واسمه لوط بن يحيى، ويكنى أبو مخنف الأزدي، وهو حفيد الصحابي الجليل سالف الذكر، وهذا الحفيد أغفله المؤلفون وعلماء الرجال، فلم يرد اسمه ضمن الرواة الثقات أو الضعفاء (3) ، بل تركه أبو حاتم لأنه ليس من الثقات، فلا يجوز والحال هذه توثيق روايته.

كما اعتمد أعداء الإسلام في حربهم للقرآن والسنة والإساءة إليهما على كتب الأدب؛ لقد ألف الأدباء المعاجم والكتب خلال العصر العباسي، وذلك لينالوا العطاء من الأمراء واتخذوا من الخلافات والأخبار المتناقضة سبيلًا لتسلية الناس، ولهذا اخترعوا القصص والروايات، لتكون مادتهم في التسلية، فأساءوا إلى أهل الفضل والتقوى من علماء المسلمين، فمثلًا تضمن كتاب البيان والتبيين للجاحظ كثيرًا من الخطب المنسوبة إلى علي، وإلى معاوية، وفيها من التجريح وبذاءة اللسان ما يعف عنها السفهاء فضلًا عن كبار الصحابة رضي الله عنهم.

وفي مجال الأدب، نجد هناك من لازال يعتبر كتاب (الأغاني) مرجعًا وكتاب (ألف ليلة وليلة) على الرغم من محاذير الاعتماد على مثل هذا النوع من التأليف أو غيرها من كتب المحاضرات، والمسلم في حاجة دائمة إلى التذكير بمصادر هذه الكتب، ومراجعة أمر الذين قاموا على كتابتها وإعدادها، فمؤلف الأغاني رجل تصفه المصادر بالإسفاف والاضطراب، وقد وصفت خلقه وصفًا يرده عن أن يكون مصدرًا أمينًا، وكان على غير مفهوم الإسلام الصحيح، وكان من الباطنية الذين يحقدون على الإسلام، وله جوانب حسية تبعده عن استواء الطبيعة، فضلًا عن أن مصادره أيضًا قد اتهمت (4) .

(1) راجع: تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني: 1/ 78؛ وتقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني: 2/ 236

(2)

انظر: العواصم من القواصم: ص 163، والمصادر السابقة

(3)

سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية: ص 10

(4)

شرح إحياء علوم الدين، المرتضى الزبيدي: 1/ 44

ص: 2234

ويأتي بعد ذلك، كتاب (ألف ليلة وليلة) ، وكتاب (كليلة ودمنة) وهما كتابان فارسيان هنديان في الأصل، أضيف إلى الأول إضافات كثيرة مما يرويه الرواة من أساطير وأقاصيص وخرافات ليست هي عملًا محققًا، ولا علمًا موثقًا، فكيف يمكن أن تكون مصدرًا يستند إليه في فهم الحقائق والتاريخ؟!

ومن المصادر التي تحتاج إلى انتباه ويقظة: كتاب الإمامة والسياسة، وقد وصفه السيد محب الدين الخطيب بأنه كتاب لقيط مجهول النسب، وأن مؤلفه (ابن قتيبة) برئ منه، لأن المصادر التي ترجمت له لم تشير إلى نسبة هذا الكتاب له، كما أن أسلوبه يخالف أسلوب ابن قتيبة في سائر كتبه.

وكذلك كتاب (المضنون به على غير أهله) ، المنسوب إلى الإمام الغزالي، فهو مكذوب عليه، وقد صحح ذلك السيد المرتضى الزبيدي في شرح الإحياء (1) ، وقد اشتمل الكتاب المكذوب على الغزالي على التصريح بقدم العالم، ونفي علم القديم بالجزئيات، وهو ما يخالف آراء الغزالي في صفوة كتبه.

ومن أخطر المصادر التي اعتمد عليها الغزو الفكري كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري، فهذا الكتاب طبع منه جزء في ألمانيا عام 1883م، ثم تولى اليهود طبع جزء آخر عام 1936 م طبع في أورشليم، وقدم له بالعبرية، ومن هنا جاءت شبهة هذا الكتاب المضطرب الذي اعتمد عليه بعض الباحثين أمثال طه حسين، في القول بأن شخصية (عبد الله بن سبأ) شخصية وهمية، وهذا يتفق مع مخططات اليهود في إنكاره والتهوين من شأنه، وهو ما جرى على القول به مؤلف الفتنة الكبرى (2) .

(1) راجع: سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية: ص 15

(2)

سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية: ص 14

ص: 2235

أما كتاب (رسائل إخوان الصفا) فهو جدير بوقفة متأنية: ذلك أن هذا الكتاب قد خدع الكثيرين، وحاول دعاة التغريب إسباغ صورة من البطولة والكرامة على موضوعه وكاتبه، وهم ما زالوا يرددون القول عن أهمية هذه الرسائل هادفين إلى تصوير الفكر الإسلامي وهو مكبل بقيود الإغريق، وسلاسل اليونان، وأن هذه الرسائل كانت عصارة هذا التأثير البالغ.

وقد أكد الباحثون بأن فلسفة إخوان الصفا ليست مستمدة من المصادر الإسلامية الأصلية، ولكنها مستمدة من فلسفات اليونان من ناحية، وفلسفات المحبوس وعبدة النيران والكواكب، وجماع الزرادشتية والمانوية والمزدكية، وهم ينظرون إلى الأنبياء نظرة ملحدة فيرونهم كالحكماء، وقد ادعوا أنهم إنما يريدون إعادة الوحدة إلى المسلم والنصراني والمجوسي واليهودي والأفلاطوني والمشّائي والفيثاغوري، وهم في الأغلب يمجدون المجوسية ويجعلونها أفضل الأديان، ومن هنا يبدو خطرهم وإفسادهم من حيث إن الإسلام هو الدين الخاتم دين التوحيد الخالص، المحرر من الوثنيات القائم على النص الموثق (1) .

الحق أن المستشرقين ودعاة التغريب هم الذين ألحوا على هذه الكتب وأولوها الاهتمام، وأعادوا طبعها وأذاعوا بها، وحرضوا أولياءهم من التغريبيين أن يتحدثوا عنها، وأن يحرضوا الباحثين على اعتمادها مراجع وذلك لأنها تفسد الحقائق وترسم صورة غير صحيحة ولا صادقة للمجتمع الإسلامي.

(1) راجع: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 131 وما بعدها، مرجع سابق.

ص: 2236

4 ـ النظريات لبعض الفرق الإسلامية الشاذة:

لقد اعتمد الغزو الفكري على ركائز متعددة منها ما هو ظاهر، ومنها ما يخفي أمره على كثير من المسلمين، وسوف أكتفي بذكر هذه الركائز والإشارة إليها في إجمالها، ولعل في ذكرها ما يكشف لجمهور المسلمين عن أعدائهم وينير أمامهم الطريق، طريق العمل الجاد للإسلام، حتى تعود الأمة الإسلامية إلى وضعها الصحيح بين أمم الأرض ، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) .

وهذه الركائز منطلقات خطرة لشن الغارات المتتالية على الإسلام فكرًا وسلوكًا، وعلى المسلمين أفرادًا وهيئاتٍ، وعلى بلاد المسلمين وخيراتهم في الحاضر والمستقبل؛ وهذه الركائز بدت تتلخص في الآتي:

1-

الصهيونية أو اليهودية

2-

التبشير بالمسيحية في المسلمين أو التنصير وتلك هي التسمية الأكثر دقة.

3-

الاستعمار المتحالف مع الصهيونية والتنصير.

4-

المبادئ والنظريات المعادية للإسلام مثل:

(أ) الديمقراطية.

(ب) الشيوعية.

(ج) القوميات بأنواعها العديدة.

5-

الفلسفات الهدامة التي تحركها وتتعاون معها في أغلب الأحيان ركيزة أو أكثر من تلك الركائز التي أشرنا إليها آنفا، وهذه الفلسفات أو المذاهب هي:

(أ) الوجودية.

(ب) الفوضوية.

(ج) القاديانية أو الأحمدية.

(د) البابية والبهائية.

(هـ) الماسونية والروتاري وغيرهما.

(1) سورة آل عمران: الآية 110

ص: 2237

ولئن بدت هذه الركائز في نظر البعض متخاصمة، فقد يكون هذا صحيحًا حينًا وباطلًا وخداعًا حينًا آخر، ولكن الأمر الذي لا تختلف فيه ركيزة مع أخرى هو العداء الشديد للإسلام والمسلمين، والعداء الظاهر حينًا والمستتر حينًا آخر.

والعداء الذي تشنه علينا أجهزة هذه الركائز ورجالها غير المسلمين حينًا، والذي تشنه علينا أجهزة ورجال مسلمين في بعض الأحيان (1) وقد حرص أعداء الإسلام من المستشرقين ومن تأثر بفكرهم من المسلمين على التنويه ببعض الفرق الإسلامية الشاذة، ونحاول أن نشير هنا إلى بعض هذه الفرق، فمنها على سبيل المثال:

1-

القرامطة: اهتم المستشرقون بالقرامطة وصوروهم بأنهم طلاب العدل والإصلاح، وهم الذين عجزوا عن أن يحققوا أي منهج يمكن أن يوصفوا به على أنهم دعاة حق حين امتلكوا زمام الحكم في القرن الرابع الهجري ، بل انكشف باطلهم وزيفهم، وظهرت حقيقتهم أنهم صنائع لليهود وانقضوا على الدولة الإسلامية بالتآمر والتعاون مع أعداء المسلمين وخصومهم (2) فقد تعددت أبحاث في هذا العصر تحاول أن تصف حركة القرامطة بأنها حركة العدل الاجتماعي في الإسلام أشار إلى هذا الدكتور طه حسين في "مجلة الكاتب المصري" التي كان يصدرها لحساب اليهود في أواخر الأربعينيات وقد أضاف إليها حركة الزنج أيضًا وتحدث عن هذا الكاتب الفرنسي جارودي - قبل إسلامه - حين ربط بين نحلة القرامطة وبين العدالة الاجتماعية في الإسلام.

وقد كتب بعض أهل العلم في دحض هذه الشبهات المفتراة في مقدمتهم الدكتور محمود قاسم الذي قال: "إن دعوة القرامطة لم تكن تسعى في الحقيقة إلى تحقيق كرامة الإنسان وتمهد لاحترامها بل كانت حركة انفصالية تمت في عصر تحلل الدولة العباسية إلى دويلات ، فكانت حركة القرامطة استمرارًا لثورة الزنج التي قامت قبل منتصف القرن الثالث الهجري ، وكانت نوعًا من الأخذ بالثأر ، وقد حرص هؤلاء العبيد الذين حرروا أنفسهم على إذلال العرب عن طريق استرقاقهم والتنكيل بهم، أما حركة القرامطة التي قامت في الشمال الغربي لبلاد العراق، فقد اتخذت مركزا لها في منطقة الكوفة، وفي بعض بلاد الشام وفي سواحل الجزيرة العربية المطلة على الخليج العربي، ثم استقرت آخر الأمر في البحرين) (3) .

(1) قارن بما جاء في: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص25، مرجع سابق

(2)

سموم الاستشراق والمستشرقين: ص54

(3)

سموم الاستشراق والمستشرقين: ص 56

ص: 2238

2-

الباطنية: بذل المستشرقون جهودًا في إحياء التراث الباطني المجوسي مستهدفين أصالة الفكر الإسلامي، ويبدو ذلك واضحًا في تركيزهم على إحياء كل المخطوطات التي تحمل هذه السموم، وخاصة ما يتصل بالإلحاد والإباحية، وما يتصل بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، والمجون.. أمثال شعر بشار بن برد، وأبي نواس، وكتب ابن سبعين وغلاة الرافضة والإسماعيلية والفاطميين.

3-

ثورة الزنج: ومن ناحية أخرى فقد استغل دعاة التفسير المادي للتاريخ بعض المواقف الهدامة في التاريخ الإسلامي، لمحاولة وصفها بأنها حركة تقديمية أو ثورية، ويولون (ثورة الزنج) نفس الاهتمام (بحركة القرامطة) ، وقد جعلوا من (علي بن محمد) بطلًا، وهو الذي تجمع المصادر على عدم صحة ما ادعاه من نسب علوي، وقد خدع الناس بهذا النسب، وجعل من البصرة مركز نشاطه فجمع حوله (الزنج) في البصرة في ثورة عارمة ، أشعل نارها سنة 255 هـ ، وادعى خلال ذلك أنه المهدي المنتظر، كما ادعى بعد ذلك النبوة. ولا يمكن لمنصف ولا لمثقف أن يؤمن بأن مثل ثورة الزنج أو فئة القرامطة يمكن أن تمثل منهجًا إسلاميًّا أصيلًا.

وكانت لهم تفسيرات باطنية للقرآن والحديث، وقد لعب اليهود وراء هذه الحركات، وكانت الإسرائيليات مادة فكرهم، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن القرامطة وغيرها من الدعوات الباطنية يهودية الأصل والفروع (1) .

4-

رسائل إخوان الصفا ودعواهم: سبق الحديث عن إخوان الصفا ورسائلهم في الصفحات الماضية، ولكن الذي أود أن أنبه عليه هنا هو أن كثيرًا من الباحثين يرددون الإشادة برسائل إخوان الصفا على نحو يوحي بأنها جزء من التاريخ الثقافي الإسلامي، وقد أولى المستشرقون والمبشرون والدكتور طه حسين، مثل هذه الأعمال المشبوهة اهتمامًا، وأعادوا طبعها ونشرها، ودفعوا كثيرًا من الباحثين المسلمين الذين يسافرون إلى الغربـ على حساب بعثات التبشير والاستشراق إلى دراستها، وإلى تبني وجهة نظرهم فيها، واستغل ذلك لخدمة أهواء الفكر الليبرالي والماركسي على السواء.

وقد كشف الباحثون المنصفون فساد هذه الدعوى وأن العلاقة بين إخوان الصفا والباطنية وثيقة الصلة، حتى قال المستشرق كازنوفا:(إنني على أتم الثقة من أن آراء إخوان الصفا هي برمتها آراء الإسماعيلية ، ومحور هذه الآراء يتصل بوحدة الكون أي وحدة الوجود وما يتصل بها من الاتحاد والحلول مما يتنافي مع مفهوم الإسلام الصحيح)(2) .

(1) تاريخ الفرق الإسلامية، د. محمود محمد مزروعة: ص 184، دار المنار، ط1، 1412 هـ ـ 1991 م. وقارن بما جاء في الملل والنحل، للشهر ستاني: 1/ 191، دار المعرفة، بيروت 1402 هـ ـ 1982 م

(2)

راجع مزيدًا من الشبهات في: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 25 وما بعدها

ص: 2239

ومن الأساليب التي سار عليها المستشرقون وهي أنهم كانوا يجمعون الشبهات المختلفة ويؤلفون بينما لإعطائها صورة كاملة. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به المستشرق الألماني (ولهم هورنباخ ـ الأستاذ في جامعة بون بألمانيا) من جمع قطع ونتف بعض الأقوال من كتاب (الإصابة) للحافظ ابن حجر العسقلاني ثم نشرها على أنها كتاب (الردة) لابن حجر الذي ألفه أبو زيد ابن الفرات المتوفي سنة 237 هـ وهو فارسي الأصل. وقد ضاع هذا الكتاب، فاشار ابن حجر إليه في بعض المواضع، فما كان من المستشرق (ولهلم) إلا أن جمع هذه القطع على أنها تراجم لأشخاص ارتدوا عن الإسلام، ولا يقوم بمثل هذا العمل إلا مغرض صاحب هوى، لأنه يخالف منهج البحث العلمي السليم ، إلى غير ذلك من الشبهات التي زعمها المستشرقون ولا أصل لها في الإسلام (1) .

5-

القاديانية والبهائية: كما عمل أعداء الإسلام على تبني دعوات ضالة أخرى كالقاديانية والبهائية والادعاء بأنها حركات النهضة الإسلامية كذبًا وبهتانًا ، واستعمالها لضرب الإسلام من الداخل، وتعمل القوى التغريبية جميعًا ممثلة في الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي عن طريق الصحيفة والثقافة والمدرسة إلى تبني هذه الحركات الهدامة ، واحتضانها وخداع البلاد الإسلامية. ومن يراجع هاتين الدعوتين المبطلتين البهائية والقاديانية يعرف أنهما استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصلية وجوهر الإسلام بمفهوم التوحيد الخالص، وأن كلتا الحركتين قد نشأ في أحضان النفوذ الأجنبي، واستهدف ضرب الإسلام في أعظم قيمه الأساسية وهي فريضة الجهاد. وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين الدعوتين وبين الاستعمار والصهيونية والهندوكية (2)

(1) المد الإسلامي في مطابع القرن الخامس عشر، أنور الجندي: ص 37، دار الاعتصام

(2)

راجع: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف: ص 346 وما بعدها، دار الثقافة للطباعة، ط1 عام 1384 هـ ـ 1965 م مكة المكرمة

ص: 2240

يقول العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه (القادياني والقاديانية) : (لقد ظهرت الديانية القاديانية في آخر القرن التاسع عشر المسيحي في الهند بعد استقرار الحكم الإنكليزي فيها، وهي ثورة على النبوة المحمدية ـ على صاحبها الصلاة والسلام ـ وعلى الإسلام، ومؤامرة دينية وسياسية، إن وجد لها نظير في الخطر والضرر على الإسلام ففي الحركة الإسلامية الباطنية التي تولى كبرها عبيد الله بن ميمون القداح في القرن الثالث الهجري، وأشك أنها بلغت مبلغ الأولى ـ القاديانية ـ في أصالة الفساد ودقة المؤامرة ومعاداة الإسلام.

وتبنتها الحكومة الإنكليزية واحتضنتها وساعدتها العوامل الاجتماعية والسياسية والفكرية الكثيرة التي توفرت في عصر ظهورها ، فانتشرت على بعدها من الإسلام، وأصبحت طائفة كبيرة يحسب لها الحساب، وأصبحت (قاديان) مركز دعوة ودعاية وسياسة يدين لها ويؤم شطرها بعض كبار المثقفين ـ الثقافة العصرية ـ ورجال الدولة، ولا يرى نشاطها إلا في المناظرات، وإثارة الشكوك والشبهات في المسلمين وتأييد السياسة الإنكليزية، ونشر الدعاية لعقيدتها الخاصة في الهند وخارج الهند) ثم قال في موضع آخر:(أطبق العلماء على تضليل القاديانيين وتكفيرهم ، وأصبح ذلك كلمة اجتماع لم يشذ منها إلا شاذ ، وأفتوا وألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة ، وأصدرت مركز الفتوى فتاوى صريحة بكفرهم وارتدادهم عن دين الإسلام ، وأصدرت محكمة بهاولبور سنة 1935 م ـ بعد مناقشة طويلة دامت عامين كاملين واشترك فيها كبار علماء أهل السنة وكبار علماء القاديانية ـ حكمها بكفر القاديانيين، وعدم صحة نكاح المسلمة بالقادياني. اهـ (1) .

وقد انتقلت ثمار هذه الدعوة الهامة إلى أفريقية بين المسلمين هناك، فسمى القاديانيون هناك أنفسهم (أحمدية) تمويهًا على الناس وإيهامًا لهم بأنهم منتسبون إلى النبى صلى الله عليه وسلم بينما الحق أنهم ينتسبون إلى غلام أحمد القادياني.

ولقد تطاول القاديانيون على مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك تخبطوا في فهم القرآن الكريم، مما يدل على جهلهم وضلالهم (2) . فالقاديانية ركيزة من ركائز الغزو الفكري للإسلام والمسلمين حتى يومنا هذا.

(1) راجع: الحافظ إحسان إلهي ظهير، القاديانية: ص 6، 7، 26، 28، 31، 32

(2)

الحافظ إحسان إلهي ظهير، القاديانية:: ص 31، 32

ص: 2241

6ـ البابية والبهائية: البابية والبهائية من المذاهب الخطرة والفلسفات المعادية للإسلام، والتي كان لليهود فيها يد طولى، وإن اختيار بلاد فارس ليفرخ فيها هذان المذهبان لم يكن عبثًا من المدبرين والكائدين للإسلام.

وأثر اليهود في الحركتين الخبيثيتين واضح، وذلك أن زعيم البهائية في فترة ما من تاريخها كان أحد حاخامات اليهود، ومنشأ البابية ـ هي أصل البهائية ـ أن الميراز على محمد الشيرازي أغواه يهوديان فأوهماه أنه سيكون له شأن وأدخلا في روعه أنه سيصبح منقذ الإنسانية، فنادى بما ينادى به اليهود، فأنكر البعث والجنة والنار، وقال بوحدة الوجود كما يقول اليهود، وأودع ذلك في كتابه (البيان) ، وصادفت دعوة الميرزا هوى في نفوس بعض الضالين من الفرس، فاغتر ميرزا بهذا وسمى نفسه (الباب) أي الطريق الوحيد الذي يوصل الإنسان إلى الله، وسميت الفرقة التي تبعته (بالبابية) ثم زاد غرور هذا المخدوع فادعى انه (النقطة) أي منبثق الحق وروح الله، وجعل الباب إليه أحد مريديه المخلصين له واسمه (حسين يسرويه) من خراسان (1) .

ولقد ألغى الباب الصلوات الخمس وصلاة الجمعة والجماعة إلا في الجنازة، وأباح نكاح الأخت من أخيها.

وفي مؤتمر برشت 1264 هـ 1847 م أعلن البابيون انسلاخهم عن الإسلام، وحاربوا الإسلام واللغة العربية، ودخلوا مع الحكومة في فارس في حروب ومنازعات أدت في النهاية إلى إصدار الحكم بإعدام الميرزا (النقطة) وخبا صوت هذه الفلسفة الضالة والمذهب المعادي للإسلام حينًا غير طويل من الزمان، ثم أخذ أتباعه يعملون في الخفاء والسرية ودخل فيها عدد كبير من اليهود.

وفي عام 1285 هـ 1867 م خرجت البابية من عكا باسم جديد هو البهائية نسبة إلى زعيمها الجديد ميرزا حسين علي المازندراني الذي يلقب (بهاء الله) .

وقد رعى اليهود ـ ولا يزالون يرعون ـ البهائية، ودفعوا إلى أقطار الأرض يؤيدونها بالفكر والمال، فأصبحت حركة (صهيونية أمريكية) ، وظهر ذلك جليًّا حينما توفي (شوقي رباني) حفيد البهاء، حيث اجتمع المجلس الأعلى للطائفة البهائية في إسرائيل، وانتَخَبَ صهيونيًّا أمريكيًّا اسمه (ميسو) ليكون رئيسًا روحيًّا لجميع أفراد الطائفة في العالم كله.

(1) قارن بما جاء في الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: ص 37

ص: 2242

5ـ محاربة الفكر الإسلامي والدعوة إلى فصله عن جذوره:

كان للغزو الغربي المنظم المخطط، الذي تساندت فيه كل القوى الاستعمارية واستخدمت فيه كل الوسائل والأساليب، آثاره ونتائجه الخطيرة في حياة المسلمين، تلك الآثار التي بدأت تبرز وتتسع يومًا بعد يوم، ومن أخطر نتائج هذا الغزو الفكري شيوع التبعية الفكرية للغرب، والعبودية الذليلة لكل ما يصدر عن الفكر الدخيل من مبادئ وقيم ومناهج وأنظمة وأخلاق وتقاليد وأفكار ومفاهيم.

وكان من مظاهر هذه العبودية بروز أناس يدعون إلى اتباع الغرب في كل شأن من شؤون حياته الفردية والأسرية والاجتماعية، والمادية والروحية والثقافية.

وبرز من بين ظهراني المسلمين من يدعو ـ في صراحة حينا، وبالتواء أحيانًا ـ إلى إطراح الإسلام، وشريعة الإسلام، وحضارة الإسلام.

رأينا ذلك في الهند ورأيناه في تركيا ومصر وفي غيرها من بلاد العرب والإسلام، ورأينا بعض المسلمين في هذه البلاد من يقول لأمته: انسلخي من دينك وتاريخك وشخصيتك، حتى لا تستعبدي للأجنبي. وأي استعباد أشد وأدهي من انسلاخها من ذاتيتها، واتباعها لهذا الأجنبي نفسه، وذوبانها فيه؟ (1)

ولو كان هؤلاء دعاة التغريب مؤمنين حقًّا ما رضوا لأنفسهم ولا لأمتهم بالتبعية والانصهار في خصومها الطامعين فيها، ولو كانوا مسلمين حقًّا لرفضوا كل منهج غير منهج الإسلام، ولم يقبلوا أن يبيعوا دينهم وملتهم ليتبعوا ملة اليهود أو النصارى، فيرضوا عنهم ويثنوا عليهم.

وما أروع القرآن وهو يجلي هذا الموقف إذ يقول: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) .

وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3) .

(1) الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: ص 38

(2)

سورة البقرة: الآية 135

(3)

سورة البقرة: الآية 120

ص: 2243

لقد بذل اليهود والنصارى ومن شايعهما كثيرًا من الجهود لمحاربته وفصله عن جذوره، وكان ذلك وفق مخطط بعيد المدى، جرى تنفيذه مرحلة بعد مرحلة في دقة متابعة خطيرة، وقد ارتبط هذا المخطط بخيوط مختلفة منها الإرساليات التي استقدمت إلى الشرق واستقرت في بيروت والقاهرة واستانبول، ومنها فئة 1860 ومنها مناهج كرومر وليوتن ولاتيمري ودنلوب، ودراكور وزويمر وهانوتو ولورنس وجلوب من بعد (1) ، وهي المناهج التي وضعت ووصفت من بعد بأنها أعمال التغريب، وأشار إليها هاملتون جب المستشرق البريطاني ومعه أربعة في بحث مستفيض ظهر تحت عنوان (وجهة الإسلام) عام 1930 م.

ولقد اشترك الاستعمار والصهيونية والنفوذ الغربي جميعًا في مخطط واحد يستهدف وضع الفكر الإسلامي العربي تحت النفوذ التغريبي ومحاولة غزوه وتدميره والتشكيك فيه، وإثارة الشبهات من حوله من أجل القضاء على الذاتية العربية الإسلامية والتهام هذه الأمة وإذابتها في بوتقة النفوذ العالمي الذي تسيطر عليه اليهودية التلمودية بعد أن استوعبت الفكر الغربي المسيحي واحتوته.

إن أخطر ما يدعونا إليه الغزو الثقافي هو (التبعية) ، وإن أخطر ركائز الفكر الإسلامي هو الأصالة والتميز واستحالة الاندماج أو الذوبان أو الاحتواء في الفكر الأممي.

فالإسلام هوالنموذج المتميز بالتكامل من ناحية بينما الفكر الغربي يتسم بالتجزئة والانشطار، وهو الجامع بين العقيدة والفكر في وحدة لا تفصل، وهو الذي يعتمد على الوحي والنبوة ورسالة السماء أساسًا له، ثم يكون العقل وسيلة من وسائلة والعلم منهجًا يجري في مجراه.

(1) راجع مخططات هؤلاء الدعاة في كتاب (الإسلام والثقافات العربية في مواجهة تحديات الاستعمار) أنور الجندي

ص: 2244

ومن أخطر الوصايا التي تجاهلها المسلمون، والتي كانت بعيدة الأثر في حمايتهم من ضربات الغزو الفكري والتغريب، لو أنهم حرصوا على التمسك بها، هي دعوة القرآن لهم إلى (الحذر) من الأوهام والشبوهات التي حفل بها التاريخ القديم، وذلك بعد أن كشف القرآن عن زيفها وأبان وجه الحق في مختلف القيم التي طرحت، وخالفت كلمة الله، وتعارضت مع الفطرة والعقل.

ولو أن المسلمين تمسكوا بهذا التحذير لكفاهم ذلك عن كثير مما وقعوا فيه من محاذير، وقد بين القرآن الكريم محاولة الاحتواء في أكثر من موضع، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (1) .

وقال جل شأنه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) .

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} (3) .

كما حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الوقوع في خطر العقائد الزائفة وأن الله قد ختم به النبوة والرسالة وأمر المسلمين بما أمرهم به القرآن الكريم من النظر في ملكوت السموات والأرض، كما حثهم على طلب العلم، وبين لهم أن أي علم نافع أوتيه المسلم فهو أحق الناس به.

لقد كان لإحياء الفكر البشري القديم آثاره البعيدة في إثارة الشبهات وإحياء الزندقة والإباحية، غير أن علماء المسلمين وأئمتهم قد واجهوا هذه الأزمة الخطيرة، ودحضوا الشبهات وأبانوا وجه الحق في الأمور كلها.

(1) سورة آل عمران: الآية 100

(2)

سورة البقرة: الآية 109

(3)

سورة النساء: الآية 44

ص: 2245

وفي العصر الحديث حاول الاستعمار الذي دخل إلى بلاد المسلمين وهو يحمل معه التغريب والغزو الثقافي وأداتيهما التبشير والاستشراق، أن يعيد هذه الشبهات من جديد ويقدمها في صورة مذاهب وفلسفات.

ومن أبرز هذه المفاهيم المخالفة للفطرة المعارضة للعقل المختلفة مع رسالة الإسلام ومفهوم القرآن الكريم:

1-

الدعوة إلى إنكار الغيب والبعث والجزاء والجنة والنار.

2-

الدعوة إلى سقوط التكليف عن كل من وصل إلى معرفة الله.

3-

عبادة قوى الطبيعة.

4-

نظريات الفيض والإشراق والاتحاد والحلول.

5-

دعاوى الروحية الحديثة وتحضير الأرواح.

6-

مذاهب البهائية والماسونية.

7-

دعوات الإقليمية كالفرعونية والفينيقية.

8-

فصل الدين عن المجتمع والدولة.

9-

طرح المفاهيم الوافدة في القومية والعدل الاجتماعي والقانون.

10-

الدعوة إلى العالمية والأممية.

11-

ادعاء التعارض بين العروبة والإسلام.

12-

طرح النظرية المادية المنكرة لوجود الخالق.

13-

الدعوة إلى التحلل والإباحية والحرية الدينية والأخلاقية (1) .

وهذه الدعوات كلها قد وجدت في غير بلاد المسلمين، ونشأت هذه الدعوات لا تعرف التوحيد، وأنها هي القاتل التي صرعت الأمم والحضارات، والإسلام جاء ليمحوها ويقيم للإنسانية منهجًا ربانيًّا في مصدره، إنسانيًّا في تطبيقه ، يقوم على العدل والحق والإيمان بالله تعالى.

(1) راجع: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي: ص 53، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ ـ 1983 م

ص: 2246

كما رسم الإسلام للحياة الدنيا طريقها الواضح إلى العمران في نطاق الأخلاق وإقامة المسؤولية الفردية، والالتزام الخلقي وربط الدنيا بالآخرة.

إن هدف أعداء الله هو (ذوبان الشخصية الإسلامية) وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها، واحتوائها بأخلاق الضعف والانحلال والإباحة حتى لا تقوى على مواجهة التحديات.

ذلك أخطر أهداف العدو: بناء أجيال ذليلة ضعيفة، لا تؤمن بحقها، ولا تؤمن بربها، ولا تستطيع البقاء، ولا تصمد أما الخطر والتحدي.

إن إعادة بناء الفكر الإسلامي في إطار الإسلام وعلى قواعده الرئيسية من وحدانية الله، واستخلاف الناس في الأرض تحت حكم الله، إنما يمثل جوهر الأيديولوجية التي لم تتخلف طوال تاريخ الإسلام والتي لا يستطيع العرب والمسلمون أن ينحرفوا عنها.

لقد أثبت الفكر الإسلامي صلابته واستقلاليته وقدرته على البقاء فإنه في عديد من أزمانه لم يسقط ولم يتداع، ولم تضطرب أصول مقوماته، بل بقي محتفظًا بذاتيته في مواجهة الغزو

(1)

.

إن محاربة الفكر الإسلامي وبذل الجهود المتتالية من أعداء الإسلام لفصله عن جذوره سوف تفشل وتتحطم على صرخة الإسلام، وذلك إذا ما تمسكنا بكتاب الله تعالى الذي رسم لنا الطريق المعبَّد بالأمن والاستقرار، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .

إن الطريق الصحيح لمواجهة الغزو الفكري، هو طريق الشريعة الإسلامية والأخلاق الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، وهو الطريق الذي يهدي إلى بناء الشخصية المؤمنة التي تبيع نفسها في سبيل الله، وتسترخص الموت والجهاد في سبيل نصرة الحق.

(1) شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي: ص 74، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ ـ 1983 م

(2)

سورة الأنعام: الآية 153

ص: 2247

المحور الثالث

العلمانية والحداثة

أولًا: ـ اتجاهاتها الخطيرة في محاربة الإسلام.

ثانيًا: ـ الطريق الأنجح في دفع تحركاتهما العدوانية وردّ نشاطاتهما المتنوعة في المجالات الفكرية، والتعليمية والإعلامية

1-

معنى العلمانية وأثرها في فكر المسلمين:

لفظ العلمانية

قد تشعر الكلمة في اشتقاقها أنها تعني رفع شعار العلم، ومن ثم فلا تعارض بينها وبين الإسلام.. بل إنها إحدى وسائل الإسلام وبعض أهدافه.

وهو ما نحسب أنهم قصدوا إليه حين ترجموا معنى الكلمة في لغتها الأصلية.. ليقع المسلمون، في هذا الوهم (1) . فالعلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (Secularism) في الإنجليزية، أو (Secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (العلم) ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة (Scientism)(2) والنسبة إلى العلم هي (Scientific) أو (Scientifique) في الفرنسية.

والترجمة الصحيحة للكلمة هي (اللادينية) أو (الدنيوية) ، لا بمعنى ما يقابل الآخروية فحسب، بل بمعنى أخص هو: ما لا صلة له بالدين أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد، ومن ثم كانت العلمانية تعني اللادينية. فالعلمانية هي أول عناصر الاتجاه الليبرالي الديمقراطي الذي ساد حياة المسلمين بتأثير الاستعمار. وكان ذلك أخطر النتائج، وأعمق الآثار التي حفرها الاستعمار، وخلفها من بعده؛ عزل الإسلام عن الدولة، وعن توجيه الحياة العامة، وعن قيادة المجتمع.

وبعبارة أخرى: العمل على سيادة المفهوم الغربي لما يسمى دينًا، وما يسمى دولة، وتأكيد الفصل بينهما، حتى لا يعود في يوم قريب إلى الدين سلطانه، فيسيطر على الدولة ويوجهها.

يقول المستشرق الفرنسي (هانوتو) : (إن الإسلام دين وسياسة، وإن شعور المسلمين مبهم من حيث الجامعة السياسية أو الرابطة الوطنية، فالوطن عندهم هو الإسلام، وهم يقولون: إن السلطة مستمدة من الألوهية، فلا يجوز أن يتولاها إلا المسلمون)(3) .

ثم أشار (هانوتو) إلى نجاح فرنسا في فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، في تونس، وقال:(إنها قد استطاعت أن تحقق هذا الانقلاب العظيم بلباقة وحذق، دون أن تثير ضجيجًا أو تذمرًا، فتوطدت دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوربية بين السكان بدون أن يتألم منها إيمان المحمدي (يعني المسلم) وبذلك انفصل الحبل بين هذا البلد والبلاد الإسلامية الأخري، الشديدة الاتصال بعضها ببعض) ودعا (هانوتو) في آخر كلامه إلى أن تتخذ تونس مثالًا يقاس عليها ونموذجًا ينسج على منواله.

(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 59، مرجع سابق

(2)

الكنز، معجم فرنسي عربي، جزءان، بيروت ـ لبنان.

(3)

راجع: (تاريخ الأستاذ الإمام)، للسيد رشيد رضا: 2/ 401 ـ 414

ص: 2248

فالعلمانية: أوجدها اليهود لتقضي على نفوذ الكنيسة في أوروبا، وأول ثورة نجح بها في هذا الموضوع هي الثورة الفرنسية، ثم جاءت بعد ذلك ثورات أخرى في أقطار أوربية كثيرة، تمكنت أن تقوم بفصل الدين عن الدولة، وبدأ التعليم العلماني في الدول الغربية بعد تلك الخطوات، وفقدت الكنيسة مكانتها التي كانت تتبوؤها في التربية والتعليم.

هكذا عرف الفصل بين الدين والدولة في أمم الغرب، لقد حدث هذا، لأن رجال الدين عجزوا عن تقديم الحلول الصحيحة السليمة للمشكلات التي كان يعاني منها المجتمع.

أما الإسلام فإنه لا يعرف شيئًا من هذا الفصل المزعوم، والقرآن الكريم يدعو الناس إلى الإيمان بأحكامه الدينية والدنيوية، ويعتبر الإيمان ببعض القرآن والكفر ببعضها الآخر كفرًا، وأن القرآن أنزله الله تعالى ليكون الحاكم بين المسلمين، قال تعالى:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} (1) .

والإسلام ينظم شؤون الفرد والأسرة والدولة، بل ينظم شؤون المجتمعات: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) .

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس القرآن الكريم وأحكام الإسلام ، في الوقت نفسه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة والقائد لجيوش المسلمين، ذلك أن الإسلام يمثل ثلاثة عناصر:

1-

العقيدة.

2-

الشريعة.

3-

الأخلاق.

(1) سورة المائدة: الآية 49

(2)

سورة المائدة: الآية 48

ص: 2249

وإذا كان الغرب قد بذل جهودًا جهيدة في غزو الفكر الإسلامي، فإنه أراد من ذلك إيقاع العالم الإسلامي في براثن الاحتواء الغربي، إذ عند ذاك يتخلى الفكر الإسلامي عن مكانته، وفي ذلك نجاح كبير للصهيونية وأهدافها التي عملت ـ ولا تزال كذلك تعمل ـ من أجل البقاء في فلسطين.

إن الحضارة الغربية تعاني اليوم آلامًا كثيرة وساعة احتضارها ليست بالبعيدة، هذه حقيقة أقرها كثير من كتاب الغرب وفلاسفته الذين عرفوا الحضارة الغربية من الداخل لا من الخارج فقط. ومن أجل ذلك عقد في (إنكلترا) في أوائل القرن التاسع عشر مؤتمر خطير، قرر المؤتمرون فيه هذه الحقيقة ـ حقيقة انهيار الحضارة الغربية ـ لكنهم تواصوا أن يوجهوا سهامهم بعنف وقوة أشد من ذي قبل إلى هذا البديل الذي يحتمل أن يتبوأ مكان الحضارة الغربية، ويحل محلها، هذا البديل هو الأمة الإسلامية: بعقيدتها وشريعتها وقيمها وثقافتها وحضارتها، وقد عملوا منذ يومئذ إلى يومنا هذا على أن يضاعفوا من جهودهم ليفتنوا الأمة الإسلامية عن طريق الغزو الفكري ليتأخر زمن انهيار حضارتهم، وذلك بإذابة (الشخصية الإسلامية) واحتواء (الفكر الإسلامي)(1) .

(1) راجع: المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، إبراهيم النعمة، ط2 ص6 وما بعدها

ص: 2250

2-

آثار العلمانية في التعليم:

كانت البلاد الإسلامية في العصور الماضية إسلامية التعليم، ولكن الاستعمار الغازي كبر عليه أن يترك للمسلمين دينهم بعد أن سلب منهم خيرات أرضهم، وسعى بكل وسائله ليحقق فيهم جهلهم بدينهم مما كان لهذا أعظم الأثر في حياة المسلمين سلبًا، ولقد تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل في المحور الأول (الفقرة الثانية بعد الاقتصاد) .

3-

آثار العلمانية في الإعلام:

العلمانية في التعليم أقدم وأخطر، والعلمانية في الإعلام أعم وأشمل.. ومن هنا تكمن خطورتها، فإذا كان التعليم يخاطب الآلاف بمناهجه، فإن الإعلام يخاطب الملايين ببرامجه؛ وأكثر هذه الملايين ساذجة تؤثر فيها الكلمة، مقروءة أو مسموعة، أو متطورة، وقد بذل الاستعمار جهده في السيطرة على أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية، واستطاع أن يوجه الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية والمسرح، وفنون الغناء، والتصوير، والهدف من ذلك هو تشكيل أجيال وفق قيم وأسس بعيدة عن الإسلام في عقيدته وشريعته، وقد فصلت القول في هذا الموضوع في المحور الأول (الفقرة الخامسة) .

ص: 2251

أما الحداثة: إذا كان المراد منها المدنية الحديثة وما نجم عنها من أنظمة الحياة الإنسانية من مبادئ فاسدة منحرفة، جرت على العالم كثيرًا من العواقب الوخيمة وويلات الثبور والدمار، وسوف تتجرع الإنسانية غصص شرورها ومآسيها وتعاني منها الكثير من الآثار السيئة، والنتائج البشعة ما دامت تسير في ركابها وتتبع خطواتها.

فإن مثل هذه الحداثة والحياة العصرية المنحرفة يرفضها الإسلام، ويدعو إلى قيام المدينة الفاضلة التي تنبثق من أسسه وقواعده، وقد أقام للإنسانية أعظم مدينة عرفها التاريخ.

ونحن المسلمين لا نعيش بمعزل عن هذا العالم، لأننا جزء منه، وقد تأثر نفر من أبناء الشرق بمظاهر تلك المدينة المنهارة، ووقع في أسرها، وأصبح من عبيدها، فلم يعد الشعور بفساد مبادئها وسوء عاقبتها كافيًا لأن تكون بمنجاة منها، وصار من الضروري أن نعمل جاهدين للتخلص من نظام هذه المدينة وتحرير أنفسنا من ربقة قادتها من الغربيين وأتباعهم، وإلا واجهنا المصير السيئ بالسقوط في الهوة المرتقبة التي ينحدر إليها العالم كله يوما بعد آخر، وسيلقى حتفه فيها إن عاجلًا أو آجلًا.

فالحياة الإجتماعية الحاضرة تقوم على مبادئ الزيغ والضلال والنظريات الخاطئة ، والأفكار الهدامة هي التي تسود انحاء العالم.

وأنظمة التعليم ووسائل التوجيه والإعلام تنضح بالشر، وتثير الغرائز، وتهتك الفضيلة وتقتل الأخلاق، وتدعو إلى الإباحية والتحلل، حيث سيطرت على العقول الآداب الماجنة والصحافة الفاجرة، والإذاعات اللاهية والأفلام الخليعة.

والنظام الاقتصادي الذي يتحكم في معيشة الناس نظام منحرف فاسد لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين الحلال والحرام.

والسلطة القانونية التي توجه المدينة وتسخر إمكانياتها تستوحي تصوراتها للأخلاق والتمدن من المبادئ المادية البحتة.

ولهذا يتحتم على المسلمين مقاومة هذه النظم بعزم حديدي لا يعرف الوهن حتى يستبدلوا بها شرعة الله لإنقاذ العالم كله أولًا ، من تلك العواقب الوخيمة، وإنقاذ أنفسنا بالتالي منها، وهذا أمر يحتاج إلى جهاد مرير متواصل للقضاء على أنظمة الحياة الفاسدة، وإقامة قواعد الحياة الإنسانية بشتى نظمها على شرع الله الذي نؤمن بصلاحه، ونثق في قدرته على إسعادنا وتوفير الرفاه والسلام لنا، ونعتقد أنه الوسيلة الوحيدة لنجاة الإنسانية كلها وخلاصها.

والمدنية الحديثة التي يقوم في ظلها نظام الحياة الحالي بمختلف فروعه العقائدية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والثقافية ترتكز على دعائم ثلاث هي المبادئ الرئيسية الآتية:

1-

العلمانية أو اللادينية (Sacularism) .

2-

القومية (Nationalism) .

3-

الديمقراطية (Democracy) .

وهذه المبادئ الثلاثة خاطئة فاسدة، وهي منبع الشرور والمصائب والمآسي التي تعاني الإنسانية من جرائها اليوم ما تعانيه.

أما كيف ننتقد هذه المبادئ؟ وما المنهج الذي نسلكه في نقدها فهذا يحتاج إلى بحث مستفيض، لا يتسع المقام للخوض فيه، راجع مزيدًا في التفصيل ـ في كتاب ـ الإسلام والمدنية الحديثة أبو الأعلى المودودي، ص 27 وما بعدها.

ص: 2252

أسس ووسائل مقاومة الغزو الفكري

إن الغزو الفكري الذي عمت ضلالته، وكثرت اتجاهاته، إن لم نقف أمامه وقفة جادة فسوف تكون العاقبة أليمة، والخطب جسيمًا (ولات ساعة مندم) ، ذلك أن نصر الله وتأييده يتوقف على مقدار تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وإن الهزائم التي تعرضنا لها كانت نتائج طبيعية لبعدنا عن القرآن والسنة، قال جل شأنه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) .

وقوله جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2)

فوسائل مقاومة الغزو يجب أن تشمل المباشرة وغير المباشرة، المدرسية واللامدرسية، والجماعية والفردية، والداخلية والخارجية، البشرية والمادية، التقليدية والمستحدثة، الدفاعية والهجومية.. وبذلك لا نترك وسيلة من غير استثمار، ولا أداة بغير توجيه.

(1) سورة الشورى: الآية 30

(2)

سورة الرعد: الآية 11

ص: 2253

ومقاومة الغزو الفكري عمل كبير لا يمكن أن يقوم على الاجتهادات الفردية، بل لابد من تخطيط مدروس، وأسس عميقة لكي نستطيع مواجهة الغزو الفكري، مواجهة نشطة. ولا يمكن الإحاطة بكل وسائل المقاومة في مثل هذه العجالة لأن هذا موضوع يحتاج إلى بحوث متعددة، وسوف أشير إلى أهم هذه الوسائل بإيجاز كما بدا لي:

1-

إنشاء لجان عملية متخصصة لرصد الكتب والدوريات القديمة والجديدة، في مجال الأدب والتاريخ والثقافة، والتي تحمل كثيرًا من السموم والشبهات حول الإسلام في جميع نواحيه والتي كتبها المبشرون والمستشرقون عن الإسلام بهدف التشكيك فيه.

2-

إنشاء دوريات بلغات متعددة ونشرها في البلدان القريبة لتعريف الناس بالإسلام، وبيان الأخطاء التي وقعت في كتب المبشرين والمستشرقين عن الإسلام.

3-

عقد المؤتمرات العلمية في البلدان الغربية، يشارك فيها العلماء المسلمون المتهمون بالغزو الفكري، ويدعى لها علماء الغرب المهتمون بدراسة الإسلام.

4-

إقامة صلات علمية بالمبشرين والمستشرقين لبيان الجوانب التي أخطاوا في فهمها أو عرضها.

5-

تبني إعداد الرسائل العلمية في الجامعات الإسلامية للرد على حملات الغزو الفكري، تترجم فيما بعد إلى لغات أخرى.

ص: 2254

6-

إدخال مادة الغزو الفكري كمقرر إجباري يدرسه جميع الطلاب في المرحلة الثانوية والجامعية لمعرفة هذا الخطر الذي يهدد كيانهم، ويقضي على الإسلام من داخله.

7-

الشمول لكافة القطاعات والفئات: إذ كان الغزو موجهًا لجميع جوانب ونظم حياتنا، فلابد أن يكون الدفاع كذلك عن جميعها بحيث لا تترك جبهة يمكن للغزو الفكري أن يتسلل منها، أو يتغلغل فيها، فيشمل الرد على الغزو الثقافي في مجالات التعليم والإعلام والاقتصاد، فتكون هذه المجالات معبرة عن وجهة نظر الدولة الإسلامية.

لهذا كله يبدو (الشمول) كأول أساس في استراتيجية مواجهة الغزو الفكري بحيث لا يجد الغازي ـ الواضح أو المستتر ـ جانبًا يستطيع تحصنًا فيه، أو جيبًا يستطيع تحوصلًا في داخله (1) .

8-

التنسيق بين الدول والهيئات: إذ كان للغزو الفكري بنوك معلومات، وغرف عمليات بين كافة دوله وهيئاته الرسمية والشعبية، العلنية والسرية، فكذلك ينبغي أن يكون الأمر في المقاومة، بل ينبغي أن يتجاوز ذلك ويعلو عليه.

فمن المستحيل على بلد إسلامي بمفرده ـ أيا كان حجمه، وأيا كانت إمكاناته ـ أن يواجه تيارات الغزو بمفرده، أو يتغلب على الطوفات بمعزل عن زملائه وإخوانه في الإسلام.

وإذا كان هذا التنسيق ضرورة وجود لجميع الدول الإسلامية، فينبغي أيضًا أن يكون ضرورة حياة لجميع الهيئات الإسلامية داخل البلد الواحد، بحيث تتكامل الجهود، وتتكاتف الإمكانات وتتآزر القوى.

أما الفرقة والتناحر، فلا نتيجة لها إلا تبديد الجهود، وتمزيق الصف، وتفتيت الشمل، ومن هنا لابد للدول الإسلامية ـ إن أرادت العزة والمنعة والتمكين في الأرض ـ أن تغلق باب الخلاف وتفتح باب الوفاق، وتوجه إمكاناتها وجهدها للعدو الأصلي. وللخطر الداهم في إطار من العقيدة والشريعة، وبذلك تصنع الحاجز الحقيقي، والسد المنيع ضد التسلل للغزو الفكري داخل ديار المسلمين، وهذا ما ندبهم إليه القرآن لكريم، ليتعاونوا على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) .

9-

الاعتماد على الذات: من أنجع الوسائل في مقاومة الغزو الفكري، أن نعتمد على أنفسنا، ويظهر هذا الاعتماد في أمور مختلفة، وجوانب متعددة، من بينها الفكر، والمعلومات، والعاملون، والميزانية، فإذا كانت مقاومة الغزو الفكري تعتمد على أفكار مستوردة، ونظريات مستعارة، يستحيل أن تكون هذه المقاومة فعالة ولها نتائج إيجابية، ومن هنا فلابد أن نركز على الإسلام عقيدة وشريعة، نظريًّا وتطبيقيًّا، فلكي نستطيع مقاومة الغزو ـ ينبغي أن تكون مُثل الإسلام ومفاهيمه وقيمه ومضامينه واضحة في أذهان القيادات والدعاة والمسؤولين والولاة، ففاقد الشيء لا يعطيه.

10-

تعدد وسائل الدفاع والهجوم: فالمقاومة التي يكتب لها النجاح والاستمرار يجب أن لا تقتصر على جانب دون آخر لأن البعض منا قد يتصور أحيانًا أن الخطبة والعظة، والدرس والتوجيه هي أفضل وسائل الدعوة، وأقوى وسائل الرد والكشف، بيد أن الأمر يتجاوز ذلك، ومن هنا كان لابد لوسائل الدفاع والهجوم أن تتجاوز ذلك إلى الكتاب والمجلة والصحيفة، والبرنامج الإذاعي، وبرنامج التلفاز، والمسرحية الإسلامية، والقصة والشعر، والنادي الإسلامي، والنشاط الرياضي والترويحي الموجه وجهة إسلامية، والمتحف والمعرض الإسلامي، والمكتبة والمرسم، والمختبر والمسجد فمن أخطر ما يكون أن نتصور أن مقاومة الغزو يمكن أن تكون بالكلمة وحدها، مع أن الهجوم بمختلف الأسلحة، وعلى سائر الجبهات.

(1) راجع: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 84، مرجع سابق

(2)

سورة المائدة: الآية 2

ص: 2255

11-

دراسة نفسية المهاجمين والمقاومين: من وسائل مقاومة الغزو الفكري، الدراسة العميقة العلمية لنفسية المهاجمين من أعداء الإسلام، ومعرفة نفسية المدافعين عن الإسلام من أهل التوحيد.

فكيف لنا أن نعمل بطريقة علمية ومنظمة ونحن لا نعرف أهداف الغزو المعرفة الكافية؟ ومن المؤكد أنه لا تكفي المعرفة السطحية، أو المعرفة المبنية على سرعة حكم، كما أن المعرفة المبنية على معلومات قديمة وخبرات سالفة لا تكفي، لأن الغزو يغير من أساليبه وألوانه، كما قد يغير من أهدافه، ويبدل في ترتيب أولوياته، من هنا فلابد من دراسة متعمقة دونما تحيز أو انفعال لهذه الغزوات لتحليل أساليبها وتطورها، وللوقوف على أسرارها ودقائقها.

ومثل هذه الدراسة تقتضي حيطة ونزاهة، وموضوعية، وأمانة، وجلدًا ومثابرة، وطول نفس وأناة، ومعاشرة وفهم، وبذلك كله نستطيع اكتشاف الدوافع والاتجاهات والوسائل والغايات.

أما دراسة نفسية المدافعين من المسلمين، فلابد من دراسة عميقة لنفسية الجماعات الإسلامية في مختلف بقاعها ومناطقها، وأن تكون هذه الدراسة شاملة للاحتياجات والدوافع، وللمحركات والمثيرات، وللاستجابات وردود الفعل، فقد تكون المشكلة في جماعة إسلامية نقص خدمة طبية، أو نقص تموين أو مياه، وقد تكون المشكلة نقص مدارس وجامعات، أو ضعف تمويل أو ادخار، وقد تكون المشكلة في عدم وجود سوق للعمل، أو سوق لتصريف المنتجات، وقد تكون في الجهل والأمية بأنواعها ودرجاتها المختلفة.

من هذه الثغرات يتسلل الاستعمار، وتتغلغل الشيوعية، وتحاول الصهيونية والمؤسسات المرتبطة بها تدميرًا وتخريبًا لأصالتنا، وتفكيكًا لعرى ديننا ووحدتنا.

لهذا كله لا بد من الدراسة العميقة لنفسية وظروف ومتغيرات كل جماعة استهدفت أو تستهدف للغزو حتى نفهم الأرضية الثقافية، والنقص الموجود، والثغرة التي حاول الأعداء التسلل منها.

فالعدو يدرك نقطة الضعف ومركز الاهتمام وينهال عليه (1)

(1) انظر: مزيدًا من التفصيل في وسائل مقاومة الغزو الفكري ص 132 وما بعدها

ص: 2256

12-

الدفاع والتبليغ: فمن بين الأسس الراسخة التي يجب اعتمادها في مقاومة الغزو الفكري أن المقاومة خير وسيلة للدفاع، والوقاية خير من العلاج، والتحصن المبكر أفضل من انتظار العدوى، لهذا من الطبيعي جدًّا أن تتحرك المقاومة في خطوط متواصلة، ودفاعات منتظمة بحيث لا تنتظر في قواعدها وخنادقها، بل تتقدم في نقاط أمامية، ومواقع تبادلية.

فبدلًا من انتظار وقوع الغزو علينا استخدام كل الوسائل التي تحول دون وقوعه.. كما ينبغي الانتقال إلى مواقع الأحداث لأن ذلك يتيح لنا متابعة ذكية، وصدًّا نشطًا واكتشافًا مبكرًا، وبذلك نتابع الأحداث فور وقوعها، ونتعقب التغييرات حال قيامها مما يجعلنا باستمرار على بينة بما يدور على المسرح وخلف ستائره، بما يجري عندنا وحولنا، ومثل هذه المتابعة لا تقتصر على مجرد رصد الأحداث، بل المشاركة أيضًا في صنعها.

فالقوة اليوم ليست في انتظار ماذا سيحل بنا من هجوم، أو يطرأ علينا من غزو، بل في تداركه قبل وقوعه، واكتشافه قبل بدايته.

لهذا كانت الدعوة الإسلامية دفاعًا وتبليغًا (1) .

13-

التربية الإسلامية: لا سبيل إلى تحقيق تلك الأسس والوسائل التي تحدثنا عنها فيما مضى إلا بالتربية الإسلامية، والتنشئة الإسلامية، التي يمكن بها إعداد الإجيال إعدادًا صالحًا وسليمًا ومستقيمًا، وراسخًا وعميقًا، وبهذه التربية نضمن حصانة للأجيال يعصمها من الانحراف، ويمنعها من الانزلاق.

لقد انتصر المسلمون بالتربية الصالحة، وبناء الأجيال وصياغتها على الإيمان والرجولة، ثم إعادة صياغتها كلما واجهتهم الأزمات، وفي مختلف الأحداث الضخام، ففي مواجهة حملات الصليبيين والتتار والفرنجة أعاد المسلمون تكوين الفرد المسلم على أخلاق الإسلام، فاستطاعوا أن يحققوا النصر على نفس المستوى الذي حققه المسلمون الأوائل، أو قريبًا منه.

وقد فهم المسلمون أن التربية في مفهوم الإسلام تعتبر الفرد المسلم بناء متكاملًا ، قوامه الروح والعقل والجسم، وتعني به وفق فهم شامل، أساسه الإيمان بالله، والعمل في الأرض من أجل النماء والبناء والإنشاء.

وتقوم التربية الإسلامية على بناء الفرد في البيت بالقدوة، وإقامة علاقة وطيدة بين البيت والمدرسة من خلال الأب والأستاذ والمتعلم جميعًا، كما أكد علماء التربية الإسلامية على ضرورة تلقي العلم من الأساتذة لا من الكتب وحدها، وربطوا بين التعليم والتربية على أساس أن العلم وحده لا يكفي، مالم تصحبه تربية الذوق والعقل والروح.

وقوام التربية الإسلامية أساسًا هو (الأخلاق) ، ولا يقر الإسلام الفصل بين التعليم والتربية أو بين التربية والأخلاق.

وفي مفهوم الإسلام: أن العلم لابد أن تحميه وتظاهره قيمة أخلاقية واضحة، وذلك حتى لا ينحرف أو يفسد أو يتجه وجهة ضارة بالمجتمع الإنساني؛ لقد آمن المسلمون بأن العلوم الحديثة لا تنهض بالمسلمين نهوضًا حقيقيًّا إلا إذا حصلت ضمن دائرة لغتهم وتاريخهم ومشربهم.

(1) وسائل مقاومة الغزو الفكري: ص 148 وما بعدها

ص: 2257

ومن هنا حق عليهم أن يترجموا العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية، والتكنولوجية، والطبية جميعًا إلى لغتهم، ثم ينطلقوا من خلالها إلى بناء قوتهم الذاتية على مقتضى بناء الأجيال المسلمة المحصنة بالإيمان والتقى ، المفطومة عن الشهوات، المندفعة لتحقيق رسالة المرابطة في الثغور في سبيل حماية الحدود مع الأعداد بالقوة لإرهاب العدو، ثم إقامة المجتمع الإسلامي على النحو الذي رسمه القرآن الكريم، وبينته السنة المشرفة (1) .

14-

البعثات إلى خارج بلاد المسلمين: المسلمون كفُرادى وجماعات في المجتمع الإنساني لا يمكن أن يعيشوا بمعزل عن العالم من حولهم، فلابد من الاختلاط بالناس على مختلف مستوياتهم وتباين ثقافتهم وبلدانهم، وقد تضطرنا ظروف الدراسة والعمل إلى إرسال بعثات ومهمات للخارج تستغرق شهورًا أو سنينًا.

وهذا مطلب ضروري وهام لا يمكن التراجع عنه لصالح التنمية: إنتاجًا وخدمات، كما أن وجود شركات أجنبية كثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية قد يلزمها ابتعاث عدد من خبراتنا وفنيِّينا وعمالنا للتدريب في مراكزها.

وهذا مطلب حيوي ونافع يسهم في إعداد رأس مال بشري قاعدة كل تنمية، وأساس كل تطوير إداري وتقني، وهذا أمر مشروع وعادل، لا غبار عليه.

إلا أن هذه البعثات والمهمات من غير توجيه وتحصين، واهتمام ورعاية قد ينفرط عقد بعض أصحابها: فقد لا يعودون إلى الوطن، أو يعودون وقد أصبحوا من الرافضين لكل ما هو إسلامي، ومن المنادين بكل ما هو غربي.

(1) راجع: مزيدًا من التفصيل في: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، ص 398 وما بعدها، أنور الجندي، مرجع سابق

ص: 2258

وهؤلاء هم قادة الغد.. وهم الذين سيضعون، وينفذون خطط التنمية التي تنعقد عليها الآمال.. وهم الذين أنفقنا في سبيلهم كل غال ورخيص من أجل تعليمهم، وانتقائهم، وابتعاثهم، وهم الذين سيحتلون المراكز الهامة في الجامعات ومراكز البحث، والوظائف العليا.. وهم الذين سيديرون المؤسسات بعد تدريبهم وإعدادهم لشهور أو سنوات.. إلخ.

ويمثل هذا القطاع من المسلمين قلب التنمية والتقدم، لهذا كان مستهدفًا أكثر من غيره؛ وأجهزة الغزو تحاصر طلاب البعثات قبل ابتعاثهم، وبعد عودتهم إلى أوطانهم، وفي بعض الحالات تكون مسؤولة عن الانتقاء والإشراف على المبعوثين (1) .

ولاشك أنها تحاول اصطياد هؤلاء أثناء دراستهم وتدريبهم على أساس أنهم قادة المستقبل، وزعماء الغد، وهناك عشرات الأمثلة المشهورة والخفية لعملية الانتقاء، الإعداد، التجهيز، الابتعاث، الإشراف، العودة، التصعيد، والمؤازرة بالدعم.

ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه ليس كل مبعوث يتأثر بأجهزة الغزو الفكري، بل هناك آلاف مؤلفة أثناء بعثتهم وبعد عودتهم كانوا خير مثال للإسلام والمسلمين، وبعضهم كان من الدعاة إلى الله المخلصين، وقد عادوا إلى بلادهم أكثر تمسكًا بدينهم لأنهم عرفوا قيمة الإسلام، فالقضية ليست في البعثة، بل في المبعوث؛ ومع وجود هذه العناصر الطيبة بين المبعوثين، ولكي نضمن سلامة كل المبعوثين فلابد من مجهود إداري وبشري ومالي مضاعف لخدمة مبعوثينا بالدعوة الهادفة، والكلمة الطيبة، والمطبوعة الواضحة، واللقاء المثمر، والتوجيه الفعال، والنشاط المنتج، والإشراف الأبوي، والمشرفين الأكفاء، والتنظيم الجيد، والدعم المالي، وزيادة أقطار الدعوة والتنسيق بين الدول، والتعاون بين المنظمات، وعدم التطاحن، وانتقاء قيادات الإشراف، فبمثل ذلك التدعيم والتحصين يمكن لنا حماية بعثاتنا بقدر الطاقة والاستفادة منها بقدر الإمكان (2) .

(1) في حالات كثيرة تختار شركات وهيئات عددًا من الطلاب والمتدربين، وبناء على المنحة أو حتى البعثة الحكومية تشرف هذه الهيئات على طلابنا وتتابعهم وتكتب عنهم تقريرها.

(2)

انظر: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 194

ص: 2259

وختامًا: فلعل القارئ الكريم يجد فيما كتبنا المنبه الذي يلفت نظره إلى خطورة الغزو الثقافي، ويكفيه أن يفتح عينيه لكي يرى بنفسه أمارات هذا الغزو قائمة حوله، وربما يستطيع أن يستخلص من الوقائع المعروضة لنظره، نتائج لم تلفت انتباهنا، أو غفلناها عمدًا خلال هذا العرض احتياطًا من التطويل ورغبة في الموضوعية.

إن المسلم في هذا العصر مدعو لأن يفهم دينه فهمًا صحيحًا ، ويجعل من نفسه قرآنًا يمشي على رجلين: يتمثل أوامر الله ونواهيه، منشرح الصدر، لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى الله ورسوله، ويسلم به تسليمًا، ثم يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة عن بينة وبرهان، متبعًا أسلوب القرآن الحكيم في دعوة الناس إلى الهدى.. فهل في الوجود من هدي أعظم من هدي الإسلام؟

إن العالم ـ كله ـ اليوم، يخطط البرامج، ويضع المناهج من أجل إطفاء نور الشريعة أو حجب شمسها عن العالم.. فهل ينتبه المسلمون إلى ما يراد بهم وبدينهم؟

يقول الحق جل شأنه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .

وحين تتجه البشرية إلى الإسلام، فعندئذ فقط يصبح التقدم العلمي والتكنولوجي دافعًا إلى الأمام، ومعينًا على الخلافة الراشدة، بدلًا من وضعه الحالي، الذي يدفع البشرية إلى الإنحلال النفسي والخلقي، كما يدفعها إلى الدمار..

والدلالات التاريخية التي أبرزت الصحوة الإسلامية إلى الوجود اليوم، في الوقت الذي تميل فيه الحضارة المادية الغريبة إلى الهبوط، هي قدر الله الغالب، الذي يشير إلى المستقبل، وحين يقف العالم ـ كله ـ يحارب الإسلام الذي هو قدر الله تعالى، فمن يكون الغالب، ومن يكون المغلوب؟

قال جل شأنه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) . وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .

وكل ما نتمناه هو أن تقوم في البلاد الإسلامية رابطة من المثقفين لكشف هجمات الغزو الفكري على الإسلام، ورد هجماتهم على حصوننا، وبذلك نكون قد أدينا بعض ما أوجب الله علينا، وسوف يكتب لنا في النهاية النصر على أعدائنا:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

(1) سورة التوبة: الآية 32

(2)

سورة المجادلة: الآية21

(3)

سورة يوسف عليه السلام: الآية: 31

(4)

سورة الحج: الآية 40

ص: 2260

أهم مراجع البحث (1) .

مرتبة على حروف المعجم

1-

الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، الطبعة الرابعة، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ 1978 م.

2-

أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: د. علي محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق دار الاعتصام.

3-

الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: د. محمود حمدي زقزوق، كتاب الأمة، الطبعة الأولى، صفر 1404 هـ.

4-

الاستشراق والمستشرقون، مالهم وما عليهم، د. مصطفي السباعي، طبعة المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.

5-

الإسلام والثقافات العربية في مواجهة تحديات الاستعمار: أنور الجندي، دار الاعتصام.

6-

الإسلام والحضارة الغربية: محمد محمد حسين، نشر دار الفتح، طبعة ثانية، 1393 هـ.

7-

البرهان في علوم القرآن: الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، الطبعة الثانية 1391 هـ ـ 1972 م، بيروت.

8-

تاريخ السودان الحديث: ضرار صالح ضرار، مكتبة الحياة، بيروت، طبعة رابعة، 1968م.

9-

تاريخ الفرق الإسلامية: د. محمود محمد مزروعة، دار المنار، طبعة أولى، 1412 هـ 1991 م.

(1) هناك مراجع كثيرة في الهوامش لم أذكرها خشية التطويل

ص: 2261

10-

تاريخ القرآن: د. عبد الصبور شاهين، لبنان ـ بيروت.

11-

تاريخ القرآن، لابن عبد الله الزنجاني، الكتاب العربى.

12-

التاريخ الكبير: الإمام البخارى، الدار اللبنانية.

13-

التبشير والاستعمار: مصطفي خالدي وعمر فروخ، دار صادر، بيروت.

14-

تجديد التفكير الديني، الدكتور محمد إقبال، دار الكتب اللبنانية.

15-

التعليم باللغات الأجنبية في المدارس الرسمية

إلخ القاهرة سنة 1400 هـ.

16-

تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير الدمشقي، دار الفكر، بيروت.

17-

تقريب التهذيب، للإمام ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 1395 هـ ـ 1975م.

18-

تهذيب التهذيب، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية. الهند (مصورة بدار صادر، بيروت) .

19-

حصوننا مهددة من داخلها: محمد محمد حسين، الطبعة الخامسة، المكتب الإسلامي، 1398 هـ 1978م.

20-

الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، ربيع 1397 هـ مارس 1977 م.

21-

دراسات في الحديث النبوي، وتاريخ تدوينه، د. محمد مصطفي الأعظمي، المكتب الإسلامي، سنة 1405 هـ ـ 1985 م.

22-

دراسات في القرآن: الدكتور السيد خليل، دار الفكر، بيروت.

23-

دائرة المعارف الإسلامية، طبعة دار الشعب بالقاهرة.

ص: 2262

24-

سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر.

25-

السنن الكبري، للإمام البهيقي، أحمد بن الحسين بن على البهيقى، طبعة أولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في حيدر آباد ـ الدكن ـ الهند 1344 هـ.

26-

السنة ومكانتها في التشريع: الدكتور مصطفي السباعي المتوفى سنة 1964 م ـ طبعة ثانية ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت 1398 هـ.

27-

سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية، أنور الجندي، دار الجيل، بيروت، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. الطبعة الثانية، 1405 هـ ـ 1985 م

28-

شرح إحياء علوم الدين، المرتضى الزبيدي، دار الفكر، بيروت.

29-

شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، سنة 1403 هـ ـ 1983 م.

30-

صحيح البخاري بحاشية السندي، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر، بيروت.

31-

صحيح ابن حبان: ترتيب الأمير علاء الدين الفارسي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة المجد، الطبعة الأولى سنة 1390 هـ ـ 1970م.

32-

صحيح المسلم للإمام ابن الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

33-

طبقات ابن سعد، للإمام محمد بن سعد بن منيع البصري، دار صارد، بيروت، 1376 هـ 1957 م.

34-

العواصم من القواصم، لأبى بكر بن العربي بتحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، بالقاهرة، 1371 هـ.

35-

الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة مساعد اليافي

ومحب الدين الخطيب منشورات العصر الحديث، الطبعة الثانية، جدة سنة 1387 هـ.

ص: 2263

36-

الغزو الفكري للتاريخ والسيرة: سالم على البهنساوي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، سنة 1406 هـ.

37-

الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، (مجموعة بحوث) سنة 1401 هـ ـ 1981م.

38-

قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، د. زغلول راغب النجار، كتاب الأمة الطبعة الأولي، صفر 1409 هـ.

39-

كتاب المصاحف، لابن داود: آثر جفري.

40-

مباحث في علوم القرآن: الدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، طبعة 13، سنة 1981 م.

41-

المدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة المدارس ـ الدوحة ـ قطر 1411 هـ ـ 1991 م.

42-

المدخل لدراسة القرآن الكريم: محمد محمد أبو شهبة، الطبعة الثانية، الأزهر 1958.

43-

المدخل إلى القرآن: بلاشير، ترجمة رضا سعادة.

44-

المرشد الوجيز، لأبي شامة، دار الفكر، بيروت.

45-

مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، بتحقيق أحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف بالقاهرة.

46-

المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله النيسابوري (الحاكم) طبع حيدر آباد، 1341 هـ.

47-

المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، إبراهيم النعمة، طبعة ثانية.

48-

المستشرقون والمبشرون في العالم العربي الإسلامي، مكتبة الوعي بالقاهرة سنة 1384 هـ.

49-

ما يقال عن الإسلام، موسوعة العقاد الإسلامية، المجلد الخامس، دار الكتاب العربي، بيروت، 1391 هـ.

50-

من قضايا القرآن، د. إسماعيل أحمد الطحان، المكتبة العربية، الدوحة ـ قطر.

51-

الموافقات في أصول الأحكام، للإمام إبراهيم بن موسى الغرناطي المعروف بالشاطبي المتوفي 790 هـ، مكتبة محمد علي صببيح وأولاده، القاهرة.

52-

وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي، تأليف الدكتور حسان محمد حسان، 1401 هـ.

53-

واقعنا المعاصر: الأستاذ محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى، سنة 1407 هـ ـ 1986 م.

ص: 2264

المناقشة

الغزو الفكري

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الغزو الفكري هو موضوع هذه الجلسة المسائية والعارضان هما الشيخ محمد معروف الدواليبي والشيخ محمد نبيل غنايم، وحيث إن الشيخ محمد معروف قد تضمن عرضه اليوم في الجلسة الصباحية فإنا نرجو من الشيخ محمد نبيل غنايم أن يتفضل، والمقرر هو الشيخ البيهقي.

الدكتور محمد نبيل غنايم:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

أيها الحضور الكرام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد

فالبحوث المقدمة في موضوع الغزو الفكري وبنوده تربو على العشرة، أولها ورقة مقدمة من معالي الدكتور معروف الدواليبي حول ندوة أمريكا والإسلام وتحديات التسعينات التي نظمها قبل أيام معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي في واشنطن، وقد تفضل معاليه بالكلام عنها في الجلسة الصباحية.

والبحث الثاني تقدم به فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، وقد قسم بحثه إلى خمسة فصول، تناول في الأول منها مقدمة عن الغزو الفكري وأهدافه بصفة عامة، وفي الثاني قدم نموذجًا تطبيقيًّا لآثار هذا الغزو في إيران، وفي الفصل الثالث تكلم عن كيفية مواجهة هذا الغزو وإحباط مخططاته بالرجوع للمصادر الإسلامية والعمل بها في جميع مناحي الحياة وليس بالإعلام السطحي المعتمد على الشعارات الجوفاء، وفي الفصل الرابع تناول شبهات أعداء الإسلام في مصدريه الرئيسين القرآن الكريم والسنة النبوية، من حيث التشكيك في حجة الاستدلال بالقرآن الكريم والاستدلال بالنسبة النبوية، وأثبت بطلان تلك الشبهات، ثم تناول في الفصل الخامس علاقة الإسلام بالحكم والدولة وأكد التحامها ورد على شبهات العلمانين في ضرورة فصل الدين عن الدولة وأبطلها بأسلوب جميل وعرض طيب.

أما البحث الثالث فهو لفضيلة الحاج شيت محمد ثان، وقد جاء مختصرًا وأشار فيه إشارات سريعة إلى معنى الغزو الفكري وخطورته ومنافذه، ثم أشار إلى عدد من مجمل من الشبهات التي أثيرت حول القرآن الكريم والسنة النبوية ولم يقم بالرد عليها، كما تحدث إجمالًا عن كل من العلمانية والقومية والصهيونية، وفي النهاية قدم عدة مقترحات وأساليب لمقاومة هذا الغزو والقضاء عليه.

والبحث الرابع من إعداد الدكتور أبو بكر دوكوري، وقد ركزه حول الشبهات التي أثيرت ضد التشريع الإسلامي والعمل على عدم تطبيقه لعدم مرونته ولعدم صلاحيته ومناسبته للعصر وأنه من آراء الفقهاء وابتكارهم، وأحكامه تتسم بالقسوة والوحشية، ومذاهبه الكثيرة ، وفرق المسلمين العديدة ، وقام بالرد على كل منها بما أبطلها وبين جمال التشريع الإسلامي وعظمته وصلاحيته لكل زمان ومكان لما فيه من المرونة والقواعد والثوابت والمتغيرات التي تناسب كل عصر وتلبي احتياجات كل أمة.

ص: 2265

أما فضيلة الشيخ الحاج تيرنو عبد الرحمن فقد بين في مقدمة بحثه تعريفًا للغزو الفكري، ومفهومه ثم قسم بحثه إلى أربعة أبواب، تناول في الباب الأول منها الدعوة إلى القومية، وبين في فصول هذا الباب الخمسة آثارها في المجتمع العربي والإسلامي وموقف الإسلام منها، وفي الباب الثاني تحدث عن التبشير وآثاره في إفساد عقائد المسلمين وإعلامهم وثقافتهم وتربيتهم، أما الباب الثالث فقد تحدث فيه عن أساليب الغزو الفكري في التشكيك من طعن في القرآن إلى طعن في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طعن في الإسلام عقيدة وشريعة إلى طعن في المسلمين، وخصص الباب الرابع للكلام عن العلمانية ووسائل نشرها وآثارها في التعليم والقانون والإعلام.

أما الدكتور أحمد السايح فقد تحدث عن مفهوم الغزو الفكري وبين أسبابه المتمثلة في العداء الصليبي للإسلام والمسلمين والرغبة في استعمار بلادهم وعقولهم وتقدم الغرب العلمي وتخلف المسلمين فكريًّا واجتماعيًّا في العصر الحديث، ثم تكلم عن مظاهر الغزو الفكري من حملات تشويه إلى إحياء النزاعات الجاهلية والقومية وإبعاد العلماء عن مراكز التوجيه والسلطة والتعليم والثقافة والخدمات الاجتماعية، ومثّل لحملات التشويه ببعض المطاعن في القرآن الكريم والسنة النبوية وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتشويه التاريخ الإسلامي والتراث الإسلامي وغير ذلك، ثم انتقل إلى تيارات الغزو الفكري وحركاته وتناول منها بالتعريف وبصفة خاصة الاستشراق والتبشير والصهيونية والماسونية والعلمانية والقومية والتغريب والوجودية وغيرها، ثم تناول أهداف الغزو الفكري في القضاء على الإسلام وتعاون جميع التيارات والحركات في تحقيق هذا الهدف الكبير عن طريق عدة أهداف جزئية يقوم كل تيار بتحقيقها، ثم عقد القسم الأخير لنقد الغزو الفكري ومواجهته مع التركيز على الاستشراق والتبشير باعتبار الاستشراق المنجم الفكري الذي يمد المبشرين والمستعمرين بأدوات الهدم ومعاول التخريب التي يعملون بها في تخريب الإسلام وأهله، وقدم لهذه المواجهة عدة أصول ومقترحات طيبة.

ص: 2266

وأما بحث فضيلة الشيخ القاسم البيهقي المختار فقد جعل تحت عنوان (المسلمون وتحديات الفكر المعاصر) ، تحدث في المدخل الرئيسي عن عظمة الإسلام وأثره وانتشاره، ثم عن المواجهة بين الإسلام والفكر الغازي منذ الحروب الصليبية وحتى وقتنا الحاضر حيث كان الغزو أولًا عسكريًّا ثم أصبح فكريًّا، وقد أخذ الغزو الفكري طريقه إلى المسلمين عبر عدة قنوات منها: التعليم والاقتصاد والسياسة والتشريع والإعلام والثقافة والأخلاق والحياة الاجتماعية وكل مظاهر الحياة، ثم تقدم تطبيقات لهذا الغزو فتحدث عن العلمانية وآثارها وعن حملات التشويه للقرآن الكريم واللغة العربية، وقدم نداء إلى المسلمين باليقظة والاعتزاز بالإسلام، ورسم طريقًا للخروج من المأزق بالعودة إلى العقيدة الصحيحة والشريعة الصافية في القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامي الصحيح، ودعا إلى تطبيق الإسلام في كل مجالات الحياة.

وتناول فضيلة الدكتور عمر يوسف حمزة الغزو الفكري من حيث منافذ دخوله ووسائل مقاومته فالتقى مع البحوث السابقة في منافذ الغزو الفكري: في الاقتصاد والتعليم والصحة والسياسة ووسائل الإعلام، وبين آثار الغزو الفكري في كل منها، ثم انتقل إلى المحور الثاني وهو أساليب الغزو الفكري في التشكيك من طعن في القرآن الكريم إلى طعن في السنة إلى اعتماد ما جاء في بعض كتب السيرة ونظريات بعض الفرق الشاذة، وأخيرًا محاربة الفكر الإسلامي والدعوة إلى فصله عن جذوره وقواعده واستشهد لكل حقل من هذه الحقول بمثال أو اثنين، ثم رد على الشبهات بما يبطلها، أما المحور الثالث فقد خصصه للحديث عن العلمانية والحداثة، فبين اتجاهاتها الخطيرة في محاربة الإسلام والطريق الأنجع في دفع تحركاتها العدوانية ورد نشاطاتها المتنوعة في مجالات الفكر والتعليم والإعلام، واختتم بحثه ببيان أسس ووسائل مقاومة الغزو الفكري.

وقدم الدكتور عويد بن عياد المطرفي بحثًا عن ورقة بن نوفل حاول فيه أن يبطل مزاعم النصاري فيما نسبوه إليه من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم وتشويه صورة الإسلام ونقله من النصرانية ، وأكد أن ورقة بن نوفل كان من الحنفاء ولم يكن نصرانيًّا في يوم من الأيام.

ص: 2267

وللأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلامي، بين فيها بدايات هذا الغزو والدوافع التي كانت وراء ذلك وخطورته ووسائل مواجهته، وقد قدم فضيلته في هذا المجال عدة مقترحات طيبة.

أما فضيلة الشيخ مصطفي العلوي فقد قدم بحثًا عن الغزو الفكري وأثره في المجتمعات الإسلامية اليوم وكيف يمكن مواجهته وبين أفكاره حول المحاور السابقة التي يلتقي فيها مع الأفكار التي عرضناها من قبل، وقدم في نهاية بحثه عدة مقترحات لمواجهة هذا الغزو.

وقدم الأستاذ تيجاني صابون محمد تصوره عن خلفية الغزو الاستعماري الغربي المسلح للدول الإسلامية منذ صدور الإسلام، ثم تعرض للحملات التبشيرية الصليبية وأنواعها وأعوانها من المستشرقين ،ة ومثّل لهذه الحملات بمطاعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم ودعمهم للفرق الضالة المعادية للإسلام كالقاديانية والبهائية، ثم بين الوسائل الحديثة للغزو الفكري من اقتصاد وتربية وثقافة وإعلام.

أما الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور، فعنون بحثه (بالغزو الفكري في المعيار العلمي الموضوعي) ، وقد جعل بحثه في مدخل وأربعة أبواب وخاتمة، تناول في المدخل التعريف بالغزو الفكري وبيان خطره وأهدافه، وخصص الباب الأول للتيارات المعاصرة لدى المفكرين المسلمين في مواجهة مشكلة الغزو الفكري وجعله في فصلين، وفي الباب الثاني تناول في فصلين أساليب الغزو الفكري ومدارسه، وفي الباب الثالث تناول في ثلاثة فصول ظواهر الغزو الفكري، أما الباب الرابع فجعله في فصلين أحدهما لبيان أسباب قيام الغزو الفكري في العالم الإسلامي والثاني لبيان العوامل المساعدة لقيامه، وخصص الباب الخامس لبيان الوقاية والعلاج من هذا الغزو ثم القيام بالغزو الفكري المعاكس.

ص: 2268

أما بحثنا بعنوان (من أساليب الغزو الفكري في مجال الطعن في القرآن الكريم) فقد اتفق مع البحوث السابقة في كثير من الأمور التي تخص التعريف بالغزو الفكري وأهدافه ووسائله وأنواعه ثم انفرد بالحديث عن الغزو الفكري في مجال الطعن في القرآن الكريم، وقد جعلته في ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول منها التعريف بالغزو الفكري بصفة عامة في ماضيه وحاضره وأهدافه ووسائله وأنواعه، أما الفصل الثاني فجعلته لسرد مطاعن الغزاة في القرآن الكريم وقسمته طبقًا لهذه المطاعن إلى سبعة بنود تناول كل بند منها مجالًا من مجالات الطعن في القرآن، فبند عن ادعاء بشريته، وبند عن اقتباسه من الكتب السابقة، وثالث عن عدم إعجازه، ورابع عن وقوع التحريف فيه، وخامس عن الأخطاء العلمية واللغوية والتاريخية والتشريعية فيه، وسادس عن وقوع التناقض بين آياته، وسابع عن عجزه وعدم تقديمه للنظريات والمبادئ الحديثة. أما الفصل الثالث، وهو بيت القصيد، فقد خصصته لتفنيد تلك المطاعن والرد عليها وإبطالها، وقد تناولتها بندًا بندًا وناقشتها فكرة فكرة، وقدمت الآدلة النقلية والعقلية على إبطالها، ففي البند أولًا قدمنا أربعة عشر دليلًا منوعًا على أن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى وليس بشريًّا ولا من عمل محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي البند ثانيًا قدمت خمسة أدلة عامة وستة تطبيقية على أن القرآن الكريم ليس مقتبسًا من التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وفي البند ثالثًا قدمت خمسة أدلة على أن القرآن الكريم معجز بل هو أكبر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وفي البند رابعًا قدمت سبعة أدلة على أن القرآن الكريم معافى من أي تحريف أو تبديل على عكس الكتب السابقة، وفي البند خامسًا ذكرت أربعة أدلة إجمالية على إبطال دعوى تناقض بين بعض آيات القرآن الكريم، ثم وضحت ذلك في اثني عشر موضعًا مما استندوا إليه وظنوه تعارضًا، وفي البند سادسًا ناقشت ما اسموه أخطاء القرآن الكريم فبينت أنهم هم المخطؤون وأن القرآن الكريم بريء من أي خطأ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، وفي البند سابعًا ناقشت موضوع النظريات التي يتساءلون عنها وبينت ما قدمه القرآن الكريم في هذا المجال مما لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، ودعمت ذلك كله بأقوال العلماء والمفكرين وبعض المنصفين من غير المسلمين.

أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذه البحوث وأن يجعلها جميعها خالصة لوجه الكريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وشكرا.

ص: 2269

الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:

شكرًا للسيد الرئيس، أتقدم بخالص الشكر والتقدير لأخي العارض حفظه الله تعالى حيث كان أمينًا على البحث العلمي وأمينًا على ما جاء فيه من دراسات جديدة وحديثة أو قديمة وعلى آراء الباحثين، ووددت لو أن أكثر العارضين أو كلهم مع احترامي وتقديري لهم اقتدوا بهذا الأخ الفاضل في حسن عرضه وفي حسن تقديمه لآراء زملائه.

هذه ناحية، والناحية الثانية هي أننا في هذه الأمسية الكريمة التي خصصت للغزو الفكري يجدر بنا أن نبحث عن الوسائل العلمية للوقوف في وجه الغزو الفكري، فالبحوث والخطب والمحاضرات والكلمات والكتب التي ألفت وصنفت وكتبت في هذا البحث تصنف مكتبة كاملة، يعني نستطيع أن نقول إننا اليوم نئن من التخمة في قضية البحث في هذه المسألة، نحن بحاجة ـ كما أرى والله سبحانه وتعالى الملهم الذي يشرح الصدور ـ إلى الأساليب العلمية. مثلًا أنا أرى أن تكون هناك ندوات فعلية للغزو الفكري، يعني أن ننزل إلى الميدان وأن يشكل المجمع بأمانته الكريمة ورئاسته الرشيدة منا لجانًا تنزل إلى الجامعات فتحاضر، فكلنا على مستوى أستاذ جامعة تقريبًا، لماذا لا نحاول في هذا الموضوع؟ لماذا لا ننزل؟ لماذا نبقى مقطورين ضمن نطاق المجمع فقط؟ وطبعًا هذا عمل كبير ومشرف ولكنه لا يكفي ولا يفي بالغرض، نحن نعد هذا المجمع منطلقًا إلى العمل كقاعدة ننطلق منها إلى العمل المنتج المثمر. إن الناس يريدون منا أن نتكلم لهم، أن نحاضر عليهم، أن نبحث معهم، أن نعقد معهم ندوات. الصحوة الإسلامية اليوم، يا سادة، تناشدنا وتهيب بنا، الشباب المسلم يغلي إيمانًا وإخلاصًا، يريد من يرشده إلى الحق إلى الخير، يريد من يخلصه من شبهاته. يرى الغزو الفكري والثقافي هاجمًا ولكن لا يرى ولا يستطيع ولا يجد الوسائل لدفع هذا الخطر الداهم، من الذي يوجد له هذه الوسائل، نحن خدام العلم وسدنة الشريعة المتشرفين بحمل هذه الأمانة، يجب علينا أن نذهب - لوجه الله عز وجل إلى أقصى الأرض ونحاضر ونخطب في المساجد، في الجامعات، في الكليات، في المنتديات، وفي المراكز الثقافية حيثما استطعنا ونكون رسل المجمع إلى العالم الإسلامي، هذه هي الوسائل العملية أو إحدى الوسائل العملية للوقوف في وجه الغزو الفكري. يا سادة أنا أتحرق ولا أقول هذا مجاملة، إنني أرى غيرنا من أصحاب الأديان الباطلة وأنتم تعلمون أن التبشير ماذا يصنع في إفريقيا، ماذا يصنع في الفلبين، وماذا يصنع في أندونيسيا، وماذا يصنع في أنحاء الأرض، المبشرون لا يتكلمون بالمجمع (الفاتيكان) ولكن يتكلمون في كل مكان، لقد بنوا أكبر كنيسة بالعالم حيث لا يوجد فيها في ذلك المكان أكثر من عشر آلاف نصراني، في جنوب أفريقيا أكبر كنيسة في العالم، الإرساليات التبشيرية تغزو الأرض، تغزو شعوب العالم، فماذا صنعنا نحن الدعاة إلى الحق ، إلى الإسلام ، ضعفاء لا نتقن إلا صناعة الكلام ، فمتى نتقن صناعة العمل؟

أقول قولى هذا وأستغفر الله العظيم، وشكرًا.

ص: 2270

الدكتور طه جابر العلواني:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن فترة السنوات الثلاثة الماضية قد شهدت مرحلة انهيار التوازن العالمي الذي قام في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وأدى بدوره إلى تفرد الولايات المتحدة الأمريكية نسبيًّا في الشؤون الدولية، ولا شك أن انهيارًا عربيًّا قد حدث خلال هذه الفترة ، عبرت عنه تلك السياسة المعروفة التي كانت كارثة الخليج الثانية التعبير المتأخر عنه بقدر ما كانت كارثة الخليج الأولي تمهيدًا ضروريًّا له، وقد بدأ هذا الانهيار بوضوح بتجاوز كل ما كان متعارفًا عليه في ظل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الدولي ، أو ما يسمى بفترة الخمسينيات والستينيات كالجامعة العربية ومؤتمرات القمة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من أطر ومحاور التفاهم والتنسيق خاصة في عالمنا الإسلامي.. ، ومن الواضح أن النظام العالمي الجديد الذي يأخذ المسلمون فيه دور المفعول به والمفعول فيه بأجلى شك يقوم على قواعد ثلاث: الديمقراطية في المجال السياسي، الاقتصاد الحر الرأسمالي في المجال الاقتصادي، العلمانية كفلسفة فكرية وثقافية وإطار مرجعي لسائر قضايا الفكر والثقافة والنظم ومناهج الحياة.

الغزو الفكري بشكله المألوف قد تغير ليصبح الآن محاولة ذات ثلاث شعب تقوم على هذه الأسس الثلاث: الديمقراطية في النظام السياسي، الاقتصاد الحر الرأسمالي في المجال الاقتصادي، العلمانية كفلسفة فكرية وثقافية وإطار مرجعي لسائر قضايا الفكر والثقافة والنظم ومناهج الحياة.

أود أن أتجاوز المجالين الأول والثاني المجال السياسي والمجال الاقتصادي إلى المجال الثالث الذي هو المجال الفكري. العلمانية مصطلح من أكثر المصطلحات غموضًا وإبهامًا في لغتنا العربية، وقد رأيت الأخوة الباحثين الذين تناولوا هذا المصطلح ترددوا بين معان مختلفة لهذا المصطلح الغامض، ذلك لأنه مصطلح منقول من نسب حضاري مختلف، فدلالته الحقيقة لا يمكن تحديدها إلا بمعرفة ذلك النسب الحضاري بكل تفاصيله وبحل جوانبه ، هذا النسب الحضاري فيه عدة تشكيلات فرعية ، فهناك التشكيل الفرنسي الكاثوليكي وهناك التشكيل الإنجليزي والألماني والتشكيل الأمريكي مؤخرًا ، وكل تشكيل له تعريفه ومصلحه الخاصة بالنسبة للعلمانية. ولقد خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة وتزايدت فيها معدلات العلمنة ، واختلفت مواقفها من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية ، وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف، ومع انتقال المصطلح إلى عالمنا العربي والإسلامي فإن المجال الدلالي للكلمة أصبح مجالًا شديد الاضطراب وسبّب اختلالًا في الفكرة المأخوذة عن هذا المجال. فمن المفكرين ومن بعض الباحثين من يرى أن أدق ترجمة للمصطلح هي العلمانية بكسر العين نسبة إلى العِلم أو بفتح العين نسبة إلى العالم، ويذهب البعض إلى تسميتها بالدنيوية، أي: الإقبال على الحياة الدنيا وحدها والإعراض عن الآخرة ، وحسب هذه التسمية ، فالعلمانية هي الظاهرة ـ باعتبارها ـ الزمنية أي أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالحياة الدنيا ولا علاقة لها بأي غيب، وأن كل ما يحدث في هذه الحياة لا يجوز نسبته إلى أي غيب ، وأن هذه الحياة الدنيا هي الإطار المرجعي لكل شيء.

ص: 2271

وأفضل تجاوز الترجمة ومصطلحات أهلها إلى النظر في المظاهر نفسها، فأقرب المصطلحات أو أقرب تعريف عربي آراه من خلال ملاحظة الظاهرة هو الدنيوية، فهي ليست عِلمانية بمعنى العلم وليست عَلمانية بمعنى العالم ، لكنها دنيوية يعنى التركيز على الحياة الدنيا واتخاذ الحياة الدنيا وتجارب الإنسان وخبراته إطار مرجعيًّا لا يجوز تجاوزه في أي شيء من الأشياء، وفي هذه الحالة لا تعني العلمانية أن يتحول معتنقها إلى ملحد لكنه يكون دنيويًّا له حق الإلحاد وله حق الإيمان. تلك مسألة شخصية ، لكن ليس له أن يحتم هذا الإيمان بأي شأن من شؤون الحياة، لا في سياسة ولا في اقتصاد ولا في تعليم ولا في اجتماع ولا في فكرة ولا في شيء من هذه الأسياء. هذه الدعامة التي بدأ النظام الدولى الجديد يبشر بها ويحاول أن يصوغ العالم أو يعلنه أو يدخله مرحلة هذا الدين الجديد الذي سماه بما شاء هو الوجه الجديد لهذا الغزو الفكري الذي يمكن أن نواجهه. إن المصطلح اكتسب مجالًا دلاليًّا أوسع بكثير وأصبح مصطلحًا يصف ظاهرة اجتماعية وتحولات دنيوية ليست لها علاقة محددة بأية حركة فكرية، ولو نظرنا في قواميس هؤلاء لوجدنا مصداق ذلك، إن الدنيوية ـ كما نود أن نشيع هذا المصطلح فيما بيننا ـ حركة كونية شاملة كاسحة تغطي كل جوانب الحياة، خطأ أن ننظر إليها على أنها لا تعني إلا فصل الدين عن الحياة أو فصل الدين عن الدولة ، أو إعطاء مجال لحرية أو تحرك سياسي بعيد عن القيم الدينية، ليس هذا إطلاقًا هو مفهوم العلمانية ولكنها كما قلت حركة كونية شاملة كاسحة تغطي كل جوانب الحياة، وهي في وضعنا الحالي تشكل ثورة شاملة، ثورة في مجال المعرفة، وثورة في مجال النظم، فلقد تأسست على ضوء من هذه الدنيوية وعلى دعامة أساسية منها هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تدخل عقولنا وأدمغتنا كعلوم نفس وتربية واجتماع واقتصاد وسياسة وقانون وإدارة وإعلام وغيرها ، والتي من المؤسف أنها أصبحت المشكلة للعقل الإنساني كله وعلى مستوى عالمي والتي لم يستطع المسلمون حتى يومنا هذا أن يفكروا في مواجهتها واختراقها، اللهم إلا محاولات ضعيفة ضحلة لا تستطيع أن تواجه هذا التيار الكاسح.

ص: 2272

إن هذا الغزو الجديد بأشكاله هذه يمكن أن نشير إلى أهم انعكاساته أو أهم المؤشرات عليه:

أولًا: إن أي مجتمع إنساني لا يمكن أن يخلو من إجراءات العلمنة؛ إذ إن على الإنسان مهما بلغ من التقوى والورع لابد له أن يتعامل مع الحياة الدنيا من خلال منطلقاته المعرفية ، من خلال قيمه وعقيدته، لكن التعامل مع الدنيا مهما يبلغ من حركة واتساع كان دائمًا بالنسبة للأديان السماوية بصفة خاصة كان دائمًا يتم داخل إطار يشير إلى مرجع من خارج الإنسان مرجع نهائي ، ذلك هو الدين يرجع الناس إليه ليضبطوا حركتهم ويضعوا لها الضوابط، حركة الدنيوية أو العلمانية المعاصرة ترفض هذه المرجع تمامًا وتنفيه وتستبعده استبعادًا تامًّا، هذه نقطة أساسية، وعلى الرغم من أن الحضارة الغريبة في العصور الوسطى كانت حضارة دينية إلا تراث الغرب الهيليني والروماني كان يحوي داخله نزعة مادية قوية تسوي بين الجسد والروح وتوحد بينهما.

ص: 2273

ثانيًا: يذهب المؤرخون إلى أن تآكل نفوذ الكنيسة في العصور الوسطى وتزايد هيمنة الملوك عليها سبب نفورًا شديدًا من المؤسسات الدينية ونفورًا من الدين بصفة عامة، يشير ماكس فيبر إلى أن السمة الأساسية للحضارة الغربية المعاصرة هي نزوعها المتزايد نحو الترشيد وأنها تعبر عن هذا الترشيد بعملية العلمنة أو الدنيوية. الترشيد في أحد جوانبه يعني أن المفهوم الغربي تحويل الواقع إلى وسيلة، ولذلك قد صموا آذاننا بوجوب الرجوع إلى الواقع وتحتيم الواقع والنظر بالواقع والأخذ من الواقع، ولكن بهذا المفهوم، بمفهوم تحويل إلى وسيلة بحيث يمكن توظيفه في خدمات معينة. لكن عملية الترشيد هذه تتطلب قدرًا عاليًا من التجريد، إذ إن الإنسان إذا أدرك واقعه بشكله المعين فإنه لا يمكنه توظيفه ولا يمكن التحكم فيه ولابد أنه سيلتفت شاء أو أبي إلى ذلك الإطار المرجعي الذي هو من خارج الإنسان وخارج الحياة، مع تزايد انتشار ما يسمى بالاقتصاد العائلي والصناعات المرتبطة به زادت الحاجة لشراء المواد الخام ولدفع أجور العمال والتكاليف الأخرى، ولذلك تم البحث عن مصادر المعادن النفسية واكتشافها لتوفير العملة اللازمة للتبادل، فابتني الاقتصاد المعاصر كله على النقود، والنقود هي أكثر الأمور تجريدًا، فهي ليست سلعة ولا خدمة، وإنما هي علامة تشير إلى قيمة مجردة، كان هذا القطاع الاقتصادي الجديد من أول القطاعات التي انسلخت من نفوذ النظام الإقطاعي والكنيسة، بحيث أصبح قطاعًا مستقلًا إلى حد كبير يتحرك حسب قيمه المادية الكامنة فيه وقوانين حركته المجردة التي ترفض أن تقيد بأية ضوابط أو قيم أخلاقية، إذ كانت النقود دالًّا يشير إلى مدلول غامض، خدمات وسلع، فهو يصبح دالًّا دون مدلول أو هدف، وفي هذا قمة التجريد، وحين يدخل الاقتصاد الجديد مرحلة التراكم يصبح الإنسان جزءًا من عملية لا يحكمها تمامًا ثمثل بذاتها الغاية والوسيلة عملية تتحرك دون هدف واضح، ساهمت حركة الاكتشاف في توسيع آفاق الإنسان وظهور تعددية في الرؤيا تولد إحساسًا بنسبة الواقع مما قوى من دعائم الإيمان الديني، ولكن هذه النسبية جعلت العقل قادرًا على تجاوز المعطيات المتعينة التي يشاهدها ويشعر بها الإصلاح الديني البروتستاني الذي شكل أول خطوة نحو علمنة عقل الإنسان الغربي، إذ جعل الخلاص مسألة فردية ، وجَعْلُ الدين أمرًا فرديًّا خاصًّا هو الذي ساعد على جعل عمليات التحول تتم من خلال قضايا سميت بقضايا التقشف والعمل المضني المستمر، وقد قضي الإصلاح الديني على أهم المؤسسات الوسيطة وهي الكنيسة بكل مؤسساتها، وظهرت الفلسفة الإنسانية التي وضعت الإنسان في مركز الكون بحيث يصبح هو الهدف النهائي لوجوده ولا هدف له بعد ذلك، وتطور العلم والفلسفات العلمية والمادية التي وضعت المادة في مركز الكون وحاولت أن تنظر لكل شيء من منظور دنيوي محض، هذه الفلسفة بكل تضاريسها، بكل أبعادها شهدت تصاعدًا ملحوظًا وتنمية لتجعل منها دينًا بديلًا يمكن أن يحل - أو يريد أن يحله أصحابه - محل سائر الأديان وليس الإسلام وحده.

وتتخذ العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية الإطار الذي تنطلق منه ومن خلاله هذه الدنيوية لفرض ذاتها على العالم الجديد، وما لم تتم عملية أسلمة مقابل علمنة لهذه العلوم الإنسانية والاجتماعية تجعل للمسلمين علومًا إنسانية واجتماعية من منطلق إسلامي تستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاحظ تراثنا واحتياجاتنا وتلاحظ هذا العالم من منظور الإسلام لا من منظور الغرب ويكون لها مرجعها لا يمكن أن تواجه هذه الهجمة الجديدة للدنيوية وشكرًا.

ص: 2274

الشيخ محمد الزياني:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

موضوع الغزو الفكري من المواضيع التي كانت ولا تزال السمة البارزة في كتابات هذا القرن منذ بدايته، ولكثرة ما كتب فيه من كتب ومقالات ولكثرة ما عمل حوله من ندوات على مدار هذا القرن، فقد خيل للبعض أن هذا الموضوع هو نوع من الوهم، ولذلك رأينا باحثًا إسلاميًّا يصدر في الفترة الأخيرة كتابًا بعنوان الغزو الفكري وهم أم حقيقة؟ وعلى أساس ذلك كان اطلاعي على بعض البحوث وليس على كلها اطلاعًا جزئيًّا لعدم وجود الوقت لذلك ،ولذلك أجدني أختلف مع معظم البحوث على الأقل في تحديد بدايات هذا الغزو، ومعظمها مال إلى أن هذا الغزو الفكري قد بدأ في أكثر الأحوال منذ الحروب الصليبية، وأنا أعتقد أن الغزو الفكري أمر استهدف العقيدة الإسلامية، ولذلك فهو قد بدأ منذ صدع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الغزو الفكري مرحلته الأولي تبدأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت أدواتها تتمثل في الشرك والنفاق إلى جانب اليهود، وحتى ما تناولته هذه البحوث التي نحن بصددها اليوم من قضية الطعن بالقرآن الكريم وأن المستشرقين يطعنون في القرآن الكريم بأشكال متعددة، فإن هذه أيضًا ليست جديدة، فلقد تم ذلك في الفترة المبكرة التي أشرت إليها وقد عبر عنها القرآن، ونظرًا لخطورتها وأثرها في الدعوة الإسلامية فقد تكفل القرآن بالرد عليها وكان الرد قويًّا لدرجة أنه لا يمكن أن يتحمل أي طعن جديد {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ليس هناك طعن أكثر من هذا الطعن في مصدرية القرآن وليس هناك رد أبلغ من هذا الرد، ولذلك كل محاولات المستشرقين بعد ذلك في تناول القرآن بالطعن تعتبر ثانوية إذا ما قيست بهذه القضية، ثم بعد ذلك توالت صور الغزو الفكري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، من تلك الفتن التي أثارها المنافقون وتلك الأسئلة التي كان يثيرها اليهود أيضًا من حين لآخر مستهدفين بها خلخلة أفكار المسلمين وخلخلة عقائدهم، وأنتم أعلم بهذا مني ولا داعي للتذكير بها، بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية، وهي مرحلة ما بعد الخلافة الراشدة والتي توسعت بها صور الغزو الفكري وشملت تدخل اليهود في الفكر الإسلامي من خلال بعض المفاهيم التي سربت إلى هذا الفكر والتي نتج عنها كما تعلمون ما يسمى بالإسرائليات، ونتج عنها في الإطار الآخر تجديد الطائفية والفرقة والتنازع بين المسلمين، ثم تأتي المرحلة الثالثة والتي أشارت لها بعض البحوث وهي مرحلة ما بعد الحروب الصليبية، ومرحلة ما بعد الحروب الصليبية كانت نتيجة لتاريخ مطول أو تاريخ طويل من الصراع بين الإسلام والكفر، هذا الصراع اتخذ مظهرًا مسلحًا عبر كل اللقاءات التي لقي المسلمون فيها أعداءهم، وهذا النوع من الصراع كانت الغلبة فيه دائمًا للمسلمين على الرغم من قلة العدد والعدة في كل المعارك الإسلامية، ولذلك جاءت ثمرة الحروب الصليبية أن تعطي مؤشرًا بأن هؤلاء المسلمين لا يمكن لأي إنسان أن يتغلب عليهم لأن في دينهم شيء يسمى الجهاد، فالجهاد لابد أن يطمس من حياتهم حتى يمكن التغلب عليهم، من هنا حصل التحول الخطير في تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية أو اليهودية، وبدأ المشركون بجميع أشكالهم يخططون لما يمكن أن يسمى بالغزو الفكري اليوم، تعلمون أن موضوع الجهاد من أخطر المواضيع، ويوم أن ابتعد المسلمون عن الجهاد فإن الخط الحضاري الذي كان يصعد بدأ ينحدر ، وهذه المشكلة مشكلة الجهاد لا زالت حتى هذه اللحظة تعد من أخطر المسائل التي إذا بحث فيها المسلمون دق ناقوس الخطر عند أعدائهم، وحتي في صراعاتنا الحالية تتولى وكالات الأنباء بجميع أنواعها وصورها طمس هذا المفهوم، حتى إذا تحدثت عن قتلى المسلمين فلا تقول استشهد من المسلمين كذا أو استشهد في فلسطين كذا وإنما تقول قتل.

ص: 2275

تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة ربما، وهي المرحلة ما بعد استعمار العالم الثالث، تلك المرحلة التي قسم بها العالم الإسلامي، قسمت فيها دول العالم الإسلامي، هذه المرحلة استهدفت شيئًا آخر، استهدفت وضع الحدود بين دول العالم الإسلامي كما تعلمون، كان المسلمون يتواصلون ، وكان الإنسان المسلم يذهب من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق يدرس ويتزوج ويمتلك ويعيش ولا أحد يتعرضه ولا أحد يتوجس خيفة منه، ولنا في العلماء الكبار صور كثيرة أنتم أعلم بها أيضًا ، فبعد استعمار العالم الثالث وضعت الحدود بين دول العالم الإسلامي ، وبوضع الحدود تم قطع التواصل بين أفراد العالم الإسلامي، وخاصة بين مثقفيه. والنتيجة أننا لا نعلم شيئًا عن الآخر ، ولولا هذه المؤتمرات التي تجمعنا فإننا لا نعلم عن بعضنا شيئًا إلَّا ما يقال عبر إذاعات الغرب، لا أحد يعلم بما في الشرق من إصدارات ثقافية ، ولا أحد يعلم بما في الغرب من إصدارات ثقافية أيضًا، وبقطع التواصل الثقافي تم إدخال الريبة والتوجس من المسلمين بعضهم ببعض، وبدأنا نشك في كل كلمة يقولها إنسان مسلم آخر ونحورها إلى مناحٍ شتى نتيجة عدم علمنا بما يجري بداخل هذه الأمة، أنا أشك في جاري التونسي، وجاري التونسي يشك فيَّ أنا كذلك، وهكذا بقية العالم الآخر الذي أدت هذه الحدود نهائيًّا ما يدور في العالم الإسلامي بين أجزائه، ثم تأتي المرحلة المعاصرة، وهي التي دخلت فيها الصهيونية كطرف في الصراع قوي جدًّا والتي أدت إلى نشوء التيارات الفكرية المختلفة ، وأدت إلى ظهور الحركات الهدامة، ونعرف اليوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي كثيرًا من الحركات الهدامة كالليونز والروتاري وشهود يهوه وما إلى ذلك، ويتم الإعلان عنها في دول العالم الإسلامي في كل مكان وبصورة واضحة، هذه في تصوري تاريخ هذه المرحلة مرحلة الغزو الفكري، أما جناحاه فإنني أحصرهما في شيئين اثنين الجناح الذي تعامل مع العالم الإسلامي أكاديميًّا، وكما يقولون علميًّا ولا أعتقد بأنه علمي، وهو الاستشراق، والاستشراق تعهد للعالم الغربي بأن يعرف الغرب بالعالم الإسلامي بأن يعرفه بكل شيء ثم يتولى بعد ذلك مهمة تسريب كل الأفكار التي يريدها الغربيون كما تحدث فضيلة الدكتور طه ـ حفظه الله ـ لكن هذا الاستشراق الآن قد أدى إلى أن يكتسب منه المسلمون حساسية معينة، ولذلك في المؤتمرات الأخيرة للاستشراق أعلنوا عن موت الاستشراق، ولم يعد هناك كما يتصورون استشراقًَا، بينما تدل الإحصاءات على أن اثني عشر في المائة من ميزانية التعليم يخصص لتكون المستشرقين الذين هم خبراء شرق أوسطيين الآن ، وإذا حولنا هذا الرقم اثنا عشر في المائة إلى رقم عددي فإنه ما يقرب من أربعين ألفًا كما تدل المصادر، أما الجناح الآخر وهو التنصير، وهنا أنبه إلى أن مصطلح التبشير مصطلح خاطئ، ولا أعتقد أن له أصلًا لغويًّا، التنصير وهو ذلك الذي تولى الدخول إلى بلدان العالم الإسلامي في تلك المناطق التي لا يستطيع الفكر أن يدخلها دخل بآلياته المختلفة ، وأنا لا يهمني فيه الشكل القديم الذي كما تعرفون يعتمد على الخبز والدواء والعلاج، وإنما يهمني به الشكل المعاصر الآن، ومن الشكل المعاصر أذكر تلك الخطة الجهنمية التي يحاول المنصرون الآن استخدامها في مواجهة المناطق التي يسمونها مغلقة أمام العمل التنصيري، هذه المناطق التي يقصدون بها دول العالم الإسلامي التي لا يمكن للتنصير أن يدخل فيها علنًا، هذه الخطة يسمونها بالجوالون، والجوّالون هم أولئك النفر من الناس الذين يدخلون إلى العالم الإسلامي تحت ستار العمل في الشركات والمؤسسات التجارية المختلفة، وهؤلاء يتم اختيارهم بصورة دقيقة، وتدل المصادر على أن بعض الدول الإسلامية قد أخذت بعض العاملين من مصر، وكان التخطيط أن يتم أخذهم كلهم من الأقباط وبتخطيط من الكنيسة، وهذه الفكرة فكرة الجوالون يستهدف منها محاولة الوصول إلى ما لم تصل إليه جحافل المنصرين علانية. إذا انتقلنا إلى نقطة أخرى، ما هو حجم الغزو الفكري؟

ص: 2276

أعتقد أن حجم الغزو الفكري أكب من أن يكون حجم فرد، وأكبر من أن يكون حجم كتاب أو صحيفة أو ما إلى ذلك، إنه حجم دول، دول كاملة، العالم الغربي كله وأمريكا معه، كلها تشترك في هذا الغزو الفكري المعاصر، وتخصص له من الإمكانيات المادية ما لو استعرضناها لأصحبنا في خجل من أمرنا حين نتكلم عن الاتفاقات التي ننفقها في مجال التعليم أو حتى في مجال الدعوة الإسلامية. النقطة التي بعدها، ما هي آثاره؟ ما هي آثار هذا الغزو الفكري في عالمنا المعاصر الآن؟ أعتقد أن آثاره تبرز فيما نحن عليه الآن من وضع في كل مناحي حياتنا على المستوى السياسي، نحن كمسلمين الآن نقبل بالديمقراطية الغربية ونقبل بالتعددية الحزبية ونصر عليها ونعتبرها مظهرًا من مظاهر التقدم والحضارة، ولا أعتقد أن أحدًا منكم يستطيع أو على الأقل يمكن أن يدلني على تأصيل التعددية الحزبية تأصيلًا إسلاميًّا. المظهر الثاني في النشاط الاقتصادي، أصبحنا نحن الآن ندعو ونتمسك ونتعامل بالنظام الاقتصادي الحرّ، ولا أعتقد أن هذا له علاقة بنظامنا الاقتصادي الإسلامي الذي يدعو إلى توزيع الثروة بالعدالة ، ويدعو إلى كل ما يمكن أن يحقق للفرد كرامته ويبعد عنه سرقة أمواله، كان لذلك أيضًا آثاره في مظاهرنا السلوكية، أصبحنا نميل إلى أن نقلد الغرب في كل مظهر سلوكي ابتداء من ملابسنا وبطرق أكلنا ومواصلاتنا ومسكننا وما إلى ذلك، وهذا ربما نعذر فيه لأنه يعتبر من تقليد المغلوب للغالب كما يقول بعض العلماء، من مظاهره أيضًا أننا أصبحنا ننفتح على الفكر الغربي انفتاحًا كبيرًا لدرجة أنه تسربت من ذلك كل القضايا التي تحدثت عنها هذه البحوث، وأصبحنا نتحرج من أن ننفتح على الفكر الإسلامي، وحتي أولئك الذين درسوا في الغرب وتعلموا لغته لم يستطيعوا أن ينفتحوا على فكرنا الإسلامي وأن يقدموه للعالم، وتركوا المجال للآخرين أن يقدموا الفكر الإسلامي بالصورة التي يريدها. الذين ملكوا اللغة العربية يتحرجون حتى من تحقيق كتاب أو من نقله إلى لغة أخرى لأن ذلك يعتبر مظهرًا من مظاهر التأخر كما يقولون، الأثر الكبير هو اختفاء الشعور الإسلامي، هذا هو الأثر الخاتم لهذه الآثار التي غزانا بها الفكر الغربي. نحن نعيش اليوم في عصر يذبح فيه المسلمون في كل مكان ويقتلون بأبشع صور، ونشاهد ذلك أمام أجهزة الإعلام ولا نحرك ساكنًا بل نتندر أحيانًا بما نفعل، وأحسن حال أن يقول بعضنا: لا حول ولا قوة إلَّا بالله، هذه هي في تصوري آثار الغزو الفكري الذي نحن نعيشه الآن، والسؤال المهم والخاتم، ما العمل؟ هل يمكن بكتابة كتاب حول الغزو الفكري أن نفعل شيئًا؟ هل يمكن بإقامة ندوة أن نفعل شيئًا؟ أعتقد أنه كما أن الحجم حجم دول فإن المجابهة يجب أن تكون مجابهة دول، ما لم تتبنى الحكومات الإسلامية وعدتها الشعوب الإسلامية خطة تستهدف تحسين العالم الإسلامي بتربية إسلامية نقية تدخل كل مدارسنا ومؤسساتنا العلمية فإننا لن نستطيع أن نخلق النموذج المسلم الذي يستطيع أن يجابه هذا الفكر الغازي وشكرًا.

ص: 2277

الشيخ عبد القادر العماري:

بسم الله الرحمن الرحيم.

نشكر الأخوة الذين قدموا هذه البحوث القيمة، وإن شاء الله يكون لها أثرها في العمل، الغزو الفكري له مطايا، لم يأت إلينا بدون مطايا يركبها، من هم هؤلاء المطايا؟ إنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والغزو في المجال الثقافي وفي المجال القضائي وفي مجال الأسرة والمرأة وفي الحكم وفصل الدين عن الدولة، من يقوم بذلك هنا في العالم الإسلامي غير أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؟ أجهزة الإعلام مفتوحة أمامهم، الصحف أمامهم كل يوم نقرأها والمجلات الأنيقة الجميلة فيها المقالات التي تطعن في القرآن وتطعن في السنة، الكاتب الذي هو في موقف وفي مركز مرموق يتكلم ويطعن في القرآن ويقول إن تَّبت، سورة تبت هذه وضعها الأمويون، يقوله بصراحة في مجلات تنشر بأموال الحكومات ويقول عن الحديث الشريف، ويعلق على حديث ((كل بدعة ضلالة)) يقول: هذا الحديث لا يمكن أن يصح وليس صحيحًا؛ لأنه يمنع الإبداع ، يقوله في مجلات تصدر في بلاد إسلامية وبأموال إسلامية ولا أحد ينتقده ، ويطعن في علماء المسلمين ويطعن في الرموز من الصحابة، حزب من الأحزاب اليسارية الذين أفلسوا وأرادوا أن يلجأوا إلى فكر يريدون أن يلبسوا على الناس بأنه من التاريخ الإسلامي، هو فكر القرامطة، ويصدر كتابًا يسميه الثقافة الإسلامية، يطعن في سيدنا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ويقول إنه كان يجامل ابن عمه عبد الله بن العباس ويهيئ له الاستقلال، ويطن في الخلفاء االراشدين جميعًا، في البلاد الإسلامية هذا يجري، ولكن ماذا نعمل نحن؟

الحكم في القضاء، أي دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية؟ وللزوج أن يتنازل في القضية أمام المحكمة إذا زنت امرأته ويعتبر الأمر كأن لم يكن، أليس هذا مصادم لنصوص شرعية في الكتاب والسنة، ألسنا مسلمين؟ نقول نحن مسلمون ولكن بالكلام، والعمل لا شيء من ذلك، كيف يقولون الآن في جميع الجرائد وفي جميع المجلات: هناك إسلام سياسي؟! هم يريدون إسلامًا سياحيًّا، إسلامًا يعتني بالزخرفة وبالمنائر والتراث، بالأغاني والخيام والتراث القديم والحديث، إسلام سياحي لا يريدون إسلامًا سياسيًّا، يقولون: هؤلاء الأصوليون دعاة الإسلام السياسي، دعاة تطبيق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يقولون: إنهم دعاة الإسلام السياسي، هذه في كل المجالات في كل العالم الإسلامي يقال ذلك، أين الذين يتصدون؟ أجهزة إعلامنا كلها ضحايا للغزو الفكري، هناك ممسوخون، يجب علينا أولًا ـ قبل أن نحارب أولئك البعيدين الذين أرسلوهم والذين يمولونهم، الدول الغربية كلها لها عملاء في عالمنا الإسلامي ـ أولًا علينا أن نحارب العملاء ونعريهم ، ثم بعد ذلك نتقوى ونكون أقوياء ونكون وحدة واحدة على أولئك البعداء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وشكرًا.

ص: 2278

الدكتور عدنان صقال:

بسم الله الرحمن الرحيم.

إنني كطبيب أرى أن السادة الباحثين في موضوع الغزو الفكري أغفلوا ناحية مهمة جدًّا وهي الغزو عن طريق الناحية الصحية ، وأقصد بها المستشفيات والبعثات الطبية والمدربة تدريبًا جيدًا على التبشير، أما التركيز على الناحية الطبية فهم أصابوا قلب المشكلة، إن الأمراض التي تفتك بالعالم الثالث ـ إن صحّت التسمية ـ كثيرة، فجاءت البعثات الطبية تريد أن تمسح آلام هؤلاء الناس كما كان المسيح يمسح آلام الناس ـ كما هم يقولون ـ فأعطوهم الدواء والمريض كالغريق، فكما أن الغريق لا يهمه الكلام عن النجاة بل يحتاج إلى من يمد له يد السلامة، فكذلك المريض. والمريض كالجائع، فكما أن الجائع لا يشبعه التكلم عن أنواع الطعام فكذلك المريض لا يرتاح إلَّا لقطعة من دواء أو لمسة يمسحها الطبيب على جبينه، هناك زميل مسلم يعمل في إحدى الدول الإسلامية بشركة بترول، وهذه الشركة كانت شركة أمريكية، حدثني هذا الزميل وهو يحمل الجنسية الأمريكية أنه حضر فريق من أمريكا إلى الشركة، وأعلن عن اجتماع مغلق للأمريكان، وأثناء الإجتماع تقدم قس وقال لهم: يجب أن تعلموا أن لكم مهمتين؛ الأولى أن تقوموا بالأعمال الفنية الموكلة إليكم، أما الثانية، فلا تنسوا أنكم مبشرون، ونعلم ـ والكلام للقس ـ أعلم أنكم لا تستطيعون أن تقولوا للمسلم: أترك دينك وكن مسيحيًّا ،ة فإنه غباء ويجب أن لا نتصرف بمثل ذلك، ولكن عليكم أولًا بدعوتهم إلى ترك الدين بصورة عامة لأنه لا يتلائم مع هذا العصر، ثانيًا إشراكهم بالحفلات الماجنة المغلقة، ثالثًا تبيان أن الخمر مفيد للجسم وخاصة بالبلاد الحارة، رابعًا أن تدخلوا إلى بيوتهم عن طريق الطب والتطبيب وإعطاؤهم الأدوية وإرسالهم على حسابنا إلى أمريكا لإجراء بعض المداخلات الجراحية إن لزم ذلك.

أخيرًا هناك طبيب أفريقي كان يحضر مؤتمرًا في لندن أخبرني أن في أفريقيا أرسلت إسرائيل أئمة علم وخطباء للجوامع لوعظ المسلمين الأفارقة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وشكرًا.

ص: 2279

الدكتور محمد علي الرفاعي:

بسم الله والحمد لله والسلام على رسول الله.

احترامًا لوقتكم ولفضل علمكم فإن مداخلتي ألخصها بنقاط محددة إن شاء الله تعالى.

الفكرة الأولى: أحسب أن الغزو الفكري هو وسيلة من وسائل التدافع الدولي وهذه الوسيلة يسخرها البعض لإضعاف أو تغيير طرف لحساب طرف آخر يسعى للهيمنة على القرار الدولي ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وبعبارة أخرى إن الغزو الثقافي هو وسيلة من وسائل الصراع الحضاري بين الدول والثقافات والأديان.

الفكرة الثانية: إن قضية الغزو الفكري أو الثقافي قضية قديمة والجديد فيها ما سخر لها من وسائل وامكانات وما سخر لها من استراتيجيات دولية ضخمة تقف وراءها دول ومنظمات دولية ذات شأن كبير، أما عن قدمها فهو في قول الله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ؛ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}

هذا أمر محسوم قرآنيًّا وبالتالي ما ينبغي أن نطيل به الحديث إلَّا إذا أردنا أن نتعرف على الوسائل لنحاكيها بوسائل مكافئة إن لم تكن متفوقة.

الفكرة الثالثة: نحسب أن قضيتنا الرئيسية مع الغزو الثقافي أو الغزو الفكري هي: كيف نتعامل مع هذا الغزو ما دام أن قضية الغزو هي قضية قديمة وقد واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم وواجهها النهج الإسلامي ، فكيف نحن نواجه هذا الغزو في تاريخنا المعاصر؟ نحسب أن هذه هي الإشكالية الكبرى التي يجب أن نبحث عن أسبابها ومقوماتها وإمكانياتها التي نواجه بها هذا الغزو، وهذا هو بتقديري موضوع الجهاد البياني في نهجنا الإسلامي، أنا أقول أن الجهاد ذو شقين شق بياني وشق قتالي ، وأن الشق القتالي هو طارئ في منهجية الجهاد الإسلامي، الأصل في الجهاد هو جهاد البيان كما جاء في قول الله تعالى:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}

ص: 2280

الأصل بيننا وبينهم هو جهاد بيان وجهاد أديان وجهاد عقائد وجهاد ثقافات، ويوم نحن نرتقي بأنفسنا لمثل هذه المواجهة الثقافية الفكرية نكون نحن قد تعاملنا مع منهجنا، كيف نواجه هذا الزحف الثقافي ونحن نتمنى أن يبقى الصراع بيننا وبينهم صراعًا ثقافيًّا وفكريًّا؟ إلَّا أن الإشكالية التي نواجهها هو أن هذا الغزو الثقافي عندهم هو مقدمة لغزو عسكري وغزو هيمني على الأمة، إلَّا أننا نحن عندما نتحدث عن تحركنا الثقافي نتكلم عن ذلك ونحن معزولون عن أي استراتيجية تكمل خطوات توجهاتنا أو خطوات ما نريد في مواجهة هذا الغزو، وهذا ما أشار إليه الإخوة بأن ذاك الغزو تدعمه قوى وتدعمه منظمات ونحن أمة لا بواكي لها، إلَّا أنه هذا لا يجعلنا نقف مكتوفي الأيدي ولا ينبغي أن يكون مبعثًا لليأس في نفوسنا، فلا بد أن نورث أجيالنا استراتيجية أو منطلقات أو ثوابت أو مفاهيم محددة بين يدي استراتيجية عمل إسلامي، لعل أجيالنا المستقبلية أن تجد ما يعينها بإذن الله تعالى على مواجهة هذا الغزو الحضاري أو الثقافي أو الديني، وهنا اسمحوا لي أن أحدد بعض النقاط التي تشكل أساس استراتيجيتنا أو أساس استراتيجية إسلامية مضادة لهذا الغزو الذي أطلعنا عنه الحديث وعن تفصيلاته، أحسب أن أول مقوم وأساس هذه الاستراتيجية يقوم على وحدة فهم الأمة لأساسيات وكليات الإسلام ، إن غياب وحدة مفهوم الأمة حول أساسيات وكليات الإسلام هو مبعث تمزق هذه الأمة ومبعث فرقتها وبالتالي لا بد أن نركز، وهذا المجمع الطيب المبارك يعتبر القاعدة الأساسية للأمة، بأن يخرج من بين أيديكم ما يوحد مفهوم هذه الأمة ومفهوم أجيالها في أساسيات وكليات الإسلام في التعامل مع مجتمعاتنا القائمة، وبالتعامل ما بين مجتمعنا الإسلامي المنتظر والمجتمعات الغير الإسلامية القائمة، واسمحوا لي كذلك أن أشير إلى بعض ثوابت فهمنا لاستراتيجيتنا الإسلامية التي لو استطاع المجلس أو هذا المجلس الفقهي المبارك أن يشكل لجنة طويلة الأمد تبحث هذه الثوابت وتجمعها وتشكل منها قاعدة لوحدة فهم إسلامي، أحسب أنه سيكون هذا العمل هو عمل مبارك سيجعلنا نتحول بأنفسنا من الأقوال إلى الأعمال.

ص: 2281

أما ثوابت فهمنا فألخصها بالنقاط التالية:

أولًا لابد أن يكون واضحًا أن الدين عند الله الإسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ؛ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ؛ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} ؛ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ؛ {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ؛ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ؛ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وهناك نصوص من السنة والسيرة تشير إلى أدبيات وقيم تعاملنا مع غير الإسلام، مثل ما جاء في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف الفضول ، ومثل ما جاء من طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة بالهجرة الأولى أن يذهبوا إلى رجل لا يظلم عنده أحد وهو نصراني، مثل كذلك ما جاء في وثيقة صلح الحديبية، وكذلك في محاور التحرك يوم الأحزاب، وكذلك ما جاء في وثيقة المدينة المنورة ثم جاء من أقوال على لسان أئمة هذه الأمة، وأذكر منها مثلًا في إطار دراسات ولا سيما في ما جاء على لسان الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، إذ يقول في السياسة الشرعية كلامًا أقف أمامه وأجد أنه قابل لأن يعتبر منطلقًا من منطلقات التعامل الدولي، يقول ابن تيمية: إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الجائرة، وقفت عند هذا النص وقلت هل يوجد دولة كافرة عادلة؟ وهل يتحقق العدل بغير الإسلام؟ وقفت أمام هذا الكلام وأطلت النظر به ثم رجعت إلى كتب وإلى أقوال، فوجدت مع مقابلة النصوص ومقابلة الأقوال فوجدت بالفعل أنه يمكن لدولة كافرة أن تقيم عدلًا، لكن هذا العدل لا يقوم على أساس إيمان إسلامي أو عقدي، إنما يقوم هذا العدل على أساس فطرة الإنسان ونزوعه نحو الخير ونزوعه لإلحاق الحق في حياته الخاصة، فقلت: إذن العدل هو قضية الإسلام الأولى، ومادام العدل هو قضية الإسلام الأولى وأن الله سبحانه وتعالى وصف الشرك بالظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إن أكبر قضية وأساس قضية الإسلام في الأرض هي إقامة العدل ومن هنا لا بد في الحقيقة أن تجمع هذه النصوص، وهناك قول آخر جاء كذلك بفتاوى ابن تيمية رحمة الله عليه، يقول: الشريعة جاءت لتحسين المصالح وتكميلها وإلغاء المفاسد أو تقليلها. هذا القول بالإضافة إلى أقوال كثيرة لأئمة المسلمين ولسلفهم وللتابعين أجدها كلها تشكل موضوعًا متكاملًا لو شكلت لها لجنة من هذا المجمع الطيب المبارك لاستطاعت أن توفق بين هذه النصوص وتخرج لنا باستراتيجية تنظيرية أولًا، ثم استراتيجية عملية كيف نواجه فيها هذا الغزو.

ص: 2282

ثانيًا: بعد هذا التفصيل الموجز أقول: إخواني إن الإسلام كما تعلمون عقيدة وفكرة ومنهج ونظام، وهذه الرباعية المتسقة تتمحور كلها حول قضية العقيدة، إذا صححت مفاهيم العقيدة في الأمة اتضحت فكرة الأمة ، ومن ثم اتضح مسارها المنهجي ، ومن ثم اتضحت هويتها النظامية. والسؤال الذي هنا أطرحه على نفسي ويطرح علينا في كثير من الملتقيات الأوربية وفي كثير من الملتقيات الثقافية خارج البلدان الإسلامية، وهذه الأسئلة ألخصها إليكم وأعتبرها هي مثار سؤال واحد ينبغي أن يكون موضع اهتمامكم، يقول لنا غير المسلمين: هل المسلمون يصرون على أن السيادة الكاملة الشاملة في الأرض ينبغي أن تكون للإسلام عقيدة وفكرة ومنهاجًا ونظامًا فحسب أم أن المسلمين في إطار معاني لا إكراه في الدين يقبلون بسيادة النظام الإسلامي وهيمنته دون عقيدته على حياة الناس مع قبول استمرار كيانات سياسية غير مسلمة؟ ثم يقولون سؤالا ثالثًا: هل المسلمون يخولهم إسلامهم بقبول مبدأ المشاركة الدولية لتحقيق مصالح عليا للإنسانية ، لتحقيق تعايش بشري على أساس من العدل والأمن والاستقرار؟ وهل المسلمون يصرون على أن لا يحقق العدل إلَّا بالسيادة السياسية من خلالهم أم أنهم يقبلون بكل ظاهرة تحقق العدل في الإنسانية ويصحبون هم شركاء في إقامة العدل بالأرض ويقبلون بالتعددية السيادية للكيانات السياسية من غير المسلمين؟ هذه أسئلة أيها الإخوة، أسئلة نواجهها ونحن نلتقي مع غير المسلمين بملتقياتنا وندواتنا وفي مؤتمراتنا ونجد أنفسنا، لا أقول عاجزين، ولكن مضطربين في الإجابة الدقيقة عليها؛ لأننا إذا رجعنا إلى كتبنا المرجعية نجد اختلافًا كبيرًا، والبارحة سهرت سهرة طويلة مع ما قدم في قضايا العلاقات الدولية وفي قضايا الغزو الفكري، مع تقديري لكل ما قدم من جهود، لكل ما قدم وبذل من إمكانيات ودراسات موضوعية وعلمية، لكن عندما يقترب الأخ من قضية العلاقات الدولية يصبح متحفظًا ويتحدث كلامًا مقننًا صغيرًا لا يستطيع أن يقول فيه شيئًا، فكأنه يرى أن هذه النقطة إما أنه غير مؤهل أو أنه محرج أدبيًّا أن يقول كلامًا أو يقول قناعاته، فأرجو أيها الأحباب في مثل هذا المجلس أن نكون صرحاء وأن نواجه القضايا بجرأة وبجدية وبموضوعية، وأن نكون موضوعيين مع أنفسنا حتى نستطيع أن نكون موضوعيين مع غيرنا وهذه قضية، قضية ثانية الحقيقة أريد أن أختم بها حديثي، عندما تحدث الأخ الكتور طه العلواني وهو يعيش الآن في الغرب وكنت أحسب أنني سأسمع منه كلامًا يشفي غليلي إلَّا أنني للأسف صدمت، صحيح أنه قال معاني كثيرة هي موضع اتفاق لاشك في ذلك ، إلَّا أنني صدمت أنه قال معاني أحسبها أنها موضع نظر وتحتاج منه إلى مراجع لأنها تشكل أساسيات في الفهم الإسلامي في مواجهاتنا الدولية مع الآخرين، وبالتالي ما ينبغي نحن أن نواجه القضايا بعاطفية وأن نواجهها باستعلاء إيماني معزول عن واقعية، نعم الاستعلاء الإيماني عندنا شيء أساسي لاشك في ذلك ، لكن هذا الاستعلاء الإيماني كيف تعامل من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ومع خصومه ومع غير المسلمين؟ نجد أن السيرة في الحقيقة تكتنز لنا كثيرًا من المآثر التي تجعلنا أن نعيد النظر في قضية تعاملنا مع غيرنا مع الحفاظ على الثوابت والمنطلقات ومع الحفاظ على الاستعلا الإيماني في إطار قوله تعالى:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .

هذه مداخلة متواضعة ورؤوس أقلام ما أردت أن أفصل بها والتفصيل بها يطول ، وشكرًا لكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 2283

الشيخ مصطفي الزرقاء:

بسم الله الرحمن الرحيم.

إخواني الأساتذة الكرام، أنا لا أريد أن أكرر أو أخوض في الموضوعات الأساسية التي عرضها الأساتذة الكرام وأوفوا فيها على الغرض، ولكني أريد أن ألفت الأنظار إلى ناحية هي في ذاتها فرعية من مئات فروع قاعدة الغزو الفكري وأساليبه ووسائله، ولكنها في نظري هي أهم في عصرنا هذا وحياتنا الواقعية من الجوانب الأخرى الأساسية في هذه القاعدة، تلك هي قضية التلفاز، وكنت أحب أن يركز عليها الكلام بالقدر الذي تستححقه قضية التلفاز، تعلمون ولا أريد أن أطيل فكلّكم يعلم التفاصيل وكلكم أو معظمكم ومعظم المسلمين أصبح هذا الجهاز في بيته يغزو عائلته وأولاده وبناته وزوجته وما إلى ذلك ، وكل هذا ينقل الحياة الغربية بما فيها من أمور تتنافي تمامًا مع الإسلام ومن سلوكيات انحلالية، وتعرفون مدى هذه الكلمة ومدلولها كل هذا ينقل، كان ينقل قديمًا قبل التلفاز عن طريق السينما وكان للإنسان أن يمنع أولاده أو أسرته عن السنيما فلا يأذن لهم، ولكنه لم يعد يستطيع أحد أن يخلي بيته من التلفاز الذي أصبح وسيلة معشوقة لدى أولاده ولو كانوا طلابا بالمدارس ويلهيهم عن دروسهم وكذا وكذا، وخاصة سلوك النساء الذي يراه في التلفاز، هناك غزو دخل بيوتنا يعنى الكتب والأساليب والمستشفيات، وكل ما تحدث عنه الإخوان إنها في مجال خارجي ولكن هذا الجهاز وما أسس عليه في برامجه التي معظمها برامج يهودية إخراجاتها السينمائية مخططة من قبل اليهود هذا خصص خصيصًا لهذا التهديم الأخلاقي والسلوكي وما إلى ذلك مما تعلمون ونشر الانحلالية، هذه الانحلالية هي التي تسهل بعد ذلك كل وسائل الغزو الفكري الأخرى أن تنفذ بلا معارض ولا حاجز، لا أريد أن أكثر الكلام لأنكم تعلمون من واقعه مثلما أعلم ولكني أيضًا في الوقت نفسه أحب أن ألفت النظر إلى ظاهرة نأسف لها، وهي أنه في البلاد الموثرة وخاصة في بلاد الخليج أصبحت هناك وسيلة لتعميم الاطلاع على جميع محطات وقنوات التلفاز، ذلك الهوائي الراداري الذي هو شبيه برادار الأقمار الصناعية، وقد بلغ خمسة أمتار وقد يبلغ مترًا واحدًا وينقل إلى صاحب البيت وأسرته وأولاده وبناته وزوجته، ينقل إليهم القنوات التلفازية وبرامجها التي تعمل وخاصة في أمريكا على مدي أربع وعشرين ساعة، ينتقل فيها من برنامج إلى برنامج ومن محطة إلى محطة ويعرض فيها في منزله وفي بيته وتعرض فيها الأفلام الماجنة والخلاعية التي لا تعرض عادة في السهرات العادية وحدودها من الليل، كل هذا أصبح موجودًا ومنتشرًا، وتعلمون ما وراءه من مآسٍ وما أنتج من سلوكيات ومن انحلاليات، أنا أرى وأريد أن أوجز جدًّا أن يصدر عن هذا المجمع الكريم توصية وترسل إلى حكومات البلاد الإسلامية جميعها عربية وغير عربية، نظرًا لأن هذا الجهاز وهذه الهوائيات المتطورة جدًّا والتي تساعد على نجاح الغزو الفكري في كل آفاقه وسلوكياته هو بيد الحكومات، يعني اليوم في العالم الإسلامي كله والعربي قضية التلفاز والبث وما يتبعها، كلها في يد وسائل الإعلام في حكومات البلاد الإسلامية.

ص: 2284

لذلك أقول أن يتوجه هذا المجمع الكريم بتوصية إلى حكام البلاد الإسلامية جميعًا بأن يتقوا الله في توسعة وتوسيل اقتناء هذه الرادارات على الأقل وأن يهتموا بالأفلام التي يستوردونها ويبثونها من محطاتهم المحلية، أن يهتموا بتنقيتها وأن لا يسمحوا فيها لكل ما يراد، فهناك من العروض التي عرضت في التلفاز في البلاد الإسلامية والعربية في مدى الحقب الماضية ما يندي له الجبين من المناظر الانحلالية والدعوات الانحلالية، ولا أريد أن أذكر بلدًا بعينه، جاء هذا الجهاز الهوائي المتطور فزاد الطينة بلة، فأرجو أن يصدر توصية بأن تتقي الحكومات الله في أخلاق رعيتها وأن يراقبوا الأفلام المستوردة، فلا يسمحوا لكل فيلم وإن كانت هذه المراقبة حاصلة ولكنها ضعيفة جدًّا، والأفلام الانحلالية كثيرة الوقوع في كثير من البلاد دون اكتراث فأن يدعوهم إلى ذلك وأن يعطوا توصية في منع الهوائيات المتطورة هذه الرادارية، ومنعها على الأسر والعائلات وأن لا تكون في البيوت، هذه يجب أن تبقي في يد الحكومة لتلتقط ما تشاء باعتبار أنها تحتاج أن تعرف كل شيء عما يجري ، ولكن لا يسمح بها للبيوت فتكون مثالًا، على أن هذه الأمة كلما زاد ثراء أحدها يزداد إقبالًا وانهماكًا وشهوة عارمة في أن يستجلب إلى بيته وأسرته كل مظاهر الغرب وانحلالياته والسلام عليكم.

ص: 2285

الشيخ عبد العزيز الخياط:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أود يا فضيلة الرئيس بهذه الكلمة أن أنوه بأمور ربما لم يتعرض لها الإخوة الكرام، نحن نعلم أن الغزو الفكري هو أشد خطرًا من غزو السلاح وأن الاتحاد السوفاتي لم يسقط بالقنبلة النووية ولا بالسلاح الذري النووي وإنما سقط بغير ذلك، ولهذا خشيتنا من هذا الغزو أن نزداد سقوطًا، لذلك أحببت أن أقول لإخوتنا الذين تناولوا الأبحاث ـ وهم مشكورون ـ ولم يتناولوا الغزو الصهيوني الفكري في الإذاعات، في التلفزيونات، في الكتب، في المجلات، في الأندية، في الدعوات المشبوهة مثل شهود يهوه، مثل ثورة المسيح، مثل الماسونية، مثل كذلك النوادي التي ثبت الغزو الفكري من خلال الطرق الكثيرة مثل نادي الروتاري، مثل الليونز، وأمثالها، فاستكمالًا للغزو الفكري الإسرائيلي الذي بدأ في مطلع فجر الإسلام من أيام عبد الله بن سبأ وبعد ذلك استمر في التفسير وغيره.

الأمر الثاني أن هناك غزوًا فكريًّا عانينا منه وما زلنا نعاني يتسلل من خلال الأحزاب سواء كانت هذه الأحزاب مسلحة أو غير مسلحة وسواء توصلت إلى الحكم أم لم تتوصل إليه، وأذكر على سبيل المثال أننا عرفنا في المنظمات المسلحة التي كانت في الأردن وفي بعض البلاد العربية أثناء ما يسمي بالنضال ضد الصهيونية دخلت علينا منظمات تحمل الفكرة الماركسية وتحمل الفكر التبشيري، واسمحوا لي أن أكون صريحًا في هذا الأمر فقد عاينت منه الكثير وحاولوا اغتيالي، وعلى سبيل المثال منظمة جورج حبش ومنظمة نايف حواتمه وأمثالهم الذين كانوا يدعون صراحة وعلانية إلى هدم الإسلام، أذكر أنه في منتدى عام في مجمع النقابات في عَمّان مرة ومرات وقف أحدهم يخطب ويقول: إن أول ثورة عربية هي ثورة مسيلمة ضد الإمبريالي أبي بكر، فهذه دخلت وأفسدت كثيرًا من شبابنا، ومازلنا نذكر حزب البعث العربي استكمالًا للأحزاب التي تولاها القوميون النصرانيون مثل قسطنطين زيريف وأنطون سعادة وأمثلهم استطاعوا أن يعبثوا في بلاد عربية وأن يفسدوا شبابها، ولقد علمت مؤخرًا ولا أدري إن كان هذا الخبر موثوقًا أم لا، لكن في نشرة وصلت إليَّ قبل ستة أيام أن ميشيل عفلق أصله يهودي من اليونان وأن زوجته هي ابنة جولدا مائير، نعم هذا علمته أخيرًا فإذن هذه ينبغي أن ننتبه إليها وأن نطلع عليها.

ص: 2286

هذه الناحية لكن أيضًا هناك مؤسسات كثيرة ولعل بعض الأخوة يعرفون عن مؤسسة أريد أن أعرف بها لأننا وقعنا في مواجهة صريحة وخفية معها، هذه المؤسسة هي في نيويورك تسمي مؤسسة الأديان العالمية في نيويورك، هذه المؤسسة هي إحدي المؤسسات للحركة التوحيدية وقد تأسست في منتصف القرن الحالي على يد رجل كوري يُدعى الأب مون ويلقب بآدم الثالث والمسيح، وهذا الرجل حسب تعبيرهم جاءه الوحي منذ ثلاثين عامًا وتركت روحه الأرض وصعدت إلى العالم الروحي وهناك التقي بسيدنا آدم وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء وقد باركوا خطواته في نشر تعاليم الحركة التوحيدية في الأرض، ويقول مون: بأن الوحي طلب منه أن يبدأ بنشر دعوته في أمريكا لأنها مركز الفساد والانحلال في العالم ومن خلال إصلاحها يصلح العالم كله، ولهذه الحركة أتباع يصل عددهم إلى خمسة ملايين يتركزون في أمريكا وكوريا واليابان، يعتقد مون أن كوريا هي إسرائيل الثالثة التي ستحقق رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، وكلمة التوحيد لديهم تعني أن يتوحد الإنسان مع ربه وكذلك أن تتوحد جميع الأديان تحت مظلة هذه الحركة، العقيدة في هذا الدين الجديد كما يزعم مبنية على أرضية من التاريخ اليهودى النصراني المأخوذ من التوراة والإنجيل، وهذا في نظرهم هو التاريخ الأساسي أما تاريخ الأمم الأخرى بما فيها التاريخ الإسلامي فيعتبر هامشيًّا، هذه الحركة تحرم على أتباعها التدخين وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والزنا، وتعتبر العائلة من أهم مرتكزاتها حتى يستجلبوا الناس والمسلمين بصورة أخص، فقد حدثت عن أعضاء منهم يحفظون القرآن الكريم ويحفظون البخاري ويناقشون على أساس هذه الحركة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعلى كل من ينضم إليها أن يتزوج وينجب أطفالًا، ومون هذا هو الذي يختار الزوجة أو الزوج، وغالبًا ما يكون الزواج بين عرقين مختلفين، وهو الذي يحدد للزوجين متى ينجبان الأطفال؟ ويتلخص تاريخ الإنسانية في نظرهم كالآتي:

ص: 2287

خلق الله سبحانه وتعالى آدم لأنه كان بحاجة إلى الحب وكان على آدم أن يقيم ملكوت الله بالأرض، ولكن الخطيئة التي ارتكبتها حواء يإغوائه بأكل الثمرة المحرمة ثم عندما ارتكبت الخطيئة مع الشيطان أسقطته وأفشلت مهمته وأورثت الخطيئة لذريته وحواء. عندما جاء عيسى عليه السلام أراد الله سبحانه وتعالى أن يقيم الملكوت وأن يرفع الخطيئة عن البشر، لكن عيسى عليه السلام فشل في مهمته لأنه لم يتزوج ولم يولد له ولد، فنجاح المهمة مرهون بشروط ثلاثة: أن يبلغ الإنسان الكمال في نفسه وأن يتزوج ويتكاثر وأن يسيطر على الكون، فمون هذا حقق الشرطين الأولين وهو بصدد تحقيق الشرط الثالث كما يزعم وهو أن يسيطر على الكون، ومن ضمن معتقدات أتباع هذه الحركة أن جميع الأنبياء والأديان بما فيهم الإسلام كانوا عبارة عن تمهيد لقدوم آدم الثالث والمسيح المنتظر وهو كما يسمي نفسه الأب مون الذي حلت عليه روح المسيح وأنه عاد ليكمل رسالته في تحقيق ملكوت الله في الأرض وإحلال السلام في العالم، أما عن مفهوم الثواب والعقاب لديهم فهم لا يؤمنون به، ويقولون إن الجنة والنار ما هي إلَّا رموز، وخاصة عندما ذكر القرآن الكريم أن الجنة هي الملكوت في الأرض والنار هي بعد الإنسان عن ربه. لهذه الحركة مشاريع اقتصادية ضخمة يستغلون عددًا كبيرًا من الناس ومن المسلمين بالذات في أنحاء العالم، ولدي أسماء بعضهم في الأردن ولا أدري في البلاد الأخرى وهم من وزراء وأصحاب مشاريع، ولمؤسسة الأديان العالمية مسرح في منهاتن واستديوهات لتسجيل أغاني الروك أندرول ومزارع لتربية الخيول وإقامة مباريات القفز عن الحواجز، ولها أيضًا مؤسسات عالمية منتشرة مثل مؤسسة الأديان العالمية وتحالف الحرية الأمريكي ومنظمة كاوزا لمحاربة الشيوعية وأكاديمية السلام العالمي للأساتذة ومجلس القمة للسلام العالمي وغيرها، يؤكد مسؤولون في هذه الحركة بأن مون كان له دور كبير في إسقاط الشيوعية وتفتيت الاتحاد السوفياتي وأنه سعى جاهدًا أثناء أزمة الخليج ألا تتحول الحرب إلى حرب دينية، وقد بدأ الآن اهتمام هذه الحركة ينصب على العالم العربي والإسلامي، ويؤكد بعض أعضاء هذه الحركة بأن حل القضية الفلسطينية موجود لدى مون وسوف يعرضه في الوقت المناسب وله فندق في نيويورك من عشرات الطوابق لا ينزل فيه نزلاء بالأجرة وإنما ينزل فيه الناس الذين يستضيفهم، ويستضيف مجموعات متعددة شهريًّا من أنحاء العالم العربي والإسلامي وغيرهم من مجموعات من الشباب والفتيان والفتيات لدعوتهم إلى هذه الدعوة الحركة الصهيونية التبشيرية الجديدة. وشكرًا.

ص: 2288

الشيخ معروف الدواليبى

بسم الله الرحمن الرحيم.

سيدى الرئيس أحاول أن تكون كلمتى مختصرة ولكنها في جوهر القضية، وذلك حول مفهوم العلمانية. من درس الكهنوت دراسة ليتعرف على التشريع الكنسي يجد أن الكهنوت يقسم الشعب إلى طبقتين؛ طبقة تتصل مع الله وهي طبقه الكهنوت؛ ثم طبقة الشعب التي تأخذ الأوامر من الكهنوت وتسمى الشعب ، والتعبير الأصلى اليونانى:(لايوس، والله: تيوس) ولذلك نشأ عنها ما يسمى بالدول التيوقراطية الذين لا تصح رئاستهم في استعمال السلطة - الملك ورئيس جمهورية ونحو ذلك، أو الأصح الملك - إلا بعد أن يأخذ السلطة من الكهنوت؛ لأن الكهنوت يمثل الله، وأما الشعب فلا يمثل الله، ولذلك يخضع الشعب والملوك إلى الكهنوت لتزويدهم بالسلطة ، وعندئذ يكون للملك حق الملك.. وكان مما يؤخذ على الملوك منذ نشأت الكثلكة وحتى الآن في مختلف العقائد الفرعية عن الكثلكة عندما يتوج الملك يتوج نكاية في إسرائيل الذين يعتقدون أن إسرئيل صلبت المسيح فيتوجونه، فملك إنجلترا في الصيغة الرسمية حتى الآن يتوج ملك إسرائيل نكاية في إسرائيل التي تقول إنها صلبت المسيح، ويقولون إن الإسرائيليين أصبحوا هم إسرائيليين الروح، فمن آمن بالمسيح وأنه صلب فهو إسرائيلى ، وأما من لم يؤمن بالمسيح وبأنه لم يصلب فهو ليس بإسرائيلى، ولذلك يتوج الملك ملك إنكلترا حتى الآن بملك إسرائيل، ومن الغريب منذ سنتين كنت اجتمعت مع بعض الإخوان الذين كانوا في زيارة لملك إسبانيا فقال الملك إسبانيا الحاضر كارلوس مع إخوان من الفلسطينيين: أنا توجت أيضًا باسم ملك إسرائيل، فالصيغة قامت اليهودية لأن يتولى عندما يتوج يطلب منه منع لعن اليهود، ولذلك الحركة اليهودية قامت واستطاعت أن تتوصل في معنى لأخذ السلطة من الشعب لا من الكهنوت أي لا من الله، وتوفقت إليها، غير أن النهضة الصناعية والعلمية التي ابتدأت منذ الخامس عشر حتى الثامن عشر وظهر علماء ومنهم جاليليه الذي قال بدوار الأرض فكفرته الكنيسة وحكمت عليه بالطرد ومنهم من حرقتهم، فانفصل العلم عن الدين عندئذ ، ووضعوا معرفة بالمعرفة العلمية ، فيقولون المعرفة العلمية هي كل معرفه خضعت للحس والتجربة، ولما كان القول بالله لا يخضع بالحس والتجربة فليس القول به من العلم، ومن هنا تمكنت العلمانية من معنى آخر وتبنتها الأنظمة الدولية خاصة عن طريق اليونيسكو أنه لا يجوز أن يكون تعريف المعرفة العلمية إلا ما يسمى بالمعرفة التجريبية أي التي خضعت للحس والتجربة، وما لا يخضع للحس والتجربة لا يجوز أن يدرس في المدارس العالمية كلها، وهذا التعريف موجود في مدارسنا ، في كليات التريبة حتى في البلاد الإسلامية بأجمعها، المعرفة العلمية ما خضع للحس والتجربة وما لا يخضع للحس والتجربة ليس القول به من العلم، ولكن في التعريف الكامل في الكتب الشيوعية يقولون: لما كان الله لا يخضع للحس والتجربة فليس القول به من العلم، فالعلمانية إذن نشأت من معنيين معنى كانت اليهودية تريد أن تقاوم السلطة حتى تتخلص من نفوذ الملوك ليتلقوا من الكهنوت اللعن وكان واجبًا في كل أسبوع أن تخطب الكنيسة بلعن اليهود وبأمر الملك وإذا لم يخطبوا فإنهم يكونون ملعونين، فاليهودية تخلصت بذلك فأصدرت المعنى الأخير في المعرفة العلمية التجريبية بالاتفاق مع العلماء بإقصاء الدين كله، هذا معنى ثان وليس هو المعنى الأول لكن المعنى الثاني أصبح أخطر لأنه يمشى ليس على أساس عداء ما بين اليهود والكنيسة وإنما أصبح دستورًا في نظام اليونيسكو، ولا يجوز أن يسمح للمدارس ابتدائية وثانوية وعالية أن يدرس فيها الدين باسم العلمانية، ومن الأسف أن هذا التعريف موجود في كل الكليات التربية بدون استثناء في جميع الجامعات بالعالم الإسلامي، ومن الواجب أن يتفرغ مؤتمر المجمع الفقهي للتنبيه على هذا التعريف وضرورة تعديله، كما كنت اقترحته في مجتمع دولى عام عقد في سنة تسعمائة وثمانية وسبعين في هيروشيما بطلب من مائة عالم من علماء الذرة المتطورة وأرادوا أن يعقدوا ذكرى إلغاء القنبلة الذرية في هيروشيما في نفس الموعد تحت عنوانه " أما آن للعلم أن يصطلح مع الدين " ودعا هؤلاء العلماء ممثلوا الأديان الثلاثة دعوا البابا فأرسل كردينالًا ودعوا أيضا البوذية فأرسلت أكبر عالم عندهم ودعوا المملكة السعودية بإعتبارها تمثل الإسلام فانتدبت فكان لى شرف أن أمثل باسم الإسلام وعن طريق المملكة بأن أحضر هذه الندوة، فأنا ذهبت وليس عندى من عنوان وخلفيات غير العنوان الذي وضعوه:(أما آن العلم أن يصطلح مع الدين) فتوليت كتابة كلمة الإسلام، وبنيت بأن الإسلام يولى العلم أهمية قصوى حيث يعرض كل شيء على العقل والفكر والعلم، وقد جاء في غير آية من القرآن، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يعلمون.......إلخ

ص: 2289

فأما الكردينال فحضر ولم يتكلم طول الاجتماع وكذلك البوذى حضر ولك يتكلم طول الاجتماع، أما مندوب الإسلام والمتمثل في شخصى، فأنا أرسلت كلمتى مسبقًا فوجدوا أن الديانتين الأخريين ما كتبوا شيئًا ولذلك جعلوا كلمة الإسلام تلقى في الافتتاح الذي يعى إليه عادة جمهرة من مختلف الجامعات، ولكن بعد الافتتاح يبقى المجلس مغلقًا خاصًّا بمن دعي من حوار فألقيت كلمة الإسلام أمام الجميع وأنها هي المتفقة مع المفهوم الدينى الإسلامي يقول كل شيء عنده ، حتى ذات الله سبحانه وتعالى لا يعرفه إلا العلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} فدهشوا من هذا التعريف، ولما افتتحت جلسة المناقشات مائة عالم من علماء الذرة وكان في مقابلهم الكردنيال ورئيس البوذية وأنا الذي أمثل الإسلام، فالمائة عالم كانوا يحملون على الكنيسة يقولون: إنكم بحرق العلماء وتفكيرهم أجبرتمونا على أن نتخذ تعريفًا للعلم هذا التعريف التجريبى وأن كل معلوم خضع للحس والتجربة، ولذلك أبعدنا الدين نكاية بكم عن العلم.

ص: 2290

الشيخ أبو بكر دوكورى:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شكرًا يا سيدى الرئيس، أساتذتى الكرام، لا يخفي عليكم أن هذا الموضوع-أعنى الغزو الفكري- موضوع هام وخطير؛ لأنه أفتك سلاح سلط على شعوبنا الإسلامية حتى الآن؛ لأنهم استطاعوا بهذا السلاح أن يحققوا ما لم يستطيعوا تحقيقه بأسلحتهم الفتاكة والمتطورة، فالصواريخ والقنابل تستطيع أن تحرق وأن تقتل وأن تدمر الشعوب الإسلامية، ولكنها لا تستطيع أن تغير عقائد المسلمين، بل أثبتت التجارب أنه كلما حورب المسلمون بهذا السلاح كان تشبثهم بعقيدتهم أكثر وتمسكهم بدينهم أقوى، وقد أدرك الأعداء هذه الحقيقة بعد تجارب عديدة وكثيرة؛ ولذلك لم يعودوا يعولون كثيرًا على هذا السلاح، وإنما ركزوا على الغزو الفكرى الذي أعطاهم نتائج إيجابية تتمثل في تشكيك المسلمين في عقيدتهم، احتقارهم لقيمهم الدينية وحضاراتهم التاريخية، وربما انتهي الأمر بهم إلى الارتداد عن الإسلام والعياذ بالله، إذن فلو خصصت دورة بأكملها لهذا الموضوع الخطير موضوع الغزو الفكري لما كان ذلك كثيرًا.

ص: 2291

وأنا وإن كان موضوع بحثى عن الشبه التي تثار حول تطبيق الشريعة الإسلامية إلَّا أننى أدرك أن أخطر أنواع الغزو الفكري تمكن أعداء الإسلام من الهيمنة على التعليم في عالمنا الإسلامي أسلوبًا ومنهجًا، فهنا مكمن الشر كله حيث فرضوا التعليم المختلط بين الرجال والنساء ، فانتهي الأمر إلى وقوع بنات المسلمين في أحضان المشركين أو النصارى يفجرون بهن ويتزوجون منهن على مرأي ومسمع من آبائهن وأقاربهن، فلا يستطيعون فعل شئ، فهذه الفتاة المسكينة وإن كانت مسلمة إلَّا أنها لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، فأهلها ليس لهم الثقافة الإسلامية الكافية لتثقيفها وحمايتها وتحصينها، فإذا وقعت في غرام مع زميل لها في الدراسة وتطور الغرام إلى قرار الارتباط التزاوجى بينهما وتقدم الشاب إلى أهلها بإعلان الخطبه فإن الأهل طبعًا سيرفضون لأن الإسلام لا يقر على التزاوج بينهما، ففي هذه الحالة فإما أن يكون أبو البنت قوى الشخصية أو ضعيفها ، فإن كان قوى الشخصية ضحكوا عليه وتظاهر الشاب بالإسلام وتسمى باسم إسلامي أمام الناس لكي يتمكن من الزواج منها ، وينتهي كل شيء فلا هو لايصلى ولا يصوم ولا يتغير شيء من سلوكه، وإن كان ضعيف الشخصية ففي هذه الحالة إما أن يستمر التعاشر بينهما بدون زواج وينجبون من الأولاد ما شاء الله أن ينجبا أو أن يرفع قضيتهما أمام محكمة مدنية لعقد الزواج بينهما، وهما أمران أحلاهما مر، والغريب في الأمر أن هذه الفتاة لا تزال تحتفظ بغيرتها الدينية، فعندما يولد لها مولود ويسميه الوالد باسم نصرانى تصر أن تسمى ولدها باسم إسلامي هي الأخرى.

ص: 2292

وكثيرا ما نرى في مجتمعاتنا من يحملون أسماء إسلامية ونصرانية مزدوجة، فإذا سألت أحدهم عن سبب ذلك قال لك إن أبويه وجميع أهله مسلمون وقد سموه بهذا الاسم الإسلامي بعد ولادته ولكنه تنصر في المدرسة وأخذ اسما نصرانيًّا إضافيًّا إلى اسمه الإسلامي الأصلي، فهذه الظاهرة متفشية كثيرًا في مجتمعاتنا الإفريقية، فالمدارس عندنا نوعان مدارس حكومية ومدارس خاصة أهلية، فالمدارس الحكومية ينتدب لها المعروفون بالكوبرا أي المعانون، يمكن كل الذين ينتمون إلى هذه الدول يعرفون هذا الاصطلاح ، فهؤلاء الكبرى يرسلون من الدول الغربية ويغدق عليهم الأموال بدعوى أنهم خبراء يوكلون بوضع مناهج دراسية لهذه الدول، ولا يكتفون بذلك بل يقومون بتدريس المواد الأساسية في المدارس الحكومية، فهذا يتيح لهم فرصة نشر وبث سمومهم كما يحلو لهم، والمدارس الخاصة الأهلية معظمها كما تعلمون مدارس تبشيرية، فهذه المدارس التبشيرية ـ مع الأسف الشديد لا يتقدم أحد إلى المدارس الحكومية إلا بعد العجز عن تسجيل اسمه بهذه المدارس لماذا؟ أولًا لأن الدراسة فيها بدون مقابل، فالوالد الذي يعانى من أعباء الحياة والمشاكل الاقتصادية الحادة عندما تتاح فرصة لولده للتعلم دون أن يدفع مليمًا واحدًا فإنه لا يتردد إلا إن كان عنده إيمان أبي بكر وعمر، وأيضًا فإن هذه المدارس تمتاز بجودة مدرسيها وكذلك باستقامة مناهجها وتفوقها على المناهج الحكومية، كل ذلك جعل الإقبال على هذه المدارس إقبالًا شديدًا جدًّا، فهذه مشكلتنا ولعل وعسى أن نجد من مجمعنا هذا الموقر حلًّا لهذه المشكلة فإنها جد خطيرة، ولا يفوتنى أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى أستاذنا ووالدنا الشيخ عبد العزيز الخياط الذي قدم لمحة موجزة عن حركة مون الخبيثه، فهذا المذهب الجديد بدأ يهدد هو الآخر مجتمعنا الإسلامي، وقد وصل إلى بلادنا في هذه السنة رجل يابانى جاء خصيصًا للتبشير بهذا المذهب الجديد ووجهوا دعوة إلى زعيم إسلامي بارز لحضور مؤتمرهم السنوى في نيويورك، والزعيم الكبير له ما لا يقل عن مليون من الأتباع فكان مشغولًا فأرسل أخاه الصغير الذي يدير مدرسة إسلامية، طبعًا تعلم في العالم العربى وأنا لا أشك في إيمان هذا الشاب وإخلاصه، ولكن غرر به؛ لأن المسلم عندما يسمع كلمه التوحيد في إصطلاحنا الإسلامي، التوحيد معروف طبعًا ولكن حركة مون يقصدون بالتوحيد توحيد الأديان الثلاثة، فهذا الشاب عندما رجع وقدم لي تقريًرا عن رحلته هذه استغربت لوجود شخصيات إسلامية كثيرة في هذه الندوة أو في هذا المؤتمر السنوى، والعجيب أن وزيرًا من وزراء الشؤون الدينية في دولة إسلامية شارك في هذا المؤتمر، فإن كان هو الآخر قد غرر به، كما غرر بذاك الشاب ، وإلا فلا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وشكرًا سيدى الرئيس.

ص: 2293

الشيخ عبد الله بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين اللهم صلَّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. أحاول أن أعلق بجملة من النقاط وإن كان الموضوع قد يحتاج إلى كلام كثير وهو موضوع يهم جميع المسلمين في حياتهم وفي معادهم ألا وهو موضوع الغزو الفكري، هذه النقاط تتمثل أولًا بتعريف بسيط ومختصر للغزو الفكري، ثانيًا في تفاوت الغزو الفكري وألوانه. ثالثًا بعض المقترحات التي تتعلق بمواجهة الغزو. أولًا الغزو الفكري هو عبارة عن أفكار واردة إلى الساحه الإسلامية عمدًا تحاول أن تنافس الإسلام وأن تحل مساحة من المساحات التي يشغلها الإسلام في حياة الناس سواء في ما يتعلق بالعقيدة أو يتعلق بالتشريع والمعاملات والعلاقات بين المسلمين، وهو مرادف تقريبًا للإحداث في الأمر وهذه الإحداث يكون من أصغر الأمور التي تدخل إلى الإسلام وأكبرها وهو الكفر، ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، إذن الغزو الفكري هو إحداث في أمرنا هذا، هو أن يحدث شيء في أمرنا وليس منه، قد يكون كبيرًا وقد يكون صغيرًا يتفاوت طبعًا، يتفاوت انطلاقًا من هذا التعريف، فإن الغزو الفكري قد يأخذ أشكالًا وألوانًا تتفاوت خطورة وإلحاحًا، ولهذا فعلينا أن نرتب الأولويات، بعض مظاهر الغزو الفكري تحاول اجتذاذ، أو بعض نواحى الغزو الفكري تحاول اجتذاذ شجرة الإسلام من أصلها، حيث تقدم نظامًا حياتيًّا متكاملًا كبديل للإسلام سواء كان دينًا كالمسيحية أو اليهودية أو المجوسية في الهند أو نظامًا بشريًّا كالعلمانية التي هي إلحاد للدين عن شؤون الحياة والماركسية كذلك التي نرجو أن تكون قد ماتت إلى غير رجعة، وتارة يأخذ شكلًا أكثر خبثا ودهاء كتقديم النزعة القومية لتفريق المسلمين وتجميد الأقوام سواء كانوا عربًا أو فرسًا أو تركًا طورانيين أو بربرًا وتقديم العنصرية كبديل للدين حيث عاشت الأمة العربية تحت الديانة التي تسمى بالقومية العربية فبنوا عليها ما يسمى بالاشتراكية العربية. وفي إفريقيا أيضًا انتحلوا اسم الإسلام الإفريقى وألف عن ذلك بعض الباحثين الفرنسين كتبًا سموها (إسلام أفريكا) يعنى الإسلام الإفريقى ويريدون بذلك أن الإسلام في أفريقيا هو إسلام آخر ليس الإسلام العربى وليس الإسلام كما نعرفه وكما جاء في التعريف من الله ورسوله، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .

ص: 2294

وسائل الغزو الفكري كثيرة، وأنتم تعرفونها يا سيدى الرئيس ويعرفها كل الذين درسوا هذا الموضوع، وتتمثل في مناهج التعليم، وتتمثل في المساعدات الغذائية، في برامج عندنا في إفريقيا، برنامج الفاو، وهو برنامج تابع للأمم المتحدة للغذاء، وهو برنامج يقوم عليه منصرون في شكل مساعدين يجولون كل القرى الإفريقية بما فيها تلك الواقعة في غرب أفريقيا وفي شمالها، وكذلك يكون في شكل مساعدات طبية. وأحكى لكم هنا قصة ذكرها لى بعض المسؤولين في أفريقيا أخيرًا بعد مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد في داكار، قام البابا بزيارة لأفريقيا كانت مبرمجة كان يريد أن يمحو آثار هذا المؤتمر الذي أظهر انتساب إفريقيا للعالم الإسلامي، فقام البابا بزيارة لجملة من الدول في غرب إفريقيا، في إحدى هذه الدول جاء ترافقه سفينة، هذه السفينة تقدم المساعدات للناس كمساعدات بريئة ولكنها في نفس الوقت تقدم لهم كتبًا مسيحية كما أخبرنى أحد المسؤولين في غرب أفريقيا بعد مؤتمر الأخير للقمة الإسلامية في داكار ، حيث قام البابا بزيارة لجملة الدول الإفريقية الواقعة على المحيط الأطلسى، هذا مثال لطريقة الغزو، تقديم المساعدات الغذائية، تقديم المساعدات الطبية، أهم وسائل هذا الغزو هي الإعلام الذي أصبحت مهمته كبيرة جدًّا، ونعرف أن بعض الإذاعات الدولية الموجهة إلى العالم الإسلامي بجميع اللغات هذه الإذعات تابعة، بعضها تابع لوزارة الخارجية مباشرة وأنا أعرف ذلك، في بعض الدول الغربية وزارة الخارجية هي التي توجه هذه الإذاعات، وتقدم في هذه الإذاعات تعليقات بعد النشرة يقوم بها خبراء على أعلى مستوى من المسؤولية سواء كان في وزارة الخارجية أو في معاهد الدفاع، ونحن سمعنا عن هؤلاء الخبراء كثيرًا الذين يتحركون كلما برقت بارقة من ظهور الإسلام في منطقة أو إقدام المسلمين في منطقة من المناطق على قرار تطبيق شريعتهم في شؤونهم الخاصة، فإنه تقوم قيامة هذه الإذعات وتكيل لهم السباب والشتم وتدعى أن القيامة قد قامت وأن الأصوليين قد قاموا في المكان الفلانى وأن غرقًا وطوفانًا قادمًا لا محالة في وجود هؤلاء. هذه الإذاعات موجهة إلى العالم الإسلامي تشكل أخطر سلاح في الغزو الفكري يوجهه إلى العالم الإسلامي، حيث - ونحن نعلم أن العالم الإسلامي مستهدف الآن - وردت تصريحات أخيرًا تشير إلى هذا وتقول من ركاب المسؤولين في الغرب تقول: إن الحضارة اليهودية المسيحية مهددة من طرف العالم الإسلامي ، واليهود بذلك يريدون أن يقولوا للمسيحيين: حضارتنا هذه واحدة وإن العالم الإسلامي يمثل تهديدًا لهذه الحضارة هذه أمور معروفه لدينا، أعتقد أنه يجب على جميع المسلمين أن يواجهوا هذا المد وهذا الغزو الفكري المتنامى، مواجهة عاقله ذكية حكيمة لا أقول أن يحملوا السلاح ، طبعًا حمل السلاح هو وسيلة من الوسائل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}

ص: 2295

تلك أمور، في البوسنة يحملون السلاح، في أفغانستان حملوا السلاح، في كشمير أيضًا حملوا السلاح وهذه وسيلة من الوسائل ليست مستبعدة أبدا عندما يضطهد المسلم وعندما يفتن في أعز شيء عنده وهو دينه، ولكن نحن كعلماء أو كطلبة علم علينا أن نحاول أن نقدم صورة واضحة عن هذا الغزو الفكري، يمكن أن نتبنى إنشاء موسوعة إسلامية حول مشكلة الغزو والانحرافات التي وقعت على هذه الأمة، يمكن أيضًا أن نقدم إلى الجهات الفكرية والمرجعية والحكومات الإسلامية تقريرًا واضحًا يحدد ما يراد بالعالم الإسلامي من استلاب، حيث يفقد بالتدريج كل مناعة ، فيسقط بسهولة ضحية لهذا الغزو، لنحاول إلهام المسؤولين في العالم الإسلامي هذا الوضع الجديد الذي نعيشه، يمكن أيضًا - وهذا اقتراح مهم جدًّا - إنشاء مرصد فكرى لدراسة تفاصيل خريطة الغزو الفكري وتضاريسها، ووضع الخطوط البيانية لهذا الغزو، هذا المرصد الفكري يمكن أن يكون تابعًا لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو رابطة العالم الإسلامي أو أي جهة أخرى، يقدم هذا المركز إستراتيجية متكاملة تواجه هذا الغزو الفكري ويقدم النصح لمن يريد أن يستمع إليه، يجب أن نقدم كذلك للعالم كله وجهًا صحيحًا وجميلًا للإسلام الذي لا يدعو إلى الحرب ولكنه يدعو إلى الإسلام يدعو إلى الحوار يدعو إلى الجدال {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .

يجب في النهاية أن نحاول ترتيب البيت الإسلامي لتجنيب المسلمين حروبًا أهلية يكونون هم حطبها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ، إن العالم الإسلامي يا سيدى الرئيس يقف اليوم على مفترق الطرق في كل أنحاء العالم الإسلامى أصبح الجدل أكثر حدة وإلحاحًا التيار الغربي فيه أصبح ملحًّا ومحاولًا متحفزًا، وأكاد أقول أصبح عدوانيًّا أكثر من ذى قبل لفرض قطيعة مع الإسلام وفي نفس الوقت أصبحت قوة الرفض في العالم الإسلامي أيضًا شديدة في مقابل هذا التيار، إن هذا الوضع يحتاج إلى ترشيد وللرجوع إلى منطق الشرع والعقل، ولا بد أن يقوم العلماء والمفكرون بدور أساسى للمصالحة مع النفس وللسير في الطريق الصحيح لبناء الحضارة الصحيحة:

فقلت أدعي وأدعو إن أَندى لصوت أن ينادى داعيان

وخلاصة القول، سيدى الرئيس، إن مدخل أي إصلاح ينطلق من المصالحة بين المسلمين والمسلمين، فيجب أن نكوّن لجنة لتقديم المنهج الوسط في جميع نواحى الحياة للمسلمين حتى يتجنبوا خطورة الحروب الأهلية والقفزات للمجهول. والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 2296

الشيخ معروف الدواليبى:

بسم الله الرحمن الرحيم،

سيدى الرئيس، كما قلت، ما كنت أريد أن أتكلم، أما وقد أثير التعريف فقلت أولًا: التعريف للعلمانية، وبالنسبة للكنيسة يراد به الشعب يقسم إلى طبقتين الكهنوت والشعب، والكهنوت هو يتصل مع الله والشعب هو تابع الكهنوت، فالعلمانية هو إلغاء الاتصال، ولا يجوز تعيين الملك ولا يجوز أن يمارس أي سلطة ما لم يباركه البابا عندئذ بإذن من الله، فقامت الثورة حتى تخلصوا من أن يكون للكهنوت سلطة في الدولة، وكلمة علماني هي ترجمة لكلمة لايوس اليونانية بمعنى الشعب، ولذلك ليست اللفظة هي علمانية وإنما هو من العَلْم في بعض اللغات العربية يراد بها الشعب، أما المعنى الثاني الذي طرأ فهو عندما اصطدم العلماء في القرن الثامن عشر مع الكنيسة عندما حرقت بعض العلماء مثل جاليليه وغيره الذين قالوا في بعض الاكتشافات، فأرادوا أن يخرجوا عن الكنيسة ويقصوا تدريس الدين من أساسه تحت ستار العلمانية، ولذلك قالوا: لا يجوز أن يدرس في المدارس الابتدائي والثانوية والعالية إلا ما يقر به تعريف المعرفة العلمية. أرجو من بعض الإخوان الذين ينتقدون لفظة المعرفة أن لا يدخلوا في متاهات، نحن نترجم الآن ما يقولون، لا يجوز أن يدرس في المدارس الابتدائي والثانوية والعالية إلا ما كان خاضعًا لتعريف المعرفة العلمية ، والمعرفة العلمية التي وضعوها هي ما تؤدى إلى المعلوم الخاضع للحس والتجربة، ولما كان الله سبحانه وتعالى كما يقولون ـ لايرى ولا يمكن أن نحدث عليه تجربة، ولذلك القول به ليس من العلم.

ص: 2297

فأولًا نحن نترجم ، ولما كان كلام يتعلق بلفظ (الله) يصعب على أن أقول الله ـ ونحن كمسلمين ـ بدون ما نقول سبحانه وتعالى أو نحل محله الشخص الإلهي ونقول الذات الإلهية، ولكن لسنا في مقام التجسيم، فهذا ما أردت أن أنبه إليه، فلما دعينا من قبل العلماء الآن ، علماء الذرة ومائة عالم من أمريكا ومن كندا الذين يشرفون على تطوير الذرة المتطورة وقالوا نحن الآن مدركون أنا ـ لسنا ببعيد ـ سنصل إلى إحداث قنبلة واحدة يكفي لأن تنفجر الآن نظام الكون كله، وليست هنالك سلطة تقضى على الإنسان في استعمال هذه القنبلة إذا كان لا يؤمن بالله، لذلك ندعوكم ـ والخلاف كان مع الكنيسة ـ إلى أن يصطلح العلم مع الدين، فلم يجب الكردنيال وأمضوا المدة كلها لم يتكلموا لا سلبًا ولا إيجابًا، ولذلك فكنت أنا المتدخل باسم الإسلام، فقلت: العلم بوجود الله عندنا يخضع إلى قواعد العلم، نفسر الآيات: لقوم يعقلون، لقوم يعملون، لذلك عندنا ليس هناك تناقض ما بين الإيمان بوجود الله وما بين العلم وما بين العقل- فانشرحت صدورهم- ولكنكم لا تستفيدون من هذا المؤتمر بالعودة إلى الإيمان ما لم نعدل تعريف المعرفة العلمية والتي تتكفل اليونسكو بتطبيقها في الجامعات وفي المدارس الابتدائية والثانوية، ولا تسمح أن تدرس العقائد الدينية لأنها ترجع إلى الإيمان بالله الذي لا يمكن أن يرى، فلا بد من تعديل هذا التعريف، فكان في جانبى بعض الشخصيات الإسلامية، بكل أسف الدارس لعلم التربية، وقال: أرجوك لا تهدم لنا هذا التعريف التجريبى لأنه إذا هدمنا المعرفة العلمية التي تعرف بعلم التربية وعلم النفس بأنها المعرفة التجريبية عندئذ فقدنا الوصول إلى الحقائق، قلت له: يا أخى أريد أن أصحح، فعندما تقول المعرفة العلمية هي كل معلوم خضع للحس، معنى ذلك أن المعلوم المتفق على الإيمان به لا بد أن يكون مرئيًّا، فأنا أقول عوض أن نقول: خضع المعلوم دل عليه العلم، فأنتم لماذا تدرسوننا في المدارس أن الأرض خاضعة تمسكها الجاذبية؟ فهل الجاذبية تخضع للمخبر؟ هل نراها؟ قال: لا، قلت له: لماذا غيبكم يدرس على أنه علمي؟ نحن نقول إن يمسكها إلا الله، أسألكم الجاذبية هل ترى؟ قال: لا، هل تبصر؟ لا، هل لها عقل؟ منطقنا يقول الله، نصفه بجميع صفات الكمال، لذلك أعدل المعرفة العلمية المنتشرة في كتب التربية في جميع كليات التربية من قولكم: هي ما خضع المعلوم فيها إلى العلم وإلى الحس والتجربة، ونقول: هي ما دل عليه الحس والتجربة، ما دامت الأرض واقفة وليس هناك شيء يحملها، الأفلاك واقفة، إذن هناك من يمسكها، والله سبحانه وتعالى علمنا في قرآنه الكريم:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} .

ص: 2298

إذن تعريفكم كان تضليلًا ويجب تعديله، لأنكم تدرسوننا الجاذبية وهي لاتخضع للحس والتجربة فيجب أن يعدل هذا التعريف ويطلب إلى اليونسكو بتعديله وتوزيعه حتى نستطيع أن ندخل الإيمان بالله في جميع مدارس العالم، فوافق المؤتمر بإجماعه بكبار العلماء ، وصدر القرار وطلعت التوصية، ولكن اليهودية العالمية المسيطرة من وراء اليونسكو تحول حتى الآن في هذا التعديل، وعلينا نحن معشر المسلمين أن نعدل في جامعاتنا المعرفة العلمية ونقول: هي كل معلوم دل عليه الحس والتجربة وليس خضع المعلوم للحس والتجربة.

وشكرًا سيدى.

ص: 2299

الشيخ عجيل جاسم النشمى:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا الهادى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما ذكره الإخوة فيه الكفاية، لكن أنوه تنويهًا إلى بعض القضايا التي لم يتطرق إليها أو أذكرها من باب تأكيدها، قبل هذا تعليق على كلمة العلمانية مجمع اللغة العربية طلب استبدال كلمة عَالَمانية بزيادة الألف على العين عالمانية بكلمة علمانية يعنى نستبدل كلمة العلمانية بالعالمانية، أما القضايا فأولًا: لا يمكن أن نواجه الغزو الفكري قبل توحيد جبهتنا الداخلية، وأهم ما يحتاج إلى التنبيه عليه في هذه الجبهة الداخليه أمران، أولا: ما زال هناك فجوة فيما بين الجماعات الإسلامية، فما زالت هذه الجماعات مشغولة بالجزئيات دون الكليات بحيث أصبحت تنميتها الفكرية تنمية إن صح التعبير تآكلية، فتُنَمِّى كل جماعة فكرها على حساب الطعن في منهجية غيرها، ويقع على الجامعات دور كبير في هذه الإشكالات بالتوجيه والتأصيل الشرعى السليم، ثانيًا: مازال هناك فجوة فيما بين بعض الحكومات والجماعات الإسلامية، وهذه الفجوة تغذيها الدول المعادية للإسلام، فكل من يرفع شعار الإسلام يواجه بأنه أصولى وأنه إرهابى ولو كان أسلوب دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، ولو كان أيضًا تحقيقه لمكاسبه بطريق ـ كما يقولون ـ ديمقراطى، ومن يتكلم نصرة لإخوانه قالوا هذه قضايا داخلية، لكن ماذا كان الأمر يتعلق بالمصالح الأجنبية فليس هناك شيء اسمه داخلي وخارجي، الغزو الفكري اليوم أصبح عبارة عن هجمات منظمة ترعاها دول، وهي بالتالى تحتاج إلى جهود الدول، وهذا يحمل دولنا المسؤولية ، فمثلًا

أهم واجهتين تحتاجان إلى جهود الدول أولا: الاستشراق الذي تكلم عنه الزملاء، فنريد أن نواجه الاستشراق بإنشاء المراكز لا للاستشراقية وإنما مراكز الاستغراب إن صح التعبير، وتعنى هذه المراكز بدراسة المناهج والفلسفات الغربية وتفنيدها ليكون موقفنا ليس موقف المدافع وإنما موقف الهجوم إن صح التعبير، القضيه الثانية التبشير الذي تكلم عنه الإخوة بما فيه الكفاية نريد مواجهة هذا التبشير بجهود الدول، ما زالت الدعوة الإسلامية تعتمد بعد الله تبارك وتعالى على جهود الأفراد في كل أنحاء العالم بأجمعه خاصة في إفريقيا تقوم على جهود الأفراد والجماعات، ونحن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى يبارك هذه الجهود:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

والغرب يدرك الآن أن المستقبل للإسلام، وكل دراساته تشير إلى أن الإسلام قادم، فجهودهم الآن هي في تعطيل مجئ الإسلام وكل هذا طبعًا فتح باب الأمل، لكن لا يخلينا من السمؤولية، هذا ما أحببت أن أضفيه وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.

ص: 2300

الشيخ الخليلى:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،

فقد سمعنا الكثير عن الغزو الفكري وأساليبه ولا أريد أن أضيف شيئًا جديدًا، وإنما هي خواطر خطرت بالبال تدفعنى إلى أن أترجمها في هذا المقال المختصر، العالم الإسلامي في هذا الوقت بالذات كان حريًّا أن يقود البشرية ويخرجها من حيرة وقعت فيها، إذ أفلست القيم المادية في هذا الوقت، ولا أدلُّ على ذلك من انهيار الشيوعية التي صورت للناس أنها الفردوس الذي يحلمون به، وما إفلاس الشيوعية إلا إفلاس للرأسمالية في حقيقة الأمر، فإن لجوء الذين كانوا يعتنقون الشيوعية إلى الرأسمالية لتحل لهم مشكلاتهم ما هو إلا هروب من الجحيم إلى الهاوية، والعياذ بالله، وما كانت الشيوعية في يوم من الأيام إلا إفرازًا للرأسمالية لأنها كانت كردة فعل للظلم الرأسمالى، ومن الذي يستطيع أن يخلص هؤلاء من حيرتهم التي وقعوا فيها ما بعد أفلست مبادئهم، إنما هم المسلمون الذين يحملون أمانة الله تبارك وتعالى في أعناقهم، وقد تحدث قبل ما يقرب من نصف قرن أحد مفكرى الأمة الإسلامية عن فشل الرأسمالية وعن فشل الشيوعية، وقال بهذا النص أو بهذه الترجمة: سيأتى بلا شك اليوم الذي تتحجر فيه الشيوعية في موسكو نفسها بدون أي ملجأ، وتتدهور فيه الرأسمالية في واشنطن نفسها بدون أي ملجأ، وتهيم فيه المادية في جامعات لندن وباريس بدون أي منقذ، وتتلاشى فيه العنصرية حتى عند البراهمة والألمان، وإنما تبقى عبرة في التاريخ قصة من يحمل عصا موسى تحت إبطه وهو يخشى من الحبال والخشب، إننا نتحدث عن واقع نعيش فيه الآن، فنحن نخشى من الحبال والخشب ونحمل عصا موسى تحت إبطنا، لأن في يدنا كتاب الله سبحانه وتعالى ، والله سبحانه وعد بأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون.

ص: 2301

فما أجدر هذه الأمة أن تعتز أولًا بقيمها، فما دامت الشيوعية التي تعتمد المادية أفلست، فإن هذا الفراغ الذي تركته لا يمكن أن يملأها إلا الإسلام الذي يعطى كل شيء من جوانب الحياة البشرية حقه، فيعطى الجانب الروحى حقه ويعطى الجانب المادي حقه، والذي جاء لما يحل مشكلات الناس إلى أن تقوم الساعة، سواء من ناحية اقتصادية أو ناحية اجتماعية أو ناحية ثقافية أو ناحية إعلامية أو أي ناحية أخرى، ولكن هل المسلمون اليوم يطبقون الإسلام، إن الفراغ العظيم الذي عند المسلمين أنفسهم هو المصيبة الكبرى، فهناك فجوة كبيرة بين قيم الإسلام وواقع الأمة الإسلامية، فإذا نظر أحد إلى الناحية السياسية أو الناحية الإعلامية أو الناحية الاجتماعية أو الناحية الثقافية أو الناحية التربوية يجدها بعيدًا عن الإسلام، فالإعلام الذي في بلاد الإسلام يغزو المسلمين في عقر ديارهم، يتخطى الحدود ويقتحم السدود ليغزو المسلمين في بيوتهم، ومناهج التربية والتعليم هي أيضًا بعيدة عن قيم الإسلام، عن غرس الروح الإسلامية في نفوس المسلمين، ثم من ناحية أخرى فإن أعداء الإسلام قد توصلوا إلى زعزعة ثقة المسلمين بموارثهم الفكرية والتاريخية، وهم بذلك قد أحرزوا نصرًا تحدثوا عنه بأنفسهم، فالمنصرون كانوا قبل كل شيء يهمهم أن يُنَصِّروا المسلمين، والمجتمعات التنصيرية أو المؤتمرات التنصيرية التي انعقدت كلها ينصب أهمها في ذلك ، فالمؤتمر التنصيري الذي انعقد في مصر برئاسة زويمر في عام 1906م، ثم تلاه بعد ذلك المؤتمر التنصيري في أدنبرج ثم المؤتمر في عام 1910 ، ثم المؤتمر التنصيري في لاكتيو في عام 1911م، كلها كانت تصب همها في هذا الإطار، وفي المؤتمر الذي انعقد في مصر وضعوا حدًّا لتنصير المسلمين في مدة خمسة وعشرين عامًا، وكان من كلام زويمر: إننا واثقون بأن المسلمين سيتلقون التعاليم النصرانية تلقائيًّا ما داموا يتلقون المعارف الأوروبية، وقال: بأنه يجب أن تقطع الشجرة ببعض أغصانها أي أن يحارب السملمون بأبنائهم الذي يتلقون المعارف من الأوروبين، إلا أن المدة التي حددوها انتهت وتحطمت آمالهم على صخرة الإسلام، فأفضى بهم الأمر أخيرًا إلى محاولة إبعاد المسلمين عن الإسلام، وبهذا يرون بأنهم يحققون أعظم المكاسب، وقد تحدث زويمر عن ذلك أيضًا في مؤتمر القدس في عام 1935م، إذ قال في هذا المؤتمر: إن مهمة التبشير التي ندبتكم من أجلها الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في تنصير المسلمين، لأن في ذلك هداية لهم وتكريمًا، وإنما هي في إخراج المسلم من الإسلام وجعله مخلوقًا لا صلة له بالله وبالتالى لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبهذا تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعمارى في الممالك الإسلامية. وهم حققوا نصرًا لا يستهان به في هذا المجال، لأنهم زهدوا المسلمين في مواردهم الفكرية والتاريخيه، فأصبح المسلم اليوم يرى أن مجده وعزه وشرفه في تقليد الآخرين، مع أن الدين الحنيف جاء بغرس اعتزاز المسلمين بالقيم الإسلامية وعدم تأثر المسلمين بسلوك الآخرين، كما جاء أيضًا بما يغرس في نفوس المسلمين الثقة بالعقيدة الإسلامية، وحذر الإسلام الحنيف من أية موالاة لأعداء الإسلام، فالله تبارك وتعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ} إلى أن قال سبحانه: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} .

هذه أمنية كل كافر.

ص: 2302

وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .

أي أن هذه الموالاة لا تنجم إلا عن مرض نفسانى، وفي هذا السياق نفسه حذر الله تبارك وتعالى من الارتداد؛ إذ قال عز من قائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .

هذا كله يدل على أن هذه الموالاة والاسترسال فيها تؤدى والعياذ بالله إلى الردة، لأن المسلم يزهد في قيم الإسلام شيئًا فشيئًا، قد يزهد أولًا في ما يسميه في الشكليات ثم ينتهي به المطاف إلى الزهد في الجوهريات، والمسلم الواثق بالله سبحانه وتعالى عليه أن يشعر أن أي مسلم كان على ظهر هذه الأرض هو حارس أمين، أولًا: هو حارس أمين يقف على ثغرة من ثغور هذا الدين يخشى أن يؤتى الإسلام من قبله. ومن ناحية ثانية هو مبلغ لأمانة الله إلى عباد الله، مبلغ لدعوة هذا الدين، والمسلمون الذي انطلقوا من صحراء الجزيرة العربية وكانوا كما يصفهم أحد الكاتبين كأنما جاء هذا القرآن ولفظ هذه الصحراء تحت شعاع الشمس فتفرقت ذرات هذه الصحراء في الأرض، ووقعت وراء كل ذرة عربية من هداية القرآن، أولئك المسلمون ساسوا الممالك التي كانت من قبل تساس من قبل أباطرة الأرض مع أنه لم يسبق للعرب قبل هذا الإسلام الذي شرفهم الله تعالى به أن ساسوا أمة من الأمم، لم يبسق لهم أن بنوا لأنفسهم دولة، اللهم إلا بعض الدويلات في بعض الأماكن، فكيف أمكن هؤلاء الذين خرجوا من صحراء الجزيرة العربية أن يسوسوا ممالك كسرى وممالك الروم على ضوء القرآن لولا أن الله تبارك وتعالى غرس في نفوسهم الإيمان، وكان أحدهم يقول: إن الله قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، والآن ونحن غزينا هذا الغزو ومع كوننا غزينا هذا الغزو نثق في وعد الله بأن ينصر هذا الدين ونثق بأن أية قوة في الأرض لا يمكنها أن تقف في وجه انتشار هذا الإسلام وظهور هذا الإسلام، كما لا يمكن لأي قوة في الأرض أن تمنع الشمس أن تطلع وأن تمنع النهار بأن يسطع، إلَّا أننا مع ذلك ما الذي أعددناه، إنما علينا أن نعد العدة، عملًا بقول الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .

ص: 2303

أولًا: علينا أن نقوى جبهتنا الداخلية كما سمعنا من بعض الإخوة، وذلك باجتماع شمل المسلمين ورأب صدعهم وتوحيد صفهم، دين الإسلام جاء داعيًا للوحدة كما جاء داعيًا إلى التوحيد نهي عن التفرق كما نهي عن الإشراك بالله تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، ثم بجانب ذلك علينا أن نغرس أيضًا في نفوسنا ونفوس أبنائنا الثقة بهذا الدين وأن نغرس هذه الثقة في حكامنا، بحيث لا يتصورون الإسلام شبحًا مخيفًا وخطرًا رهيبًا، كما يحاول أعداء الإسلام أن يصوروه لهم، علينا أن نعرفهم بأن عزتهم إنما تكمن بهذا الإسلام، وذلتهم إنما هي في البعد عن الإسلام الحنيف، وقد حرص أعداء الإسلام ـ كما سمعنا ـ أن يصوروا كل شاب مسلم يتمسك بدين الله خطرًا يهدد الأمن في البلاد، فوصموا المتمسكين بالإسلام بشتى التهم وألبسوهم أثواب الدعايات الفاجرة المختلفة، وحاولوا أن ينبزوهم بشتى الألقاب المنفرة منهم، كل ذلك لأنهم يعملون بأن تمسك المسلم بالإسلام هو الذي سيزلزل الأرض من تحت أقدامهم ما داموا معرضين عن هدى الله تبارك وتعالى، وعلينا أن نسعى لنشر المعارف الإسلامية، ونشر المعارف الإسلامية إنما يتم بوسائله المعروفة ، ومن أهم هذه الوسائل نشر اللغة العربية، فاللغة العربية يجب أن تنشر في أوساط المسلمين جميعًا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإذا كان المستعمر في كل البلاد يفرض لغته لأجل أن تنقل هذه اللغة إلى أبناء تلك البلدة أدبه وأفكاره فكيف بلغة الدين الحنيف لا تنشر في أوساط المسلمين، مع أن هذه اللغة لم تعد لغة العرب وحدهم بعد ما كانت وعاء لكلام الله سبحانه وتعالى، وقد خاطب الله تبارك وتعالى بها عباده في كتابه المبين، كما أن العباد المسلمين عندما يمثلون بين يدى الله تعالى يخاطبونه بها عندما يقولون: إياك نعبد وإياك نستعين، وقد قلت غير مرة إن من العار والخزى أن يحسن المسلم ـ أيًّا كانت جنسيته وأيًّا كان جنسه ـ اللغة الأجنبية لغة المستعمر الدخيل ولا يحسن اللغة التي خاطبه الله تبارك وتعالى بها، نحن معاشر المسلمين علينا أن نسعى إلى نشر هذه اللغة حتى لا نحتاج إلى ترجمة فيما بيننا، يجب أن تزول التراجم في بلاد الإسلام من أقصاها إلى أقصاها، ولا ترشح لغة لربط المسلمين بعضهم ببعض غير لغة القرآن بعدما كانت وعاء لكلام الله وكانت أيضًا وعاء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يفهم المسلم الإسلام الصحيح على أصوله وهو لا يفهم هذه اللغة، وعلينا أن نردم أو نسعى إلى ردم هذه الهوة السحيقة ما بين قيم الإسلام ومبادئ الإسلام وبين واقع الأمة الإسلامية، وعلينا أن نعرف أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، بحيث نعتد بموراثنا الفكرية وتاريخنا العظيم، ولا نحاول أن ننفصل عن ماضينا، ونحن فصلنا عن ماضينا في كثير من القضايا على الأقل قضية التاريخ، الآن مع الأسف الشديد تسأل المسلم عن اليوم فيجيب بالشهر الأفرنجى عن الشهر غير الإسلامي، ولا يتحدث عن الشهر الإسلامي، مع أن الله تبارك وتعالى يقول {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} .

ص: 2304

ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، جعلها من الدين القيم، والتاريخ الهجرى تاريخ أجمع عليه المسلمون في عهد الخلافة الراشدة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه واستمروا على هذا التاريخ طيلة ثلاثة عشر قرنًا ونصف القرن، وإنما تأثروا من بعد عندما غزوا من قبل أعداء الإسلام، هذا مثال من ضمن الأمثلة التي يجب علينا أن لا نتهاون بها وأن لا نهون من أمرها، هذا ما أردت أن أقوله. وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق للجميع وشكرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 2305

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم.

مع اعتذارنا الشديد عن كلمات بعض أصحاب الفضيلة ننهي هذه الجلسة المباركة بتأليف لجنة من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ الخليلى، الشيخ طه، الشيخ العجيل، الشيخ محمد الزيادى، الشيخ عبد القادر العمارى، الأستاذ الجناحي والعارضان والمقرر، ونرجو أن يتفضلوا بالتنسيق مع الشيخ عبد السلام قبل انصرافهم من هذه القاعة نظرًا لأنه لا بد من إنهاء القرار إعدادًا وصياغة قبل الصباح بإذن الله تعالى، ونرجو من الله سبحانه وتعالى التوفيق للجميع، وثمت أمران، الأمر الأول هناك الجلسة الصباحية مغلقة وتقتصر على الأعضاء ممثلى الدول والأعضاء الرسميين لهذا المجمع، وأما الجلسة الختامية إن شاء الله تعالى فهي في المساء بعد صلاة المغرب أي في الساعة السابعة والنصف تمامًا، والله ولى التوفيق، وبه ترفع الجلسة والسلام عليكم ورحمة الله وبركات.

ص: 2306

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 71/ 7/ 7

بشأن

الغزو الفكري

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9ـ14 مايو 1992م.

بعد إطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) ، والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صورًا مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذا الغزو وكيف أحبط كثير من خططه ومؤامراته.

وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة،

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول هذه البحوث يوصى بضرورة ما يلى:

1-

العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجًا في رسم علاقاتنا السياسية المحلية منها والعالمية.

2-

الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحصنهم من كل مظاهر الغزو الثقافي.

3-

تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى إطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعى وبصيرة.

4-

إعطاء المسجد دوره التربوى الكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل.

5-

رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة بثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف.

6-

الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية.

7-

الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات لدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردى والجماعى وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

ص: 2307

8-

الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم واتخاذها لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية الإسلامية.

9-

الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها.

10ـ الاستفادة الفاعلة والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخبر إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمالٍ لكل وسيلة متاحة.

11ـ الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان.

12ـ العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعتهم فيما بينهم بالطرق السليمة وفق أحكام الشريعة المعروفة إفسادًا لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم.

13ـ العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتى اقتصاديًّا وعسكريًّا.

14ـ مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض ودعم قضاياهم ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة.

كما يوصى المجلس أيضًا الأمانة العامة للمجمع باستمرار الإهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظرًا لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع إستراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته ويمكن البدء بقضيتى التنصير والاستشراق في الدورة القادمة.

والله ولى التوفيق.

ص: 2308

القَرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 65/1/7

بشأن

الأسواق المالية

إن مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.

بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الأسواق المالية " الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان.

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرر:

أولًا – الأسهم:

1-

الإسهام في الشركات:

(أ) بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.

(ب) لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.

(ج) الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.

ص: 2309

2-

ضمان الإصدار (UNDER WRITING) :

ضمان الإصدار: هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره وهذا لا مانع منه شرعًا إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان – مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم.

3-

تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:

لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.

4-

السهم لحامله:

بما أن المبيع (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.

ص: 2310

5-

محل العقد في بيع السهم:

إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.

6-

الأسهم الممتازة:

لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أوتقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح.

ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.

7-

التعامل في الأسهم بطرق ربوية:

(أ) لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وثوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.

(ب) لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملكه البائع، ويقوي المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.

ص: 2311

8-

بيع السهم أو رهنه:

يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقتضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.

9-

إصدار أسهم مع رسوم إصدار:

إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعًا ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرًا مناسبًا.

10-

إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار:

يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة) أو بالقيمة السوقية.

11-

ضمان الشركة شراء الأسهم:

يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

12-

تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:

لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.

كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام. وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.

ص: 2312

13-

حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:

يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلَّا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.

وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة.

14-

حق الأولوية:

يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

15-

شهادة حق التملك:

يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

ثانيًا – بيع الاختيارات

صورة العقد:

إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.

ص: 2313

حكمه الشرعي:

إن عقود الاختيارات – كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية – هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة.

وبما أن المعقود عليه ليس مالًا ولا منفعة ولا حقًّا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعًا.

وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها.

ثالثاً- التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:

1-

السلع:

يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:

الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.

وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.

الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.

وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.

ص: 2314

الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطًا يقتضي أن ينتهي فعلًا بالتسليم والتسلم.

وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين. ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة. فإذا استوفى في شروط السلم جاز.

وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلمًا قبل قبضها.

الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.

وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلًا.

2-

التعامل بالعملات:

يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.

ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.

أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.

ص: 2315

3-

التعامل بالمؤشر:

المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة. وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية.

ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده.

4-

البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:

ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم والصرف والوعد بالبيع في وقت آجل والاستصناع وغيرها.

ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة.

رابعًا – بطاقة الائتمان:

تعريفها:

بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري – بناء على عقد بينهما – يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالًا لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف. ولبطاقات الائتمان صور:

ص: 2316

- منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة. ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.

- ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة. ومنها ما لا يفرض فوائد.

- وأكثرها يفرض رسمًا سنويًّا على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسمًا سنويًّا.

وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

والله أعلم

ص: 2317

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 66/2/7

بشأن

البيع بالتقسيط

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجممع بخصوص موضوع: " البيع بالتقسيط ".

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرر:

1-

البيع بالتقسيط جحائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل.

2-

الأوراق التجارية (الشيكات – السندات لأمر – سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة.

3-

إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم.

4-

الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين، (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق. وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية. فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق التجارية.

5-

يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرًا.

6-

إذا اعتبر الدين حالًّا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي.

7-

ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألَّا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً.

والله أعلم.

ص: 2318

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 67/3/7

بشأن

عقد الاستصناع

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد استصناع".

وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرا لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامى.

قرر:

1– إن عقد الاستصناع - وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط.

2– يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:

(أ) بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.

(ب) أن يحدد فيه الأجل.

3– يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.

4– يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطا جزائيا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.

والله أعلم.

ص: 2319

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 68/4/7

بشأن

بيع الوفاء

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((بيع الوفاء)) .

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته:((بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع)) .

قرر:

1-

إن حقيقة هذا البيع ((قرض جر نفعًا)) فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء.

2-

يرى المجمع أن هذا العقد غير جائز شرعًا.

والله أعلم.

ص: 2320

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 69/5/7

بشأن

العلاج الطبي

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((العلاج الطبي)) .

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر:

أولًا - التداوي:

الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من ((حفظ النفس)) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع.

وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:

- فيكون واجبًا على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.

- ويكون مندوبًا إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.

- ويكون مباحًا إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.

- ويكون مكروهًا إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.

ثانيًا - علاج الحالات الميؤوس منها:

(أ) مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله.

وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه والنفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.

(ب) إن ما يعتبر حالة ميؤوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعًا لظروف المرضى.

ثالثًا - إذن المريض:

(أ) يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليه حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه.

على أنه لا يعتبر بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.

ص: 2321

(ب) لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية.

(ج) في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر لا يتوقف العلاج على الإذن.

(د) لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين) . ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر.

ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء.

والله أعلم.

ويوصي مجلس المجمع:

الأمانة العامة للجميع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة:

- العلاج بالمحرمات وبالنجس، وضوابط استعمال الأدوية.

- العلاج التجميلي.

- ضمان الطبيب.

- معالجة الرجل للمرأة، وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين.

- العلاج بالرقي (العلاج الروحي) .

- أخلاقيات الطبيب (مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر) .

- التزاحم في العلاج وترتيب الأولية فيه.

- بحث أنواع من المرض تنتهي غالبًا بعجز الأطباء أو ترددهم في العلاج، وأمثلة ذلك:

* شخص قد استشرى السرطان في جسمه فهل تتم معالجته أم يكتفى بالمسكنات والمهدئات فقط؟

ص: 2322

* طفل مصاب باستسقاء كبير في الدماغ (موت الدماغ) مصحوب بأنواع من الشلل والدماغ قد ضمر (لا تزال مناطق من الدماغ تعمل) ، فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ وهل إذا أصيب هذا الطفل بالتهاب في الزائدة أو التهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟

* شيخ هرم قد أصيب بجلطة بالقلب ومصاب بنوع من الشلل ثم أصيب بفشل كلوي فهل تتم معالجة الفشل الكلوي بالديلزة (الإنقاذ) ؟ وهل إذا توقف قلبه فجأة تتم محاولة إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟

* الشخص الذي أصيب دماغه بإصابات بالغة ومع هذا لا تزال بقية من الدماغ تعمل (لم يدخل في تعريف موت الدماغ) وهو فاقد للوعي ولا أمل في تحسن حالته، فهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف في قلبه يتم إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يعالج؟ ومن هو الذي يقرر التوقف عن العلاج في مثل هذه الحالات أهي لجنة من الأطباء؟ أم لجنة أخلاقية أم الأطباء مع الأهل؟

- بيان موقف الشريعة والسنة من هذه الأحوال والأنواع.

والله ولي التوفيق.

ص: 2323

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 70/ 6 / 7

بشأن

الحقوق الدولية في نظر الإسلام

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 ـ 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الحقوق الدولية في نظر الإسلام".

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، رأى ما يلي:

أولا:

يثني المجلس على الجهود المشكورة التي بذلت في البحوث التي قدمت ونوقشت في دورته السابعة حول هذا الموضوع، وقد رأى أن الموضوع من الأهمية والسعة بحيث يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة في الجوانب المتعددة التي ما زال الموضوع في حاجة إليها.

ثانيًا:

يتقرح المجلس تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد ورقة عمل لندوة متخصصة تعقد لمعالجة تفاصيل هذا الموضوع والخروج بمشروع لائحة للحقوق الدولية في الإسلام تعرض على المجلس في دورته القادمة.

ثالثًا:

يقترح المجلس أيضًا أن يكون من محاور ورقة العمل ما يلي:

1 ـ مصادر القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتطبيقات العملية عند الخلفاء الراشدين، كما يستفاد من اجتهادات الفقهاء في هذا.

2 ـ المقاصد والخصائص العامة للشريعة الإسلامية، والتي تترك أثرها العملي على المواقف كلها:

(أ) المقاصد الشرعية.

(ب) الخصائص العامة.

3 ـ مفهوم الأمة ووحدتها في الإسلام.

4 ـ مذاهب الفقهاء في أقسام الديار.

5 ـ الجذور التاريخية للحالة القائمة في العالم الإسلامي.

6 ـ علاقات الدولة الإسلامية في داخلها (الشعب والأقليات) .

7 ـ علاقات الدول الإسلامية بالدول الأخرى.

8 ـ موقف الدولة الإسلامية من المواثيق والمعاهدات والمنظمات الدولية.

رابعا:

يقترح المجلس على اللجنة التحضيرية أن تقوم بوضوع أوراق شارحة يسترشد بها الباحثون في تفصيل هذه المحاور وأن يكون ذلك في خلال الأشهر القادمة.

والله ولي التوفيق.

ص: 2324

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 71/ 7/ 7

بشأن

الغزو الفكري

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9ـ14 مايو 1992م.

بعد إطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) ، والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صورًا مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذا الغزو وكيف أحبط كثير من خططه ومؤامراته.

وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة،

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول هذه البحوث يوصى بضرورة ما يلى:

1-

العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجًا في رسم علاقاتنا السياسية المحلية منها والعالمية.

2-

الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحصنهم من كل مظاهر الغزو الثقافي.

3-

تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى إطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعى وبصيرة.

4-

إعطاء المسجد دوره التربوى الكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل.

5-

رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة بثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف.

6-

الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية.

7-

الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات لدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردى والجماعى وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

ص: 2325

8-

الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم واتخاذها لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية الإسلامية.

9-

الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها.

10ـ الاستفادة الفاعلة والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخبر إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمالٍ لكل وسيلة متاحة.

11ـ الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان.

12ـ العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعتهم فيما بينهم بالطرق السليمة وفق أحكام الشريعة المعروفة إفسادًا لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم.

13ـ العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتى اقتصاديًّا وعسكريًّا.

14ـ مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض ودعم قضاياهم ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة.

كما يوصى المجلس أيضًا الأمانة العامة للمجمع باستمرار الإهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظرًا لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع إستراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته ويمكن البدء بقضيتى التنصير والاستشراق في الدورة القادمة.

والله ولى التوفيق.

ص: 2326

البيان الختامى

الصادر عن الدروة السابعة

لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي

بجدة ـ المملكة العربية السعودية

في الفترة ما بين 7ـ12 ذى القعدة 1412هـ

9ـ14 من شهر مايو أيار 1992م

بسم الله الرحمن الرحيم

(صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)

في ظل كتاب الله الكريم وقوله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .

وتحت الإشراف الملكي السامي لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية ـ أعزه الله ـ وبرعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عيد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة انعقدت برحاب جامعة الملك عبد العزيز بمدينة جدة الدورة السابعة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي المتفرع عن منظمة المؤتمر الإسلامي في الفترة ما بين 7ـ12 من شهر ذي القعدة 1412هـ (9ـ14 من شهر مايو (أيار) 1992م) .

وقد تميزت الجلسة الافتتاحية بكلمة خادم الحرمين الشريفين ـ أعزه الله ـ فهي إلى جانب ما تناولته من توجيهات سديدة، وحددته من أهداف عالية، تضبط رسالة المجمع ودوره بقوله: وإن هذا المجمع وما يضمه من صفوة علماء وحكماء الأمة الإسلامية لهو دليل تضامنها وتوحيد كلمتها وندعو إخواننا المسلمين حكامًا وشعوبًا أن يطرحوا ما لديهم من تساؤلات أو اختلافات على هذا المجمع الفقهي وعلينا أن نتقبل بالرضا والتأييد ما يصدر عنه، فإنه يمثل إجماع علماء الأمة الإسلامية.

وقد شارك في هذه الجلسة أصحاب المعالي والسعادة:

الدكتور حامد الغابد، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والدكتور التجينى الهدام، عضو المجلس الأعلى للدولة في الجزائر، وعدد من مديري الجامعات بالمملكة العربية السعودية وبعض رؤساء المنظمات الإسلامية وممثلو المؤسسات المتفرعة عن منظمة المؤتمر الإسلامي وأعضاء المجمع الممثلون لأكثر من اثنتين وثلاثين دولة وأغلب الأعضاء المعينين.

ص: 2327

ثم ألقى معالي الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي كلمة حيَّا فيها الحاضرين، وتوجه فيها بالخطاب إلى المجاهدين الأفغان داعيًا إياهم لتوحيد صفوفهم وبناء دولتهم.

وتناول الكلمة بعد ذلك معالي رئيس مجلس المجمع الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وتبعه الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي سماحة الشيخ محمد المختار السلامي بإلقائه كلمة الأعضاء.

وعقدت بعد ذلك الجلسة التنظيمية التي جرت فيها الانتخابات بين الأعضاء، وأسندت فيها من جديد رئاسة مجلس المجمع لفضيلة الشيخ العلامة بكر أبو زيد، كما تم انتخاب السادة الشيخ محمد المختار السلامي والقاضى محمد تقى العثمانى والدكتور عمر جاه، نوابًا للرئيس.

وتم إثر ذلك انتخاب أعضاء مكتب المجمع الممثلين للدول الست التالية: أندونيسا ـ ماليزيا ـ الإمارات العربية المتحدة ـ المملكة المغربية ـ جمهورية تشاد وجمهورية النيجر.

ثم نظر المجلس في جدول أعمال الجلسات وأقره معينًا بالإجماع فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي مقررًا عامًّا للدورة.

وامتدت بعد ذلك على مدى ستة أيام جلسات المجمع الصباحية والمسائية وتمت مناقشة الأسواق المالية في جلسات يومي السبت والأحد واستمع إلى عروض كثيرة تتعلق بالقضايا المطروحة في هذا الباب وهي الأسهم والاختيارات والسلع وبطاقات الائتمان. وبعد مناقشة هذه العروض تكونت لجنة لصياغة القرارت المتعلقة بها، وصباح يوم الاثنين تمت دراسة موضوع البيع بالتقسيط، واستمع إلى العروض والمناقشات وتشكلت لجنة ثانية لصياغة القرارات المتعلقة بها. وفي عصر هذا اليوم بحث موضوع عقد الاستصناع على النحو الذي تم في بقية الموضوعات، وفي يوم الثلاثاء نوقشت العروض المتعلقة ببيع الوفاء وبعد العصر قضايا العلاج الطبى وتكونت لكل واحد من الموضوعين لجنة لصياغة القرار.

وفي يوم الأربعاء صباحًا بحث مجلس المجمع موضوع الحقوق الدولية في نظر الإسلام فاستمع إلى العروض ونوقشت البحوث وكفلت لجنة للصياغة وبعد عصر هذا اليوم طرحت قضية الغزو الفكري وجرى النقاش حول العروض وعينت لجنة أخرى للصياغة. وفي كامل يوم الخميس، استمع المجلس إلى صياغة القرارات فناقشها وأقرها في صورتها الأخيرة وتولى بعد ذلك النظر في مشاريع المجمع: المجلة ـ وتيسير الفقه ـ والموسوع الفقهية الاقتصادية ـ ومعجم مصطلحات الفقه المالكى ـ ومَعْلَمَة القواعد الفقهية وتقنين الشريعة، مكونًا لجانًا لمتابعة إنجاز هذه المشاريع على نحو يكفل النجاعة ويحقق الغاية من الغاية من هذه الجهود.

ثم وقع النظر في ميزان المجمع وتمت ـ بعد مناقشته ـ المصادقة عليه بالإجماع.

ومن المفيد أن نذكر هنا بأن البحوث التي قدمت في هذه الدورة للمجلس تبلغ ستين (60) بحثًا وكان عدد العارضين اثنى عشر (12) عارضًا وكذلك المقررون.

ص: 2328

ولا يسعنا في ختام هذه الدورة إلا أن نرفع من جديد إلى خادم الحرمين الشريفين كل الثناء والشكر على ما يلقاه مجمع الفقه الإسلامي من تشجيع من لدنه ودعم ورعاية سامية، ولم لقيه المشاركون من كرم الضيافة وحسن الوفادة مما يسر انعقاد الدورة السابعة ومكنها من أسباب النجاح.

وقد عبر المشاركون عن عميق تقديرهم لمبادرة خادم الحرمين الشريفين بتمويل مشروع ترميم قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وهو ما يؤكد مرة أخرى اهتمامه بالمقدسات الإسلامية، وحرصه المتواصل على إعمارها والحفاظ على معالم الحضارة الإسلامية وتخليدها.

وإزاء ما يتعرض له المسلمون من حملات تهدد عقيدتهم ومن ممارسات قمعية واضطهاد وتشريد في فلسطين وفي البوسنة والهرسك وكشمير، وبورما وغيرها من البلاد، دعا المجلس إلى توحيد جهود الأمة الإسلامية وتراص صفوفها وتوحيد كلمتها للقضاء على الظلم والعدوان أينما كان، وتحقيق العزة للمجتمع الإسلامي قاطبة.

كما أعرب المجلس عن عميق تقديره لمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد، لما يلقاه المجمع لديه من دعم وتوجيه، ولإشرافه بنفسه على اجتماع مكتب المجمع ومساهمته في مداولاته.

كما أعرب المجلس عن خالص مشاعر العرفان لمعالي الدكتور رضا محمد سعيد عبيد، مدير جامعة الملك عبد العزيز ومسؤولي الجامعة لما لقيه المشاركون من ترتيبات ممتازة ساهمت مساهمه فعالة في نجاح هذه الدورة المتميزة.

ولا يسعني هنا إلا أن أتوجه بالشكر الخالص لمعالي الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس المجمع على ما قام به من جهود في إدارة الجلسات ومناقشة الموضوعات بروح علمية وأخلاق زكية تمكن المجمع من المضي قدمًا في تحقيق رسالته النبيلة كما أنوه بما قام به أعضاء المجلس والخبراء والعارضون والمقررون من جهود بينة واصلوا بها ليلهم بنهارهم اضطلاعًا بأشغال الدورة ووفاء بمتطلباتها العلمية.

وأشيد بما قامت به أجهزة الإعلام في المملكة وخارجها من تغطية شاملة لهذه الدورة وللمباحث التي عرضت فيها مخصصًّا بالذكر أجهزة الإعلام السعودى من تلفزة وإذاعة وصحافة سهرت على تنفيذ ذلك بتوجيه كريم من معالى الأستاذ على بن حسن الشاعر وزير الإعلام في المملكة ، ولا يفوتنى كذلك أن أنوه بالجهود الكبيرة المتواصلة التي قامت بها بعزم وجد مثاليين الأمانة العامة المتابعة للدورة ، وكذلك المشرفون على قاعات الاجتماعات وعلى الفندق وعلى نقل المشاركين.

وفي ختام هذا البيان أدعو الله العلى القدير أن يرزقنا التوفيق والتسديد في أعمالنا ويمدنا بحسن عونه وكريم عنايته لنحقق أهداف المجمع ونبلغ بذلك خدمة ديننا ومستقبل أمتنا إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

صدر في جدة في: 12 ذى القعدة 1412هـ

الموافق: 14 مايو (أيار) 1992م

ص: 2329