الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقُود المستَقبليات في السّلع
في ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّة
إعداَد
القاضي محمَّد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فمن أهم ما يتعامل به في الأسواق المالية اليوم نوع من المتاجرة يقال له المستقبليات (Futures) ، تباع فيه سلع مخصوصة لتاريخ مستقبل معين.
وقد أصبح هذا النوع من التعامل من أبرز أنواع المعاملات الجارية في الأسواق المالية العالمية، ولا سيما في البلاد الغربية، وتكوَّنت له بورصات مستقلَّة يتعامل فيها بالملايين في كل يوم، ويقال: أن أول بورصة قامت لتنظيم هذا التعامل هي " بورصة التجارة في شيكاغو "(Chicago Board Of Trade) التي أنشئت في سنة 1848م، غير أن أهل اليابان يدعون أنهم ابتكروا هذا النوع من التجارة قبل نحو من قرن واحد من هذه السنة (1) .
أما حقيقة هذه المعاملة، فقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بمايلي:
(Commercial contracts calling for the purchase or sale of specified quantities of commodities at specified future dates) .
"هي عقود تجارية تقتضي الشراء أو البيع للكميات المعينة من السلع لتواريخ مستقبلة معينة"(2) .
(1) Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading. Seventh ed. 1975p. 15.
(2)
Britannica، Micropeadia، 1988، v. 5 p. 62.
وحاصل هذا التعريف أن العقد يشتمل على بيع بعض السلع التي يؤجل تسليمها إلى تاريخ مستقبل، ولكن هذا التعريف يشمل " البيوع المقدمة "(Forward sales) أيضًا، فإن تسليم المبيع في " البيوع المقدمة " يقع في تاريخ لاحق، ولكن المستقبليات تختلف عن البيوع المقدمة البسيطة (Simple forward sales) في أن " البيوع المقدمة " إنما تعقد للحصول على السلع في تاريخ مستقبل، والبائع يقصد تسليم البيع، والمشتري يريد تسلمها في ذلك التاريخ، ويقع التسليم والتسلم فعلًا عند حلوله. أما المستقبليات، فإن السلع إنما تستخدم فيها كأساس للتعامل، ولكنه لا يقصد بها في معظم حالات التسليم والتسلم، بل يقصد بها إما المخاطرة في الأرباح، أو تأمين الربح في أحد " البيوع المقدمة "(Forward sales) المتوازية، فلا يقع فيها تسليم السلع وتسلمها إلَّا في حالات نادرة، كما سنوضحه قريبًا إن شاء الله تعالى، وإن هذا الفرق بين البيوع المقدمة والمستقبليات مذكور في دائرة المعارف البريطانية عقيب تعريف المستقبليات، ونصّه:
(And the term commodity is used to define the undenging asset، even though the contract is frequently divorced from the product. It therefore differs from a simple forward puronase in the cash market، which involves actuel delivery of the commodity at the agreed time in the future) .
" إن اصطلاح " السلع " (في المستقبليات) إنما يستعمل لبيان الأساس الذي يقوم عليه التعامل، وإن كانت المعاملة في أكثر الأحوال خالية من المنتجات، فالمستقبليات تختلف عن البيوع المقدمة المتعامل بها في السوق الحالية التي تتضمن التسليم الفعلي للسلع في الوقت المتفق عليه في المستقبل "(1) .
(1) Britannica، Micropeadia، 1988، v. 5 p. 62.
وأما كيفية التعامل بهذه العقود المستقبلية، فهي كما يلي:
إن المستقبليات إنما تعقد في سوق منظمة أنشئت لهذا الغرض، وتسمى " سوق تبادل السَّلع "(Commodity Exchange) التي تجري على أساس العضوية فيها، فمن يحب أن يتعامل في المستقبليات يجب له أن يكون عضوًا لهذه السوق، وإن العضوية تتكون من منتجي عدة سلع وتاجر بها، ومن مؤسسات السماسرة. ومن أراد أن يتعامل في هذه السوق دون أن يكون عضوًا فيها، فإنما يستطيع ذلك عن طريق السماسرة الأعضاء، ويجب للتعامل في المستقبليات أن يفتح المتعامل حسابًا عند إدارة السوق يتضمن مبلغًا معينًا يبقى عند إدارة السوق كضمان لتصفية التعامل حسب قواعد السوق، ولا يزيد هذا المبلغ عادةً على 10 % من قيمة العقد عند التوقيع، و 7 % في اليوم اللاحق، والمقصود بهذا المبلغ تغطية الخسارة المحتملة في حال تخلف أحد الفريقين عن الوفاء بما التزمه.
وبعد فتح الحساب يجوز للعضو أن يبيع أو يشتري كمية معينة من السلع لتاريخ مستقبل، وإن كميات السلع المتعامل بها مقسمة على وحدات تجارية (Trading units) كل وحدة منها تنبئ عن كمية معروفة من تلك السلعة المخصوصة، فالوحدة المعتبرة في القمح مثلًا، هي خمسة آلاف كيس، فلا يقع التعامل بكمية أدنى من هذه الكمية، وللمتعامل أن يتعامل في وحدة واحدة من القمح، أو في وحدتين، أو في ثلاث، وهكذا. وكذلك أنواع السلعة محددة بدقة من حيث جودتها ورداءتها، ويشار إلى هذه الأنواع بأرقام الدرجات، فهناك قمح الدرجة الأولى، وقمح الدرجة الثانية، وقمح الدرجة الثالثة، وهكذا. وإن مواصفات كل من هذه الدرجات معروفة لدى جميع المتعاملين.
فمن أراد بيع وحدة من قمح الدرجة الأولى مثلًا في شهر يناير لتسليم شهر أكتوبر، فإنه يعرض على السوق ما ينبئ عن رغبته لبيع وحدة من قمح الدرجة الأولى، لشهر أكتوبر بثمن يتوقع أن يكون رابحًا عند التسليم، فمن رغب شراء هذه الوحدة بهذه الشروط قبل ذلك العرض، ولا يحتاج أي منهما إلى الالتقاء بالآخر في أسواق البورصة. ولكن إدارة السوق ضامنةٌ لوفاء التزامات الفريقين. فالبائع يقدم عرضه إلى السوق بواسطة الإدارة، والمشتري يقبل هذا العرض عن طريق الإدارة، والإدارة تتكفل له بتسليم السلعة من قبل البائع، وبتسليم السلع من قبل المشتري عند حلول تاريخ التسليم.
وليس الأمر حقيقة بهذه البساطة التي تبدو مما ذكرنا من طريق هذا التعامل، ولا يقع أبدًا أن ينتظر المشتري تاريخ التسليم ويتسلم السلعة المبيعة عندئذٍ، وإنما يظل هذا العقد فيما بين شهر يناير وشهر أكتوبر محل بيع وشراء في كل يوم، وربما يقع على العقد الواحد عشرات البياعات يوميًّا، إلى أن يأتي الأجل، فلو باع زيد مثلًا إلى عمرو وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر، فإن عمرًا يبيعه بعد ذلك إلى خالد، وخالد إلى حامد، كل واحد منهم بثمن ربما يختلف عن الثمن الأول، والفارق بين سعري البيع والشراء هو الربح الذي يخاطر فيه المتعاملون في أثناء هذه المدة وكل من اشترى عقدًا بسعر أقل وباعه بسعر أكثر، فإنه يستحق أن يطالب بفرق السعرين كربح له، دون أن يدفع الثمن كمشترٍ، أو يسلم المبيع كبائع، ففي المثال المذكور لو اشترى عمرو من زيد وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر بعشرة آلاف دولار مثلًا، وباعه من خالد بأحد عشر ألف دولار، فإنه لا يدفع الثمن إلى زيد، ولا يسلم المبيع إلى خالد، وإنما يستحق ألف دولار كالربح الحاصل على تعامله.
ولإنجاز هذه العمليات تكون إدارة السوق غرفة تسمى " غرفة المقاصة "(Clearing house) وإن جميع هذه العمليات تسجل في غرفة المقاصَّة، وهي التي تتولى تصفية جميع الالتزامات في آخر النهار كل يوم. فإن عمرًا في المثال المذكور يأخذ ربحه، وهو ألف دولار، ويستلمه من غرفة للمقاصّة، ويخرج من العملية بتاتًا.
وهكذا يستمر التعامل في هذا العقد الواحد إلى أن يأتي شهر التسليم، وفي هذا الشهر يصدر من قبل إدارة السوق إخطار للمشتري الأخير بحلول تاريخ التسليم، وباستفساره: هل يرغب في استلام المبيع في التاريخ المتفق عليه؟ أو يريد بيع هذا العقد؟ فإن رغب في استلام المبيع، فإن البائع يسلم السلعة المبيعة إلى المستودعات المعينة، ويسلم وثيقة الإدخال إلى المستودع، ويحصل مقابلها على الثمن، وإن لم يرغب المشتري الأخير في استلام السلعة، ورغب في بيع العقد، فإنه يبيعه من البائع الأول مرة أخرى، حينئذٍ فإن المعاملة تصفى على أساس دفع فوارق السعر كما يقع في العمليات التي تمَّ إنجازها قبل حلول التاريخ، وحينئذٍ لا يقع التسليم والتسلم، حتى في المعاملة الأخيرة.
وإن ما يقع فعلًا في أسواق السلع في معظم المعاملات هو هذا الشق الثاني، ولا يقع التسليم والتسلم إلَّا في أحوال نادرة، لعلها لا تبلغ نسبتها إلَّا إلى الواحد في المائة.
والذين يتعاملون في المستقبليات هم نوعان، لكل واحد منهما غرض مستقل عن غرض الآخر للدخول في سوق المستقبليات.
أما النوع الأول، فهم المخاطرون (Speculators) الذين لا يقصدون شراء السلع وبيعها للحصول على المبيع أو الثمن، وإنما يقصدون الحصول على الأرباح التي تتكون من فروق أسعار البيع والشراء، كما تقدم ذكر ذلك، وإنهم على ثقة من خبرتهم بتقلبات الأسعار، يشترون المستقبليات على أمل أنهم سوف يبيعونها بسعر أكثر، ويتخلص لهم ربح من وراء هذه العملية، بدون أن يخوضوا في استلام المبيع وتسليمه. فربما تنجح آمالهم في عقد، وتفشل في أخرى.
والنوع الثاني، هم الذين يقصدون تأمين ربحهم على بيوع حقيقية عقدوها في الأسواق الحالَّة، وإن هذه العملية تسمى في الاصطلاح (Hedging) ، ويمكن لنا أن نترجمه إلى العربية بتأمين الربح.
ومن المناسب أن نشرح هذه العملية بمثال: إن زيدًا اشترى من السوق الحالَّة عشرة آلاف كيس من القمح بسعر خمسة دولارات لكل كيس مثلًا، وإن البيع حقيقي يقع في التسليم، ولكن نظرًا إلى ظروف السوق، يريد زيد أن يبيع هذه الكمية بعد ثلاثة أشهر مثلًا، ولكنه يخاف أنه إن انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر، فإنه سوف يخسر خسارة كبيرة. هب أن السعر انخفض بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار لكل كيس، فإنه يخسر خمسة آلاف دولار في هذه العملية الواحدة.
ولتجنب هذه الخسارة، يدخل زيد في سوق المستقبليات، ويبيع مثل هذه الكمية لتسليم ثلاثة أشهر بالسعر الموجود في السوق الحالة يوم العقد، فتكون له عملية شراء في السوق الحالة، وعملية بيع في سوق المستقبليات بكميتين متوازيتين من القمح. وإن الربح في إحداهما يجبر الخسران في الأخرى، فلو انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار للكيس الواحد مثلًا، فإنه سوف يخسر في صفقته الحالَّة بمقدار خمسة آلاف دولار، ولكنه في الوقت نفسه يربح في سوق المستقبليات بما يقارب هذا المقدار، لأن سعر المستقبليات سوف ينخفض أيضًا بما يقارب نصف دولار لكيس واحد، فما باعه بسعر أعلى قبل ثلاثة أشهر في سوق المستقبليات يشتريه الآن بسعر أدنى، ويستحق الفرق بين السعرين، وهو خمسة آلاف دولار. وإن هذا الربح الذي حصل له في المستقبليات يجبر ما أصابه من الخسران في الصفقة الحالَّة، وإن النتيجة الصافية تظهر من الجدول الآتي:
السوق الحالة سوق المستقبليات
سبتمبر: يشتري 10000 كيس يبيع 10000 كيس
من القمح بسعر 5 دولارات من القمح بسعر 5 دولارات
ديسمبر: يبيع 10000 كيس يشتري 10000 كيس
من القمح بسعر 4.50 دولارات من القمح بسعر 4.50 دولارات
خسارة: 0.5 دولار ربح + 0.5 دولار
وبالعكس من ذلك، لو ارتفع سعر القمح في شهر ديسمبر بمقدار نصف دولار لكل كيس، يقع العكس، يعني أنه يخسر في سوق المستقبليات، ويربح في السوق الحالة. وفي كل من الحالين تجبر خسارته في إحدى العمليتين بالربح في العملية الأخرى، وهذا هو المراد من " تأمين الربح "(Hedging) .
هذه خلاصة وجيزة لكيفية التعامل في المستقبليات، وإن هذه العقود قد أصبحت اليوم معقدة للغاية، وقد تجاوزت دائرتها من السلع إلى النقود وإلى الخيارات (Option) وغيرها، ولكننا لخصنا من العملية ما يمكن به فهم حقيقتها وتفاصيلها التي لابدَّ من معرفتها لبيان حكمها في الشريعة الإسلامية (1) .
(1) إن هذه الخلاصة مأخوذة من كتاب: (Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading)
وأما حكمها الشرعي، فكل من له إلمام بقواعد الشريعة ومصالحها، لا يشك بعد النظر في تفاصيل هذه العملية أنها عملية محرمة شرعًا، ومصادمةً لعدة أحكام الشريعة الغرّاء.
أمَّا أولًا، فلأنه بيع لما لا يملكه الإنسان، وقد روى حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله: إنَّ الرجل ليأتيني فيريد مني البيع، وليس عندي ما يطلب، أفأبيع منه ثم أبتاعه من السوق؟ قال:((لا تبع ما ليس عندك)) [أخرجه النسائي والترمذي وأبو داود](1) .
أما البيوع اللاحقة التي تتم خلال مدة التسليم، فإنها بيوع تتم قبل قبض السلعة المبيعة، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من اشترى طعامًا، فلا يبعه حتى يستوفيه)) [أخرجه البخاري ومسلم] .
وقد حاول بعض الناس تخريج جواز هذه العملية على أساس بيع السلم، ولكن ذلك لا يصح إطلاقًا، لأسباب آتية:
1-
يجب في السلم شرعًا أن يعجل الثمن بكامله، وهو الذي يسمى " رأس مال السلم " قال ابن قدامة رحمه الله في بيان شرائط صحة السلم:
"ويقبض الثمن كاملًا وقت السلم قبل التفرق، هذا الشرط السادس، وهو أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم يكن ذلك شرطًا، لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سلمًا، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس. ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق، فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف"(2) .
(1) جامع الأصول 1/457.
(2)
المغني، لابن قدامة: 4/334.
فتبين أن قبض رأس مال السلم في مجلس العقد شرط لصحة السلم عند الجمهور، وإنما أجاز مالك تأخير القبض إلى يوم أو يومين أو أكثر إن لم يكن التأخير شرطًا في صلب العقد، فتأخير قبض الثمن إن كان مشروطًا في العقد، فإنه لا يجوز عند أحد من الفقهاء.
أما في المستقبليات، فإنَّ تأخير قبض الثمن مشروط في العقد، فلا يصح سلمًا عند أحد من الأئمة الأربعة. وقد يقال: إن حصة من الثمن مدفوعة إلى البائع عند العقد، ولكن ذلك لا يجدي نفعًا في تصحيح هذا التعامل، أما أولًا، فلأن دفع بعض الثمن لا يكفي لصحة السلم، بل يجب دفع الثمن بكامله كما ذكرنا، وثانيًا: إن ما يوضع لدى إدارة السوق ليس جزءًا من الثمن، ولا يدفع إلى البائع، وإنما هو مبلغ مودع لدى طرف ثالث ليكون ضمانًا على الوفاء بالتزام المشتري.
2-
وبما أن الثمن لا يدفع إلى البائع عند العقد، فالثمن دين على المشتري كما أن المبيع دين على البائع، فصار هذا بيع الكالئ بالكالئ، وهو ممنوع بنص الحديث فيما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) .
وقد يقال: إن إدارة السوق تضمن أداء الثمن، فبفضل هذا الضمان أصبح الثمن كأنه مدفوع إلى البائع. ولكن هذا التوجيه ليس بصحيح، لأن ما يشترط لصحة السلم هو أن يقع دفع الثمن فعلًا، لا أن يكون مضمونًا أو موثقًا من قبل إحدى الجهات، لأن ضمان الطرف الثالث لا يخرج الثمن من كونه دينًا، فلا يكون هذا البيع إلَّا بيع دين بدين، وهو لا يجوز.
(1) السراج المنير، للعزيزي: 4/372.
3-
إن من الشرائط التي اتفق عليها جميع الفقهاء لصحة السلم أن تكون السلعة المسلم فيها موصوفة بصفات دقيقة، فلو كانت المواصفات مجهولة أو مترددة مفضية إلى النزاع، فإنه لا يصح السلم عند أحد من الفقهاء.
وإن عقود المستقبليات، وإن كانت مشتملة على المواصفات الدقيقة ببيان الدرجات، ولكن الذي يقع فعلًا، أن البائع ربما يبيّن درجات مختلفة في العقد الواحد، ويكون الخيار بيد البائع في تسليم ما شاء من هذه الدرجات. جاء في دائرة المعارف البريطانية:
(Futures Market، on the other، hand، generally permits trading in a number of grades of the commodity to protect hedger seellers from being (cornered) by speculators buyers who might otherwise insist on delivery of a particular grade whose stocks are smalle. since a number of alternative grades can be tendered، the futures market is not suitable for the acquisition of the physical commodity. For this reason physical delivery of the commodities in fulfillment of the futures contract generally does not take place، and the contract is usually settled between buyers and sellers by paying the difference between the buying and selling price) .
إن سوق المستقبليات في جانب آخر، تسمح بالتجارة في عدة درجات من السلع لوقاية البائع الذي يريد تأمين ربحه من أن يتغلب عليه المشترون المخاطرون في مطالبته بتسليم درجة مخصوصة من السلعة توجد ذخائرها بقلة. وبما أنه يجوز أن البائع في السوق عدة درجات متبادلة، فإن سوق المستقبليات لاتناسب للحصول على السلع الحقيقية. وبهذا السبب، فإن الوفاء بالتزام العقود المستقبلية لايقع بالتسليم الفعلي للسلع عمومًا، بل إن العقد يصفى فيما بين البائع والمشتري في النهاية على أساس دفع الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء (1) .
فتبين بهذا أن البائع يكون له الخيار في تسليم إحدى الدرجات التي عرضها عند العقد على سبيل التبادل، وإن هذه جهالة للوصف يضطر بها المشتري في نهاية العقد إلى أن يقبل التسليم، وإن مثل هذه الجهالة تفسد كذلك عقد البيع، فضلًا عن السلم.
(1) Britannica، Macropaedia، 1988، v. 23 p. 555
4-
إن المقرر في عقود المستقبليات أن تسليم السلعة إلى المشتري لا يقع عمومًا، بل يكون الخيار بيد المشتري الأخير إن شاء طالب بتسليم السلعة وإن شاء باعها على البائع مرة أخرى، ويقبل التصفية على أساس دفع الفرق بين سعري البيع والشراء، وإن هذا الأمر مشروط في العقد منذ أول الأمر، ولاشك أن مثل هذا الشرط مفسد لعقد السلم، بل بيع المسلم فيه إلى البائع لا يجوز، ولو لم يكن مشروطًا في عقد السلم، جاء في المغني لابن قدامة:
(وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد)(1) .
5-
ولو فرضنا أن العقد الأول قد انعقد سلمًا بعد استيفاء شروط، فإنه لا يجوز لرب السلم، وهو المشتري، أن يبيع المسلم فيه إلى غيره قبل أن يقبضه، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
"أما بيع المسلم فيه قبل قبضه، فلا نعلم في تحريمه خلافًا، وقد ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن)) ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه"(2) .
وقد مرَّ في كيفية التعامل بهذه العقود المستقبلية، أن العقد الواحد تجري عليه البياعات الكثيرة قبل أن يجيئ وقت التسليم، فلا سبيل إلى القول بجوازه.
فهذه وجوه خمسة، كل واحد منها يمنع من تخريج جواز هذه العقود بجعلها سلمًا.
وإذا لم يكن جعل هذا العقد سلمًا، فإنه بيع مضاف إلى تاريخ مستقبل، وقد أجمع الفقهاء على أن البيع لا يقبل التعليق أو الإضافة إلى تاريخ مستقبل. فلا يصح البيع الأول، فكيف بالبيوع التي تتابعت على أساس هذا البيع الأول؟
(1) المغني، لابن قدامة: 4/341.
(2)
المغني، لابن قدامة: 4/341.
وهنك احتمال آخر في التكييف الفقهي لهذا العقد، وهو أن هذا العقد ليس بيعًا، وإنما هو وعد لبيع سلعة مخصوصة في تاريخ معين بسعر معين، والموعود له قد استحق شراء تلك السلعة بسعر متفق عليه في الوعد، ثم إنه يبيع هذا الحق إلى رجل ثالث، وثالث إلى رابع إلى أن يأتي يوم التسليم، ولكن هذا التكييف لا يصلح أن يكون مبررًا شرعيًّا لهذه العملية فيما أرى، وذلك لوجوه:
أمَّا أولًا، فلأن الواقع لا يوافق هذا التكييف، فإن المتعاملين في سوق المستقبليات لا يدخلون في هذه العقود كوعد محض، وإنما يدخلون فيها لإبرام عقد البيع بنفسه، فلا يصح أن يسمى وعدًا.
وأمَّا ثانيًا، فلأن الوعد المحض ليس ملزمًا في القضاء عند جمهور الفقهاء، ومن جعله ملزمًا في القضاء في بعض العقود، فإنه فعل ذلك لضرورة ملحَّة، ولا ضرورة ههنا.
وأمَّا ثالثًا، فلأن هذا الحق الذي حصل للموعود له ليس ممَّا يجوز بيعه أو الاعتياض عنه، لأنه ليس واجبًا حقًّا في القضاء، لأنه حق مجرّد، وبيع الحق المجرَّد مما ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جوازه إلَّا بشروط، وهي منتفية في هذا العقد.
وقد يقال: إذا كانت العقود المستقبليات لا تجوز شرعًا، فهل هناك من بديل لهذه المعاملة يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية؟
وجوابي عن هذا السؤال، أن البديل إنما يبحث عنه فيما إذا كان الغرض المنشود صحيحًا، فيبحث عن البديل للحصول على ذلك الغرض بطريق مشروع.
أما عقود المستقبليات، فلم يظهر لها غرض مشروع يحتاج إلى طريق شرعي لإنجازه، والواقع إن ما يقع في سوق المستقبليات لا يقصد به تجارة حقيقية، وإنما المقصود هو المخاطرة في الأرباح التي هي بالقمار أشبه منها بالبيع.
وقد ذكرنا أن المتعاملين في سوق المستقبليات نوعان: الأول هم المخاطرون (Speculators) الذين لا يقصدون شراء السلع أو بيعها، أو تسليمها وتسلُّمها، وإنما يقصدون الحصول على فرق سعري البيع والشراء فحسب، وظاهر أنه غرض غير مشروع، لأنه استرباح بدون التجارة الحقيقية، وربح لما لم يضمنه الإنسان، وهو حرام بالنص الصريح.
والنوع الثاني: هم الذين يريدون تأمين ربحهم (Hedging) على ما اشتروه في السوق الحقيقية، فيدخلون في سعر المستقبليات تجنبًا عن الخسائر المحتملة بتقلبات الأسعار، كما وصفنا من قبل. ولكن مثل هذا التأمين إنما يحتاج إليه فيما يريدون احتكاره لمدة طويلة. فإنهم لو باعوا سلعهم بعد ما اشتروها ببضعة أيام، فإنه لا حاجة إلى تأمين الربح (Hedging) حينئذٍ، ولكنهم إنما يلجأون إلى دخول المستقبليات حينما يريدون احتكار السلع إلى مدة ليزيد ربحهم، ولكنهم في الوقت نفسه يخافون من التقلب المعاكس للأسعار، فيريدون أن يعقدوا المستقبليات للوقاية عن الخسائر المحتملة بسبب هذا التقلب المعاكس.
يقول جيرالد كولد: "إن اشترى تاجر عشرة آلاف كيس من الذرة من أحد الفلاحين، واستطاع أن يبيعها فورًا بسعر معين، مثل أن يشحن في مدة أسبوع مثلًا، فمثل هذا التاجر لا يحتاج إلى تأمين الربح (بدخول المستقبليات) ، لأنه قد نقل خطر انخفاض السعر إلى مشتريه فور ما باع السلعة منه.
ولكن التاجر ربما لا يستطيع أن يبيع الذرة فور ما استلمه بل يريد أن يمسكها معه إلى مدة يعتدّ بها
…
وإن هذه الكمية التي أمسكها معه تحتمل خطر الخسران بسبب انخفاض السعر في وقت البيع، وتجنبًا عن هذا الاحتمال، يدخل هذا التاجر في عقد المستقبليات حفاظًا على الربح الذي يريد أن يحصل عليه" (1) .
فظهر بهذا أن عقود المستقبليات إنما يحتاج إليها التجار لإمساك المنتجات عندهم لمدة يعتدّ بها، وذلك إنما يكون في غالب الأحيان لغرض الاحتكار، وهذا غرض غير مشروع، فلما لم يكن للدخول في المستقبليات غرض مشروع يعتدّ به، فلا حاجة بنا إلى البحث عن البدائل المشروعة للمستقبليات، ولئن قامت هناك حاجة حقيقية للدخول في عقد يتأخر فيه تسليم المبيع، فالطريق المشرع له هو السلم، ويمكن أن يعقد بشروطه المعروفة في كتب الفقه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
القاضي محمَّد تقي العثماني
(1) Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading. P. . 165،166