الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّة
في ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّة
إعدَاد
الدكتور عبد الستار أبو غدّة
بسم الله الرحمن الرحيم
(تمهيد) في أهمية الموضوع وتوصيات المجامع والندوات بشأنه:
لقد اشتمل أسواق الأوراق المالية والبضائع (البورصات) – كما جاء في قرار المجمع الفقهي بمكة – على جوانب إيجابية مفيدة في نظر الاقتصاديين والمتعاملين معها من حيث إقامة سوق دائمة وتسهيل عملية تمويل المؤسسات وتسهيل بيع الأسهم ومعرفة ميزان أسعارها، كما اشتملت على جوانب سلبية ضارة من حيث إن العقود الآجلة فيها ليست بيعًا وشراء حقيقيين لعدم التقابض، ولبيع ما هو غير مملوك للباعة، وتكرار البيع قبل القبض واحتكار المتمولين للأسهم والسندات والبضائع، وتأثير هذه السوق في الأسواق بصفة عامة وإحداث تقلبات.
وفي ضوء هذا قرر المجمع أن غاية السوق المالية فيها مصلحة لكنها مقترنة بصفقات محظورة (ولذا لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري في كل واحد منها على حدة) وقرر مشروعية العقود العاجلة على سلع حاضرة مملوكة للبائع متحقق فيها القبض حيث يشترط، وكذلك مشروعية التعاقد على أسهم لا يحرم التعامل بها، ومنع سندات القروض بفائدة. وانتهى إلى تحريم العقود الآجلة بأنواعها على ما ليس في ملك البائع، وأنها ليست من بيع السلم الجائز، لأن الثمن لا يدفع في مجلس العقد خلافًا للواجب في السلم. وكذلك (تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول وقبل أن يحوزها المشتري الأول عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلَّا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع البيع في عقد السلم قبل قبضه) .
كما أوصى المجمع الفقهي المسؤولين بتقييد تعاملات أسواق البورصة وإيجاب مراعاة الطرق المشروعة في صفقاتها ومنع العقود غير الجائِزَة.
وجاء قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم 61/10/6 بعد الإشارة إلى ندوة الأسواق المالية بالرباط، والتنويه بما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها، فنص على أن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته، وأنها في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق للهدف من الوجهة الإسلامية، وتتطلب بذل جهود لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من آليات وأدوات وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية.
وفي الندوة السادسة لمجموعة البركة بعد أن تداول المشاركون الرأي حول بيوع الخيار وشراء حق الاختيار رأوا (أنه غير جائز لأنه من أنواع المجازفات التي لا يراد فيها حقيقة البيع. كما أن تداول حق الخيار في البيع والشراء غير جائز لأن هذا الحق ليس مما يصح فيه البيع)[فتوى/26] .
ولذا ظلت الحاجة قائمة إلى دراسة شرعية للاختيارات للبت في أمر بقائها في دائرة العقود التي يجب الوفاء بها كما هي، أو اشتراط تنقيتها من المحاذير والموانع الشرعية التي تلابسها، أو أنها في ماهيتها خارجة عن الاعتبار الشرعي ولا يمكن تعديلها بل يصار إلى بدائل مشروعة عنها.
ولا يخفى أنه لا أثر في الحكم عليها لكونها مستحدثة لم يعرض لها الفقهاء المجتهدون ومن سار على نهجهم، فإن العبرة بما تستحقه من حكم شرعي مستجد ينسجم مع التصور الصحيح لماهيتها والتكييف الشرعي لها بالفهم الفقهي. وذلك أنها بدأ العمل بها في أوساط غير إسلامية لا تهتم بمعيار الحلال والحرام ثم سرى التعامل بها إلى ديار المسلمين من خلال استخدام ما يطرح في تلك الأسواق للتداول من أوراق مالية وسلع وعملات غيرها.
والله ولي التوفيق.
مَاهِيَّة الاختيارات
إن المعنيين بما يجري في الأسواق المالية من تعاملات قد عرفوا الاختيار بأنه (عقد يمثل حقًّا يتمتع به المشتري، والتزامًا يقدمه البائع، فيدفع الأول ثمنًا مقابل تمتعه بذلك الحق، ويقبض الآخر هذا الثمن مقابل تعهده والتزامه، وينتج عنه أداة قابلة للبيع وللتداول) .
كما ذكروا أن الاختيارات تمارس فقط في أسواق المستقبليات بالأسهم، والسلع، والعملات، والمؤشرات. وإنها تقترن دائمًا بكفالة جهة ثالثة تضمن وفاء الطرفين بالتزاماتهما، فهي كفالة مزدوجة الأثر مع وحدة الكفيل، إذ تكفل البائع لصالح المشتري فيما يترتب في ذمته من التزامات، وتكفل المشتري لصالح البائع فيما يترتب في ذمته من التزامات أيضًا، وهذه الجهة هي غرفة المقاصة أو السمسار.
وذكروا أن شكل إصدار الاختيارات نمطية، فهي متشابهة من حيث عدد الأسهم ونوعها ومدة الاختيار وسعر الممارسة (سعر السهم) وأن سعر الاختيار وهو غير سعر الممارسة لأنه (ثمن الاختيار) ليس موحدًا، بل يتغير تبعًا لقوى العرض والطلب.
أنواع الاختيارات:
إن الحكم على هذه الاختيارات لا بد أن يسبقه التعرف إلى ما تشتمل عليه من آثار والتزامات وتحديد التكييف الشرعي لماهيتها، ومن ثم النظر فيما يقارنها من ملابسات.
والاختيارات نوعان: اختيار طلب، واختيار دفع:
1-
اختيار الطلب: ويسمى أيضًا: اختيار الشراء، أو اختيار الاستدعاء، يعطي مشتريه حق شراء أسهم (مثلًا) بسعر محدد خلال فترة محددة ويلتزم بائعه ببيع تلك الأسهم عند طلب المشتري خلال الفترة المتفق عليها، وبالسعر المتفق عليه أيضًا.
2-
اختيار الدفع: ويسمى أيضًا: اختيار البيع، يعطي مشتريه حق بيع أسهم بسعر محدد خلال فترة محددة، ويلتزم بائعه بشراء تلك الأسهم بالسعر المتفق عليه خلال تلك الفترة.
التكييف الشرعي للاختيارات:
إن مما يساعد على التصور بمنظور فقهي لماهية هذه الاختيارات النظر في أطرافها وأركانها والعنصر الأساسي في ذلك (محل العقد) أي المعقود عليه، من ثمن ومثمن، لأن ذلك ضروري لمعرفة ما إذا كان مما يصلح محلًّا للتعاقد من حيث كونه مالًا متقومًا أو لا يصلح.
ويتضح من البيانات الشارحة لماهية الاختيار (فنيًّا) وكيفية مزاولتها أن محل العقد فيها هو الحق في الشراء أو في البيع، وليس الأسهم نفسها. هذا من حيث المبيع أو المثمن. وأما من حيث الثمن فهو المبلغ المقدم عوضًا مقابل هذا الحق، ولا علاقة له بثمن الأسهم فقد أكد الفنيون (أن ثمن الاختيار ليس جزءًا من ثمن الأسهم أو السلع التي يقع عليها الاختيار، فهو لا يمثل دفعة مقدمة على حساب ثمن الأسهم أو السلع) .
ولتحقيق المباينة بين محل الاختيار ومحل الصفقة الآجلة التي تأتي بعد الاختيار خلال الفترة المحددة فإن التأمل يدل على أن هناك تصرفين: أولهما قد اكتمل وجوده بالإيجاب والقبول، والمحل فيه هو حق الشراء أو حق البيع تبعًا لنوعي الاختيار، وبعدئذ قد يأتي التصرف الثاني بالشراء، أو البيع فعلًا، والمحل فيه هو الأسهم (مثلًا) . وقد لا يحصل الشراء أو البيع وإنما يصار إلى إهمال حق الاختيار والتخلي عن استعماله إذا كان استعماله يزيد خسارة صاحبه، كما قد يصار إلى نقل حق الاختيار من صاحبه إلى غيره بعوض.
والتصرف الأول مكتمل الصيغة، بصدور إيجاب من أحد الطرفين (بائعًا للاختيار، أو مشتريًا، لأن الإيجاب ما يصدر أولًا من الإرادتين) وقبول من الآخر، وبذلك يثبت حق الاختيار ويلزم ثمن الاختيار.
أما التصرف الثاني فقد حصل شطره فقط وهو الإيجاب من أحد الطرفين وثبت للطرف الآخر حق القبول (أو خيار القبول حسب التعبير الفقهي) ففي اختيار الطلب أو الشراء صدر إيجاب من مالك الأسهم (البائع) التزم به بالبيع، وصار للمشتري حق شراء الأسهم أو عدم شرائها. وفي اختيار الدفع أو البيع صدر إيجاب من الراغب في استملاك الأسهم (بحسب الظاهر، لأن التملك للأسهم ليس موجودًا حقيقة) وبه التزم بالشراء وصار لمالك الأسهم (البائع) حق القبول (خيار القبول) بأن يبيع أو لا يبيع.
وهذان الإيجابان في الاختيارين ثابتان اقتضاء تبعًا لثبوت الاختيار، وهما لم يحصلا مجانًا بل بالثمن المدفوع لقاء الاختيار.
كما أن هذا الإيجاب (الضمني) بالشراء أو بالبيع قابل للنقل إلى الغير مع نقل الاختيار تلقائيًّا. إذا لم يرغب من له الاختيار في ممارسة حقه. إذ يبيع ذلك الحق أي ينقله بعوض فينتقل معه حق القبول (خيار القبول) ويصير لطرف جديد بعد خروج ناقل الاختيار من العملية تمامًا.
ومن هذا التصوير بالتعابير الفقهية تثور القضايا التالية:
1-
هل حق الاختيار يصلح محلًّا للعقد. أو بعبارة أخرى أشمل: هل حق الاختيار للحصول على إيجاب من الغير يصلح محلًّا للعقد ويكون له مقابل هو ثمن الاختيار؟
2-
هل حق الاختيار يصلح للنقل للغير بعوض؟
3-
هل الأسهم غير المملوكة للبائع (حسب الصورة الغالبة في التعامل بالاختيارات) ، تصلح محلًّا للبيع؟
محل العقد في الاختيارات:
إن محل العقد لا بد أن يكون مالًا أو حقًّا ماليًّا أي متعلقًا بعين هي مال. وها هنا المحل عبارة عن إرادة ومشيئة، وهي ليست مالًا ولاحقًّا متعلقًا بمال. وقد عالج الفقهاء مسألة بيع الحقوق كما تعرضوا لحق الخيار وقابليته للاعتياض عنه بمال، أو قابليته للانتقال إلى الغير (بالإرث) وذلك بمناسبة خيار الشرط هل يورث أو لا يورث؟ والخلاف فيه على ثلاثة اتجاهات: يورث، لأن حق متعلق بالمال وهو المبيع، يورث بالطلب من المورث قبل موته، لا يورث لأنه صفة فهو ليس إلَّا مشيئة وإرادة، وهو وصف قائم بشخص من ثبت له، والوصف الشخصي لا يقبل النقل بحال. وبعبارة أخرى للحنفية (أصحاب هذا الاتجاه: منع الانتقال بالإرث) : " معني الخيار تخيره بين فسخ وإمضاء، وهو صفة ذاتية، كالاختيار، فلم يورث كعلم الشخص وقدرته، ولهذا لا تصح المصالحة على الخيار بمال) .
وإذا استرجعنا ما سبق من أن الاختيار يستتبع إيجابًا من أحد الطرفين بالشراء أو بالبيع ويترتب عليه خيار القبول للطرف الآخر، فإن خيار القبول لا يورث، للسبب نفسه، من أنه إرادة ومشيئة ووصف شخصي [ابن عابدين: 4/29؛ والفتاوي الهندية: 3/7] .
وعليه فإنه لا يقبل النقل بعوض أو بغير عوض لأنه إذا كان لا يقبل الانتقال الجبري بالميراث فإنه لا يقبل ذلك هنا بالأولى.
علاقة الاختيار ببيع العربون:
قد يقال إن الاختيار يشبه أو يقاس على بيع العربون الذي قيل بجوازه، فالمشتري في بيع العربون يحصل على إيجاب ملزم للبائع ويكون له خيار القبول طيلة الفترة المحددة لقاء العربون الذي يدفعه. وهذا التشبيه هو في (اختيار الطلب) الذي يثبت به حق الشراء للأسهم أو عدمه.
وهذا غير صحيح، لأن المحل في بيع العربون هو الشيء المبيع وليس حق الاختيار. والعربون جزء من الثمن، أما ثمن الاختيار فليس جزءًا من ثمن الأسهم التي يتوقع شراؤها. [نيل الأوطار: 5/173؛ والشرح الكبير على المقنع: 4/58؛ والخرشي على الخليل: 5/78؛ والجمل على المنهج: 3/72] .
ورأى بعضهم أنه إذا كان الخيار للبائع، وهو يتصور هنا في (اختيار الدفع) حيث يثبت به حق البيع للأسهم أو عدمه فإن ثمن الاختيار المدفوع لقاء التزام الطرف الآخر بشراء الأسهم (مثلًا) هو بمثابة هبة مشترطة في عقد البيع، لأن المشتري لا حق له في مبلغ المال إلَّا إذا كان على وجه الهبة. واشتراط عقد في عقد آخر لا يصح للنهي عن صفقتين في صفقة. وهذا التخريج – رغم النتيجة السلبية الصحيحة – غير مسلم لأنه ليس هنا في (الاختيار) بيع لكي يقال أنه اشترطت فيه هبة، بل هناك إراداتان لوجود الاختيار، وإيجاب فقط للالتزام بالشراء أو البيع. [الموسوعة الفقهية – الكويت: 9/259 و 264؛ ونظرية الشروط للشيخ زكي الدين شعبان: ص157] .
دراسة الصورة الغالبة في الاختيارات (بيع ما لا يملكه الباعة) :
إن إصدار الاختيارات إما أن يكون من جهة تملك الأسهم التي يقع عليها الاختيار في وقت إصدار الخيار، ويسمى هذا (مصدرًا مغطى) أو يكون من جهة لا تمتلك الأسهم في وقت إصدار الخيار ويسمى (مصدر غير مغطى) وقد ذكر الفنيون أن هذا هو الغالب، وأن مصدر الاختيار هو الجهة التي تلتزم بالتعهد بالبيع في (اختيار الطلب) أو تلتزم بالشراء في (اختيار الدفع) ويسمى هذا المصدر (كاتب الاختيار) وكثيرًا ما يشتري المستثمر اختيارات متعارضة يلغي بعضها بعضًا عند نهاية مدتها، أو يقلل بعضها من المخاطرة المتضمنة في البعض الآخر.
وبالرغم من أن سبب المنع في الاختيارات كامن في البداية وهي عملية الاتفاق على بيع أو شراء الخيار، والتي رأينا أنها تستتبع إيجابًا ملزمًا لأحد الطرفين لصالح الآخر وقد تم الحصول على هذا الإيجاب بالعرض المقدم من صاحب الاختيار (ثمن الاختيار) بالرغم من هذا، فإن هناك أسبابًا إضافية للمنع جاءت الإشارة إليها في قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، ونوهت بها في (التمهيد) وعلى رأسها أن المتعاقدين في الاختيارات غالبًا يتفقان على التعامل فيما ليس مملوكًا للبائع إذا عزم على البيع.
وبيع ما لا يملكه الإنسان ممنوع شرعًا، وقد جاءت عدة أحاديث في النهي عن بيع الإنسان ما لا يملك، من ذلك حديث حكيم بن حزام عند أبي داود والنسائي أنه قال: قلت يارسول الله يأتيني الرجل فيريد مني المبيع ليس عندي فأبتاع له من السوق، قال:((لا تبع ماليس عندك)) . وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) ، [رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن خزيمة والحاكم] .
وهذه البيوع لما لا يملكه الباعة ليست مستوفية لشروط بيع السلم، التي منها تعجيل دفع الثمن كله في مجلس العقد، فإنه في الاختيارات لا يدفع منه شيء البتة، لأن ما يدفع لقاء الحصول على الاختيار هو ثمن الاختيار وليس جزءًا من ثمن ما سيباع أو يشتري فيما بعد.
كذلك – كما أشارت الفقرة (ب) من البند السادس لقرار المجمع الفقهي – تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول وقبل أن يحوزها المشتري الأول عدة بيوعات. وليس الغرض من ذلك إلَّا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة فهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء.
ومن المقرر شرعًا أن ما بيع موصوفًا في الذمة بشروط السلم لا يجوز بيعه إلَّا بعد قبضه حتى لو كان من غير الطعام. وهاهنا تخلف شرط السلم وهو تعجيل الثمن، كما تتابعت البيوعات قبل القبض والبديل الشرعي في حال مراعاة شروط السلم في شراء سلعة ثم الرغبة في بيعها أن يبيع أيضًا بالصنعة مع مراعاة شروط السلم دون ربط بين الصفقة التي سيتم تملكها، والصفقة التي يتعاقد على تمليكها للغير. وهذا ما يسمى (السلم الموازي) .
وهناك محظور البيع قبل القبض في الطعام عند من قصر أحاديث المنع على الطعام دون غيره لحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . وهذا الشرط لا يراعى في البيوعات التي يتعامل لأجلها بالاختيارات.
والغرض من هذا أنه لو لم تكن الاختيارات نفسها ممنوعة شرعًا لشملها المنع باستخدامها وسيلة إلى ما هو ممنوع من هذه البيوعات.
استخلاص الحكم الشرعي للاختيارات:
مما سبق من بيانات حول ماهية الاختيارات وملابساتها وتكييفها الشرعي يمكن الوصول إلى الرأي الشرعي التالي:
(أ) إن الاتفاق الذي يؤدي إلى الحصول على (اختيار) لقاء (ثمن الاختيار) لا يعتبر عقدًا، لأنه يفتقد محل العقد المعتبر شرعًا، وهو أيضًا يقصد منه التعاقد اللاحق في المستقبل. فهو إذن من قبيل (المواعدة) لا العقد. والمواعدة لا يشترط لها محل معتبر شرعًا لأنها تتناول أحيانًا أمورًا خارجة عن الحقوق والالتزامات كمن يتواعد مع غيره على زيارته، أو الخروج معه في سفر إلخ.
(ب) الثمن المبذول لإحكام هذه المواعدة التي يراد بها الحصول على إيجاب ملزم باعتباره شطر العقد يعتبر أكلًا للمال بالباطل، لأنه لم يدفع لتحقيق أو توثيق الشراء بل هو ثمن للاختيار، ولذا لم يعتبر جزءًا من ثمن المبيع كالأسهم وغيرها. فلا يستحق هذا الثمن لأن الإيجاب عبارة عن إرادة ومشيئة ومع ذلك ليس من الحقوق المالية التي يعتاض عنها فكيف بالإرادة التي هي من قبيل المواعدة في الاتفاق على تملك اختيار.
(ج) هذا الحق (الاختيار) غير قابل للنقل، بعوض أو بدونه، كما أن الإيجاب نفسه غير قابل للنقل، فلا سبيل إلى تسلسل تملك الاختيار.
(د) فإذا أهملنا حق الاختيار ووجهنا النظر إلى ما رافقه وهو الإيجاب الملزم لصاحبه خلال وقت فإن ذلك يمثل شطرًا للعقد ويخول الآخر حق القبول خلال الفترة المحددة (خيار العقد) وذلك إذا كان البائع يملك المبيع. وهذا نادر في الاختيارات، فإن تحقق وتحقق القبض فيما يشترط له، ثم اقترن به القبول فيكون هناك عقد على صفقة معينة فإن كانت معجلة التسليم فيها وإلَّا اشترط تعجيل الثمن كله لتنطبق عليها شروط بيع السلم.
(هـ) لا سبيل إلى بيع هذه الصفقة بيعًا آخر إلَّا بعد التأكد من ضمان المشتري لها أي دخولها في ضمانه، لكي يكون البيع المراد الإقدام عليه بيعًا حقيقيًّا أو ليمتنع تداخل الضمانين، ومن وسائل ذلك قبضه المبيع قبل بيعه ثانية أو ما ينوب مناب القبض مما يمنع تداخل الضمانين.
(و) بالاستقصاء تبين أن سلامة هذه البيوعات من المحاذير الشرعية غير حاصلة، وعليه فإن هذا البيع بما سبقه من اختيار وما لحقه من انتقال وملابسات حكمه التحريم.
البدائل المشروعة:
إن الغرض من الاختيارات إما أن يكون المجازفة والحصول على فروق الأسعار بما يشبه المقامرة، فهذا الغرض لا سبيل إلى إيجاد بديل شرعي له، لأنه مما يجب اجتنابه، لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} .
وما فيه مقامرة هو الميسر.
وإما أن يكون الغرض التملك الفعلي للاسترباح مع تحمل الضمان فهذا يتحقق بالبيوع المعروفة من البيع الحال، وبيع الأجل، وبيع السلم، ويمكن لتوفير ما يحصل بالاختيار من فرص التروي والاحتياط للصفقات الأخرى الفعلية أن يستفاد من شرط العربون، وأن يتم التعاقد مقترنًا بأنواع الخيار المشترط في البيع الفعلي، سواء كان خيار الشرط لمجرد التروي والنظر هل تصلح له الصفقة أو لا تصلح، أو خيار النقد للتثبت من ملاءمة المشتري وقدرته على أداء الثمن وغير ذلك من صور الخيار المعروفة.
كما يمكن إيجاد البديل في الحصول على الإيجاب مباشرة دون توسط الاختيار ودفع مقابل لذلك، بأن يصدر أحد الطرفين إيجابًا مؤقتًا بوقت وبسعر محدد وبذلك يكون ملتزمًا بمقتضى ذلك الإيجاب عند بعض فقهاء المالكية [الحطاب: 4/240] .
ويكون للآخر حق – أو خيار – القبول خلال المدة.
كما يمكن أن يوجه ذلك الإيجاب للعموم مع ربطه بوقت وتقييده بشروط تخصص – إلى حد ما – من يستفيد منه، بمراعاة شروط أخرى تتوافر في القابل للإيجاب.
ويمثل هذه البيوع وما يقترن بها من شروط وصفات يتحقق البديل المشروع للاختيارات، كما أن محور (السلع) والمستقبليات المطروح في هذه الندوة هو مظنة الوفاء بتلك البدائل.
الدكتور عبد الستار أبُو غدّة