الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزو الفكري وأساليب المواجهة
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
الغزو الفكري وأساليب المواجهة
في عالم يغص بالانحراف والضياع الفكري والأخلاقي، والظلم، ظهر الإسلام العظيم منحة ربانية ترسم للإنسانية الطريق الخالد الوحيد لتكاملها المطرد، وخلاصها من كل ما يزري بها ويجرها إلى الانحطاط.
ورغم أن العوامل الكثيرة كانت ضد مثل هذه الإنطلاقة، إلا أنها كانت تمتلك ـ من جهة أخرى ـ عناصر أهلتها لتحقيق غايتها الكبرى.
وأهم هذه العناصر:
(أ) طاقات الإسلام الذاتية القادرة على النفوذ إلى الأعماق، نتيجة انسجامها مع البنية الإنسانية، والفطرة.
(ب) القيادة الحكيمة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(جـ) تأييد الله تعالى، فهو ولي المؤمنين:{وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخدَعُوكَ فَإِنَّ حَسبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصرِهِ وَبِالمُؤمِنِينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم لَو أَنفَقتَ مَا فِي الأَرضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفَت بَينَ قُلُوبِهِم وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
ولا ننسى أيضًا ـ أن الظروف الزمانية والمكانية ـ رغم ما كانت تتمتع به من عناصر سلبية ـ كانت مهيأة لظهور مثل هذه الدعوة، بل وانتصارها في زمن قصير.
وعلى أي حال، فقد ظهر الإسلام وعم نوره الأرض.. إلا أنه ـ وبشكل طبيعي ـ واجه من يومه الأول مقاومة، من كل أولئك الذين جاء للقضاء على ظلمهم، وجهلهم، وتعصبهم، وابتزازهم للحقوق فخططوا له ما شاءوا وقاوموا ما مكنتهم قوتهم من ذلك. وحفل تاريخ العصبة الإسلامية الأولى، بل تاريخ المسلمين على مر العصور، بألوان من الحرب، والمقاومة الكافرة، والتآمر الحاقد لإطفاء هذه النور {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
(1) سورة الأنفال: الآيتان 62 و63
(2)
سورة التوبة: الآية 32
وكانت الحرب الثقافية والسلوكية هي أخطر ما ووجه به الإسلام في صدره الأول؛ وخصوصًا بعد أن قويت شوكته العسكرية وتوطدت أركانه، بل راح ينطلق مهاجمًا القوى الكبرى آنذاك، وقاضيًا بالتالي على شوكتها، خلال ربع قرن، وهو عمر لا يعد شيئًا بالمقياس التاريخي.
وإذا ركزنا على صدر الإسلام بالخصوص، وجدنا أن نقطة الاختراق الرئيسية ـ تقريبًا ـ والتي نفذ منها العدو الكافر إلى فكر المسلمين، وبالتالي إلى سلوكهم هي (الإسرائيليات) فقد أضفت طابعها ـ مع الأسف ـ في مختلف حقول المعرفة، ونجحت إلى حد كبير في جر الأمة إلى مسارب لا تحمد. هذا وإن كنا لا نتناسى الرواسب الأخلاقية والحضارية التي بقيت كامنة، سواء في نفس بعض العرب الذين أسلموا، أو في نفوس الشعوب التي دخلت الإسلام بعد ذلك، فنقلوها بشكل شبه طبيعي إلى الساحة الإسلامية، وربما صبغوها بالصبغة الإسلامية، بل وقد تكون هذه العملية انطلت على من جاءوا بعدهم، فحسبوها إسلامية أصيلة، وراحوا بها يتعبدون.
ولا نريد أن نطيل في هذ الجانب ـ وإن كان مهمًا جدًّا ـ
نظرة إلى الفترة الفاصلة بين الصدر واليوم:
وإذا أردنا أن نلقي نظرة على الفترة الفاصلة بين عصر صدر الإسلام وقرننا الأخير، وجدنا أن الاختراق الثقافي والحضاري والسلوكي المنحرف، قد زاد عنفًا وقوة حتى تحول إلى تيار عرم، وذلك كلما اتسعت النقاط التي ينفذ منها بالتدريج.
إن المتتبع لفترة القرنين الثالث والرابع الهجري مثلًا، يجد ـ إلى جانب الثراء العلمي والأدبي وغيرهما ـ حالة منحطة جدًّا على المستويات السياسية والاجتماعية والأخلاقية على الأقل في الطبقات العليا من المجتمع.
فههنا صراع عنيف بين العنصريات (العربية والفارسية والتركية وغيرها) ، وهناك تقاتل وتناحر بين الطوائف الإسلامية يذكيه ذوو الأطماع، وهناك اختلاف في المستويات الاقتصادية صارخ، فبين أن تزف عروس للخليفة ببغداد من مصر، وتصرف عليها من الأموال ما يزلزل الخزينة المصرية بكاملها، وبين أن يظل عالم كبير يئن من الجوع والفقر، ولا تنجيه إلا صدقة من حاكم مترف.
وعلى أي حال، فلنعبر هذه العصور المتمادية إلى عصرنا الأخير.
فكما تجمعت قوى ثلاثة في الصدر الأول ضد الثورة الإسلامية الكبرى الأولى، وهي:
(أ) ـ المترفون والمستغلون.
(ب) ـ الجاهلون العقائديون المتعصبون.
(جـ) الحاقدون على الشعوب.
نجد أن هذه القوى تجمعت من جديد ـ وبشكل أكثر ضراوة وأدق تخطيطًا ـ على الأمة الإسلامية اليوم، بل وزادت من قدرتها ونشاطها عندما واجهت الثورة الإسلامية المباركة في إيران، وما تركته من آثار على إيقاظ الشعوب، وتحريك الجيل الإسلامي ـ اليوم ـ نحو تطبيق الإسلام الأصيل، بعيدًا عن التشويه والتحريف.
لقد تجلت الصيغ الماضية في كل من (الاستعمار، الصليبية، الصهيونية) .
وكان هذا التلاحم الحاقد الخطير، وهذا التمهيد المتبادل بينهما، وبالتالي هذا الهجوم الكاسح على العالم الإسلامي.
وقد صدقت الثورة الإسلامية أروع الصدق، حين أطلقت على هذا الثالوث عنوان (الاستكبار العالمي) منتبهة إلى علتة وجذوره النفسية.
وإذا تجاوزنا ـ أيضًا ـ تفصيلات هذا الهجوم، مستقرئين أهدافه من خلال طبيعة العمل، وتصريحات القائمين به، عرفنا أنه كان يعمل على إطفاء بصيص العقيدة الإسلامية المتبقي في النفوس، ولقد كان هذا البصيص ـ الذي سلم من خلال عصور الغفلة ـ كافيًا في بعث الصلابة والثبات في أبناء هذه الأمة، وشدها بنوع من التماسك، الأمر الذي يعرقل كل مخططات الكفر!!
وكان التخطيط عمومًا يسير عبر الأساليب التالية:
(أ) إيجاد الخواء الحضاري في الأمة الإسلامية.
(ب) بث التعالي الحضاري الغربي، وتأكيده بشتى الأساليب.
(جـ) الملء الحضاري بالمطلوب.
ورغم أن هناك نوعًا من الطولية بين هذه الأساليب، إلا أن هذا لم يمنع من أن تعمل إلى جنب بعضها البعض وفي عرض واحد.
ومن الواضح التالي: أن الكفر إذا استطاع أن ينفذ هذه الأساليب، فإنه سيحقق بغيته من إطفاء الشعلة العقائدية، أو إفراغها من محتواها الثوري، وهذا يعني فناء الشخصية الإسلامية، وتمهيد السبيل لتحقيق حلم القوى الثلاثة الحاقدة الجشعة.
فلنستعرض ـ إذن ـ تفصيلات كل أسلوب من هذه الأساليب الثلاثة ـ طبعًا باختصار ـ لتتوضح أكثر فأكثر.
الأسلوب الأول:
خلق الخواء في الشخصية الحضارية الإسلامية، أو فلنعبر عنه بقطع الأواصر السليمة الأصيلة، بين الأمة وإسلامها في شتى الجهات، فإذا انقطعت العلائق خوى الوجود الإسلامي، وماتت الروح المطلوبة، وذوى النشاط والتأثير المفروض.
ونستطيع هنا أن نستعرض قائمة طويلة من تفصيلات هذه الخطة الماكرة إلا أننا سنقتصر على المهم منها ، وهي:
1 ـ العمل على تأجيج الخلافات بين المسلمين، لكي ينسوا قضيتهم الكبرى، وينخرطوا في مشاكل جانبية، الكثير منها مصطنع، وهم إذ يفعلون ذلك يمهدون للنفوذ الأجنبي بلا ريب، ولو عن طريق شيء من الانتصار المذهبي الضيق على حساب الطرف الآخر. ولا ننسى في هذا الصدد، ما عمله المستشرقون الحاقدون في هذا المضمار، للإيقاع بين المسلمين، فضلًا عما كان للتركة التاريخية في هذا المجال من أثر محطم، وإلى جانب هذا التأجيج الخبيث، نجد عملية إلهاء المسلمين بقضايا فكرية جانبية، غاية أثرها أنها تصنع مواقف متباينة، من نمط من السلوك الفردي غير الطبيعي.
وقد وجدنا نظير ذلك، عندما التهى المسلمون ـ سابقًَا ـ بقضايا (خلق القرآن) وأكلت منهم هذه المسألة الجهد الكثير وربما سالت لأجلها دماء ودماء.
(1) سورة الحج: الآية 31
2 ـ وعلى هذا الغرار، سعيًا لتمزيق الشخصية الإسلامية الواحدة، عمل الاستكبار العالمي على تفتيت كل عناصر الوحدة الأخر فراح ـ مثلًا ـ يحارب لغة القرآن (اللغة العربية) وذلك لدى غير العرب، في حين راح يروج اللغة العامية لدى المسلمين العرب، وهي عملية ماكرة خبيثة، تعمل على إبعاد الأمة عن مصادر الإشعاع، وتجعلها حِكرًا على جماعة متخصصين فقط، كما راح الاستعمار ـ من خلال عملائه ـ يمزق الأرض الإسلامية إلى دويلات صغيرة ـ بعد أن قضى على الدولة العثمانية ـ بشتى الأساليب الماكرة، وإذا تمزقت هذه الدويلات، راح يزرع مفهومًا ضيقًا للوطن، يتلخص في التراب الإيراني أو العراقي أو الكويتي أو اللبناني وما إلى ذلك، وتأكيدًا لهذا المعنى، راحت كل منطقة تدرس تاريخها الخاص بها، وتوسعة في التآمر، راحت المناطق تؤكد على تاريخها ـ هي ـ ما قبل الإسلام وما أدعته لأنفسها من حضارات سخيفة، وقد ساعدت الاستعمار ـ في ذلك ـ أحزاب قومية ومحلية خبيثة، أنشأها ـ هو ـ لتحقيق مراده في هذا المجال.
هذا بالإضافة إلى روح التمزق القومي التي خلقها ـ كأخطر فكرة وأخبثها ـ لتحقيق الهدف نفسه على صعيد آخر.
3 ـ بث الشبهات العقائدية في أذهان الجيل الناشئ، ولما لم يكونوا بمستوى الرد عليها، فإن الشبهة سوف تتحكم في النفس، وحينئذٍ يتحقق الانفصام المطلوب.
4 ـ تشجيع العزلة لدى العلماء، سواء العزلة عن البحث في القضايا الاجتماعية المهمة، أو عن المشاركة الاجتماعية الفعالة، واختيار التقوقع والزهد بمفهومه المنحرف، المبعد عن المسيرة الاجتماعية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، العمل على خنق كل صوت علمي حر، يحاول أن يمد الجسور إلى لب العمل الاجتماعي، واتهامه وتجريحه وتحريفه، وتحريك الغوغاء ضده.
كل هذا لإيجاد الانفصام بين ورثة الأنبياء ـ وهم العلماء ـ والأمة، فلا تركن إلى ركن ركين، خبير بالأمور.
وإذا انسد على الأمة باب الفكر الأصيل، انفتح عليها باب الأوهام أو الفراغ ـ على الأقل ـ وهو المطلوب من قبلهم في هذه المرحلة.
5 ـ توسيع الهوة بين الحياة القانونية والشريعة الإسلامية من خلال استيراد القوانين الغربية، وترويج لفكرة العلمانية، والوقوف بوجه أية محاولة تقنينية للشريعة الإسلامية وغير ذلك. مما أدى إلى البعد التدريجي للحياة الاجتماعية عن مخططات الشريعة (1) .
6 ـ ترويج الفساد الأخلاقي بين أبناء الأمة، وذلك كمقدمة للفساد العقائدي.
وقد تم استغلال كل وسائل التمييع لبث الروح الشهوانية، وتحريك الغرائز في الشباب، والشهوة ـ إذا أثيرت ـ ملكت على المجتمع لبه، وهوت به في أحكام كاذبة، حتى غدا الشاب يشعر ـ مع ثور الشهوة ـ أن الإسلام هو الذي وقف سدًّا حائلًا بينه وبين إشباع لذاته المسعورة، متناسيًا كل المقاييس الواقعية النوعية، وكل الأضرار الناتجة عن هذه النظرة الثائرة، الأمر الذي يقوده ـ أحيانًا ـ للانضمام إلى معسكر الشك وربما الكفر في كثير من الأحيان.
والخلاصة: إن الاستعمار إذ يشيع هذه المادية الأخلاقية، فإنه يمهد السبيل للمادية العقائدية، إذ غالبًا ما تؤدي الحياة المادية التي يعيشها الإنسان إلى العقيدة المادية، تمامًا كما تؤدي العقيدة المادية إلى السلوك المادي المنحرف.
فإذا حدد الإنسان مركزه من الكون على أساس أن هذه الحياة هي كل الشوط وأنه يجب أن يشبع غريزة الذات فيه ـ تمامًا ـ منها، وأن لا شيء وراء المادة، إذا اعتقد ذلك فقد فتح الباب على مصراعيه؛ لأن يعب من اللذات، ويظلم الآخرين، وحينئذ يذوب عنده أي معنى للفضيلة والرذيلة، وسيكون لهؤلاء مستقبل مظلم ـ غالبًا ـ إذ سيفرون إلى المخدرات والمسكرات.
أما العكس، فواضح أيضًا، فالأخلاق والعمل، لهما تأثيرهما في تعميق الفكرة وإذابتها، إنهما يحولان الفكرة العقلية إلى أحاسيس وعواطف تصبغ سلوك الإنسان ولا يتأتى لأية فكرة ـ ما لم تتحول إلى هذا المستوى ـ أن تصبغ السلوك الإنساني.
إن العلاقة بين الإيمان والعمل علاقة تبادلية.
ثم إن المادية الخلقية، وما نعبر عنه ـ نحن ـ بالمعاصي، تبعد النفس عن مقام تلقي اللطف الإلهي، وهكذا يجد المنحرف أخلاقيًّا نفسه ـ في نهاية المطاف ـ مكذبًا بآيات الله:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (2) .
في حين يقوم العمل الصالح بتعميق الفكرة والسمو بها: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) .
وعلى أي حال، فسوف نستعرض بعض الأساليب اللاأخلاقية، التي استخدمها الاستكبار العالمي، ليحقق هذه الغاية، عندما نتحدث عن الاختراق في جانبه الخاص بالشعب الإيراني.
(1) ولا ننسى أن نشير ـ هنا ـ إلى أن ضغط الجماهير المسلمة من جهة، ومحاولة بعض الحكام العملاء التخفيف من الضغط الجماهيري، وحماية أنفسهم من السقوط، دفعاهم لطرح فكرة التقنين من جديد، إلا أنها دعوة معروفة الدوافع والنتائج
(2)
سورة الروم: الآية 10
(3)
سورة فاطر: الآية: 10
7 ـ العمل الحثيث على تسليم أزِمّة الأمور لحكام عملاء، أو جهلة بالإسلام وأحكامه، ليقوموا بالمساعدة على إبعاد الأمة عن جذورها الأصيلة، بشتى الأساليب وليس أقلها خطرًا، أسلوب عرض الإسلام عرضًا رجعيًّا ميتًا، يفقده أي روح تغييرية، ويحوله إلى سلوكات فردية، بعيدة عن القضية الإسلامية الكبرى.
وهؤلاء الحكام ـ بطبيعة الحال ـ سيقومون بفصل الحياة الاجتماعية عن الدين وعزل المفكرين الإسلاميين الأصليين، أو ربطهم بركاب الحاكم، ولكي لا يتحركوا إلا وفق هواه ، وترويج الفساد الأخلاقي، وفسح المجال للشبهات والتشكيك، وأمثال ذلك.
وهكذا تحركت عملية إبعاد الأمة عن منابعها، على محاور متناسقة:
1 ـ المحور الفكري.
2 ـ المحور التشريعي.
3 ـ المحور الأخلاقي.
4 ـ المحور الحضاري (التاريخ، اللغة، التقاليد
…
) .
5 ـ المحور السياسي.
وظنت أنها استطاعت أن تحقق هدفها المنشود، وهو إيجاد الفراغ في الحياة الإسلامية كلها، تمهيدا لخطوة الملء التالية.
الأسلوب الثاني:
يتجسد في عملية فرض التعالي الحضاري للثقافة الغربية، كي تكون هي المثل الأعلى للأمة الإسلامية، فتنساق باتجاه الغرب بشكل طبيعي، خصوصًا بعد أن تنجح عملية التفريغ السالفة.
وقد استغلت هذه العملية الثانية مختلف الوسائل لتحقيق هدفها. منها:
أولًا: التطور العلمي، ذلك أن المسلمين، بعد أن وضعوا أسس التقدم العلمي، وكانوا هم السباقين في طرح الطريقة التجريبية في الحياة الطبيعية، تخلفوا عن الركب العلمي، في حين راح الغرب ـ وخصوصًا عبر نهضته الصناعية ـ يطور العلوم ويسير بها سجحًا، حتى بلغ بها شأوًا عظيمًا، الأمر الذي أدى من جهة إلى نتائج مادية محسوسة كبرى، ومن جهة أخرى، ترك آثارًا تشكيكية ضخمة أيضًا، على مجموع الأفكار والنظريات حتى تلك التي ما كان الشك ليطاولها من قبل، وعلى أي حال، فقد كان هناك تقدم علمي رائع، وإن لم يواكبه تقدم حضاري مطلوب.
وقد واجه الغرب العالم الإسلامي بنتائج نهضته العلمية مع حملة دعائية واسعة، تركز على أن هذا التقدم العلمي، هو في الواقع نتيجة نهضة عقلية وحضارية كبرى، الأمر الذي يستلزم أن يتجه معه العالم الإسلامي، إلى نفس الوجهة الغربية حتى يحصل على نفس النتائج.
وراحت الدعاية الغربية تعمل عملها، ونسي أبناء العالم الإسلامي ما صاحب هذا التقدم من وحشية وبربرية، وجشع، وانحطاط خلقي وإنساني مقيت.
ثانيًا: الشعارات البراقة: فقد وجد الغرب أن الاحتفاظ بأعماله الوحشية وطرحها على حقيقتها، أمر لا يساعده في تحقيق مآربه، ومن هنا بدأت أكبر عملية ابتزاز وتسابق، في طرح الشعارات المحببة أصلًا إلى القلوب العامة. وهكذا رحنا نجد سوق المزايدات ملأى بشعارات (الحرية، والديمقراطية، والإرادة الإنسانية، والاشتراكية، والعدالة، والتحرر الوطني ، والاستقلال، والتقدم، وحقوق الإنسان، وأمثال ذلك
…
) . وقد ساعده على الإغراء، أن هذه الشعارات وجدت لها ـ أحيانًا ـ بعض المصاديق، الأمر الذي خدع الكثير من أبناء الأمة، وجعل الغرب في عينيه المثل الأعلى.
هذا في حين كان الواقع الغربي مليئًا بالعنصرية، والوحشية، والجشع، والسعي لبسط النفوذ وقهر الشعوب الضعيفة، وامتصاص دمائها.
وثالثًا: تسخير شتى الإمكانات العسكرية، والاقتصادية، والإعلامية والمالية، والثقافية لتأكيد هذا التعالي بشتى السبل.
وهذا ما سنراه بعد قليل، عند حديثنا عن الأسلوب الثالث.
ولكن قبل الانتقال إلى الحديث عنها، يجب القول إن العوامل التاريخية، وحالة الانحطاط التي أصابت أبناء الأمة، وما شاع فيها من أخلاق العزلة، والبعد عن الواقع، والتفكك، هذه العوامل شكلت عاملًا مساعدا قويًّا في مجال الانخداع بالأحابيل الغربية. وإلا فأي فكر سليم، وأي استقرار للتاريخ العربي والشرقي، وأي تمعن في طاقات الإسلام وثروته الموروثة، يوضح الأمر بشكل جلي ليس عليه غبار؟ ! ورحم الله من قال: إن القابلية للاستعمار هي أشد ضررًا من الاستعمار نفسه.
أما الأسلوب الثالث:
فهو عملية ملء الفراغ الفكري والفراغ في الشخصية بالنتاج الغربي، أو قل النتاج الذي يضمن للغرب أن يحقق مآربه دون عائق أو مانع.
هذا وقد شملت عملية الملء ـ هذه ـ مختلف الجوانب في حياتنا الاجتماعية، فعلى الصعيد الفكري: راحت الأفكار الغربية ـ الغريبة على ثقافتنا ـ تروج وتعكس روحها هنا وهناك، وراح الناس ينقسمون إلى مجاميع، تناصر هذه الفكرة الغربية أو تلك وكلتاهما غربية تقيأهما الغرب، والتقمهما هؤلاء، فهنا فكرة القومية، وهناك الوطنية، وهنا الديمقراطية، وهنا أيضا فكرة فصل الدين عن السياسة، وهذا يحلل الحياة الاجتماعية على أساس أنها بنى فوقية للوضع الاقتصادي، وهذا يتبنى الفكر الليبرالي معالجًا القضايا الاجتماعية والدينية وحتى الغيبية ـ إن كان يؤمن بها ـ على ضوئه، وهكذا اقتصرت الثقافة على تلقي الفكر الغربي، والتأمل فيه، بل وتقليده فكريًّا.
وهذا المعنى نفسه انعكس على الفن والأعمال الفنية، كما ترك بصماته المؤثرة على الأدب والشعر.
أما الملء في المجال الخلقي، فحدث عنه ولا حرج، حتى لقد عادت الصفة الغربية للعادة أو السلوك معيارًا للأخلاق الفاضلة، وهكذا شملت عملية الملء المجال التشريعي، والنفسي، وأمثالهما.
وهذا وقد أشرنا إلى أن الاستكبار العالمي استخدم شتى إمكاناته، في مجال فرض التعالي الحضاري الغربي، والواقع أنه استخدم تلك الوسائل ـ بشكل أقوى ـ في مجال ملء الفراغ الفكري، والفراغ الاجتماعي، وهذه الوسائل كثيرة منها:
هذا الأسطول الإعلامي الضخم، الذي تشرف عليه عقول جشعة مفكرة، في كيفية تقديم الغذاء المناسب، وتحريف الحقائق، وتزويق الأكاذيب، إلى الحد الذي يقل نظيره في التاريخ. كما أن منها عملية الاستشراق الضخمة، التي عبرت بكل وضوح عن التلاحم الثلاثي الآنف، في دفع هذه الحملة الثقافية الاستعمارية للاطلاع على ما لدى المسلمين، واكتشاف نقاط ضعفهم، وضربهم من خلال تلك النقاط، واكتساب شخصية علمية لدى المسلمين وتحريف الحقائق، وتقديم الطبخات الغربية للأذواق الإسلامية، وتشويه الحضارة.
ومن تلك الأساليب: أسلوب البعثات الثقافية، وإنشاء الجامعات في الأرض الإسلامية، أو تربية الطلاب المبعوثين منها إلى الغرب وإشباعهم بالأفكار المادية، وتحويلهم بالتالي إلى عملاء فكريين، يرجعون إلى بلادهم فيبشرون بالحضارة والفكر الغربيين، ويعملون على إنقاذ شعوبهم من جهلها وتخلفها.
كما أن منها أيضًا: الاستفادة من الحكام العملاء، الذين أمسكوا أَزِمَّة الأمور في تمرير المخططات المختلفة.
ويعد أسلوب الاستفادة من الأحزاب العميلة من أخطر الأساليب في هذا المجال.
والواقع: إنه لولا ما يحمله الفكر الغربي من نقص ذاتي وانحراف ونبو من قبل الفطرة تجاهه من جهة، وما تملكه الأمة من نور عقائدي حتى على مستوى (البصيص المتبقي) ، ووجود بعض العلماء والمفكرين الواعين الذين انتبهوا للخطر من أول الأمر، لأمكن لتلك الحملة الظالمة أن تحطم الشخصية الإسلامية بالكامل، وتترك الإسلام محطمًا، منعزلًا، بعيدًا عن الحياة الاجتماعية، في حين تترك الأمة مكبلة إلى الأبد بالقيود الفكرية والحضارية الغربية الغريبة عليها.
الفصل الثاني
الاختراق الحضاري الثقافي للمجتمع الإيراني
والواقع؛ إننا نستطيع أن نمثل لكل ما سبق عبر ملاحظة واقع المجتمع الإيراني، قبل الثورة الإسلامية.
فلقد كانت الخطة الاستكبارية ماكرة ومركزة جدًّا، باعتبار ما لإيران من مميزات حضارية، وجغرافية، وتاريخية، وخصائص أخرى.
وقد شملت الحملة المحاور التالية:
المحور السياسي، المحور الثقافي، المحور الأخلاقي، والمحاور الأخرى أيضًا.
أما على المحور السياسي: فلا نود إطالة الحديث فيه، لوضوحه وانكشافه.
فلقد كان النظام المسلط على إيران، قبل الثورة، يحكي جبروت التسلط الغربي، ويعكس ماهيته أشد انعكاس ، وكان التراب الإيراني مركز القواعد الغربية، كما كان النظام الشاهنشاهي محور التآمر الغربي على المنطقة العربية والإسلامية، بل ومنطقة جنوب آسيا إلى حد كبير، وكان قد أحكم قبضته على الشعب ـ أو هكذا ظن ـ حتى عدت إيران جزيرة الأمان في تصورهم.
وقد قام هذا النظام بكل المهام الملقاة على عاتقه من قبل الاستكبار، ونفذ مخططات الاختراق على مختلف الأصعدة، ولكن كم لشاه إيران بالأمس من نظير اليوم في العالم الإسلامي؟ !
أما على صعيد المحور الثقافي: فنود أن نقف عنده قليلًا، ونورد له بعض الأمثلة، التي تبين عمق المأساة الثقافية، التي ابتلي بها الشعب الإيراني.
وقبل كل شيء، يجب أن نتذكر أن المطبوعات والكتب والصحف كانت حكرًا على النظام، ومن يسمح لهم النظام بنشر كتبهم، اللهم إلا ما شذ وندر ـ وقد عاث العملاء الفكريون في إيران فسادًا ما له نظير ـ.
فلنركز على الحقبة الأخيرة من تاريخ إيران، لنقف مجملًا على بعض الخطوط الفكرية التي طرحت نفسها على الساحة باسم المثقفين، أو منوري الفكر ـ كما كانوا يطلقون على أنفسهم ـ لنعرف أنهم كانوا أهم مسرب للفكر والثقافة الغربية إلى الساحة الإيرانية.
والملحوظ في الأمر أن هذه الحركة طرحت شعارات أخاذة تستهوي إليها القلوب. وقد مر بنا، أن هذا يعد من أهم أساليب الاستكبار، في عملية الاختراق، نحو جسم الأمة.
فمن هذه العناوين: فكرة (البروتستانتية الإسلامية!!) .
وكان الأرمني الميرزا يعقوب خان ـ وهو عميل إنكليزي معروف ـ في طليعة من طرحوا هذه الفكرة. فهو يكتب من حدود سنة 1290هـ إلى الشاه ناصر الدين، متحدثًا عن (لزوم المزج بين الإسلام والعلوم الغربية)، فيقول:"إن انطلاقة الرقي، وضرورة الإصلاحات، يمكن الاستجابة لها بكل سهولة، من خلال خلق نوع من الانسجام بين المقررات والمناسبات القديمة، والمناسبات ومقتضيات المقررات الحديثة في هذا العصر".
ويستطرد قائلًا:
"لقد انمحت ـ الآن ـ ضرورة الجهاد في المجال الديني ـ تمامًا ـ وما علينا بعد هذا إلا تعميم الجهاد في الأمور الدنيوية هذه". (1)
ويبدو ـ من هذا النص ـ كيف حاول هذا الأرمني الحاقد أن يبقى لفظ الجهاد، مبعدًا إياه عن موضع الخطر على العدو المهاجم.
إلا أن الأخطر من هذا الميرزا كان ولده الميرزا ملكم خان، هذا العقل المفكر للماسونية في إيران، والمعتبر أبا للمثقفين الإيرانيين.
يكتب الميرزا ملكم خان عن نفسه: "لقد صممت أطروحة أمزج فيها بين عقل السياسة الغربية، وحكمة الديانة الشرقية، وقد علمت أن تغيير إيران إلى الشكل الأوروبي سعي لا نفع فيه، ومن هنا عرضت فكرة التطور المادي في إطار ديني، ليدرك المواطنون تلك المعاني جيدًّا، وقد دعوت أحبة وأناسًا معتبرين وفي محفل خاص، تحدثت عن لزوم (تهذيب الإسلام) "(2) .
وقد جاءت على لسان هذا العميل ألفاظ، من قبيل:
(إسلام العلم) ، (إسلام الحب) ، (إسلام العقل) وأمثالها، محاولًا ـ بذلك ـ تعميق ما يريد من هدف خبيث.
وعلى هذا الغرار جرى الميرزا يوسف خان، فهو يقول:"نعم، إن على الإنسان ـ دائمًا ـ أن يقوم بعملية تكميل وتغيير لقوانين الماضين، وفقًا لمقتضيات عصره واحتياجاته.. ومن بين الغربيين نجد دولة الإنكليز مدافعة دائمًا عنا، وإني لسعيد أن تفقد الدولة العثمانية عدة الولايات، ولا تفقد الدعم والتأييد من قبل الشعب الإنكليزي".
وهكذا نصل إلى الميرزا فتح على أخوند زاده، الذي يعلن بكل صراحة؛ لأنه إنسان تحميه روسيا (عميل روسي) وأنه جاء لهدم الدين والرجعية، وإيقاظ شعوب آسيا من نوم الغفلة والجهل، وإثبات وجوب البروتستانتية الإسلامية.
(1) كتاب فكرة الرقي لفريدون آدميت، وهو أحد الماسونيين: ص 45 ـ 48
(2)
كتاب فكرة الرقي لفريدون آدميت، وهو أحد الماسونيين: ص 64 ـ 65
وأخيرًا نجد عبد الرحيم طالبوف يكتب حول (تحديث الإسلام)، فيقول:"إن أحكامنا الشرعية كانت جيدة لما قبل ألف سنة، ولكنها في عصرنا ـ نحن ـ يجب أن تضاف إليها 30 ألف مسألة جديدة".
وعلى هذا الغرار، يأتي أمثال كسروي، ليعلن فكرة (الدين النظيف) وشريعت سنكلجي، ليطرح فكرة (الإصلاح الديني) بعد أن دعمته دكتاتورية رضا خان المقبور. هذا وقد ألف الإمام القائد كتابه (كشف الأسرار) للرد على أمثال هذين المنحرفين العميلين.
وهكذا استمر هذا الأخطبوط الخبيث، واستطاع أن يؤثر على بعض المفكرين المنتسبين للإسلام وبعض الشباب، مما أوجد خطين مقلدين للغرب ـ وإن كانا متعارضين ظاهرًا ـ وهما: خط الاشتراكية الإسلامية، وخط الليبرالية الإسلامية، وهما: أخطر الخطوط، وأشدها انحرافًا، بل وعمالة.
الأمر الذي عانت منه الأمة الأمرين، كما عانت منه الثورة الإسلامية ـ وخصوصًا بعد نجاحها ـ حتى استطاعت أن تكشف حقيقة عمالتهما معًا للدول الغربية إذ التحما إلى جانب قوى الاستكبار العالمي، لضرب الثورة الإسلامية وعرقلة مسيرتها الظافرة.
ولا ننسى أن نشير ـ هنا ـ إلى تفصيلات هذه الحركة، من عملها على فصل الأمة عن تاريخها الإسلامي، واعتبار الفتح الإسلامي نوعًا من الاستعمار، وعلى ما أسمته بتطهير الفارسية من اللغة العربية، بل وحتى على تغيير الحروف الفارسية على غرار تغيير الحروف التركية، وغير ذلك مما لا يستوعبه صدر هذا البحث الموجز.
ولننتقل ـ بعد هذا ـ إلى مجال الفساد الأخلاقي لنجد الحملة ـ هنا ـ أكثر ضراوة وإمعانًا.
إذا شئنا أن نستوعب كل المساحة الثقافية ـ من خلال المنظور الإنساني الإسلامي ـ كان من المحتم القول بأنها ـ أي المساحة الثقافية ـ تمتد إلى حيث تمتد التركيبة الإنسانية نفسها، وهذا يعني شمولها للجوانب الإنسانية الثلاثة التالية:
1 ـ الجانب التصوري والعقائدي، بما يشمل كل المفاهيم التي يملكها الإنسان عن الكون والحياة والإنسان، وبالشكل الذي تناول السنن التاريخية والقوانين الحاكمة كلها.
2 ـ الجانب الإحساسي العاطفي: بما يشمل الغرائز والميول الأصيلة والمعدلة تبعًا للتربية الخاصة، وتكوين المصاديق المتعالية، كتحويل حب الذات الضيقة إلى حب الذات المتسعة الخالدة، من خلال الإيمان بالآخرة.
3 ـ الجانب السلوكي العملي: وهو بطبيعة الحال يسري لكل موقف يتخذه الإنسان، حتى فيما بينه وبين نفسه، كما أنه متأثر بالجانبين السابقين تمام التأثر، وخصوصًا بالجانب الثاني، بعد أن فسر المحللون النفسيون الإرادة الإنسانية بالشوق المؤكد، رغم أن الشوق المؤكد هو المرحلة الأخيرة التي تسبق تصميم الإنسان على العمل ـ كما نعتقد ـ فإن الإنسان يبقى يمتلك الحرية في أحرج الضغوط العاطفية.
الترابط بين المساحات الثلاث:
وإذا قبلنا الحقيقة الماضية كان علينا أن نؤمن بالكل الثقافي المترابط، وأن نعتبر أي انفصال بين الأجزاء عملية مؤقتة، وأي قول بالفصل الدائم بين المساحات مجازفة يكذبها الوجدان والنصوص الشريفة، كما أن هذا الإيمان والقبول يفتح أمامنا بابًا تربويًّا وإعلاميًّا واسعًا، ننفذ من خلاله إلى المقصود أولًا، ونكتشف أيضًا ـ عبره ـ التآمر الإعلامي على الوجود الثقافي ثانيًا.
وإننا إذ تأملنا واقعنا الوجداني رأينا حقيقتين مهمتين:
الأولى: هي هذا الترابط المحكم بين أبعاد الكل الثقافي الإنساني بما يمكن أن يرجع كل الإنسان إلى المحور الواحد المسيطر وهو النفس الإنسانية، فهي التي تتثقف في الواقع، وإن كانت المسارب أو المظاهر متفاوتة.
الثانية: أنه ونتيجة لهذا الترابط وهذه الوحدة الوجدانية فإن أي تنافر بين جزئين منها يعد أمرًا طارئًا على التركيبة الطبيعية الإنسانية سرعان ما تتغلب عليه لتحقيق الانسجام الكامل. ومن هنا نستطيع أن نفسر الكثير من النصوص القرآنية من قبيل: قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (1) .
وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (2) .
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية (3) .
وغيرها من النصوص الشريفة.
وعلى ضوء هاتين الحقيقتين، علينا أن نعالج ثقافتنا على كل الأصعدة، ونلاحظ مدى النفوذ الغربي فيها.
(1) سورة الماعون: الآيتان 1 ـ 2
(2)
سورة الروم: الآية 10
(3)
سورة فاطر: الآية 10
العدو يستهدف كل الجوانب:
ويبدو أن العدو ـ في حملته الثقافية ـ استهدف الجوانب الثلاثة بشكل عرضي وفي آن واحد، إدراكًا منه لهذا الترابط، وتحقيقًا لمهمته الرئيسة، وهي قتل الشخصية الإسلامية في وجود الفرد والأمة، وبالتالي تحقيق الأرضية السهلة لعملية الاستغلال الكبرى.
فعلى الصعيد التصوري: عمل الإعلام الغريب "واسمحوا لي أن أسميه بالإعلام الاستكباري العالمي نظرا لطبيعته ودوافعه الحقيقية الكامنة في طغيان الحيوانية والمادية في وجوده" عمل هذا الإعلام على التغريب الثقافي عن العقيدة والتصورات الأصيلة مستغلًا فترات الجهل، والاتجاهات القشرية الخالية من روح الإسلام، والمركزة على جوانب جزئية عابرة، مكبرة إياها، وجاعلة هذه الجوانب هي محور الصراع وتضارب الآراء عاملة ـ بالتالي ـ على نسيان التصورات الإسلامية التغييرية الكبرى، وترك الميدان الاجتماعي لكل المبادئ المدعية للعدالة والإصلاح، وهي في الواقع ضد ذلك.
ومن هنا رأينا اتجاه الكثير الكثير من جيلنا الشاب نحو المبادئ المادية التي احتلت زورًا موقع البطولة الثورية، والمطالبة بالقضاء على الظلم بعد أن أخلته هذه الآراء القشرية وأبعدت المسلمين عنه ـ لسبب أو لآخر ـ متغافلة أن الإسلام هو دين الصراع ضد التفرعن والفراعنة والطغاة، وهو دين الجهاد المتواصل ضد أي نمط من أنماط الظلم والاستبداد والاستغلال.
ثم إن العدو- وتأكيدا لعملية التغريب الآنفة - راح يزرع الشبهات تلو الشبهات في النفوس تجاه الإسلام عقيدة ونظامًا، وتجاه إمكان تطبيق الإسلام، وهو دين المجتمع القبلي ـ كما يدعون ـ فكيف يمكن تطبيقه في مجتمع القرن العشرين؟!
ولم تكن الشبهات عادية وإنما هي تشمل الحقول الفلسفية والمنطقية تمامًا كما تشمل الجوانب العملية، وهذه الشبهات عندما تصب في روح الشباب الفارغ فإنها تعصف برؤيته ومفاهيمه، وإذا تم ذلك ضمن الاستكبار انحرف الإحساس فالعمل بلا ريب. وإذا تمهد السبيل للنفوذ الغريب جاء دور الفكر الإلحادي المسموم لتحقيق المرحلة النهائية من العملية، ليصوغ الإنسان المسلم مبشرًا للماركسية بقيمها الواطئة أو الرأسمالية بجشعها ولؤمها، وعلى أي حال، يغدو عدوًّا للأمة وعميلًا للأجانب الأعداء.
وأما على الصعيد العاطفي: فإن خطته الخبيثة يمكن أن تتلخص بعمليتين: الأولى عملية إضعاف الروح الأخوية الإسلامية، روح إحساس المسلم أينما كان بألم المسلم الآخر، وإحلال الروح المحلية، والقطرية، والقومية، وحتى الوطنية الضيقة وغيرها. أما العملية الثانية فهي عملية توجيه العواطف والدوافع نحو المادية السلوكية، الأمر الذي يترك أثره على الجانبين العقائدي والعمل بكل قوة، فتحول المادية العاطفية إلى مادية عقائدية.
وقد استغل الاستكبار الغربي لتحقيق هذا الهدف كل الوسائل وما زال يستخدمها حتى يومنا هذا في أرضنا الإسلامية ونذكر منها النماذج الخلقية المنحطة، والمجلات والصحف الخليعة، والإذاعة المسموعة والمرئية، والسينما والمسارح، ومحلات الدعارة وبيوتها، والملاهي والمراقص والحفلات الماجنة، ومعسكرات الشباب ومنظماته، و (البلاجات) والمسابح المشتركة والرياضة وتعاطي الخمور، والتشجيع على استهلاك وسائل التجميل، والتشجيع على ارتكاب الجريمة، ودفع المجتمع نحو المخدرات واستغلال الإبداعات والأعمال الفنية لهذا الغرض، ومن تلك الفنون المستغلة: الزخرفة والرسم والموسيقى، واستغلال النتاجات الأدبية كالقصة والشعر، وتربية الشعب على تقليد الغرب الخليع في مختلف الشؤون كاللباس والسكن والسلوك، وفسح المجال للجمعيات والعناصر المدنسة من الصهاينة والبهائية والماسونية، ورواد نوادي الروتاري والملحدين، ليساعدوا في إذكاء نار الفساد، ونشر أفلام الخلاعة (والفيديو) وإشاعة عملية المراسلة غير النزيهة بين الجنسين، وتشجيع عمليات المقامرة في (الكازينوهات) العامة الكبيرة منها والصغيرة، وفي المسابقات الرياضية، وسباق الخيل من قبل المتفرجين وغير ذلك الكثير والكثير من الأساليب الرخيصة، ونؤكد هنا أن الكثير من هذه الوسائل الإعلامية اكتسبت ضعتها من أهدافها الوضيعة لا من طبيعتها كوسائل إعلامية مجردة.
وبالتالي فعلى الصعيد العملي: كان هدفه المرحلي هو إبعاد النظام الإسلامي عن توجيه الحياة الإنسانية، وإحلال النظام الغربية المادية محله، بشكل كلي، أو في غالب الأحوال، وهنا أيضًا تنوعت الأفكار التي مهد بها لهذه العملية، فشملت:
ـ فكرة فصل الدين عن السياسة، وقصر الحياة الدينية على الشؤون الشخصية والعبادية، وترك الشؤون الاجتماعية للفكر التنظيمي الغربي.
ـ وترويج الاتجاه الليبرالي المتحرر من التقيد بالتوجيهات الدينية.
ـ وتحبيذ العلمانية في الحكم بكل صراحة، أو بشيء من غطاء دستوري يذكر الإسلام كدين الدولة تمويهًا، في حين يحجر عليه أن يصوغ مجمل الحياة الاجتماعية إلا بما لا يتعارض مع المصالح الغربية والشخصية الضيقة.
وقد مهدت لهذه الفكرة أفكار أخرى مخادعة من قبيل: (فكرة تعقد الحياة، ولزوم التطوير في كل مجالاتها، وعدم قدرة النظم الدينية على مواكبة هذا التطور، باعتبارها تؤمن بالمطلقات التشريعية، وهذه المطلقات لا تنسجم مع عملية التغيير المستمر، وكذلك فكرة التخويف من الحكومة الدينية، أو ما يسمونه بالاستبداد الديني، مذكرين بما جرى في القرون الوسطى من الظلم الكنسي، وكيف وقفت الكنيسة إلى جانب الإقطاع المستبد، وأن هذا لا ينسجم مع الدولة الديمقراطية (الحديثة) ، وغير ذلك من الأفكار التي مهدت ـ كما قلنا ـ للعلمانية، فإذا بنا نجد الأرض الإسلامية تضج من وجود الحكم العلماني المغلف، دون أن يشعر أكثر الأفراد بمدى الجريمة التي ترتكب عبر ذلك.
والأنكى من ذلك، إن البعض من علماء الغرب ووسائله الإعلامية المحلية العميلة راحت تدعو لإعادة النظر في الإسلام نفسه!!
فهناك من يدعي أن الإسلام قد استنفذ أغراضه التاريخية.
وهناك من يرفع نداءه طارحًا فكرة (البروتسستانتية الإسلامية) .
وهناك من يطرح النظم الغربية أساسًا يجب أن يحور الإسلام نفسه بحيث ينسجم معها، فنجد شيوع تعبيرات:(الديمقراطية الإسلامية، والاشتراكية الإسلامية..إلخ) .
ولما لم يجد أذنًا صاغية راح البعض يطرح الأفكار التلفيقية التي تأخذ من هذا ضغثًا ومن ذاك ضغثًا وتقدمه على أساس أنه الإسلام المواكب لمسيرة التطور!! وهذا القسم الأخير هو أشد الأقسام خطورة على جيلنا الإسلامي الناشئ "واذكر أننا عانينا في إيران من كل الأفكار الماضية كثيرًا، إلا أن الاتجاه التلفيقي بشكله الغربي أو الشرقي كان يشكل عقبة كأداء في عملية أسلمة الحياة الاجتماعية أسلمة كاملة، الأمر الذي اضطرت الثورة الإسلامية معه إلى الضرب بيد من حديد بعد أن تآمر على كل المكاسب الإسلامية".
الفصل الثالث
خطوط المواجهة الإعلامية للغزو الثقافي
ونستطيع أن نميز في مجال مواجهة الغزو الثقافي الآنف على الصعيد الثقافي والإعلامي خطوطًا، أهمها خطان:
أولًا ـ الخط الإعلامي الثوري البناء، وقد امتاز هذا الخط بميزات منها:
(أ) وعيه للإسلام وعيًا نافذًا، وإدراكه العميق الأصيل لنظرته الحياتية التغييرية الشاملة.
(ب) إدراكه لأبعاد الغزو الثقافي ومساربه ومظاهره.
(جـ) تركيزه على محور المشكلة دون إهمال لجوانبها وفروعها وتفصيلاتها، وبالتالي دعوته للتغيير الثوري والإصلاحي في آن واحد.
(د) تقديمه الطروحات الإسلامية للجيل، وبعث حركة ثقافية جديدة.
(هـ) تحريك الحس الإسلامي الحماسي المطلوب وعدم الاكتفاء بالتنظير الفكري الجاف وهذا النوع هو الذي استطاع أن يقدم خدمات جلية على صعيد المواجهة وينقذ الأمة من وهدتها.
ثانيًا ـ الخط الإعلامي السطحي: والذي تميز بما يلي:
(أ) بطرح الإسلام شعارًا براقًا، والتذكير بالأمجاد دونما عمل على تقديم الطروحات الحياتية.
(ب) بتحبيذ الإصلاحات الجانبية والغض عن الكثير منها خوفًا من الانفلات.
(جـ) باتباع أسلوب المساومة السياسية مع الحكام المرتبطين، مهما بلغ بهم الارتباط، والاكتفاء منهم ببعض الظواهر الكاذبة.
ولهذا نجد جماهيرنا المسلمة تمج هذا الأسلوب، وترفض التعامل معه كإعلام إسلامي، مما أفقده تأثيره، لا على صعيد المواجهة فحسب، بل وحتى على صعيد التأثير الجزئي، فلم يعد يحقق حتى ما يقصده العلماء ـ من خلال تسخيره ـ من تخدير وتغطية، وأمامنا تجارب حديثة جدًّا حاول فيها أمثال هؤلاء التمويه وتشويه الإرادة الإسلامية من خلال إعلام واسع الأبعاد وعلى الصعيد العالمي، فكذبتها الجماهير المسلمة وأسقطتها من على عروشها العاجية.
الإعلام القرآني جوهر النهوض:
وإذا أردنا أن ننهض في مجال الإعلام المواجه والمربي في آن واحد، لم يكن لنا من سبيل إلا سبيل القرآن والدعوة القرآنية، إننا مسلمون قبل كل شيء، لنا تصوراتنا ونماذجنا الخاصة بنا، والمستقاة من خالق الكون العليم بما يصلحه، والقرآن هو نموذجنا الأسمى في شتى المجالات، فهو:(الكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع) وهو: (ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه) وهو: (كتاب الله؛ تبصرون به وتنطقون به، وتسمعون به) ؛ فعلينا أن نعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي، فهو:(البحر الذي لا يدرك قعره)(1) .
إنه كتاب التوعية، والتوعية في الإسلام تسبق أية خطوة أخرى.
الإسلام دين التوعية والتربية.. وهو بمقتضى واقعيته وفطريته يقرر لزوم القيام بتوعية أي إنسان يراد له أن ينضم إلى معسكره، وأي مجتمع يراد للإسلام أن ينفذ إلى عمقه.. إنه يعرض جوهرته الثمينة، لأنه يعلم أن قيمتها ستنكشف بكل وضوح للجميع.. ولذا فهو يرفض أي تقليد في العقيدة، ويدعو للبحث والبرهنة:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} .
وهو يرفض أي عملية إكراه عقائدي {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .
كما يريد من الأمة أن تكون من أولي الأيدي والأبصار، قوية في بصرها وبصيرتها.. وفي مجال التعامل مع الآخرين يأمر بالدعوة البينة الواضحة قبل كل شيء يقول القرآن الكريم.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] .
وفي هذا يقول آية الله السيد الصدر في كتابه (اقتصادنا) :
"والأمر الآخر: أن يبدأ الدعاة الإسلاميون ـ قبل كل شيء ـ بالإعلان عن رسالتهم الإسلامية، وإيضاح معالمها الرئيسية، معززة بالحجج والبراهين، حتى إذا تمت للإسلام حجته، ولم يبق للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم، وظلوا بالرغم من ذلك مصرين على رفض النور..، عند ذلك لا يوجد أمام الدعوة الإسلامية ـ بصفتها دعوة عالمية تتبنى المصالح الحقيقية للإنسانية ـ إلا أن تشق طرقها بالقوى المادية، بالجهاد المسلح"[1/ 275] .
(1) نصوص متفرقة عن الإمام على (ع) ـ تلميذ القرآن وتلميذ الرسول المبعوث بالقرآن في: (نهج البلاغة)
وقد جاء في كتاب (الكافي) للمرحوم الكليني عن الصادق (ع) قوله:
((قال أمير المؤمنين (ع) : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: "يا علي لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله عز وجل على يديك رجلًا خير لك مما طعلت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)) [وسائل الشيعة: 11/ 30]
إنه أسلوب القرآن قبل كل شيء، الذي علمه الله لموسى وهارون (ع) :{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 ـ 44] .
إنها الدعوة ـ حتى عند مواجهة الطواغيت ـ عسى أن يهتدوا إلى الحق.
وها نحن نجد الرسول العظيم يكرر عبارة: ((أدعوك بدعاية الإسلام)) في رسالته إلى كسرى أنوشيروان، وقيصر إمبراطور الروم، تطبيقًا لهذا التعليم الإسلامي السامي.
وهكذا راح الدعاة يبثون الدعوة إلى الأقطار. وقد ذكرت أسماء بعض الدعاة الأوائل الذين أرسلوا لتحقيق واجب الدعوة إلى الله، ومنهم:
عبد الله بن حذافة السهمي ـ مبعوث الرسول إلى إيران.
حاطب بن أبي بلتعة ـ مبعوث الرسول إلى مصر لدعوة المقوقس.
دحية الكلبي ـ مبعوث الرسول إلى روما.
عمرو بن أمية ـ مبعوث الرسول إلى اليمامة.
عمرو بن العاص ـ معبوث الرسول إلى عمان.
حرملة بن زيد ـ مع وفد معه إلى مدينة (أيلة) الواقعة على ساحل البحر الأحمر.
المهاجر بن أبي أمية ـ مبعوث الرسول إلى ملوك حمير.
خالد بن الوليد ـ مبعوث الرسول إلى همدان (مدينة قرب بحر عمان) .
علي بن أبي طالب (ع) ـ مبعوثه الثاني إلى هذه المدينة.
حذيفة بن اليمان ـ مبعوث الإسلام إلى الهند.
عبد الله بن عوسجة ـ مبعوث الرسول إلى قبيلة حارثة بن قريظ.
جرير بن عبد الله البجلي ـ مبعوث الرسول إلى قبائل ذي الكلاع الحميري.
وغيرهم ممن حمل مهمة الدعوة إلى الشعوب.
وإذا أردنا أن نجد التطبيقيات السياسية لهذا الأصل في التعامل الدولي، أمكننا أن نلحظها في بعثات الإيضاح المرسلة من هنا إلى هناك، وفي أساليب توضيح الحقيقية عبر الوسائل السماعية والبصرية، وفي مذكرات الإيضاح الموجهة، والمذكرات التفسيرية المقدمة إلى المؤتمرات الدولية.
ومما تميز به العلاقات الدولية الإسلامية: أنها تنظر لعملية التوعية والإيضاح ـ كرسالة إلهية ومبدأ ضروري ـ يجب الالتزام به قبل القيام بأية خطوة عكسرية أو سياسية أو غيرها تجاه الدول الأخرى.
أما ما نجده من السياسة الماكرة القائمة ـ بالفعل ـ فهو اعتماد هذه السياسة التوضيحية ـ باعتبارها مناورة سياسية ـ فإذا لزم الأمر، قلبت الحقائق وتغيرت الموازين.
الهدف الرئيس والأهداف المرحلية للإعلام:
الهدف الرئيس ـ بكل اختصار ـ هو تعبيد الأرض لله تعالى، وإيجاد المجتمع المؤمن العابد المحقق لخلافة الله في الأرض، وإذا وجد مثل هذا المجتمع، فإنه سيكون الأمة الوسط التي تطمح الأمم للوصول إلى مستواها، والأمة الشاهدة على البشرية جمعاء، باعتبار ما لها من علو حضاري، نفسي ومادي، وحينئذ سيكون الدين كله لله، ويتحقق هدف الخلقة الإنسانية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ويجب أن تصب كل التشريعات والسلوكيات والأقوال والأفعال وتتسمر كل الأحداق بهذا الهدف الكبير الكبير، وتسترخص الغوالي لتحقيقه، إنه عظيم ترخص في قباله دماء الأنبياء والطاهرين، وجهود الصالحين عبر التاريخ.
إلا أن هناك أهدافًا مرحلية (تنتهي إلى ذلك الهدف الكبير) يعمل الإعلام القرآني على الوصول إليها بشتى الوسائل الممكنة فما هي؟
نستطيع أن نذكر أهم هذه الأهداف المرحلية في النقاط التالية:
الأولى: ترشيد إنسانية الإنسان: ذلك أن للإنسانية خصائص ومعالم إذا رشدت ونميت ضمنت للإنسان مسيرة متوازنة، أما إذا تلاشت من على سطح الوجود الإنساني، فحينئذ يكون الفسق على السبيل القويم، وحينئذ تكون المسيرة المكبة على وجهها، وعندئذ يتوقع الإجرام كله، وهذه المعالم باختصار هي:(التعقل السليم، والإرادة الحرة، والخلقية الفطرية، والدوافع المنضبطة) وإذا لم نكن هنا بصدد عرض البرنامج الإسلامي، الواسع الأبعاد لترشيد هذه الجوانب فإن من الطبيعي الإشارة إلى بعض مكوناته حينما نتحدث عن الأساليب الإعلامية.
الثانية: التوعية بالإسلام عقيدة ومفاهيم وتشريعًا، باعتباره السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك الهدف الكبير، وكلما تعمق وعي الأفراد لهذه الرسالة، وطروحاتها وخططها وحلولها للمشاكل الإنسانية، واتضحت معالم الفرق بينها وبين المبادئ الوضعية وبانت خصائصها الرئيسية، استطاع المجتمع المسلم أن يخطو على طريق الهدف الكبير خطًى أسرع وأثبت في نفس الوقت.
الثالثة: التوعية بكل ما يحيط بالأمة من أحداث وظواهر ومؤامرات وتفاعلات لها كلها أثرها على تعيين المواقف المبدئية والمتحركة.
الرابعة: إيجاد الأرضية الصالحة لتطبيق الإسلام، في كل الأرض الإسلامية، وبالتالي في شتى أنحاء العالم، ويشمل هذا الجانب أمورًا نتحدث عنها في الأساليب التفصيلية.
الخامسة: تحقيق معالم الفرد المسلم والأمة المسلمة.
العدة المطلوبة والأسلوب الأمثل:
أما العدة المطلوبة للإعلام الإسلامي العامل على النهوض والمقاومة فيمكن تلخيصها فيما يلي:
الأول: القدرة العلمية والثقافية إلى الحد المستوعب لكل جوانب الإسلام وأهدافه العامة. فليس من المعقول أن يطلب من الإعلام تحقيق الأهداف السالفة دون أن يكون مزودًا بمثل هذه القدرة، ويمكننا أن نرد الكثير من نقاط الضعف الإعلامية إلى افتقادها، وتواجد السطحية في الفهم.
الثاني: الاستيعاب اللازم للفهم الاجتماعي العام، ومعرفة التحرك العالمي السياسي والاجتماعي وأساليبه، ومحاوره، وتوفر الخبراء الهادفين والمحققين بكل جدارة.
الثالث: معرفة أساليب العرض، أو ما يمكن أن نطلق عليه بفن الإعلام المناسب، وهو بالضبط ما كان قدماؤنا يطلقون عليه اسم:(معرفة حال المخاطب) ، فيجب أن نعرف من نخاطب، وكيف نخاطب، وأنى يتم ذلك؟ وهذا هو مضمون التحلي بالحكمة في مجال الدعوة إلى الله.
الرابع: الإيمان العميق الواعي بالإسلام وأهدافه الكبرى، وتأصل ذلك في نفوس الإعلاميين إلى الحد الذي يحملهم على التضحية بكل غالٍ ورخيص في سبيل الهدف السامي.
الخامس: التخلص من كل تبعية، أو ضيق أفق، أو مصلحة شخصية، والتجرد من كل ذلك لصالح الحقيقة.
والواقع أننا نعتقد أنه يكمن في هذه النقطة أحد أهم شروط النهضة الإعلامية، وإن إعلامنا الإسلامي اليوم مبتلى في الكثير الكثير من مقولاته بالتبعية للحكومات المتسلطة على شعوبها بالحديد والنار، فهو لا يعدو أن يكون دمية تتحرك بإرادة الحاكم القزم، وباتجاه تحقيق مصالحه.
وإلا فبماذا تسمي إعلامًا ينتسب للإسلام، وهو يسكت عن كل أنماط الخيانة الأخلاقية، أو الخيانة الاقتصادية، أو الانحراف السياسي والعمالة المفضوحة، أو الاستسلام للعدو الصهيوني الغاشم، أو يردد نفس تهم الاستكبار العالمي ضد أبطال المقاومة الإسلامية، أو يدعو للتستر على الجرائم؟ ! وربما بلغ من النذالة إلى الحد الذي يعلن فيه أن فكرة الحكم الإسلامي فكرة لا إسلامية، لا لشيء، إلا ليرضي الحكم المسلط على رقاب الشعب، وإلا ليبارك قبضة الجلاد التي تشدد الخناقة على رقبة الجيل المسلم المتوثب. أو قد يبلغ بهم الأمر إلى مهاجمة الأنبياء كداود وسليمان عليهما السلام لأغراض قومية وما إلى ذلك. أو ربما اتجهوا إلى التأكيد على اللغات غير العربية مع إهمال العربية نفسها أو المحلية العامية تنفيذا للمآرب الاستعمارية.
السادس: ملاحظة الأرضية الإيمانية المتوفرة في أوساط الأمة الإسلامية، فإنها خير مساعد وعدة على انطلاق الإعلامي في مسبحه المناسب، وتتجلى لنا أهمية هذا العنصر حينما ندرك أنه بنفسه شكل سد المقاومة الرئيس أمام الهجوم الإعلامي الغريب حيث تخلى عن الساحة حتى أولياؤها الفكريون والسياسيون.
السابع: التمتع بالخصائص القرآنية الإعلامية: وهذه الخصائص واسعة الأبعاد قد لا يمكن الإحاطة بها إلا لدراسة تحقيقية عميقة، ومن هنا فإننا نكتفي بالإشارة للبعض منها بما يتناسب وحجم هذا الحديث، وما نذكره منها يتلخص فيما يلي:
أولًا ـ استحضار النظرة الغيبية إلى جانب الحسابات المادية، وذلك في كل تحليل أو توقع مستقبلي والابتعاد عن النظرة المادية الحسابية الجافة فإن التصورات القرآنية المعطاة تؤكد أن المسيرة المنسجمة مع العدل تنسجم معها القوى الطبيعية القائمة في خلقتها على الأساس نفسه، في حين لا يتوفر الانسجام المطلوب مع الانحراف، وهو ما يلخصه المقطعان القرآنيان الكريمان:
{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (1) .
وكذلك كل النظرات الإسلامية في التاريخ والحياة والإنسان، ومن ذلك ما قلناه من الترابط بين أجزاء التركيبة الإنسانية.
ثانيًا ـ الموضوعية: والاتصاف بروح التبعية للحقيقة ـ أيًّا كانت ـ وحتى لو خالفت مصلحة شخصية، أو استدعت التضحية الغالية، ويبالغ القرآن في تحقيق الروح الموضوعية، وعدم النظر إلى الواقع الموضوعي من خلال رؤية مسبقة إلى الحد الذي يدعو فيه الخصم إلى افتراض نقطة الصفر في الحوار، وعدم الإيمان بشيء والانطلاق منها إلى الحقيقة الموضوعية فيقول مخاطبًا الكفار:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) .
ثالثًا ـ الهدفية في كل خطوة: ذلك أن الهدفية لا تتنافى مطلقًا مع الموضوعية في التصور الإسلامي؛ لأن المؤمن مطمئن تمام الاطمئنان أن الحقيقة الموضوعية ـ مهما كانت ـ تشكل آية من آيات الله تعالى وهدى إليه سبحانه.
وإذا انعكست الهدفية على حياة الداعية العامل، صرف النظر عن كل أنماط اللهو السخيف، والتضييع الوقتي فيما لا طائل تحته، وبالتالي لا تجد في نماذجنا الإعلامية ما يهدر هذا الوقت الثمين.
إن الهدفية القرآنية نلحظها في كل قصة، وفي كل مثل، وفي كل عبارة، ففي كل موضوع عبرة، ومع كل حديث اعتبار، وكل شيء يعبر عن مادة للدراسة وخدمة الهدف من خلالها:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (4)
ويكفي أن نتابع آية قصة قرآنية لنكتشف الهدفية التي تتجلى أروع تجل.
(1) سورة الفجر: الآيتان 12 ـ 13
(2)
سورة نوح: الآيات 10 ـ 12
(3)
سورة سورة سبأ: الآية 24
(4)
سورة يوسف: 111
رابعًا ـ التنسيق والانسجام بين كل الخطوات والجوانب: وذلك انعكاسًا للتنسيق القرآني فإذا الصورة المتشعبة تسودها روح واحدة، وهذه الخصيصة نتيجة طبيعية للخصائص السابقة وخصوصًا الهدفية بعد افتراض وحدة الهدف وشموله لكل جوانب التصور وأي اختلال لها يعني الانقلاب على الهدف:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) .
في حين تتضاعف السرعة إلى الهدف عند التناسق: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) .
وإذا لاحظنا ضرورة هذه الخصيصة للتأثير المطلوب أدركنا سر ضياع الكثير من الأفكار الصحيحة المطروحة في إعلامنا اليوم بعد أن كانت تكذبها الأعمال والأطر المنافقة والمساومة، والأقوال الأخرى من صاحب الفكرة نفسه.
خامسًا ـ الواقعية والتفاعل المستمر مع الأحداث الاجتماعية: وعدم الغرق في تصورات طوبائية، فإن من خصائص القرآن الكريم أنه رغم كونه دستورًا عامًّا لكل المسيرة البشرية، فهو ينسجم مع ما يبدو من ظواهر، ويعالجها على ضوء تلك التصورات العامة الأصيلة:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (3) .
وينبغي هنا أن نذكر بأننا نقصد بالواقعية هنا: ملاحظة الواقع والعمل على تطويره إلى المفروض، لا ما يبدو أحيانًا من تفسيرات تتجه بالواقعية إلى عملية الإذعان للواقع، والتلون وفق متطلباته إذعانًا واستسلامًا له.
والواقعية تتطلب أن تطرح الأساليب البديلة الصحيحة عند العمل لإصلاح ظاهرة منحرفة، وذلك نظير ما نلحظه في الآية الكريمة على لسان لوط (ع) :{هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (5) .
وما نجده في تعبير الإمام علي عليه السلام حين يعمل على محو التعصب القبلي الممقوت، يطرح التعصب لمكارم الخلال حين يقول:
"وأما الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصبوا لآثار مواقع النعم فقالوا:{نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل
…
" [نهج البلاغة: ص 295] .
(1) سورة الصف: الآية 3
(2)
سورة فاطر: الآية 10
(3)
سورة المجادلة: الآية 1
(4)
سورة الأنفال: الآية 7
(5)
سورة هود: الآية 78
سادسًا ـ المنطقية في العرض والابتعاد عن السطحية: إن القرآن يربي المسلم على التأمل والبرهنة والتعقل واستقراء الأدلة القوية ومن ثم إصدار الحكم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) .
أما الاتهامات الواهية، أو حتى التوقعات التي تمتلك دليلًا من الواقع، وطرح الآراء ونسبتها إلى الإسلام فهو الانحراف الكبير:{قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (2) .
ومن هنا يتخلص الإعلام الإسلامي من ركام المقالات والتحليلات الواهية، التي تترك أثرها السلبي على الأفكار، وتلقي بتبعاتها على كواهل هؤلاء الكتاب والمحللين، ولا أستطيع هنا تحديد المساحة التي يجب أن تحذف من الإعلام المتداول في مناطقنا الإسلامية ـ حين تطبيق هذا الشرط ـ إلا أنني متأكد من لزوم حذف المساحة الكبيرة مما ينشر بلا ريب.
سابعًا ـ التفاعل الوجداني الحراري العاطفي مع الهدف وحمل هم الرسالة للعمل على زرع الحماس الإسلامي للقضية الإسلامية من خلال ذلك.
إن كلام الداعية يجب أن يكشف للسامعين عن تألمه لقضيته وحماسه لأهدافه، وخشوعه أمام ربه وكلماته العليا، وتفاعله معها، وهو أمر يريبه القرآن في نفوس أتباعه:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . [سورة الزمر: الآية 23]
(1) سورة البقرة: الآية 111
(2)
سورة يونس: الآية 59
(3)
سورة الحديد: الآية 16
ثامنًا ـ الأخلاقية الإعلامية: ونعني بها الالتزام الكامل بالأخلاق الإسلامية في المجال الإعلامي، فلا يلقى القول على عواهنه، ولا تشاع الفاحشة، ولا يتهم المؤمن، ولا يرد على القضاء، ولا تنمى روح التحاسد والتباغض والتحاقد، ولا تستخدم الألفاظ التي تمجها الأخلاقية الإسلامية. وإنما يعمل الإعلام الإسلامي على توفير البيئة الصالحة التي تتفتح فيها الفطرة عن طاقاتها المبدعة، وبالتالي: تسير بالإنسان نحو أهدافه الأصيلة.
تاسعًا ـ تنويع الأساليب الإعلامية: وهو ـ في الواقع ـ مقتضى تطبيق مبدأي، الحكمة، والموعظة الحسنة.
والحديث عن تنوع الأساليب القرآنية بالذات حديث واسع، فالقرآن بأساليبه الرائعة استطاع أن يصوغ أمة هي في طليعة البشر من شراذم متخلفة، كانت تتعثر خلف المسيرة البشرية
…
، ويكفي هنا أن نشير ـ مثلًا ـ إلى روعة الاستفادة من أسلوب الجمل المعترضة أو العبارات المعترضة في الحديث لتحقيق الهدف المطلوب، وتبدو لنا هذه الروعة إذا تأملنا كلمة "سبحانه" في الآية القرآنية الشريفة:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (2) .
والحديث هنا كما قلنا واسع الأبعاد.
(1) سورة الفرقان: الآيات 63 ـ 74
(2)
سورة النحل: الآية 57
عاشرًا ـ العالمية في الاهتمام: وذلك انطلاقًا من عالمية الإسلام نفسه، وسعيه لحل المشكلات الإنسانية جمعاء، ومن هنا فإن أي دراسة أو اهتمام محلي يجب أن يتم في هذا الإطار العالمي العام، وعلى هذا الضوء يجب أن يهتم الإعلام الإسلامي بقضايا المظلومين والمحرومين والمستضعفين، ويتفاعل معها بكل حرارة، في حين يقف أمام كل حركة استكبارية يقوم بها الطغاة المجرمون.
حادي عشر ـ رصد التحركات التآمرية للشياطين على وجود الأمة الإسلامية، والعمل على توعية الأمة بها بشكل دائم. إنها إذن المرابطة الدائمة في هذا المجال، والمرابطة عمل جهادي يندب القرآن الأمة إليه، وإنه الحذر الدائم:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (1) .
وهي مهمة جسيمة يجب أن ينهض بها الإعلام الإسلامي.
ثاني عشر ـ التأكيد على النقاط المشتركة الجامعة، ومن ثم الاتجاه لحل الخلافات في النقاط المختلف عليها، وهذا أحد أساليب الحكمة في الدعوة.
وأخيرًا؛ فإن ما أشرنا إليه من خصائص لا يستوعب حتى الجزء الأكبر من الخصائص الإعلامية للمعجزة الإسلامية الإعلامية (القرآن الكريم) وإنما ذكرنا ما يفتح الأبواب أمام دراسة موسعة في هذا المجال.
(1) سورة الأعراف: الآية 27
(2)
سورة آل عمران: الآية 64
الفصل الرابع
التشكيك في أهم مصدرين
للتصور والأحكام الإسلامية
والمقصود بهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فهما في الواقع مصدرا الشريعة والمنبعان الرئيسان لكل التصورات والمفاهيم والأحكام الإسلامية.
وإن الإسلام ليفتخر بهذه الميزة وهي أنه وضع لكل الأجيال إلى يوم القيامة هذين المنبعين الأصيلين الخالدين.
والإنسان الطبيعي يستطيع أن يدرك بأقل تأمل فيهما هذه الصفة (صفة المنبعية) التامة فلا يحتاج للاستدلال بهما إلى دليل للحجية ولا للعمل بظواهرهما إلى مستند برهاني كبير ، وإنما هو ينطلق من المسلمات العرفية لدى المسلمين بل لدى العقلاء جميعًا.
إلا أن هناك أمرين أوجدا بعض العقبات في الاستدلال بهذين المنبعين الكريمين الأمر الذي قد يترك أكبر الآثار السلبية ويخلق الفراغ الفكري الهائل الذي ينفذ منه الفكر الغريب المعادي.
وسوف نبحث هذه العقبات في مرحلتين:
القرآن الكريم والشبه المثارة حول الاستدلال به:
والقرآن الكريم هو خصوص ما بين الدفتين دونما زيادة أو نقيصة ولقد أُحصيت آياته فبلغت (ستة آلاف وثلاثمائة واثنين وأربعين آية)(1) .
"والحديث حول حجيته موقوف على تمام مقدمتين أولاهما ثبوت تواتره الموجب للقطع بصدوره، وهذا ما لا يشك فيه مسلم امتحن الله قلبه للإيمان، والثانية ثبوت نسبته لله عز وجل وعقيدة المسلمين قائمة على ذلك وحسبهم حجة ثبوت إعجازه بأسلوبه ومضامينه وتحديه لبلغاء عصره ونكولهم عن مجارته ، وإخباره بالمغيبات التي ثبت بعد ذلك صدقها ومطابقتها لما أخبر به كما ورد في سورة الروم وغيرها وارتفاعه عن مستوى عصره بدقة تشريعاته إلى ما هناك مما يوجب القطع بسموه عن قابليات البشر مهما كان لهم من الشأن".
الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم:
يصرح القرآن الكريم في الآية السابعة من سورة آل عمران بوجود آيات محكمات هن أم الكتاب، وآخر متشابهات فيقول تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) .
وقد اختلف المفسرون في المراد من المحكم والمتشابه، وترددت نظرياتهم بين كون التشابه قائمًا على أساس علاقة اللفظ بالمعنى ومدى دلالته وظهوره فيه وكونه أي التشابه في مجال تطبيق المعنى المفهوم على مصاديقه وتجسيداته الخارجية. فالمتشابه: هو ما حصل تردد في دلالته على المعنى المراد ـ على رأي ـ أو ما حصل معه التردد في أفراد المعنى الذي يدل عليه، والمحكم ما يقابله.
ولسنا نريد هنا الدخول في مجال عرض الاتجاهات الرئيسة في هذا المجال وترجيح أحدها على الآخر.
وإنما نقصد أن نعرض إلى مسوغات احتواء القرآن الكريم على آيات وألفاظ متشابهة يحصل التردد في فهم تطبيقاته ، وهل يتنافى ذلك مع كونه كتاب الهداية العامة للبشرية؟
وسنحاول فيما يلي التعرض إلى ما قيل في هذا المجال وتوضيحه أولًا ثم نحاول التعقيب على ما ذكر إما بالرد أو بالتكميل.
(1) المدخل إلى أصول الفقه: ص 20
(2)
سورة آل عمران: الآية 7
الآراء في هذا المجال:
نستطيع أن نحصر أهم ما قيل في توضيح الحكمة من مجيء كل الآيات المتشابهة أو بعضها وذلك في نقاط كما يلي:
1 ـ الامتحان والتربية على الاستسلام والخضوع:
فقد ذكر الشيخ محمد عبده: "إن الله سبحانه أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب واضحًا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء لما كان في الإيمان به شيء من معنى الخضوع لما أنزل الله تعالى والتسليم لما جاءت به رسله"(1) .
ويؤكد هذا بالالتفات إلى ما قالته الآية: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} في حين {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2) .
وقد أكد هذا الرأي صاحب (مناهل العرفان) فقال في مجال تعداد حكم بعض أنواع المتشابه: "ثانيتهما الابتلاء والاختبار أيؤمن البشر بالغيب ثقة بخبر الصادق أم لا؟ فالذين اهتدوا يقولون: آمنا ، وإن لم يعرفوا على التعيين ، والذين في قلوبهم زيغ يكفرون به وهو الحق من ربهم، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والخروج من الدين جملة"(3) .
ونقل السيوطي عن بعضهم أنه ذكر فوائد للمتشابه الذي استأثر الله بعلمه ومنها: "ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم
…
" (4) .
ثم قال: "ورابعتها إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه، وإقامة شاهد على قدرةالله الخارقة، وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما وأن الخلق جميعًا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهناك يخضع العبد ويخشع ويطأ من كبريائه ويخضع"(5) .
ومما لا ريب فيه أن الامتحان والابتلاء يشكل نوعًا أساسًا من أنواع تربية الإنسان المسلم على أن يتحلى بالصفات التي يريد الله أن تتقوم شخصيته بها ، وأهم هذه الصفات بل الملكات المتأصلة صفة التعبد والاستسلام لله تعالى في كل شيء يثبت أنه منه تعالى عرف الحكمة فيه أم لم يعرف، وقد وضع الإسلام لغرس هذه الملكة في أعماق المسلم برنامجًا واسعًا وأساليب مختلفة يمكن أن يذكر منها ما نحن بصدده، كما يمكن أن يذكر منها أسلوب عرض قصص المستسلمين الأطهار (كإبراهيم وإسماعيل) وكذلك القصص التي تحكي الإلهية الواسعة التي هي فوق ما يتصوره الإنسان الحبيس في سجن ضعفه وإمكانه حتى لو كان ذلك الإنسان موسى (ع) .
ومنها نظام العبادات.. إلى غير ذلك مما ليس هناك محل ذكره.
وعليه فيقف الممتحن أمام هذه الآيات المتشابهة موقفين تبعًا لمسبقاته وتصوراته واستسلامه فإما الاغترار واتباع الرأي ابتغاء الفتنة وإما الاستسلام لله تعالى وإرجاع الأمر إليه.
(1) تفسير المنار: 3/ 170
(2)
سورة آل عمران: الآية 7
(3)
مناهل العرفان: 2/178
(4)
مناهل العرفان: ص 193
(5)
مناهل العرفان: ص 179
2 ـ الدفع نحو التعمق والتوسع الفكري:
وقد ذكر عبده أيضًا أن وجود المتشابه "كان حافزا للعقل المؤمن إلى النظر كي لا يضعف فيموت فإن السهل الجلي جدًّا لا عمل للعقل فيه، والعقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها، والدين أعز شيء على الإنسان فإذا لم يجد العقل مجالًا للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيًّا بغيره"(1) .
وذكر العلامة الطبرسي ذلك باختصار حيث قال: "فإن قيل لم أنزل الله تعالى القرآن المتشابه؟ وهلا جعله محكمًا؟ فالجواب: أنه لو جعل جميعه محكمًا لاتكل الناس كلهم على الخبر واستغنوا عن النظر...."(2) .
كما أن الفخر الرازي ذكر ما يقرب من هذا المعنى حيث قال في هذا الصدد: "باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه، يضطر الناظر فيه إلى تحصيل علوم كثيرة مثل اللغة والنحو وأصول الفقه مما يعينه على النظر والاستدلال" ثم يقول:"باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية فيتخلص من ظلمة التقليد، وفي ذلك تنويه بشأن العقل والتعويل عليه، ولو كان كله محكمًا لما احتاج إلى الدلائل العقلية، ولظل العقل مهملا.." وأخذ هذا المعنى الشيخ صبحي الصالح فقال: "لعل اشتمال القرآن على المتشابه وعدم اقتصاره على المحكم وحده، أن يكون حافزًا للمؤمنين على الاشتغال بالعلوم الكثيرة التي تقودهم على فهم الآيات المتشابهات فيتخلصون من ظلمة التقليد، ويقرأون القرآن متدبرين خاشعين"(3) .
ولربما عبر عن هذا المعنى بلسان آخر وهو حصول الثواب بإعمال النظر في القرآن الكريم وهو ما قاله المرحوم الطبرسي من أنه: "لولا وجود المتشابه لكان لا يحصل لهم ثواب النظر واتعاب الخواطر في استنباط المعاني"(4) .
(1) رشيد رضا، تفسير المنار: 3/ 170
(2)
مجمع البيان: 2/ 410
(3)
مباحث في علوم القرآن: ص 286
(4)
مجمع البيان: 2/ 410
وقال الفخر الرازي أيضا: "متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب".
كما أنه قد يعبر عنه بلسان آخر هو: "لسان ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات العلمية".
وهذا ما جاء في المجمع حيث يقول: "ولكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم"(1) .
ونقل السيوطي عن بعضهم قوله: "ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات، إذ لو كان كله محكمًا لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره"(2) .
ويرى السيد الحكيم: "أن نوعا من المتشابه وهو الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم إنما ورد في القرآن الكريم بهذا الأسلوب كبعض المسائل الكونية وغيرها لينطلق في تدبر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة"(3) .
هذا ومما لا ريب فيه أن القرآن الكريم أوجد بنزوله مرحلة فكرية جديدة ونقل المجتمع من حضيض التفكير الجامد الضيق إلى سمو فكري متفتح ونضج بلغ في مراحله التالية إلى مستوى فلسفي لاتصله أية فلسفة ومستوى علمي جوال قاد العالم خلال قرون ومستويات فكرية تشريعية وأخلاقية ما رأى الكون لها مثيلًا.
يقول الدكتور محمد يوسف موسى: "إن القرآن كان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف ثم بيان ما اشتمل عليه من فلسفة، سواء ما يتعلق منها بالإنسان، وما يتعلق بالله وصلته جل وعلا بالإنسان، ومن الحق أن القرآن قبل كل شيء هو كتاب العقيدة الحقة، والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان ، والأخلاق التي لا يقوم مجمع سليم إلا بها"(4) .
ويقول السيد الأستاذ الخوئي: "لأنه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر ويتكفل بسعادتهم وإسعادهم، والقرآن مرجع اللغوي ودليل النحوي، وحجة الفقيه، ومثل الأديب، وضالة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخلقي، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية وعليه تؤسس علوم الدين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون ونواميس التكوين".. (5) .
ويقول الأستاذ المطهري: "إن الفلاسفة المسلمين استطاعوا بإلهام من القرآن الكريم وكلمات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم والأئمة الأطهار (ع) أن يوجدوا مدرسة فلسفية تعتمد الاستدلال المنطقي المتقن"(6) .
ولعل من أهم الدوافع نحو الفلسفة بالخصوص والتوسع الفكري على العموم وجود هذه الآيات المتشابهة على اختلاف أصعدتها الفلسفية والعلمية والاجتماعية والتي تدفع المسلم المتأمل في القرآن بحكم تطلعه إلى فهم معناها، تدفعه لذلك التوسع.
(1) مجمع البيان: 2/ 410
(2)
المناهل: 2/ 193
(3)
مجلة رسالة الإسلام، العدد 5، 6 السنة الثانية: ص 32
(4)
القرآن والفلسفة: ص 5
(5)
البيان في تفسير القرآن: ص 3
(6)
علل الانحراف نحو المادية، ص 167، طبع مشهد، انتشارات طوس
3 ـ تقريب الأمور العميقة إلى الأفهام:
ويتوضح ملخص ما ذكره العلامة الطباطبائي في هذه الحكمة بمتابعة الخطوات التالية:
أولًا: إن الارتباط بالله تعالى والمعاد وما إلى ذلك من تفصيلات العالم الغيبي أمر ضروري للإنسان بل هو روح التصور الإسلامي عن الواقع.. وهذا يستدعي أن يعرف المسلمون القدر الضروري عن نوعية هذه العلاقة.
ثانيًا: إن الإنسان حبيس ضعفه وتصوراته الخاصة الحسية والعقلية التي توفرت له خلال حياته.. ومختلف مراتب الناس على ضوء كمية التصورات التي لديهم.
ثالثًا: وعلى ضوء مما سبق ولأجل الكشف عن القدر الضروري لنوعية العلاقات الآنفة لجميع الإنسانية فقد اتبع القرآن أسلوب التمثيل والتشبيه ليقرب تلك المعاني العالية إلى الإذهان فيقرب الأمر المعنوي المجرد إلى الأذهان المختلفة عبر ذلك التمثيل بحقائق حسية.
رابعًا: إلا أن من الواضح أن الممثل قد لا يتوافق مع الممثل به في مختلف الجوانب والخصائص خصوصًا وهما من عالمين مختلفي القوانين والأحكام (عالم المجردات وعالم الماديات)
وعدم التوافق هذا قد يجر إلى محذورين يخالفان الغرض الأساس لهذا التمثيل وهو الهداية القرآنية:
(أ) نقل الخصائص الحسية للممثل به إلى الممثل وهذا يعني تغير الحقيقة وانقلاب الغرض.
(ب) وقد يلتفت الإنسان إلى الفرق بين الممثل والممثل به فيبدأ بعملية تجريد الممثل به من الخصوصيات مما قد يؤثر في تشويه الصورة المطلوبة إعطاؤها إما بزيادة أو نقصان.
خامسًا: وتخلصًا من هذه المحاذير يلجأ القرآن إلى توزيع المعاني التي يريد إعطاءها إلى أمثال مختلفة وإعطاءها صيغًا مختلفة حتى يفسر بعضها بعضًا وينتهي الأمر إلى تصفية عامة تنتج ما يلي:
(أ) إدراك القارئ للقرآن أن هذه الصور هي مجرد أمثال لا تعبر عن كل الحقيقة ولا تكسب الواقع العيني كل خصائصها.
(ب) بجمع هذه الأمثال إلى بعضها ينفي بكل واحد منها الخصوصيات الحسية الموجودة في المثال الآخر.
وبذلك تتحقق الهداية القرآنية العامة ويتخلص من نقائص هذا الأسلوب الذي لا مفر منه (1) .
(1) الميزان: 3/ 58 إلى ص 65
وقد عبر ابن اللبان في كتابه "رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات" عن رأي أخص من هذا فقال بتلخيص من صاحب المناهل: "ليس في الوجود فاعل إلا الله، وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهي في الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".
ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياتها مظهرين: مظهرًا عباديًّا منسوبًا لعباده وهو الصور والجوارح الجثمانية، ومظهرًا حقيقيًّا منسوبًا إليه، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لإفهامهم والتأنيس لقلوبهم ، ولقد نبه تعالى على قسمين، وأنه منزه عن الجوارح في الحالين، فنبه على الأول بقوله:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (1) .
فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى، ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (2) . وبقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (3) وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبًا إليه تعالى فلا يفهم من نسبته إليه تشبيه ولا تجسيم، ولكن الغرض من ذلك التقريب للأفهام والتأنيس للقلوب
…
" (4) .
(1) سورة التوبة: الآية 14
(2)
سورة الفتح: الآية 10
(3)
سورة الأنفال: الآية 17
(4)
مناهل العرفان: 2/ 193 ـ 194
4 ـ إعطاء الكل والتركيز على البعض:
ذكر الفخر الرازي رأيًّا يقرب من الرأي السابق فقال: إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي محض، فيقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه، ويكون ذلك مخلوطًا بما يدل على الحق الصريح.
فالقسم الأول: وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه.
والقسم الثاني: "وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم".
وعبر عنه الشيخ عبده بتعبير آخر فقال:
"إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، وإنما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى والوقوف عند حد المحكم فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده"(1) .
ويعلق السيد الحكيم على هذا النص بعد رد إشكال العلامة عليه فيقول: "إذا عرفنا دور المحكم والمتشابه أمكننا أن نتصور بسهولة أن بعض المعاني لا يدركها إلا الراسخون في العلم دون العامة خصوصًا المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية كجريان الشمس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أو تلقيح الرياح {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أو جعل الماء مصدرًا للحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإن كل هذه المعلومات حين تتكشف لدى العلماء تكون من المعلومات التي أشار إليها القرآن الكريم ويعرفها الخاصة دون غيرهم"(2) .
ومما يؤكده أن الراغب الأصفهاني في مفرداته ذكر أن من المتشابه ما "يجوز يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفي على من دونهم وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام في علي رضي الله عنه: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) "(3) .
فتكون بعض الآيات متوجهة إلى القادة الفكريين بالخصوص على أساس أنهم سيعرفون الواقع المراد بالتفصيل للأمة ككل.
ولعله إلى مثل هذا الرأي يشير الزرقاني فيقول: في مجال تعدد الحكم من "وجود المتشابه".
"أولاهما: رحمة الله بهذا الإنسان الذي لا يطيق معرفة كل شيء، وإذا كان الجبل حين تجلى له ربه جعله دكًّا وخر موسى صعقًا فكيف لو تجلى سبحانه بذاته وحقائق صفاته للإنسان؟ ومن هذا القبيل أخفى الله على الناس معرفة الساعة رحمة بهم كي لا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها، وكي لا يفتك بهم الخوف والهلع أو أدركوا بالتحديد شدة قربها منهم ولمثل هذا حجب الله عن العباد معرفة آجالهم، ليعيشوا في بحبوحة أعمارهم"(4) .
وواضح أن هذا النص غير دقيق في تعبيره وإلا فلا معنى لتصور إمكان تجلي الله تعالى بذاته وحقائق صفاته وإنما يقصد أن النفس والتصور الإنساني يكلّ غالبًا عن تصور أقصى ما يمكن تصوره في الساحة الآلهية.
كما أن من الواضح أنه يجمع إلى صف هذه الحكمة (حكمة إعطاء الناس على قدر إمكاناتهم) حكمة بث الأمن والأمل بإخفاء بعض الأمور عنهم جامعًا الحكمتين تحت عنوان رحمة الله بالإنسانية.
(1) تفسير المنار: 3/ 170 ـ 171
(2)
رسالة الإسلام، العددان 5، 6، السنة الثانية: ص 28
(3)
معجم المفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني: ص 261 ـ 262
(4)
مناهل العرفان: 2/ 178
5 ـ تحقيق بعض جوانب الإعجاز:
فإن في هذا التشابه بعض ضروب الإعجاز ففيه الإعجاز البلاغي حيث يقول الزرقاني:
"لأن كل ما استتبع فيه شيئًا من الخفاء المؤدي إلى التشابه، له مدخل عظيم في بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى في البيان، ولو أخذنا في شرح هذا لضاق بنا المقام، وخرجنا جملة من هذا الميدان، إلى ميدان علوم البلاغة وما حوت من خواطر وأسرار، للإيجاز والإطناب والمساواة
…
" (1) .
وفيه الإعجاز العلمي حيث تنكشف على الزمن حقيقة ما رمى إليه القرآن من الآيات التي تشكل نوعًا متشابهًا لدى من لم يكونوا مطلعين على حقيقتها في حين يكشف العلم عن الواقع بعد قرون مما يؤكد النسب السماوي للقرآن.
وكذا يمكن إدخال بعض الآيات المخبرة بالغيب، وإن كان ذلك يحوي نوعًا من الأشكال.
(1) مناهل العرفان: ص 180
6 ـ القرآن دستور يحوي بعض الإجمال ولا يمكن التفصيل فيه:
ويقصد بهذا أن يقال: إن القرآن لو أراد أن يبين كل جوانب الحقيقة ويعين المصاديق الصحيحة وينفي الباطل منها لكان ذلك يستدعي مجلدات ضخمة ولم يكن من الممكن إنزاله على ذلك النمط.
ويتضح هذا عند ملاحظة قصر فترة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وانشغاله بالمشاكل الهائلة، وعدم قدرة المسلمين على استيعاب تلك المجلدات الضخمة، وحفظها من الضياع وأمثاله.
ولهذا يشير الزرقاني ـ بنوع من الإجمال ـ فيقول:
"ثانيتها: تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه؛ لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه المستلزمة للخفاء دال على معانٍ كثيرة زائدة على ما يستفاد من أصل الكلام لو عبر عن هذه المعاني الثانوية الكثيرة بألفاظ، لخرج القرآن في مجلدات واسعة ضخمة، يتعذر معها حفظه والمحافظة عليه:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) .
7 ـ التعبير العام الذي لا ينفر المذاهب عنه:
ويقول الفخرالرازي في تقريب هذا الوجه إنه "لو كان آي القرآن كله محكمًا بالكلية، لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلًا لجميع المذاهب المخالفة وذلك منفر لأرباب المذاهب الأخرى عن النظر فيه، أما وجود المتشابه والمحكم فيطمع فيه كل مذهب أن يجد فيه كل ما يؤيد مذهبه، فيضطر إلى النظر فيه، وقد يتخلص المبطل من باطله إذا أمعن فيه النظر فيصل إلى الحق".
(1) المناهل: 2/ 181؛ والآية في سورة الكهف: الآية 109
ملاحظات حول الوجوه السابقة:
الملاحظة الأولى:
هي أنه يلزمنا أن نلحظ هذه الوجوه كلها أو أكثرها ـ لو تمت في نفسها ـ ونعتبرها ردًّا على سؤال: لم ورد المتشابه في القرآن الكريم؟
وذلك لأن البعض منها إنما يصح في بعض الآيات المتشابهة دون غيرها، وقد التفت إلى هذه النقطة بعض الباحثين.
الملاحظة الثانية:
إن بعض الوجوه السابقة لا يمكن المساعدة عليه، وخصوصًا الوجه الأخير، فإن القرآن هو الفارق بين الحق والباطل وهو المقياس الحق ولا يمكن لهذا المقياس أن يكون عامًا مضللًا يُمَكّن كلًّا من تصحيح مذهبه والتمسك به ضد الآخرين.
وكذا بالنسبة للوجه الخامس في قسمه البلاغي، فإن البلاغة تركز أول ما تركز على إيصال المعنى بالدقة وبإطار لفظي جميل إلى السامع، أما الإبهام والتشابه فقد يتنافى والغرض البلاغي اللهم إلا إذا كان هناك غرض آخر يستدعيه.. فلا يمكن أن يكون التشابه معللًا بأنه ضرب من ضروب البلاغة أو ناتج لها.
الملاحظة الثالثة:
إن أكثر ما ورد من وجوه قد تعتبر تسويغات لما وقع ولذا فإن روح المسألة تتركز في الحكم الثلاث (الثالثة، والرابعة، والسادسة) والتي يمكن جمعها تحت عنوان: "عدم إمكان خلو القرآن من المتشابه" وذلك بعد ملاحظة دور القرآن كموضح لأعمق الحقائق، وكدستور عام، وكهادٍ يمنح كلًّا بمقدار ما يستطيع تقبله.
هذا هو روح الجواب وما ذكره من وجوه أخرى فهي ترتبط به وتدور حوله.
الملاحظة الرابعة:
إن أهم إشكال يمكن أن يورد على وجود المتشابه يلخص في تعبيرين:
الأول: أن القرآن الكريم هدى، ونور، وذكر، وفرقان، وحكيم، وما شابه ذلك في حين أن التشابه لا ينسجم مع هذه الصفات؛ لأنه يوقع الإنسان في حيرة من معرفة الحقيقة وربما كان بعض ما فيه لا يمكن معرفته مطلقًا.
الثاني: ما ذكره الفخر الرازي من أن وجود المتشابه في القرآن كان سببًا لاختلاف المذاهب والآراء وتمسك كل واحد منها بشيء من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع مذهبهم ونضيف على هذا فنقول:
إن بعض الآيات التي يشير إليها المستشكلون قد تُجعل ـ بل جُعِلت ـ ذريعة للتمسك بعقائد تتناقض تمام التناقض مع العقيدة الإلهية بل تقضي عليها من الأساس وهذا يعني نقض الغرض الذي جاءت من أجله الرسالة.. وهذا من مثل عقيدة التجسيم الذي يساوق تقديم صورة هزيلة عن الله تعالى مما ينتهي إلى إنكاره في الواقع وكذا من مثل عقيدة الجبر التي تنفي المسؤولية الأخلاقية وتوجد مشاكل كبرى، وعقيدة نفي العصمة عن الأنبياء التي تنتهي إلى التشكيك في أقوالهم وغير ذلك.
وعليه فإن هذا الإشكال ـ بهذين التعبيرين ـ لا يمكن أن يدفع بهذه الوجوه التي مهما تصاعدت قيمتها فإنها قد لا تعادل هذا الخسران الأساس الكبير الذي يجر الأمة إلى الضياع والتمزق ويقضي على العقيدة ويفقد القرآن ـ والعياذ بالله ـ صفته الهادية، أو أن يقال بتعادل الربح والخسران.
وهذا يدعونا لأن نتطلب وجود ما يعصم الأمة عن التفرق والتمزق والعقيدة من الانقلاب على أهدافها فما هو هذا المرجع الذي يجب الرجوع إليه؟
ما يبدو من الآية والروايات الشريفة أمران هما:
(أ) الآيات المحكمات:
ويفهم الإرجاع إليها من جعلها أمًّا للكتاب، والأمية لا ريب تعني المرجعية فهي التي تنفي إدخال صور باطلة في تصور الإنسان عن الآية أو إدخال مصاديق باطلة للمفهوم منها، ويحتاج هذا إلى رسوخ علمي في نفسه.. ويبقى مجال كبيرة للتشابه خصوصًا لأولئك الذين في قلوبهم مرض ليغروا به الآخرين.
(ب) الراسخون في العلم:
وهم المرجع الثاني والأكثر عمومية لحل التشابه، فهم الذين يفسرون الدستور الإلهي، ويعطون تفصيلاته ولهم يرجع في الفصل بين الحق والباطل، فهم محور وحدة الأمة وملجأ العلم ومنتهى السبل. ولكن من هم هؤلاء الراسخون في العلم؟ إن الروايات المتواترة معنى عن النبي صلى الله عليه وسلم لتركز بصورة عامة على مرجعية النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت للأمة في كل ما يبدو لها من غموض في كل شيء ومن جوانب الغموض هذا التشابه الذي يلاحظ في بعض الآيات القرآنية وأهم هذه الأحاديث حديث الثقلين الذي سلمت به الفرق الإسلامية.
والذي أكد اقتران العترة بالكتاب ولزوم التمسك بهما معًا وأن الرجوع إليهما معًا عاصم من الضلال ، وأنهما لن يفترقا إلى يوم القيامة ، وهكذا الأحاديث النبوية المختلفة في علم الإمام (ع) مثل حديث ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ولقد أكد أهل البيت على مرجعيتهم في كل الأمور ، فهذا نهج البلاغة يصفهم بأنهم: موضع سر النبي، وملجأ أمره، وأنهم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، وهم أزمّة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، وهم كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم وعندهم أبواب الحكم وضياء الأمر، وإن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا، وهم عيش العلم وموت الجهل وإن بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه (1) .
ويقول الإمام في نص رائع يعين المرجع في الشبهة "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السقم، واعملوا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم وموت الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق"(2) .
(1) راجع: ص 734، نهج البلاغة ـ صبحي الصالح
(2)
نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 205 ـ 206
منابع التشكيك في الحجية:
حجية الظواهر القرآنية من الأمور المسلمة رغم ما حدث من تشكيك ويمكننا أن نحصر هذه المنابع في أمرين طرحهما بعض الجامدين أو الموتورين وربما تبعهم آخرون وهما:
أولا: ما نسب إلى بعض الإخباريين من دعوى التوقف عن العمل بظاهر القرآن لأحد أمرين:
الأول: حصول علم إجمالي بطرق مخصصات من السنة وهذا العلم الإجمالي منجز لمتعلقه ومانع من جريان الأصول في أطرافه وحتى لو جرت هذه الأصول لتعارضت وسقطت عن الحجية وهكذا يسري الإجمال لكل الظواهر ويتم التوقف عن العمل.
إلا أن جوابه واضح تمامًا ذلك أن هذا العلم الإجمالي ـ بعد الفحص والعثور على المخصصات ـ ينحل إلى علم تفصيلي بالعمومات المخصصة والمطلقات المقيدة، وشبهات ابتدائية في غير هذه الموارد تجري فيها الأصول.
الثاني: ما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي إلا أن الواضح أن العمل بالظاهر ليس تفسيرًا بالرأي، فالتفسير إنما هو للأمور الغامضة لا الظاهرة.
ثانيًا: ما ذكر من شبهة التحريف بالنقيصة في بعض آياته الأمر الذي لا يفسح المجال للعمل بالظواهر القرآنية لاحتمال فقدان القرائن.
ومنبع هذه الشبهة بعض الروايات التي ربما يستدل بها لهذا الغرض وهي واردة في مختلف كتب الحديث السنية والشيعية.
إلا أن المسلمين عموما من كلا الفريقين لم يرتضوا مطلقًا هذا الاستدلال استنادًا للأدلة القاطعة الحاكمة بعدم تحريف القرآن في طليعتها الآيات القرآنية الدالة على حفظ القرآن من أي باطل.
وقد ذكر المحقق الكركي وهو من أكابر علماء الإمامية: " أن ما دل على الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه ".
وعلق السيد الخوئي على هذا بقوله: (1) .
"أشار المحقق الكركي بكلامه هذا إلى ما أشرنا إليه سابقًا، من أن الروايات المتواترة قد دلت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها فمن تلك الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها فمن تلك الروايات ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) . إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورًا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه"(2) .
وهكذا تندفع هذه الشبهة بعد حصول الإجماع الإسلامي على سلامة القرآن من التحريف بالزيادة أو النقصان ولا مجال لما يبدو أحيانًا من التهاتر الرخيص والذي يمهد السبيل لأعداء الإسلام كي يشككوا بالاستدلال بكتاب الله العزيز.
(1) البيان في تفسير القرآن: ص 234
(2)
وسائل الشيعة: ج 18؛ كتاب القضاء: ص 86
السنة النبوية ودفع الشبهات عنها:
ربما أمكن القول بأنه لم تواجه أي رسالة أو عقيدة ما واجهه المبدأ الإسلامي من هجوم شرس على مختلف الصعد، وبشتى الأساليب الممكنة خلال تاريخه الطويل. السيف، والعذاب، والتهم، والإشاعات، والتشويه، والتشريد، واللغو والتحريق، والتشكيك في كل شيء.
وكل ذلك أمر توقعه الإسلام وأعد له عدته، ومن ورائه مدد الله وعونه.
وكذلك يجب أن يتوقعه كل عامل لصالح الإسلام وإعادته إلى واقع الحياة اليوم ويعد له عدته، على أساس إن ذلك سنة تاريخية:
ولعل أخطر ما في الحملات التشكيك بالمنابع الأساس لهذا المبدأ السامي وإضعاف الثقة به. ومن ثم إذابة كل ما يتوقع من خير تضيفه هذه لمنابع لأحكام الصورة الإسلامية الأصيلة، وتعميقها في النفوس، ومنحها أصالتها التي بها تقارع وتقاوم ثم تبني وتتقدم.
ولسنا هنا بصدد عرض تاريخي بقدر ما نحن بسبيل مواجهة فعلية مع المشككين اليوم.
لقد واجه المنبع الرئيس الأول للتصورات والتشريعات الإسلامية (القرآن) سيل التشكيك في نسبه السماوي أولًا، وفي مضامينه ثانيًا، وفي حجية هذه المضامين ودورها وغير ذلك ، ولكنه كان أقوى من أي هجوم، وتقهقر التشكيك وصدق وعد الله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ولم نعد نسمع التشكيك في كتاب الله إلا حسيسًا لا قيمة له.
ومن ثم استعرت الحملة ـ وإلى يومك هذا ـ ضد المنبع الرئيس الثاني (وهو السنة النبوية المباركة) لكي تنال منها، ومن قدرتها على إعطاء الصورة الأصيلة عبر الدس أولًا والتشكيك بعد ذلك في مجموع الأحاديث التي تتحدث عن السنة ووصفها بعدم الجدية لوجود الدس والتعارض وأمثال ذلك.
والواقع ـ أيها السادة ـ أن المسألة خطيرة مصيرية يجب أن لا نمر بها مرور الكرام، بل نقف عندها وقفة واع فقيه بالأبعاد الخطيرة لها.
وقد آثرت في هذه الفرصة التعرض للشبه المثارة بشيء من التفصيل بما يسمح لي الوقت راجيًّا أن يكون حديثي هذا منطلقًا للاستيعاب الأكثر لجوانب الموضوع.
(1) سورة سبأ: الآية 34
اتباع السنة والعمل بالحديث من الضرورة:
لا أغالي إذا ادعيت أن الضرورة العلمية بين المسلمين قائمة على لزوم اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، بل والعمل بها من خلال مضامين الأحاديث الواصلة إلينا.. ومن هنا فكل تشكيك بذلك إنما هو مجرد شبهة في قبال ضرورة. وقد انصب التشكيك في الواقع على الوعاء الموصل للسنة الشريفة، وهو الخبر وخصوصًا لخبر غير المفيد للعلم ويدعى اصطلاحًا بخبر الواحد. ولكن التأمل في المستندات المطروحة المنبهة على هذه الضرورة ينفي كل تشكيك فالتأمل في الآية الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1) .
وملاحظة مفهومها من عدم لزوم التبين إذا كان المخبر غير فاسق يؤدي إلى حجية قول هذا المخبر.
وكذا التأمل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) .
وغير ذلك من الآيات، ولو لم يكن قولهم حجة لم يكن مجال للحذر.
وكذا التأمل في التواتر المعنوي الذي تشع به الروايات الكثيرة وأخيرًا التركيز على السيرة الإسلامية القطعية على العمل بخبر الثقة وإن لم يفد علمًا كل ذلك ينبهنا لهذه الضرورة والبديهة.
(1) سورة الحجرات: الآية 6
(2)
سورة التوبة: الآية 122
دوافع المشككين:
يمكننا أن نلخص دوافع المشككين على اختلافها بما يلي:
1 ـ فسح المجال للاقتباس الفكري:
ذلك أن السنة إذا كانت محكمة في التشريع والمفاهيم إلى جنب القرآن الكريم أعطتنا صورة كاملة مفصلة عن النظام الكامل الشامل للحياة ، وبالتالي لم يكن هناك أي مبرر للتوجه إلى النظم الأخرى لاستجدائها وتطبيقها، أما إذا أقصيت فقد انفتح الباب على مصراعيه، للآراء والأهواء المستوردة من قبل عملاء الغرب والشرق وهذه هي الطامة الكبرى التي ابتلي بها من يسمون بالمثقفين اليوم، وقد واجهت ثورتنا الإسلامية الفتية منهم أشد الضربات وكانوا أعظم الممهدين للعدو.
2 ـ العجز والضحالة في الفهم:
فقد يؤدي هذا العجز، وقلة الثقافة وعدم التعمق، إلى تبني مثل هذا الرأي لئلا يبتلى بالعواقب، وربما كان للشبهات المثارة دورها في تعميق هذا الاتجاه.
3 ـ توحيد الموقف:
فقد أغرى حب توحيد الموقف الإسلامي بعضهم للرضوخ لهذا الرأي ظانًّا أنه به يستطيع أن يوحد الموقف بإرجاع الجميع إلى القرآن الكريم وحده ولكنه لا يدري أنه كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ سيمزق الوحدة بشكل فظيع. ويمكننا أن نذكر هنا بعض العوامل الأخرى.
بعض الشبهات المطروحة وأجوبتها: ونحن هنا نذكر بعض الشبهات المثارة ليقف الإخوة على مدى ضحالتها، ويندفعوا للتعمق في الإجابة عن أمثالها:
أولا: ذكروا أن هناك بعض الروايات التي تتحدث عن الاكتفاء بكتاب الله عن غيره أو تنهى عن كتابة الحديث وأمثال ذلك.
ولكن المرء يكاد يجزم بأن هذه الروايات ـ لو صحت أسانيدها ـ إنما هي بصدد بيان فضل كتاب الله وعظمته، وأن لا وحشة على من كان معه القرآن، فهو خير أنيس للمؤمنين لا أن تكون بصدد جعله المصدر الوحيد للتشريع، كيف والقرآن نفسه يدعو إلى الاقتداء والتأسي والطاعة لرسول الله والأخذ بما يخبر به المخبرون عن الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الروايات التي ادعي فيها أن بعض الصحابة نهوا عن كتابة الحديث فلا علاقة لها بنفي العمل بالروايات وإنما كانت ـ فيما أعتقد ـ تعبر عن تحوط من قبلهم لئلا يقع الخلط بين الحديث والقرآن. وبغض النظر عن صحة هذا التحوط وعدمها فإنها لا دلالة فيها على ما يطلبه المشككون هؤلاء.
ثانيًا: ذكروا أن في الروايات ما هو معارض لغيره من الروايات نفسها ولما لم يكن من الممكن أن تتناقض السنة فيجب التوقف في المجموع.
ومن الواضح سخف هذا الاستدلال ذلك أن الروايات المتعارضة لها مساحة قليلة فإذا أريد التوقف فليكن في هذه الدائرة لا غير.
ثم إنه كثيرًا ما يكون التعارض ابتدائيًّا ـ أي بالنظرة الأولي ـ ولكن بمجرد التأمل ينحل ذلك التعارض بحصول جمع عرفي ظاهر بين التعارضين، أو بتخصيص أو تقييد أو تقدم لأحدهما على الآخر باعتباره قرينة والقرينة مقدمة على ذي القرينة أو باعتباره يرفع الموضوع أو يتصرف في الحكم مثل تقدم حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) على غيره من الأحكام الأولية.
نعم إذا استحكم التعارض توقفنا عن العمل بهما معًا.
ويجب أن نلاحظ هنا أن التعارض طبيعي الوقوع فقد يكون في الأصل ناشئًا من عملية تدرج في إعطاء الأحكام، أو من سقوط شيء وغيابه عن الراوي مما يغير المدلول، أو من وجود خبر مدسوس لا نعلم بدسه فنتصوره حجة علينا.
ثالثًا: راح بعض الأشخاص يتحدث عن روايات تتنافى مع القرآن الكريم، ولكنه لم يستطع أن يذكر إلا بعض الروايات. على أن الكثير مما يذكر كمصداق لذلك يرجع إلى تخصيص أو تقييد لمطلق قرآني وهو أمر واقع بشروطه المذكروة في محلها. نعم إذا رأينا الخبر منافياً تمامًا لمضمون القرآن ضربنا به عرض الجدار ولم يكن إلا زخرفًا.
رابعًا: راح بعض الناس يذكر أن الأحاديث كانت موجهة للمخاطبين بها بالفعل فلا تشمل غير عصرهم من العصور.
وهذه الشبهة هي من أوهى الشبهات؛ ذلك أن المسلم به الواضح في خلد جميع المسلمين والموحى به من تعليمات القرآن أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحدث لا مع عصره فحسب ، بل مع كل العصور، وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وأنه أسوة حسنة لكل المؤمنين عبر التاريخ.. مما أوجد لدى المسلمين آنذاك قاعدة الاشتراك، أي اشتراك غيرهم معهم في الأحكام، فمتى ما شك في اختصاصهم هم بحكم، أو حتى اختصاص الرسول بحكم دونهم جاءت قاعدة الاشتراك حاكمة في البين.
خامسًا: وراح هؤلاء يسوقون الأمثلة على تغير المصطلحات عبر الفترات الزمانية فمصطلحات (الوطن) و (الاشتراكية) و (الرعية) وغير ذلك قد تغيرت رأسًا على عقب، ومن هنا فما أدرانا أن ما نفهمه من الروايات هو المقصود الواقعي منها.
ونحن لا نشك في أن بعض ظواهر اللغة والكلام متطورة عبر مؤثرات مختلفة لغوية وفكرية وإشراطات تاريخية معينة، فيختلف المعنى الظاهر في عصر الصدور عن ما يظهر في عصر آخر. والمعول عليه هو الظهور في عصر الصدور لا غيره.
إلا أن هناك أصلًا عقلانيًّا ممضى حتمًا من قبل الشارع المقدس بالإقرار يسمى بـ (أصل عدم النقل) أو كما يسميه العالم الشهيد السيد الصدر بـ (أصالة الثبات في اللغة) يحل المشكلة موضحًا أن العقلاء يبنون على هذا الأصل باعتبار البطء في حدوث أي تغيير في المفهوم من اللفظ مما يجعله في نظرهم أمرًا استثنائيًّا، فمتى ما شككنا في تغير ما بنينا على عدمه فلا مشكلة في البين مطلقًا.
سادسًا: وذكروا أن هناك الكثير من الروايات المفتراة فكيف نتأكد من الصدور والحال هذه؟
والجواب على هذا واضح بعد الذي قدمناه ، إذ أننا بعد التجاوز عما يؤدي إلى العلم بالمضمون من الروايات قلنا: إن الشارع عبدنا بمضمون أخبار الآحاد التي يرويها الثقات ، وأكمل كشفها الناقص تعبدًا لا وجدانًا فنحن معذورون إذا عملنا بها وخالفت الواقع وهي منجزة علينا فليس لنا المخالفة فما علينا إذن إلا الفحص والتمحيص الدقيق في السند والمتن والمداليل، ومتى ما انتهى البحث فنحن معذورون أمامه تعالى.
سابعًا: وربما طرح بعضهم شبهة تقول إن تعليمات الرسول خصوصًا في المجال الاجتماعي كانت تقتضي كونه وليًّا للأمر لا مخبرًا عن الشارع المقدس، أو على الأقل يقال بوقوع الخلط بين ما يصدر بصفة الولي وما يصدر بصفة المشرع.
ولكن الواقع هو أنه كانت تصدر منه صلى الله عليه وسلم تلك التعليمات باعتباره حاكمًا لها جانب مؤقت ولكن كل تلك التعليمات كانت تحمل معها قرائنها اللفظية والحالية وهي أمور متميزة عند العلماء ، ولو من قياس حالها إلى الحالة السارية عمومًا، وهل يشك أحد بأن الأمر بحفر الخندق مثلًا كان أمرًا وقتيًّا متناسبًا مع تلك الحرب بظروفها؟
ثامنًا: وقد طرحت فكرة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الأمر الذي لا يعبر عن تشريع خالد والذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعدو بيان الواقع التشريعي الخالد من خلال وصوله إليه بالوحي أو بيان التعليم الاجتماعي اليومي بصفته ولي الأمر، وفي المجال الثاني هذا كان يتم التشاور والعزم لا في المجال الأول، والفرق بين المجالين واضح للمتأملين، أنه صلى الله عليه وسلم كان ملتزمًا تمام الالتزام بعرض الواقع التشريعي قبل كل شيء وعدم إبداء أي رأي من عنده، بل لقد كان صلى الله عليه وسلم قد التحم بالوحي والحقيقة فلا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
تاسعًا: ولما لم يجدوا ما ذكروه راحوا يركزون على أن خبر الواحد لا يفيد إلا ظنًّا وأن الظن لا يغني من الحق شيئًا غافلين عن أن الأدلة القطعية التي سبقت لحجية خبر الواحد استثنت هذا الظن وأمثاله من عموم النهي عن اتباع الظن وأنزلته منزلة العلم باعتباره السبيل العقلاني الطبيعي للوصول إلى الشريعة، وأنه لا يمكن تكليف الناس جميعًا بتحصيل العلم بكل موارد الإسلام وأحكامه.
فالظن المنهي عنه هو الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل قطعي.
عاشرًا: وأخيرًا راح بعض الأشخاص يستعرض بعض الروايات التي ادعى أنها تخالف العقل والعلم ولأجل التقليل من أهمية المجموع الروائي العام، ونحن نسمع كثيرًا عن مخالفة العقل هذه وعند التأمل نجدها تخالف ذوقًا عقلانيًا مثلًا أو ميلًا عامًا دون أن تصل إلى مستوى المخالفة القطعية. نعم لو وصلت إلى هذا الحد ـ وذلك بعيدٌ جدًّا ـ فقدت الوثوق المطلوب. أما قصة مخالفة البحوث العلمية فيجب فيها أن نتذكر التغييرات الكبيرة التي تطرأ على هذه البحوث وعدم قطعيتها وأنها فرضيات متغيرة.
وخلاصة القول: إن كل ما طرح من شبهات حول الأحاديث والسنة لا يمكنه أن يصمد للنقد والاعتراض.
نقطتان هامتان: وهنا نود أن ننبه إلى نقطتين هامتين في ختام هذا البحث هما:
النقطة الأولى: أننا إذا رفضنا هذا الاتجاه الخطر فإن ذلك لا يعني مطلقًا أن نتجه إلى قبول كل ما يرد عنه صلى الله عليه وسلم من دون تمحيص وتحقيق في المتون والأسانيد، بل حتى إننا لا نجيز أن يعتمد العلماء على استنتاجات غيرهم من العلماء في هذا السبيل إلا أن تكون شهادة، كلا وإنما تجب ملاحظة الأسانيد والرواة فردًا فردًا، والتحقق من توفر الوثوق المطلوب، وعدم التنافي الثابت مع القرآن الكريم والسنة المقطوع بها، وإننا لنرى من المناسب أن ننقل نصًّا جاء عن علي (ع) تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر ، فقال: إن في أيدي الناس حقًّا وباطلًا، وصدقًا وكذبًا وناسخًا ومنسوخاً، وعامًّا وخاصًّا، ومحكمًا ومتشابهًا، وحفظًا ووهمًا، ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبا فقال:((من كذب علي متعمدًا فليبتوأ مقعده من النار)) وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم، ولا يتحرج.. فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبًا فهو في يديه ويرويه، ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا يأمر به، ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه إنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفًا من الله، وتعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يَهِمْ بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، والمحكم والمتشابه فوضع كل شيء موضعه.. [نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 325 ـ 327] .
بهذه الدقة يتعرض تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرواة في عصره وهو ألصق ما يكون بعصر الرسول فكيف بنا ونحن نعيش هذا الفاصل الزمني البعيد؟ إن الأمر يتطلب ـ لا محالة ـ جهدًا وبذلًا للوسع في هذا المجال. وهذا ما يقودنا إلى التأكيد على النقطة الثانية.
النقطة الثانية: وهي نقطة هامة جدًّا يجب التركيز عليها وملخصها:
إننا إذ نرفض الشبهات الماضية ونرفض القبول المطلق لكل ما جاء، نمتنع ـ في نفس الوقت ـ عن تسليم السنة ـ حتى الموثوق بها ـ إلى كل فرد مهما كان مستواه، وفسح المجال له ليفهم منها ما يشاء وينسبه إلى الإسلام، فإن هذا المنحى خطر جدًّا وإن كان دعاته اليوم كثر في عالمنا الإسلامي متذرعين بأن الإسلام لكل الناس ، فلماذا تحصرونه بأيدي عدة قليلة، خالطين بذلك بين هذا وبين كيفية فهم الواقع الإسلامي واستنباطه من النصوص. مثلهم في هذا مثل من يدعو لتسليم الذرة لكل من يطلبها ليستخدمها كيف يشاء بحجة أنها وجدت لصالح الجميع!
إن ملاحظة ما سبق، وإدراك احتياج فهم الواقع الإسلامي من الكتاب والسنة الشريفة إلى دراسات تخصصية معمقة في المجالات اللغوية والفقهية (أصولًا وفروعًا فقهية) والتفسيرية والرجالية وغيرها لهو مما يمنع بتاتًا من نفي التخصص والخبرة وعدم الركون إليهما.
وإننا لننبه أمثال هؤلاء إلى الآثار الخطيرة التي تنجم عن رأيهم هذا من:
شيوع الفهم القاصر للإسلام، وفقدان العمق والأصالة التي تميزه عن غيره، وفسح المجال للأهواء أن تتلاعب بالمقدرات الإسلامية، وعدم قدرة الصور الناتجة على الصمود أمام الإشكالات والشبهات.
هذا بالإضافة إلى أنه يجعل المذاهب بعد الأفراد فويل للأمة من مثل هذا اليوم الرهيب.. يوم يفتي فيه العسكري، ويدلي فيه هذا الموظف برأيه في الإسلام وذاك الملك وهذا الرئيس وهم لا يمكلون مستوى فهمه واستنباطه.
إننا نسأل هؤلاء:
هل تستطيعون أيها السادة أن ترونا مبدأ فيه بعض ما في الإسلام ولا تخصص فيه؟
إننا نؤكد لزوم الحاجة إلى الأخصائيين الإسلاميين ونسميهم بـ (الفقهاء) ، ولزوم أن يكونوا عدولًا لا يذعنون لهوى نفسي، ولا يركعون أمام ظالم أو طاغوت، ويتجلى هذا اللزوم في الميادين التالية:
(أ) ميدان فهم الأحكام والنظم الإسلامية للحياة الإنسانية، واستنباطها من منابعها الرئيسة.
(ب) مجال القضاء وفصل الخصومات.
(جـ) مجال قيادة الأمة، فلا يمكن تسليمها لجاهل بالإسلام غير إخصائي فيه. إذ الإسلام تجربة حياتية بشرية كبرى لا يمكن أن تقوم عليها إلا القيادة الواعية لها المؤمنة بها المطبقة لأحكامها المتشبعة بروحها.
وهذا بالضبط ما اصطلحنا عليه بمبدأ (ولاية الفقيه) والذي يعتبر تطبيقه في نظامنا الإسلامي الميزة الإسلامية الكبرى له والأساس الأول الذي أتحفنا بالوصول إليه ثورتنا الإسلامية الكبرى بتوجيهات وقيادة القائد الفقيه الكبير الإمام الخميني.
ومن هنا تؤكد المادة الخامسة من دستورنا الإسلامي ضرورة تسليم ولاية الأمر والأمة للفقيه العادل التقي، العارف بالعصر، الشجاع المدير المدبر الذي تميل إليه أكثرية الجماهير المسلمة وتذعن لقيادته.
الفصل الخامس
حول الحكم والدولة
تعريف الحكومة والدولة ونظام الحكم:
الدولة: ويراد بها (المجموع الكلي المكون من شعب ونظام يسير عليه الشعب وحكومة تدير هذه المسيرة) .
الحكومة: يعرفها رسو بأنها: (هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية على السواء لأوامر رئيس الدولة) .
وواضح أنه يعبر بها عن الهيئة التنفيذية لأوامر رئيس الدولة التي يريد تطبيقها على رعاياه، على اختلاف في نوعية صاحب السيادة هذا.
ولا ريب في أن تعريفه هذا إنما يصدق على بعض الحكومات لا كلها، أما ما نقصده من الحكومة، فهو:(الهيئة الكلية التي تشرف على إدارة الشؤون العامة في مجتمع ما) .
فالشيخ والرئيس والأمير والملك جزء من هذه الهيئة، كما أنها تقوم بتمشية الأمور في "الشؤون العامة". و "الشؤون العامة" هذه تختلف باختلاف المجتمعات، والاجتهادات، فقد لا تتجاوز في مجتمع ما، تعيين أوقات الخروج للصيد وتقسيم الناتج، وقد تشمل ـ كما في المجتمعات الحاضرة ـ أغلب المجالات فلا يخرج عنها إلا بعض القضايا الشخصية جدًّا.
وعندما نطلق تعبير "نظام الحكم" فإننا نعني به المبادئ العامة التي تحدد كيفية الحكم والحاكم وعلاقة الشعب بالحكومة وعلى ضوء ذلك يعرف دورها.
ضرورة الحكومة على ضوء وظيفتها:
وتوجد هنا بعض النظريات:
يرى آدم سميث أن أهداف الحكومة هي:
1 ـ حماية المجتمع من الفوضى على المجتمعات المستقلة الأخرى.
2 ـ حماية كل عضو في المجتمع ـ بقدر الإمكان ـ من فقدان العدل، أو كبت أي عضو منه، وتطبيق العدالة بدقة.
3 ـ إنشاء منظمات عامة لا تنشد مصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد بل تسعى لمصلحة المجتمع بأسره.
ويرى بركس أن هدف الحكومة المباشر هو: تأمين سيادة القانون والأمن العام، ونشر النظام. فإذا حصلت على ذلك وجب عليها أن تحدد حدود الحرية الفردية، ويضع هدفًا أساسًا لها وهو العمل لنشر الفكرة الإنسانية والحضارة في العالم. أما ويلنبي فيضع أهدافًا عامة لكل حكومة وهي:
(أ) تحقيق النظام في بلادها وحفظ استقلالها من بين الدول الأخرى.
(ب) العمل للحصول على أوسع نطاق من الحرية، ويرتبط بالحرية تقوية الجهاز الحاكم لأجل الحفاظ عليها كما يرتبط بها تثقيف المواطنين كي يكونوا قادرين على ممارسة الحرية.
(جـ) العمل لتحقيق الرفاهية العامة ورفع المستوى الاقتصادي والفكري والخلقي.
ويحدد لاسكي أهدافها في: (قيامها بتمكين مجموع الأفراد من تحقيق مستوى اجتماعي طيب بأعلى مستوى ممكن، وتنحصر واجباتها في تنظيم مجموعة من الأعمال المنسقة، ومن الطبيعي أن ذلك التنظيم يزداد ويقل حسب الظروف القائمة، وليس للحكومة أن تقوم بالسيطرة على جميع فعاليات الإنسان وإنما عليها أن تصنع مفتاح التنظيم الاجتماعي وعليها أن تحقق ما يدور في خلد الرعية من نظام أفضل) .
ويرى جاكوبسن وليمان: إن الأهداف هي كما يلي:
1 ـ تأمين الحرية من الانتهاك، وتأمين العدل الداخلي للشعب فلا يكون للحكومة مسوغ إلا نجاحها في ذلك.
2 ـ تحقيق سعادة الفرد.
3 ـ تحقيق الرفاهية العامة.
4 ـ حماية الأخلاق.
وهكذا رأينا اختلاف الآراء في أهداف الدولة مما يعين مقدار ضرورتها ، وإذا أردنا أن نختار أجمع ما ذكر اخترنا ما قاله "لاسكي" مع بعض التوضيح أو التعديل.
والواقع: إن التجمع الإنساني ضرورة لا بد منها لأفراد الإنسان وذلك على اختلاف في دواعي التجمع، أهي الغريزة الداعية للتجمع مباشرة أو غريزة الاستخدام التي تدفع كل فرد لاستخدام الفرد الآخر أو ما إلى ذلك؟
ولا بد للمجتمع من نظام يعين المسير ويحل التناقض في النزعات ووجهات النظر، كما لا بد لهذا النظام من معين ومنفذ له على ضوء مصلحة معينة، ومن هنا تنشأ فكرة "نظام الحكم".
وواضح أن أهداف هذا النظام تختلف باختلاف تصور الإنسان لوجوده ومركزه من الكون من جهة وبمقدار بساطته وتعقيده من جهة أخرى.
فالمجتمع الذي ينظر للإنسان كفرد حيواني يريد أن ينعم بالراحة والسعادة، تختلف متطلباته عن المجتمع الذي ينظر للإنسان كموجود استخلفه الله العظيم ليعمر الأرض ويتكامل بالتدريج، فيصنع مجتمع الأرض العادل العابد الذي لا يشرك بالله.
وبتعبير آخر فإن اختلاف إيديولوجية المجتمع تؤثر بشكل أساسي على الأهداف التي يتوخاها من التجمع.
من هنا رأينا الحكومات في بعض المجتمعات تؤكد على الجانب العسكري مثلًا؛ لأن الاتجاه العام هو بناء المجتمع القوي صافحة عن تحقيق السعادة بالمعنى الذي نفهمه. كما رأينا الحكومات الأخرى تركز على جانب الثقافة؛ لأن وجهة النظر الاجتماعية كانت تعينها هدفًا لها.
هذا وتختلف وظيفة الحكومة على ضوء تعقد المجتمع وبساطته فبينما لم نكن في السابق إلا هيئة أو فردًا يدير القبيلة أو المجموعة ويحل نزاعاتها نجد أنها تطورت إلى فرد تعينه هيئة كبرى تخطط للدفاع عن المجتمع، وتنظم وضع الأمن في داخله، وتشرف على وضع القوانين التي تسد بها بعض الفراغات الاجتماعية رأيناها في هذا العصر وهي تقوم بمهمة سن القوانين المختلفة وإدارة شؤون المجتمع الدفاعية والخارجية والداخلية والمالية والثقافية والفنية والصحية وشؤون المواصلات والزراعة والصناعة وأمثال ذلك.
ذلك أن تعقد الحياة الاجتماعية يغير كثيرًا من الشؤون الشخصية إلى شؤون عامة مما يلقي بعهدتها على الدولة، كما أن تعقد المجتمع يخلق ترابطًا قويًّا بين شؤونه مما لا يدع مناصًا من السيطرة على مختلف الجوانب لتحقيق السيطرة العامة والإدارة الاجتماعية.
فاختلاف الإيديولوجيات وتعقد المجتمع هما العاملان الرئيسان في تطوير وظائف الحكومة.
تنبيه مهم:
يكاد يجمع الذين عينوا وظيفة الحكومة على أن عليها أن تحقق سعادة الإنسان وتؤمن راحته وحتى الذين نادوا بنظم الحكم التي تعمل لصالح المجتمع أرادوا من خلال ذلك أن يوضحوا أن راحة الفرد تكمن في تحقيق الاحتياجات الاجتماعية.
وكل هذا التركيز على سعادة الفرد وراحته يكمن في أنه حق طبيعي له ـ كما يعبر جون لوك ـ وعندما نركز على الحق نفسه ونتساءل عن علة كونه حقًّا لا نجد لذلك موضحًا إلا أن نقول:
إن الإنسان يمتلك في أعماق وجوده طاقات فطرية تهيئه لأن يسير مسيرة كمالية بملء إرادته وشعوره، وهذا يعني أنه يستحق أن يفسح له المجال للوصول إلى كماله، مثلًا الإنسان له أن يعرف، وفي أعماقه دوافع للمعرفة ، فإذا منع من ذلك فقد منع من حقه، وفي الإنسان دوافع خلقية ووجدان عملي يعين له الحسن والقبيح ، فإذا منع من السير الطبيعي وِفْقَه فَقَدَ من حقه، ومن هنا ركز الفلاسفة على أن كل موجود يولد وقد وصل إلى كماله النفسي فعلًا إلا الإنسان فإنه يولد موجودًا يحمل الاستعدادات النفسية الهائلة التي يسير إليها طبق نظام منسجم مع أهدافه الكمالية.
فإذا كانت الإيديولوجية التي يحملها المجتمع بهذا وترى أن لمجموع الإنسانية غاية عظمى فإن حق الإنسانية على ضوء هذا سوف يوجب على الدولة أن تنظر في أمر تنظيم شؤون الفرد الحاضر والمجتمع الحاضر في مسيرتها نحو الكمال كما تخطط لئلا تغلق على الأجيال الآتية أبوابًا تسير من خلالها إلى الكمال. وعلى أساس من هذا تكون مسؤولية الحكومة كبيرة جدًّا ومسؤولية وضع النظام تعمل عليه الحكومة أكبر من ذلك. وللحديث عن رأي الإسلام في وظيفة الحكومة مجال واسع.
إن التربية العقائدية والتخطيط لمستقبل الأجيال يعد أهم وظيفة تقوم بها الحكومة.
ضرورة الحكومة في رأي الماركسية:
ترى الماركسية أن الإنسانية حتى مع فرض تجمعها لا تحتاج بالضرورة إلى الحكومة ومن هنا كانت المجتمعات في المرحلة البدائية الشيوعية لا تدار من قبل حكومة، وإنما بدأ الاحتياج لها بعد تشريع الملكية الذي غرس في نفسية الإنسان حب الذات ، وعند نشوء الطبقية المقيتة احتيج لحكومة كمنسق لمتطلبات الوضع الاقتصادي ومعبر عن احتياج الطبقة الحاكمة إلى إعمال نفوذها على الطبقة المحكومة ، أما إذا وصل المجتمع إلى الشيوعية الأصيلة وهي المرحلة العليا من التطور الاجتماعي الإنساني فلن يحتاج إلى مثل هذه الهيئة الحاكمة بعد زوال مبررها وهو التناقض الطبقي.
وهنا يقول الإمام الصدر:
"ومن حقنا أن نتساءل عن هذا التحول الذي ينقل التاريخ من مجتمع الدولة إلى مجتمع متحرر منها، من المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية، كيف يتم هذا التحول الاجتماعي؟ وهل يحصل بطريقة ثورية وانقلابية فينتقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية في لحظة حاسمة، كما انتقل من الرأسمالية إلى الاشتراكية؟ أو أن التحول يحصل بطريقة تدريجية فتذبل الدولة وتتقلص حتى تضمحل وتتلاشى؟
فإذا كان التحول ثوريًّا آنيًّا، وكان القضاء على حكومة البروليتاريا سيتم عن طريق الثورة، فمن هذه الطبقة الثائرة التي سيتم على يدها هذا التحول؟ في حين تقول الماركسية: إن الثورة الاجتماعية على حكومة، إنما تنبثق دائما من الطبقة التي لا تمتلكها تلك الحكومة، فلا بد إذن في هذا الضوء أن يتم التحول الثوري إلى الشيوعية على أيدي غير الطبقة التي تمثلها الحكومة الاشتراكية، وهي طبقة البروليتاريا، فهل تريد الماركسية أن تقول لنا إن الثورة الشيوعية تحصل على أيدي رأسماليين مثلًا؟
وإذا كان التحول من الاشتراكية وزوال الحكومة تدريجيًّا.. فهذا يناقض ـ قبل كل شيء ـ قوانين الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسية ، فإن قانون الكمية والكيفية في الديالكتيك يؤكد: إن التغيرات الكيفية ليست تدريجية بل تحصل بصورة فجائية، وتحدث بقفزة من حالة إلى أخرى، وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسية بضرورة الثورة في مطلع كل مرحلة تاريخية بوصفها تحولًا آنيًّا. فكيف بطل هذا القانون عند تحول المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية.
والتحول التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية كما يناقض قوانين الديالكتيك كذلك يناقض الأشياء. إذن كيف يمكن أن نتصور أن الحكومة في المجتمع الاشتراكي تتنازل بالتدريج عن السلطة وتقلص ظلها حتى تقضي بنفسها على نفسها، بينما كانت كل حكوم أخرى على وجه الأرض تتمسك بمركزها وتدافع عن وجودها السياسي إلى آخر لحظة من حياتها؟ فهل هناك أغرب من هذا التقليص التدريجي الذي تتبرع بتحقيقه الحكومة نفسها فتسخو بحياتها في سبيل تطوير المجتمع؟ بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكية والتجربة الواقعية التي تجسدها اليوم في العالم؟ فقد عرفنا إن من ضرورات المرحلة الاشتراكية قيام حكومة دكتاتورية مطلقة السلطان، فكيف تصبح هذه الدكتاتورية المطلقة مقدمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائيًّا؟ وكيف يمهد استفحال السلطة واستبدالها إلى زوالها واختفائها؟
وأخيرًا فلنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفترض أن المعجزة قد تحققت، وأن المجتمع الشيوعي قد وجد، وأصبح كل شخص يعمل حسب طاقته، ويأخذ حسب حاجته أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجة، وتوفق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج؟ (1) .
وهذه النقطة الأخيرة أمر مهم يوضح ضرورة الدولة في أي مجتمع حتى المجتمع الخيالي الشيوعي الذي يفترض فيه ذوبان غريزة حب الذات من الإنسان ـ وهو أمر ينكره وجدان الإنسان ـ وعمق هذه الغريزة الضارب في وجود أي إنسان. نعم حتى في ذات المجتمع توجد فراغات وشؤون عامة تحتاج فيها إلى سلطة تقوم على ملئها وتسييرها.
ويتوضح هذا عندما ندرك وظائف الحكومة اليوم وتعقدها وأنها ليست كلها قائمة على أساس تناقض المصالح الطبقية.
(1) اقتصادنا: 1/ 211 ـ 212
على أننا لو آمنا بما قلناه في التنبيه الماضي من وجود هدف إنساني عام وهو الكمال وبناء المجتمع العابد، ولاحظنا أنه ليس لهذا الهدف حد ومجال متصور، عرفنا أن الحكومة تحتفظ بدورها في مختلف مراحل الوجود الاجتماعي للإنسان.
على أن ما يمكن تصوره من عوامل نقلت المجتمع من الشيوعية البدائية إلى المرحلة التي عملت الملكية فيها عملها في التقسيم الطبقي يمكن تصور وجوده في المرحلة الشيوعية أيضًا وبشكل أشد خطرًا. ومعه ألا نحتاج للهيئة المسلطة التي تمنع من هذا السير التحولي؟
وعلى أي حال فإن الواقعية تقتضي تكذيب الماركسية والتأكيد على ضرورة الحكومة في كل عصر إنساني خصوصًا مع ملاحظة الوظائف المتشعبة التي تقوم بها في هذا العصر كما في التخطيط الصناعي والزراعي والصحي وأمثال ذلك.
وقد أكد المفكرون هذه الضرورة ومنهم أرسطو الذي اعتبرها من عمل الطبع و"إن الإنسان بالطبع كائن اجتماعي وإن الذي يبقى متوحشًا ـ بحكم النظام لا بحكم المصادفة ـ هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أدنى من النوع الإنساني"(1) .
هذا ونقل عن "المذهب الفوضوي" قوله بعدم ضرورة الحكومة مستدلين بأن طبيعة الإنسان خيرة وعاقلة فلا حاجة للحكومة ، وأنها تجر المصالح لطبقة خاصة وتهمل مصالح الأفراد، وأنها تقيد الحرية الفردية وأمثال ذلك.
وهذه أمور لا نرى حاجة في تفنيدها أو تفنيد تسويغها لعدم الحكومة. أما رأي الإسلام فسوف نستعرضه إن شاء الله.
(1) السياسة، ترجمة أحمد لطفي: ص 96
نشوء الحكومة:
ولا يهمنا إلا التعرض باختصار لبعض الآراء في نشوء الحكومة، فقد ذهب "بودان" الفرنسي إلى أن أصل الحكومة هو التكوين الأسري وذهب "فريزر" إلى أن أصل تشكيل الحكومة هو الدين الذي جمع العائلات ووضع القانون. ويرى "أوبنهمير" الألماني أن أصلها هو القوة. في حين ذهب بعض الفلاسفة إلى الأصل الفطري لتشكل الحكومة باعتباره نتيجة حتمية للتجمع وهو أمر فطري، وهم من مثل (أرسطو والفارابي وابن خلدون) أو تعتبر الحكومة فطرية باعتبار نشوئها على أساس نزعة سياسية في الإنسان تدعو للسيطرة على الآخرين.
وهناك نظرية العقد الاجتماعي التي تدعي نشوء الحكومة على أساس اتفاق اجتماعي للدخول تحت قانون وحكومة.
وأخيرًا لا بد وأن نشير إلى النظرية الماركسية القائلة بنشوء الحكومة على أساس التناقض الطبقي حيث تقوم الطبقة الغالبة بإنشاء القدرة السياسية التي تحمي مصالحها الاقتصادية.
وقد ادعت الماركسية أن تفسيرها هنا كباقي تفسيراتها يقوم على أساس من بحوث حولت التاريخ إلى علم بعد أن كان ضربًا من التخيل والمصادفة.
ولكن الواقع أن الماركسيين لا يستطيعون ـ كما لا يستطيع غيرهم ممن فسروا نشوء الدولة وغيرها على أساس من العامل الواحد ـ أن يقيموا دليلًا علميًّا قاطعًا ينفون به كل الاحتمالات الأخرى ما عدا احتمالًا واحدًا وذلك لاختلاف التجارب الطبيعية التي يقوم بها العلماء الفيزيائيون ، فيثبتون بها انحسار العامل في شيء معين، عن التجارب الاجتماعية التاريخية التي هي أكبر من عمر الفرد حتمًا، فلا بد أن يعتمد فيها على الأخبار والحدس وربما الفرض المحض أحيانًا.
وللتفصيل في هذا المجال يراجع الكتاب القيم (اقتصادنا) ص 58 ـ 67.
وعليه فلا نستطيع أن نجزم بعامل معين لنشوء الحكومة وبالتالي مجموع عناصر الدولة وربما اجتمعت عوامل في ذلك. وإذا كانت قد نشأت على أساس عامل واحد أول الأمر فلا يعني ذلك أنه العامل الوحيد لنشوء الحكومات بعد ذلك، والذي ترتبط به الحكومة وجودًا وعدمًا.
احتياج الحكومة إلى مبرر وجداني للحكم:
إذا شئنا طرح البحث في مجال إنساني منطقي عام يمكن أن يكون مقبولًا من قبل كل إنسان ذي فكر سليم، وجب أن نلتزم بمقياس إنساني عام مقبول لدى الجميع.
وإذا فتشنا عن هذا المقياس العام الذي يجب التحاكم إليه في كل أمر أريد معرفة منطقيته وإنسانيته فسوف لن نجد لأول وهلة ـ وبغض النظر عن كل نزعة أو ميل فكري ـ إلا الوجدان الأخلاقي في الإنسان، وهوجانب فطري أصيل لا يختلف في روحه، ولا يختفي اختفاء تامًا عن حياة الإنسان ، وإن أمكن أن نتصور طغيان بعض الشبهات وتغير تطبيقاته فحتى الذين أنكروا الفطرة وأنكروا في ضمنها الوجدان لم يستتطيعوا أن يتخلصوا ـ عفويًّا ـ من أحكامه. وإلا فما معنى أن نتصور ادعاء الإنسانية والتكامل في نظرية لا تؤمن بالفطرة وهذا يعني أنها لا تؤمن بوجود سبيل فطري وإمكانات أصيلة هيئ لها الإنسان، ومن حقه أن يسير نحوها ومع عدم وجوده لا معنى لأن يكون هذا المبدأ إنسانيًّا دون ذاك، ولا معنى لسير هذا نحو التكامل دون ذلك.
فنفس التصاق المبادئ بالإنسانية والكمال له تأثير وجداني عميق.
وعليه فإن الوجدان الإنساني سوف يكون هو الحاكم الأصيل بمنطقية المبدأ وإنسانيته أو عدمها.
وعندما نراجع الوجدان نجد أنه يتطلب في كل حكومة وجود عاملين رئيسين هما:
الأول: استمداد حق الحكم من مصدر مؤهل لذلك وبتعبير آخر استمداد حق التصرف وتقييد الحريات ممن له ذلك.
الثاني: قيام الحكم على أساس المصلحة الاجتماعية والفردية، فإذا استطاع الحكم أن يوفر هذين العاملين معًا، فقد وفر صيغة منطقية وجدانية له، وإلا عاد ظلمًا وجبروتًا.
وتوضيح الأمر: أنه يمكن تصور عمل الحكومة في المجالات التالية:
1 ـ قيامها بتحديد الحريات الشخصية بتوجيه السير ومنع التجول في أماكن خاصة، وأمثال ذلك، ويشمل هذا قيام الدولة بفرض بعض الوظائف الاجتماعية على أفراد لا يرون لها ضرورة.
2 ـ قيامها بتحديد الحريات الاقتصادية بمنع بعض الأفراد من إشباع غريزة حب الذات والسيطرة على بعض الأموال من طرق معينة، وفرض الضرائب وغير ذلك.
3 ـ قيامها بحل النزاعات والضرب على يد المعتدي ومنع الظالم من ظلمه وأمثال هذه المجالات.
ومن الواضح أن الوجدان إذا كان يكتفي في المجال الثالث بكون تدخل الحكومة هو لمصلحة المجتمع والفرد بمنع الظلم والضرب على يد الظالم ظلمًا وجدانيًّا لا ظلمًا تراه الدولة كذلك لمصلحتها الخاصة، إذا كان يكتفي هنا بالمصلحة فهو لا يكتفي بها في المجالين الآخرين، وإنما يتطلب مع ذلك وجود تولية أو توكيل ممن له الحق في هذا التحديد. رغم أن الإنسان يمتلك في الأصل حريته الطبيعية الأخلاقية في أن يفعل ما يحلو له، وكان ذلك انعكاس لكونه مخلوقًا إراديًّا له الحق أن يفعل وأن لا يفعل في كثير من الأمور والمجالات.
أشكال الحكم الرئيسة:
وإذا أردنا أن نستعرض أشكال الحكم الرئيسة أمكننا تصنيفها كما يلي:
1 ـ الحكم الإسلامي بكلا أطروحتيه "أطروحة الشورى وأطروحة الإمامة ونياباتها".
2 ـ الحكم الاستبدادي "الفردي، أو الفئوي، أو الحزبي".
3 ـ الحكم الديمقراطي " الملكية الدستورية، الجمهورية ".
هذه هي الأقسام الرئيسة المفروضة.
هذا وقد يتحول بعض هذه الأنماط إلى النمط الآخر نتيجة سوء التطبيق أو نتيجة نقص في النظام نفسه أو اقتباس النظام شيئًا من النظام الآخر.
وذلك كأن يمنح الشعب مثلًا رئيس الجمهورية حق الحكم المطلق فيصبح مستبدًّا تمامًا، أو أن يمتلك الحكم الاستبدادي الحزبي نوعًا من الديمقراطية في إطاره الحزبي وإن كان مستبدًّا على الشعب، أو أن يرى الحاكم الإسلامي في نظام الإمامة وجوب العمل برأي الأكثرية مثلًا في أمر ما، وأمثال ذلك.
ونرى أن هذه الأقسام الثلاثة تختلف عن بعضها اختلافًا جوهريًّا.
موقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادة:
وفيه فروع مترابطة:
الفرع الأول ـ الإسلام والحكم:
وبسط الحديث إلى حد ما في هذا الموضوع يستدعي مراجعة بعض الأقوال الشاذة التي نفت أن يكون الإسلام قد جاء ليعطي نظامًا للحكم ، ثم التعقيب عليها بالنظرة المخالفة وبيان الحق والواقع.
ولعل "علي عبد الرازق" مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هو الذي أثار هذه الضجة، وإن كنا نستطيع أن نجد الشواذ ممن أيده كخالد محمد خالد ، وبعض الكتاب الآخرين وبعض المستشرقين أيضًا. وتتلخص نظريته في أن الإسلام لم يخطط نظامًا ـ ولو بنحو المبادئ العامة للنظام ـ في مجالات الحكم وأنه ليس إلا دعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإذا كان الرسول زعيمًا فليست زعامته زعامة حكم وسلطان بل هي زعامة دينية لا ربط لها بالزعامة السياسية.
وقد استند في نفيه هذا لتخطيط الإسلام للحكم إلى الأمور التالية:
أولًا ـ القرآن: كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} (1) .
{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (2) .
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) .
و {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (4) .
وخلاصة الاستدلال أن من لم يكن مسيطرًا ولا وكيلًا وإنما هو مجرد مبلغ ومبشر ونذير ليس حاكمًا أيضًا (5) .
ثانيًا ـ السنة الشريفة: ويستند فيها إلى أحاديث ووقائع من مثل ما يلي:
(أ) جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصابته رعدة شديدة ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:((هون عليك فإني لست بملك ولا جبارًا ، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة)) .
(ب) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .
ثالثًا ـ الدليل العقلي: ويتلخص في ادعاءات ثلاثة:
(أ) أن من المعقول أن ينظم العالم في وحدة دينية ولكن ليس من المعقول أن ينظم العالم في حكومة واحدة فذلك يوشك أن يكون خارجًا عن طبيعة البشرية.
(ب) أن مسألة الحكم غرض دنيوي خلى الله بينها وبين عقولنا.
وأخيرًا فإن دولة الرسول خلت من كثير من أركان الدولة.
وهو يقول: "ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى، ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ "(6) .
هذا وقد نقل الأستاذ عبد الحميد متولي بعض الاستنادات الأخرى لبعض العلماء والمحدثين تدعيمًا لوجهة النظر هذه وهيك
أولًا: أن المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية هو أبو بكر.
ثانيًا: أن الدين حقائق ثابتة لا تتغير والدولة نظام متغير.
ثالثًا: فشل الحكومات الدينية واستبدادها وعدم القبول للتطوير، و "القوة تحتل من طبيعة الحكومة الدينية مساحة واسعة.. وهي تستمد تبرير قسوتها وبطشها من نفس الغموض الذي تستمد منه سلطتها" كما يقول خالد محمد خالد في كتابه: " (من هنا نبدأ) .
(1) سورة الإسراء: الآية 54
(2)
سورة الشورى: الآية 48
(3)
سورة الإسراء: الآية 105
(4)
سورة الغاشية: الآيتان 21، 22
(5)
الإسلام وأصول الحكم: ص 71 ـ 75
(6)
الإسلام وأصول الحكم: ص 78
دوافع القول بهذه النظرية:
يختلف الباحثون حول دوافع القول بها، فبينما يعتبرها بعضهم نظرية قائمة على البحث النزيه، يرى البعض الآخر إنها جزء من مخططات الاستعمار.
ولكن الأستاذ متولي يرى أن الطرفين جانبا الحق وأن الدوافع تكمن في ما يلي بتلخيص:
1 ـ إن علي عبد الرازق كان يريد أن يثبت هدفه الأساسي، وهو أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الحكم في الإسلام، وذلك ليضرب به هدف الملك فؤاد ملك مصر الذي أراد الاحتلال البريطاني أن يجعله خليفة للمسلمين بعد أن قام أتاتورك بعزل الخليفة العثماني وإقامة النظام الجمهوري في تركيا.
2 ـ خشية بعضهم من أن يسيطر الفقهاء على شؤون الدولة وبث روح الجمود فيها وهو ما أصيب به الفقه الإسلامي بعد سد باب الاجتهاد.
وقد ناقشه بقوله: "ولقد فات أصحاب هذا الرأي أنه إذا كان مما لا يمكن إنكاره أن الأخذ بالرأي الآخر (القائل بأن الإسلام دين ودولة) مما يؤدي بلا ريب إلى الإعلاء من مقام رجال الفقه الإسلامي، فليس من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى أن يكون رجال الفقه أو الدين من الحكام، فلم يكن هذا هو الشأن حتى في صدر الإسلام فمعاوية ويزيد وعمرو بن العاص (وكثير غيرهم من رجال الحكم في ذلك العهد) لم يكونوا من علماء الفقه والدين".
3 ـ التأثر بالفكرة الغربية "فصل الدين عن الدولة".
ويمكننا أن نكون الرأي الحق بملاحظة نقاط ثلاث:
النقطة الأولى:
إن النظر المنصف إلى الإسلام ونصوصه وتاريخه وضروراته لا يدع مجالًا للمكابرة في أنه يجعل مسألة الحكم في إعداد أهم المسائل التي يعالجها ويضع مبادئها.
فلنلاحظ هذا بشيء من التفصيل:
(أ) طبيعة الإسلام:
وإذا تصفحنا خصائص الإسلام عرفنا أن أهم الخصائص وأبعدها غورًا في وجوده هي الواقعية، فالإسلام دين واقعي ينسجم مع الفطرة الإنسانية والواقع التكويني الذي يعيشه الإنسان، ولا يتناقض مع نفسه ومع هدفه السامي مطلقًا.
وهذه الواقعية هي التي تفرض أن يهتم الإسلام بمسألة الحكم تمام الاهتمام وذلك:
أولًا: لأن الإسلام جاء دينًا شاملًا لكل نواحي الحياة الإنسانية، مخططًا لكل سلوك، ومعينًا لكل نظام ، وليس هناك في حياة الإنسان سلوك ولا فرضية لا يدخل تحت نظام خاص وحكم خاص.
وهذا ما نستكشفه من عمل الإسلام على إعطاء رأيه في كل مجال، ومن روايات متعددة تؤكد هذا المبدأ من مثل:
1 ـ الرواية الصحيحة التي رواها الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن حماد عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال سمعته يقول:
"ما من شيء إلا وفيه كتاب وسنة "(1) .
2 ـ وما رواه الكافي أيضًا عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه)) .
والرواية صحيحة أيضًا.
وغيرهما من الروايات التي تؤكد رأي الإسلام حتى في "أرش الخدش".
ولعل وجود مفهومي " الحلال والحرام " اللذين لا يخرج عنهما أي فعل أكبر موضح لأن الإسلام أعطى رأيه بالعموم أو بالخصوص في كل سلوك إنساني وعين مذاهبه السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها وقام نظمه فيها على أساس من مذاهبه العامة.
ولا يمكن مع هذا أن نفترض الإسلام غافلًا عن مسألة الحكم أو تاركًا إياها للظروف والتطورات والتقلبات التي تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي وتحكمه وتفرض سيطرتها عليه دون أن تستمد منه ولايتها ومبادئها العامة على الأقل.
(1) وسائل الشيعة
وثانيًا: فإنا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد أن الإسلام بلا ريب أعطى الأمة نظامًا اقتصاديًّا كاملًا يقوم على مذهب محدد، كما أعطانا نظامًا للعقوبات وآخر للشؤون الشخصية ، ورابعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة بحيث لا يتصور قيام كل منها كنظام إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.
يقول الأستذا المرحوم محمد المبارك: "إن مجموع هذه الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزامًا يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه إلا إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة.
ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع". (1)
والطريف أن نجد جاك روسو يسوغ رفضه الدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية بأن ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين وهو ما لا ريب في سخفه وعدم إمكانه فيقول: "قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين: وهما دين الإنسان ودين الوطن.
الأول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي وهو ما يمكن أن نسميه: القانون الإلهي الطبيعي.
الثاني: وهو مدون في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاؤه الخاصون وحماته وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرًا، أجنبيًّا، بربريًّا، وهو لا يمد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها التي يمكن أن نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.
(1) نظام الإسلام والحكم والدولة محمد المبارك ص13
ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ إنه بتقديمه للبشر تشريعين وطنيين يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللامين، ودين اليانيين والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن، وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقًا.
وإذا ما نظرنا سياسيًّا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان وجدنا أنها تنطوي على أخطاء.
فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيء، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك، إذ إن كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له، وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها" (1) .
وروسو هنا ينظر للدين نظرة المشرع الوضعي المؤمن بالديمقراطية والنظام المدني وهو يحاسب الدين على ضوء خدمته لهذا النظام. فيقسم الدين إلى دين روحاني عالمي لا ربط له بالحياة، وآخر إقليمي ذي هياكل وهو يسند القانون الوضعي، وثالث عالمي متدخل في شؤون الإنسان ويرى أن الثالث واضح البطلان.
والواقع أن الدين العالمي المتدخل لو كان يعترف بقانونين وسلطانين ووطنين أحدهما للدين والآخر للدولة، فما أسخفه وما أبعده عن الواقع.
ولكن الإسلام هو الدين العالمي المنظم لشؤون الإنسان على ضوء علم وحكمة إلهيين واسعين لا يسمح بقيام نظام وسلطة أخرى إلى جنب سلطته وحكومته وإلا ألقى الإنسان في تناقض مع نفسه كما فعلت المسيحية المحرفة بتدخلها القليل في شؤون الإنسان واعترافها بالنظم المدنية.
إن الإسلام يعتبر نفسه هو الحاكم وهو المسيطر وهو المطاع وهو الموجه لشؤون الحياة، كما ستأتي بعض النصوص في ذلك. وهو الذي يربط بين شؤون الدنيا والآخرة ربطًا تامًّا حتى أنه دعا لأن تكون الحياة بمفهومها الواسع عبادة وقربة إلى الله، فلا معنى للقول بعد ذلك، بأن هذا من أمور الدنيا وذاك من أمور الآخرة وهذا من أمور الدين وذلك من أمور الدولة والدنيا وأمثال ذلك.
(1) في العقد الاجتماعي: ص 206، 207
وثالثًا: لأن القرآن والإسلام دعوة انقلابية تربوية تريد أن تربي الإنسانية العابدة تنفي كل بذور الجاهلية في العقيدة والنظام والأخلاق والتقاليد وغيرها.
والتربية تعني أول ما تعني مسك أَزِمّة الأمور ثم وضع برنامج تربوي عام وخلق التلاؤم بين مختلف نواحي الحياة ونظمها خدمة لذلك الهدف التربوي العام الذي بينته الآية الكريمة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
تحقيقًا لمدارج التكامل الإنساني ومن هنا يتغير هدف الحكومة في الإسلام ويختلف عن أهداف الحكومة في المجتمعات الوضعية ـ كما قلناه ـ حيث ركزت على تحقيق رفاهية المواطنين وراحتهم في حين يطلب الإسلام من (الإمام) وهو عنوان الدولة الإسلامية أن يراقب تحولات المجتمع ويسوقه نحو كماله في مختلف الجوانب. كما سيأتي مزيد توضيح لهذه النطقة.
رابعًا: فإن طبيعة العقيدة الإسلامية تقضي أن تستمد الحكومة ولايتها وقدرتها ومبادئها من الإسلام فإن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص وولاية الله الحقيقية ومالكيته للكون والإنسان ولن يملك أي إنسان ولاية على آخر إلا بسماح الله له وقد رأينا من قبل أن الحكومة بطبيعتها تحتاج إلى من يمنحها هذه الولاية ووفقًا للعقيدة الإسلامية وأساسها التوحيدي الحنيف لا يملك حتى الناس أنفسهم سلطة تولية الآخرين عليهم إلا بإذن إلهي.
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما في حديث الغدير المتواتر ، وكان الإمام أولى بالمؤمنين كما سيأتي:
هذا بيان موجزة عن اقتضاء طبيعة الإسلام وواقعيته لأن يضع الإسلام أسس دولته الخالدة خلود رسالته.
(1) سورة الذاريات: الآية 56
(ب) النصوص الإسلامية:
والنصوص الإسلامية التي تشير من قرب أو بعد إلى التحام مسألة الحكم بالإسلام كثيرة نلاحظ منها ما يلي: يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1) .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) .
وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قول المقطوع به: ((من مات وليس في عنقه بيعة لإمام فقد مات في جاهلية)) وحديث الغدير الذي أكد فيه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمثال ذلك.
بل إذا لاحظنا الأدلة القاطعة التي تؤيد وجهة النظر هذه التي استقي بعضها من الروايات، عرفنا أن مسألة الحكم تشكل معلمًا بارزًا من معالم الإسلام وبدونها لا يكمل الدين، بل يشكل نظام الإمامة امتدادًا للنبوة مع فوارق بينهما.
ولكنا نكتفي هنا بذكر نص واحد عن الإمام الرضا (ع) يقول فيه:
"يا عبد العزيز، جهل القوم، وخدعوا عن أديانهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام وجميع ما حتاج إليه الأمة فقال عز وجل:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (5) .
وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (6) .
وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يرحل صلى الله عليه وسلم حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبلهم" (7) .
(1) سورة النساء: الآية 105
(2)
سورة النساء: الآية 65
(3)
سورة الجاثية: الآية 18
(4)
سورة المائدة: الآية 44
(5)
سورة الأنعام: الآية 38
(6)
سورة المائدة: الآية 3
(7)
عيون أخبار الرضا: 1/ 216
(ج) التاريخ الإسلامي:
ولا نجدنا بحاجة إلى استعراضه لوضوح قيادة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة لشؤون الحكم، وما كان الهدف المعلن للإمام الحسين (ع) إلا استلام الحكم من يزيد، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(د) الضرورة الإسلامية:
فإن مسألة الحكم وارتباطها بالإسلام لم يختلف فيها أحد، فحتى الخوارج الذين رفضوا حكام عصرهم نسبوا الحكم إلى الله غافلين عن أن الله لا بد وأن يعين من يطبق شريعته على الأرض ويقود عملية التربية الكبرى.
النقطة الثانية:
بالنسبة إلى الدوافع التي ذكرت للقول بفصل الإسلام عن مسألة الحكم نود أن نقول:
إن علائم التعمد والتحريف واضحة في كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ولعل مؤلفه كان أدرى بأن ما يستدل به لا يتجاوز ما لا تستقيم دلالته على مدلوله أو ما لا يعدو كونه قصة تاريخية لا تملك سندًا شرعيًّا أو ظنًّا لا يغني عن الحق شيئًا.
أما الدوافع التي ذكرت بعد ذلك، فالدافع الأول منها سياسي محض وفرض وهم، إذ كيف يمكن أن نتصور بريطانيا تعمل على إرجاع الخلافة الإسلامية ولو في شخص رجل منحرف مثل الملك فؤاد، وهي التي عملت المستحيل وتوسلت بكل السبل لإفناء الخلافة العثمانية بفعل تحريك العميل الصهيوني الكبير أتاتورك وتحريك العرب وإثارة الروح القومية فيهم؟ وأمثال ذلك فلا يعدو هذا إلا وهمًا. نعم يمكن أن نتصور الاستعمار البريطاني نفسه يدفع أمثال "علي عبد الرازق" لفصل الإسلام عن مسألة الحكم وبالتالي خلق روحية الحكم المدني وجعل الدين ذا دور غير أساسي في التشريع وهو ما طبقه الاستعمار فعلًا في الدويلات التي شكلها بشكل غير مباشر وصاغ قوانينها الوضعية معطيًا للإسلام بعض المجالات القليلة كالشؤون الشخصية من زواج وطلاق وأمثالهما.
وأما الدافع الثاني: وهو التخوف من سيطرة الفقهاء على الدولة وتجميدها فقد رأينا الدكتور متولي يرده بأن الحكم الإسلامي يعزز مكانة الفقيه ولكنه لا يجعله رجل الدولة الوحيد ثم يذكر مثلًا للحاكم الإسلامي مجسدًا حكامًا مثل يزيد ، ولم يكن يزيد بن معاوية من الفقهاء.
والرد قد يمكن توجيهه إلى حد ما طبق الأطروحة التي تعتمد الشورى أساسًا ، وإن أمكن القول بأن أهل الحل والعقد المتدينين سوف يميلون بالطبع إلى رجال الفقه والدين، فإذا افترضنا هؤلاء ممن ابتلوا بالجمود كان من المتوقع للدولة الجمود على وضعها وعدم تطورها وهذا ما يرفضه المنطق الاجتماعي ولكن النقص الأساسي في الرد يكمن في تمثيله بحكام امتلكوا الأمر بالجور والقهر والقتل وشوهوا وجه التاريخ الإسلامي بالظلم والهتك والمكر ، فهل يرضى الدكتور أن يمتلك أمر الأمة أمثال يزيد؟ إنها والله الداهية الدهياء ، على أن الرد لا ينسجم مع النظرية التي تعطي الفقيه الدور الأساسي في الأطروحة ضمن شروط خاصة كما سنبين.
وأم الدافع الثالث: فهو دافع متوقع جدًّا بعد نفوذ الغرب وتصوره عن الدين وتشبع المثقفين العرب بذلك ، وبهر الغرب لهم بنظامه الديمقراطي الذي يفصل بين الدين والسلطة ، وهو أمر ينسجم مع الدين المسيحي المنحرف ، والذي لم يعد سوى دين ينظم جوانب العبادة الشكلية لا غير، وسنوضح هذه النقطة في البحث التالي عن العلمانية.
والشيء الهام الذي نود التنبيه عليه في هذا المجال هو أن نقاط الضعف الكبرى الموجودة في بعض التصورات لنظام الحكم في الإسلام، كان لها أكبر الأثر في موقف هؤلاء إن لم تكن هي الدافع الرئيس لذلك.
ولكن هنا نلخص بعضها المحتمل قويًّا تأثيره في هذا الموقف:
(أ) ضعف الأدلة المقامة على نوعية نظام الحكم " الشورى " المستقل عن عنصر الولاية وقبوله كلها للمناقشة الدلالية وبعضها للمناقشة السندية، ولعل كلمة خالد محمد خالد تشير إلى ذلك.
(ب) غموض نظام الشورى وعدم احتوائه ـ على الأقل ـ على المبادئ الضرورية لتكوين أي نظام.
(ج) تأرجح تطبيق هذا النظام بين تطبيقات مختلفة.
(د) تعميم عنوان (ولي الأمر) لكل من مسك بأزمة الأمور، وتعيين وجوب طاعته حتى ولو كان فاسقًا.
(هـ) وجود نقاط ضعف ولعل أهمها ما جاء في تفسير حديث (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) .
فإذا ضممنا إلى ما تقدم المستوى الفكري غير المتحول الذي وصل إليه بعض الفقهاء في العصور الأخيرة ، والجمود الذي ابتلوا به على أثر إغلاق باب الاجتهاد والتبعية المطلقة للرئاسة الدينية للدولة القائمة ، وحدوث الكثير من العقبات في وجه الفقيه غير المجتهد. إذا ضممنا إليه كل ذلك عرفنا جانبًا هامًّا من جوانب هذه الدعوة الخطيرة.
النقطة الثالثة: مناقشة أدلة هذا الاتجاه.
وهنا لا بأس بالتعرض للرد الموجز على الأدلة المذكورة:
أولًا ـ الآيات القرآنية:
من قبيل {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} ومن الواضح لكل من لاحظ هذه الآيات أنها آيات مكية إلا الآية الكريمة: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (1) ، ولاحظ أسباب نزولها وأنها كانت تطيب من خاطر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتألم كثيرا لإعراض بعض المشركين ووقوفهم بوجه دعوتهم الكبرى، فتخبره أن لا يبخع نفسه على أن لا يكونوا مؤمنين ، فليس عليه إلا البلاغ ، أما إذا رفضوا الإسلام فليس هو بوكيل حفيظ عليهم، أنها لا تدل على المدعّى المذكور وليست بهذا الصدد.
ويوضح هذا ـ بالإضافة لملاحظة سباق الآيات وأسباب نزولها ـ الآيات الكثيرة التي ذكرنا بعضها ، والتي تؤكد أن الرسول هو الشهيد على هذه الأمة ، وتوجب طاعته وقيادته {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (2)
و {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) و {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (4) .
وكلها تتحدث عن قيادته ومسؤوليته تجاه أمته وأنه أولى بها من نفسها.
أما الكافرون المكذبون فليس هو بمسؤول عن تكذيبهم وإنما سيجزون بما كفروا يوم القيامة.
وكذلك يوضح ذلك موقف الرسول العملي وقيادته للحياة العامة وعدم اقتصاره على مجرد التبليغ والإنذار بالضرورة.
(1) سورة النساء: الآية 80
(2)
سورة البقرة: الآية 143
(3)
سورة النساء: الآية 59
(4)
سورة الفتح: الآية 29
ثانيًا ـ الأحاديث النبوية:
فلو غضضنا النظر عن أسانيدها ولم نناقش رواتها واحدًا واحدًا ـ وهو طبيعي ـ فإن الحديث الأول واضح الدلالة على أن الحاكم الإسلامي حتى ولو كان هو النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملكًا جبارًا مستبدًا يحكم بهواه ويقتل بغير حساب، ويقهر رعيته بالرهبة والجبروت ، وإنما ينبغي أن يكون الرحيم العطوف الودود برعيته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وكما كان الخلفاء وها هو على تراه في أصحابه كأحدهم وهو يكتب إلى عامله على مصر (مالك الأشتر) كتابًا رائعًا يقول فيه من جملة ما يقول:"وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.."[نهج البلاغة، صبحي الصالح ص 427] .
أما حديث ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم
…
)) فإنه أقوى دلالة على المطلوب لو صح وإن كان من الممكن النقاش فيه على أساس أن المقصود من أمور الدنيا الأمور التجريبية التي يدركها الإنسان بالممارسة وليست مسألة الحكم أمرًا من هذا القبيل بل هي العمود الرئيسي للمجتمع الذي يعمل الإسلام على بنائه ، وخصوصًا بالنسبة لفترة ما بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الكلام كل الكلام في صحة هذا الحديث وذلك:
(أ) كيف يعقل أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعيش في مجتمع أهم زراعة فيه هو زراعة النخل ، إن تأبيره ضروري لإنتاجه حتى لو فرضناه غير متصل بالسماء في هذه الأمور على الأقل؟ وكيف لم يرد عليه الفلاحون؟
(ب) إن الإسلام كما قلنا أعطى رأيه في مختلف الشؤون الدنيوية بعد أن ضبط كل تصرفات الإنسان تحت عنوان الحلال والحرام كما مر، وقد تدخل النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف شؤونهم الحياتية حتى بصفته ولي الأمر ، فقاد الجيوش ووجههم في مختلف الأمور كما في المجال الصحي وفي المجال الاقتصادي وأمثال ذلك.
(ج) وقد قام بعض العلماء بمناقشة هذا الحديث سندًا ودلالة فاغنونا عن البحث فيه.
ثالثًا ـ الأدلة العقلية:
وكلها لا تصلح دليلًا على المدعي.
أما استبعاد إمكان الحكومة العالمية، فهو قائم على أساس أنه يفرض على الجميع نمطًا واحدًا من السلوك رغم اختلاف المناطق بينهم. المفروض هو أن يكون الموجه الواحد للعالم والحكومة الواحدة متمثلًا بحكومة الإسلام والإمام ، ولا يوجد أي مانع عقلي أو واقعي من ذلك، بل إن بعض كبار المفكرين والسياسيين في العصر الحديث يعدون ذلك إحدى الضرورات التي لا غنى عنها للبشرية، على أنه لا يهمنا رأي هؤلاء بعد أن وعد الله المؤمنين بالدولة العالمية التي تملأ الأرض قسطًا وعدلًا:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (1) .
إن الإسلام كما هو واضح من مختلف جهاته يريد أن ينسق مسيرة الأرض الواحدة نحو تكاملها، وهذا لا يفرض إلا وحدة عامة ، ولا مانع فيه من الاختلاف في بعض التطبيقات مراعاة للظروف.
وأما مدعاه في أن مسألة الحكم أمر دنيوي خلى فيه الرسول بيننا وبين عقولنا فقد توضح أمره بما سبق.
وأما المدعى الثالث في أن الرسول لم يبن الدولة ولا وضع مبادئ الحكم ولم يوص بشيء، ولا عين تفصيلات الشورى، فالواقع فيه أن الرسول لاحظ كل ما يتعلق بهذا الأمر فخطط لإقامة الدولة الإسلامية أروع تخطيط يتناسب ـ طبعًا ـ ومستوى الاحتياجات في عصره ، ثم بين أهم مبدأ في نظام الحكم بأن جعل الحاكم الأول في الدولة هو المعصوم العالم السائر على خط الإسلام الذي يعين شكل التنظيم الإداري وهو يختلف باختلاف الظروف.
وأما ما ذكره البعض تأييدًا له فهو أيضًا غير صحيح، إذا المؤسس الحقيقي لنظام الحكم الإسلامي هو النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة النور: الآية 55
وأما ما قيل من أن الدين نظام ثابت والدولة نظام متغير فهو أمر يخلط فيه بين جوانب الدين الثابتة التي تعالج أمورًا ثابتة وجوانب الدين المرنة التي تعالج أمورًا متغيرة كمسألة نوعية التنظيم والإدارة ، فإن الجوانب المتغيرة من الحياة كعلاقة الإنسان بالطبيعة أو كبعض العلاقات الاجتماعية تحكمها ضوابط عامة يكون تطبيقها مرنًا يختلف باختلاف الظروف مثل قواعد (منع الضرر) و (التزاحم بين الأهم والمهم) و (نمو الإنتاج) وأمثال ذلك.
ومن تلك الجوانب أسلوب الإدارة المختلف باختلاف الظروف ، ولذا شكل منطقة فراغ يملأها الإمام وربما عمد إلى الشورى في ذلك، أما الشكل العام الذي ينسجم مع الضوابط العامة فهو أمر ثابت لا يتغير ، وسيأتي مزيد حديث عن هذا البحث التالي.
أما مسألة فشل الحكومات الدينية فليس يعني أن كل حكومة دينية فاشلة مطلقًا خصوصًا بعد أن نجد الحكومات المذكورة لا تتبع النظام الإسلامي الكامل ، وتحيد عن الصيغة الإسلامية بأي شكل تصورناها ، وهل يتحمل الإسلام وزر عمل الطاغية يزيد والحجاج وباقي حكام الجور وبعض الخلفاء العثمانيين وأمثالهم.
وربما يحلو لبعض الكتاب مثل (طه حسين) أن يجعل الزمان غير مناسب للحكومة الإسلامية التي أرادها علي (ع) ولذلك لم ينجح في إنشاء دولة العدل بعد أن مال الناس إلى ملكية معاوية ، فيقول:"كان علي (ع) يدير خلافة وكان معاوية يدير ملكًا ، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أطل".
ولكن طه حسين لم يلتفت إلى أن وجود العقبات في وجه أمير المؤمنين لم يكن من مقتضيات التطور الاجتماعي ، وإنما هي حالة طارئة وجدت بفعل عوامل معينة ولم تكن لتستطيع الثبات بوجه العدل العلوي لو فقدت أحد مقوماتها صدفة ، كأن لم يخدع بعض الناس فيعلن الثورة على أمير المؤمنين مما خلق الضعف الكبير في الدولة الإسلامية التي يقودها ، وأفشل التطبيق الإسلامي النظيف وحرمنا الكثير من الخيرات.
ورغم كل هذا فإن الفرص التي أتيحت للحكم الديني كي يشمل المجتمع شكلت أروع تجربة بشرية على الإطلاق.
بل أن هناك أنماطًا من التطبيق المنحرف لنظام الحكم الإسلامي هي أفضل بكثير من تطبيق أي نظام لا إسلامي بشهادة التاريخ.
الفرع الثاني ـ العلمانية الغربية وآثارها على العالم الإسلامي:
والمقصود بالعلمانية ـ المأخوذة من كلمة (العالم) أي (الزمان) ـ أن يكون الحكم بيد قادة زمنيين لا يلتزمون بالدين تشريعًا وتنفيذًا.
ومن الخطأ تفسيرها بأنها مذهب يدعو للاستفادة من العلم الحديث مثلًا أو أنها مجرد مذهب يدعو لإقامة التنظيم الإداري والاجتماعي على أسس عملية مدروسة وأمثال ذلك.
وقد نشأ هذا المذهب من خلال إرهاصات عديدة وصراعات بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في الغرب. وهو ما اعترفت به المسيحية بادئ الأمر.
مما خلق هذا التناقض المرير وأدى في النهاية إلى هذا المذهب.
وقد ذكر بعض الكتاب أن دعاة العلمانية يسوقون الحجج التالية لضرورة بناء الدولة العلمانية واستمداد التشريع والتنفيذ من غير الدين بل وعدم إعطائه محلًا لائقًا في المجتمع، وهي:
1 ـ أن الدولة الدينية تعني سيطرة رجال الدين مما يعني تحكمهم بمصائر الناس.
2 ـ أن قوانين الدولة الدينية ثابتة كنظرتها إلى الحقييقة وهي تؤدي بالتالي إلى بقاء المجتمع وعدم تطوره، وهذا شبيه بما قاله الماركسيون لرد الفلسفة المثالية، والقول بتطور الحقيقة نفسها.
3 ـ من النادر وجود دولة ينتسب جميع مواطنيها إلى دين واحد فإذا كانت دينية وقع التمييز بين المواطنين.
4 ـ إن الدين له تصورات معينة عن الكون والحياة والإنسان والتاريخ، والدولة الدينية تتبع تلك التصورات مما يعوق التقدم العلمي ويقود إلى فجائع حفل بها التاريخ.
5 ـ جاء في تصريحات بعض القادة العلمانيين، أن المناداة بدولة دينية تعني إعطاء إسرائيل مسوغًا لقيامها واعتدائها، وهي بالتالي خدمة للصهيونية العالمية.
هذا في حين تتمتع الدولة العلمانية بالخصائص التالية:
1 ـ الحركية والاستمرار والتطور الاجتماعي.
2 ـ مركز حقوق متساو لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية.
3 ـ سيطرة الشعب على الحكم وكونه مصدر السلطات.
4 ـ فسح المجال لحركة التقدم العلمي.
العلمانية والإسلام:
لا ريب في أن المسيحية قنعت بنصيب ما منحتها إياه بعض العلمانيات المعتدلة ، بحيث تقوم بنشاط معين في إطار الدولة العلمانية في قبالة العلمانية الماركسية التي رفضت أي نشاط متصور لها. وهذا ما حدث أخيرًا في إيطاليا مثلًا.
ولكن ما هو موقف الإسلام منها؟ وهل تمتلك مسوغاتها في الحقل الإسلامي؟
إننا نرى أن الإسلام لم يدع منذ البدء مجالًا لحدوث هذه النتيجة بعد أن قرر:
أولًا: وحدة السلطتين الدينية والسياسية بل جعل تعيين الإمام (وهو القائد السياسي والديني في آن واحد) إتمامًا للدين وإكمالًا للنعمة السماوية على الأرض كلها ، ولم يسمح بأي انفصال جوهري بينهما، وأي انفصال رئي بعد ذلك فإنما كان يعبر عن تطبيق غير سليم للإسلام.
وإذا رجعنا إلى ملاحظة صفات الإمام أو الحاكم في الإسلام لم يبق مجال مطلقًا لتصور عملية تكريس للذات ومصالحها، بعد فرض علمه الفقهي الواسع والتزامه الكامل بتطبيق الشريعة الإسلامية المقررة. هذا والتاريخ يشهد على السيرة الممتازة التي سار فيها قادة المسلمين، بغض النظر عن بعض الذين تحدوا وطغوا. وإذا نظرنا إلى نظام (نيابة الفقيه عن الإمام) وولايته وجدنا أن الفقيه لا يمتلك هذا المقام إلا بعد توفر شروط أهمها (الكفاءة، والعدالة، والفقه العميق) ويفقد أي قدرة بفقدان أي منها، والأمة المشبعة بروح هذه الشروط هي المراقبة لسير هذا الفقيه كما أن مجلس الفقهاء العدول الأكفاء هو الحارس الأمين على السير الصحيح (1) .
وحتى إذا نظرنا لنظام الشورى ـ بدون ولاية لشخص ما ـ نجد أنه أفضل بكثير من أي نظام زمني يسلم أموره كلها لآراء الشعب لأنه يسير وفق تشريع سماوي مسبق وطبق ضوابط شرعية.
وعلى أي حال فإن الإسلام لم يفسح المجال مطلقًا لظهور هذه الثنائية بين السلطة المدنية والسلطة الدينية وهي من أفدح الأخطاء التي تفقد السلطة السياسية دورها الحقيقي في نفس الوقت الذي تشوه حقيقة الدين وتوجيهه للحياة.
ثانيًا: خطط الإسلام للجانب المتغير من الحياة فوضع القواعد العامة والأحكام الظاهرية والاضطرارية وفتح مناطق فراغ يملأها الحاكم الإسلامي الفقيه العادل على ضوء مشورته ومتطلبات الظروف إلى جانب إشباعه للجانب الثابت في الحياة الإنسانية ـ وهو الجانب الفطري الأصيل ـ بقوانين ثابتة. فلا مجال إذن للجمود وأمثال ذلك.
وقد تصور هؤلاء أن الدولة الدينية لما كانت تقوم على الإيمان بحقائق فلسفية مطلقة ثابتة بل وتؤمن بلزوم الإطلاق في الحقيقة بمعنى (مطابقة الفكرة للواقع الخارجي) فهذا يعني الإيمان بقوانين اجتماعية ثابتة لا تتغير مطلقًا وهو لا يعدو مجرد خلط وسخف ، فالإيمان بالحقيقية المطلقة شرط لأن تفرض إمكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي ، ولا ربط له بالإيمان بثبات كل النظم الاجتماعية أو عدمه.
إن الإسلام يؤمن بتطور كثير من الجوانب الاجتاعية في نفس الوقت الذي يؤمن فيه بثبات الحقيقية الفلسفية؛ لأنهما مجالان لا ربط بينهما ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو مغالط.
(1) يراجع كتاب (حول الدستور الإسلامي) وقد صدر عن منظمة الإعلام الإسلامي ـ قسم العلاقات الدولية
ثالثًا: إن الإسلام أعطى الدين مفهومه الصحيح فلم يعد مجرد شأن شخصي يمكن أن يتنازل عنه الفرد لصالح النظام الاجتماعي العام ـ كما تصوره الغربيون ـ ومن هنا قالوا: بأن إقامة الدولة الدينية تعني إعطاء امتيازات شخصية لاتباع الدين دون غيرهم ، وإنما عاد الدين كل شيء في حياة الإنسان؛ لأنه تصورات واقعية عن الكون والإنسان يثبتها المنطق الصحيح، ونظم تعالج مسيرة الإنسان على ضوء علم إلهي غير محدود وحكمة شاملة، ومع هذا التصور والمبدأ يختل التقييم. إن الدين حينئذ يحاول أن يبني الإنسانية الصالحة لا أن ينظم مجرد علاقة روحية شخصية للفرد بخالقه. وانطلاقًا من هذا المبدأ فمن الطبيعي أن نتوقع للإسلام أن يقوّم الحياة كلها ولا يسلم أموره بيد دولة لا تؤمن له، ومن الطبيعي بحكم نقطة كونه مخولًا من رب الإنسانية أن يدعو الناس جميعًا للدخول تحت سلطته. كما أن من الطبيعي أن يكون المسلم المنسجم مع أهداف أوسع حقوقًا كما يكون أكثر تحملًا للمسؤوليات في الدولة المسلمة.
وهذا لا يعني أن الإسلام يعمل على وضع تمييزات كبرى في دولته بين المسلم وغير المسلم ، وإنما يقيم توازنًا بين الحقوق والمسؤوليات ، كما هو مبين في متون الفقه الإسلامي.
وربما نجد بعض المفكرين المسلمين يعالجون المسألة من سبيل آخر فيدعون أن كون الدولة مسلمة في الأقطارالإسلامية أمر طبيعي ، وسائر وفق القوانين الديمقراطية بعد انتخاب الأكثرية المسلمة لها. وهذا الإصلاح أمر لا مسوغ له بعد ملاحظة حقيقة التصور الإسلامي للحكم. وإن الإسلام لا يحكم من خلال هذا المنطق وليس لمبدأ الأكثرية تأثير إلا في إطار سماح المذهب الإسلامي للحكم. والواقع أننا يجب أن لا نجعل الديمقراطية هي الأصل الذي يقرر مصير الحكم الإسلامي، والتشريعات الإسلامية للحياة فالعكس هو السبيل المنطقي الصحيح.
رابعًا: ولا تجدنا هنا بحاجة لتوضيح موقف الإسلام من التقدم العلمي واحتضانه للعلماء في مختلف المجالات ، ويكفيه أنه صنع ـ رغم الانحراف في تطبيقه ـ الحضارة العلمية الناصعة في عصر كانت أوروبا تغط فيه في سبات قائل، والواقع أنه لا يمكن تقديم رقم واحد يوضح وقوف الإسلام أمام أي تقدم إنساني في حين يمكن تقديم الأرقام الكثيرة على تنمية الإسلام لروح التقدم الإنساني والبحث. وقد فرض الإسلام ـ كفاية ـ العمل على كون المجتمع الإسلامي دائمًا في طليعة المجتعات. نعم كان التقدم العلمي في الإسلام إنسانيًّا أي منسجمًا مع التقدم الأخلاقي لا متعارضًا معه وهذا له مجاله الرحب من الحديث.
وعليه:
فإن العلمانية تفقد أي مسوغ لها في الإطار الإسلامي ، وإنما حمل لواءها الاستعمار وعاونه بعض المسيحيين والمسلمين المتفرنجين ، ورفعوا لواء الإصلاح ونجحوا في ما قاموا به على اختلاف في درجات النجاح ، ولكن النتيجة لم تكن إلا التخلف وربط مسيرة الأمة بعجلة الغرب وفقدان الأمة جل خصائصها الإيجابية ، وتحكم الطغاة فيها بمختلف الألوان.
الفرع الثالث ـ الإسلام والسيادة في الدولة:
اتضح من البحوث السابقة أن الإسلام يعتبر نفسه هو المسؤول الأول والأخير عن نظام الحكم في الأمة المسلمة، ولذا لا يبقى أي شك في أن السيادة في تصور الإسلام لله تعالى باعتباره المولى الحقيقي. وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقرر منطقية الحكم الإسلامي ووجدانيته.
ولذا فلسنا مع الدكتور عبد الحميد متولي في رده العنيف على طرح "مشكلة السيادة" في البحوث الإسلامية مدعيًا أنها نظرية نشأت في ظروف فرنسية ، وأن الظروف التي دعت لطرح المشكلة هي ظروف أوروبية محضة وقد زالت فعلًا، ومؤكدًا أن العلماء المسلمين لم يبحثوها، وإن بحثها الحديث يولد أضرارًا منها: نسبة بعض الأخطاء إلى بعض الخلفاء والعلماء ، ومنها ادعاء الثيوقراطية للنظام الإسلامي ، مع أن الثيوقراطية في نظر علماء الغرب تعتبر الشكل المعروف للدولة في حياة البشرية في حالتها البدائية، كما أنها تعني في بعض صورها (نظرية التفويض الإلهي) التي استند إليها السلاطين لتسويغ استبدادهم، وأخيرا يقول:"مما تقدم يتبين أن الإسلام في غير حاجة إلى إثارة تلك المسألة أو المشكلة التي لا تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من مشكلاته، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة الإسلام عنها في غنى"(1) .
والواقع: إننا لم نتفهم كيف عادت هذه المسألة أمرًا غير ذي بال؟ وكيف لم تكن مطروحة لدى المسلمين رغم أنهم جميعًا استدلوا على صحة ما يقولون بدليل شرعي يثبت في نظرهم أن الله منح السيادة لهذا الشخص مباشرة أو لمن يصل إلى هذا المنصب عن طريق وبشروط معينة ولو كان ذلك عن طريق انتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد.
إننا إذا عزلنا الحاكم عن هذه المسألة لم يكن يملك فرض أي حكم عام.
ولعل وضوح كون السيادة في الإسلام لله هو الذي صور للدكتور المذكور أن المسلمين لم يعرفوا هذا المبدأ.
أما ما ذكره من الأخطار (في تصوره) فليست إلا أخطاء في البحث أو النسبة وكشفًا لفضائح كان ينبغي أن تكشف كما في مجال عمل بعض حكام السوء والمتملقين لهم، وسيتبين أن النظام الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الثيوقراطية الغربية وقد أشار إلى ذلك المودودي في كتابه.
نعم لم يكن هناك إلا نزاع صوري بين من جعل حق السيادة لله من السنة كالمودودي، ومن جعلها حقا للأمة كالخفيف فإن هذا الأمر الأخير أيضًا إنما يتصورها حقا للأمة بإعطاء الله هذا الحق لها إذ يستدل على مبدأ الشورى بمثل {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مع فرض أن المولى هنا في مقام الشريع لا الإخبار عن حق مسبق للأمة بل حتى لو كان يخبر فإنما يخبر عن جُعل إلهي مسبق لهذا الحق للأمة.
وعلى أي حال فالاتفاق الإسلامي حاصل على أن حق السيادة لله لا غير، وإنما يبحث عمن أعطاه الله هذا الحق.
(1) راجع مبادئ نظام الحكم في الإسلام: من ص 165 إلى 193
خامسا: أما ما ذكر من قبل بعض القادة العلمانيين فهو أمر غريب حقًّا.
ذلك أننا إذا استندنا إلى هذا المنطق تجاهلنا:
أولًا: كل التعاليم الإسلامية الداعية إلى الحكم الإسلامي، وإقامة نظام الحياة الاجتماعية على أساس ديني
…
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) .
وتناقضنا مع إيماننا:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (4) .
(1) سورة المائدة: الآية 44
(2)
سورة المائدة: الآية 47
(3)
سورة المائدة: الآية 45
(4)
سورة النساء: الآية 65
وثانيًا: فإن إسرائيل لم تقم على منطق سوى السيف والقوة والاعتداء ومثل هذا التقول يكاد يعطيها الحق في القيام باعتبار أنه يشكل الدليل التالي: إسرائيل تقوم على أساس الدين الواحد.
وفكرة كون الدين أساسًا للحياة هي فكرة صائبة. فإسرائيل تقوم على حق.
في حين أن الواقع في المسألة الإسرائيلية:
1 ـ إنها لا تؤمن بأي دين حتى اليهودية ، وليست سوى قاعدة استعمارية استكبارية زرعها الكفر ليفجر المنطقة الإسلامية ويسوقها إلى أهدافه الرخيصة.
2 ـ إنها لم تستند في قيامها إلى مثل هذا المنطق، استنادًا حقيقيًّا. بحيث يفسح لها المجال في القيام وإنم كانت ذريعة سبقتها القوة والغضب.
3 ـ إن فلسطين هي أرض إسلامية منذ مئات السنين وحتى اليوم فلا بد أن يدعو هذا المنطق (منطق قيام الحكم على أساس ديني) إلى قيام حكومة إسلامية فيها، خصوصًا إذا علمنا أن أكثر يهودها قد جاءوا من أماكن أخرى وأن أكثر أهاليها الحقيقيين قد شردوا في البلاد.
وثالثًا: إذا كان هناك من يستغل مبدأً صحيحًا ويطبقه تطبيقًا خاطئًا فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن المبدأ الصحيح؟
فمثلا إذا كان من ادعوا (المهدوية) في التاريخ أناسا منحرفين فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن الإيمان بفكرة (المهدوية) التي كثرت الروايات وتواترت على صحتها ، لا لشيء إلا لأن بعض الأشخاص استغلوها غاية الاستغلال؟ أو فلنقل إن كان هناك أنبياء مزيفون فهل هذا يلزمنا بعدم الإيمان بمبدأ النبوة مطلقًا؟
الخلاصة
في حديثنا عن الغزو الفكري ذكرنا في الفصل الأول أن الإسلام صنع المعجزات في تقدمه لفتح القلوب إلا أنه واجه أصنافًا من المعارضين فيهم (المترفون، والجاهلون، والحاقدون) .
ورأينا أن تخطيطهم عمومًا يسير عبر الأساليب التالية:
(أ) إيجاد الخواء الحضاري في الأمة الإسلامية.
(ب) بث التعالي الحضاري الغربي وتأكيده بشتى الأساليب.
(ج) الملء الحضاري بالمطلوب من أفكارهم.
وانتقلنا في الفصل الثاني لضرب مثال من الاختراق الحضاري الثقافي للمجتمع الإيراني لنجد أن الحملة تشمل المحاور (السياسية والثقافية، والأخلاقية) ، ووجدنا أن التغريب بأبشع صوره مورس في هذه البلاد ـ عقائديًّا وأخلاقيًّا حتى بلغ الأمر إلى محاربة الفكر الإسلامي بشكل صريح وعلني ، والقضاء على كل ما ينتسب للإسلام حتى التاريخ الهجري.
وفي الفصل الثالث: حاولنا أن نميز بين خطين في المواجهة الإعلامية للغزو الثقافي، وهما:
1 ـ الخلط الإعلامي التغييري، وقد امتاز بوعيه للإسلام ونظرته التغييرية وإدراكه لأبعاد الغزو وتركيزه على محور المشكلة وتقديمه للطروحات الأصيلة وتحريكه للحس الحماسي.
2 ـ الخلط الإعلامي السطحي، وحاولنا تأييد الخط الأول بالعودة إلى القرآن الكريم ومعرفة بعض جوانب منهجه الإعلامي.
وفي الفصل الرابع درسنا نمطين من التشكيك في أهم منابعنا وهما (القرآن والسنة النبوية الشريفة) وحاولنا دفع كل الشبه المذكورة.
وفي الفصل الخامس: تحدثنا باختصار عن الحكم والدولة في الإسلام وعملنا على نفي الاتجاهات المتخاذلة التي تنفي وجود التخطيط لدولة إسلامية.
والله أسأل أن يوفقنا لإقامة هذه الدولة على كل الأرض الإسلامية.
الشيخ محمد علي التسخيري