المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

‌أثر الاستصناع

في تنشيط الحركة الصناعية

إعداد

الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

عضو مجمع الفقه الاسلامي بجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

عرف الفقه الإسلامي بمجموعة مذاهبه أنواعًا من العقود المرنة ذات الطابع اللين المستجيب لمقتضيات التطور الاجتماعي للجماعات الإنسانية، من هذه العقود اللينة: عقد الاستصناع والواقع أن عقد الاستصناع ليس عقدًا متفقًا عليه كعقد الرهن مثلًا، بل هو من العقود المختلف فيها بين المذاهب الفقهية؛ فمن مبيح ومن مانع، ومن مفصل.. بين هذا وذاك.. بشروط. ومع ذلك فلقد كان المذهب الحنفي – وهي شهادة حق – أوسع المذاهب المحتضنة لهذا العقد التعاملي الذي إنما أجازه من أجازه من الفقهاء استحسانًا لشدة حاجة الناس إليه وللتعامل به سلفًا وخلفًا حتى أصبح ذلك من المسلمات.

هذا العقد صار له اليوم في عالم المعاملات المالية – صار له دور بارز وأثر فعال في تنشيط الحركة الصناعية الجبارة في هذا العصر، عصر الآلة، فلماذا لا ندرس هذا المحور درسًا متأنيًا مستوعبًا، لنهتبل فرصة اعتراف الفقه الإسلامي به بشروطه المعتبرة فنفيد منه أفرادًا وجماعات في مضمار الطيران والبحار والمعامل والآلات والبخار والكهرباء؟!!

بل ولماذا نستجدي دائمًا من الآخرين الملاليم مع الذل، ونحن لدينا الكنوز المترعة مع العز؟! لهذا كله أشرعت اليراع وتوفرت على هذا المحور النفاع ورأيته أجدى المحاور وأحراها بالبحث والتقصي، فالعصر لا يريد منا أن نكرر ما قاله الأولون، بل أن نفهمه ونهضمه ونزيد عليه، ونستخرج منه ومنا شرابًا طيبًا مباركًا فيه سائغًا للشاربين وقدمت هذا البحث المتواضع لمجمعنا الفقهي الإسلامي العتيد في دورته السابعة الميمونة، وأقمته على مدخل ومقصد وخاتمة سائلًا الله تعالى أن يجعل له القبول وأن يسدد خطانا جميعًا لما يحب ويرضى والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ص: 940

المدخل إلى البحث

تعريف عام بعقد الاستصناع

الاستصناع هو (عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل)(1) .

جاء في شرح المجلة للشيخ خالد الأتاسي ما نصه في شرح المادة 388 منها في ترجيح هذا الحد؛ [والصحيح هو القول الأخير – أي المذكور آنفًا – لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل] .

ثم قال في الاستدلال لمشروعيته، [وهو جائز استحسانًا، والقياس يقتضي عدم الجواز لأنه بيع المعدوم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم، وهذا ليس بسلم، لأنه لم يضرب له أجل، وجه الاستحسان الإجماع الثابت بالتعامل، فإن الناس في سائر الأمصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير، والقياس يترك بمثله]، ثم قال:(ودليله الإجماع العملي، وهو قاض على القياس)(2) .

فعقد الاستصناع يشمله بالمنع عموم النص المانع، وإن لم يكن واردًا فيه خصيصًا، ولكن الاستصناع عقد قد تعارفه جميع الناس في كل البلاد لاحتياجهم إلى طريقته، فلذلك أقر الاجتهاد عقد الاستصناع للعرف الجاري فيه، واعتبر هذا العرف مخصصًا لعموم النص العام المانع، فكأنما ورد النص باستثناء الاستصناع ضمنًا كما استثنى السلم صراحة، وبقي العمل بالنص في غير ذلك من أنواع بيع المعدوم، وقد نقل انعقاد الإجماع على صحة الاستصناع، وهذا يقال له في عرف الفقهاء واصطلاحهم:(العرف المقارن العام) وهو في الاجتهاد الحنفي مخصص للنص (3) .

(1) انظر شرح المجلة، للشيخ خالد الأتاسي: 2/400.

(2)

انظر شرح المجلة، للشيخ خالد الأتاسي: 2/400 وما بعدها.

(3)

انظر المدخل الفقهي العام: 1/889، ف 518/أ، للأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء حفظه الله، وانظر (العرف والعادة عند الفقهاء) ، لأستاذنا الجليل أحمد فهمي أبو سنة، وانظر كتابنا (نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي) .

ص: 941

وأبرز شروطه: بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته بما ينفي الجهالة المفضية للمنازعة، وأن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس، واشترط الإمام أبو حنيفة أن لا يكون فيه أجل وإلا انقلب سلمًا، وقال الصاحبان ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال حدد فيه أجل أم لا، لأن العادة جارية بتجديد الأجل في الاستصناع، وقولهما هو الأولى بالأخذ لتمشيه مع الحياة العملية (1) .

وصفته؛ أنه عقد غير لازم قبل الصنع؛ وبعد الفراغ من الصنع، ولكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه، قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع، فإذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع، فقد سقط خياره لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه، وحينئذ إذا رآه المستصنع فله الخيار؛ إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وفسخ العقد، عند الإمامين أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئًا لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع فلا خيار له.

وقال الإمام أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع المصنوع ولا خيار له إذا جاء موافقًا للطلب والشروط، لأنه مبيع، بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية لرفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقًا لطلب المستصنع فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة، قلت؛ والقول برأي أبي يوسف أجدر بالترجيح في هذا العصر للحاجة إلى تثبيت العقود وعدم خلخلتها واهتزازها في عصر فسدت فيه الذمم، هذا حكم الاستصناع في حق المستصنع، وأما حكمه في حق الصانع فثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع ورضي به ولا خيار له وهذا في ظاهر الرواية (2) وبعد؛ فيجوز عدم وجود المعقود عليه في بيع الاستصناع في رأي بعض الحنفية (3) .

(1) انظر البدائع: 5/3، 210؛ وفتح القدير: 5/350 وما بعدها؛ ورد المحتار: 4/223؛ والمبسوط: 12/121؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 4/243 وما بعدها، الطبعة الأولى.

(2)

انظر المبسوط: 12/139 وما بعدها؛ وشرح المجلة للأتاسي: 2/400 وما بعدها.

(3)

راجع الفقه الإسلامي وأدتله: 4/243، وما بعدها؛ وشرح المجلة للأتاسي الصفحة ذاتها.

ص: 942

المقصد من البحث:

المبحث الأول

المعضلات الفقهية في عقد الاستصناع

1 -

المعضلة الأولى؛ مدى اللزوم في عقد الاستصناع:

الاستصناع كان يعتبر في أصل المذهب الحنفي عقدًا غير لازم، فأصبح بمقتضى نصوص المجلة عقدًا لازمًا، وعلى هذا فيجوز في الاستصناع لكل من الطرفين فسخه في أصل المذهب بلا خلاف ما دام الشيء المستصنع لم يصنع بعد، أما بعد صنعه وإحضاره فيكون للمستصنع حقًّا في الفسخ من قبيل خيار الرؤية على الرأي الراجح في المذهب، ولكن المجلة أخذت بلزوم العقد في حق الطرفين منذ انعقاده، إلا إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المبينة في العقد، وحينئذ يكون للمستصنع حق الفسخ بمقتضى خيار فوات الوصف المشروط، لا بمقتضى عدم اللزوم في عقد الاستصناع، وذلك بنص المادة 392 من المجلة.

جاء في لائحة الأسباب الموجبة من مقدمة المجلة أنها اختارت قول الإمام أبي يوسف بعدم خيار المستصنع إذا أحضر الصانع المصنوع بعد العمل موافقًا للشروط، وذلك وفقًا لما تقضي به المصلحة الزمنية.

والمنقول في كتب المذهب أن أبا يوسف لا يقول بعدم خيار المستصنع إلا بعد الصنع وإحضار الصانع المصنوع موافقًا للأوصاف المشروطة، أما قبل الفراغ من صنعه أو بعد الفراغ قبل إحضاره فلا خلاف في أن المستصنع مخير (1) ، لكن نص المادة 392 من المجلة جاء صريحًا في أنه بعد انعقاد الاستصناع لا خيار لأحد من الطرفين إلا إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المشروطة، فأفاد إطلاق نصها اللزوم بحق الطرفين قبل الصنع بعد انعقاد العقد، وهو ليس قولًا لأحد في المذهب الحنفي، والذي رجحه الأستاذ الجليل الزرقاء في كتابه القيم المدخل الفقهي ورمز له بقوله:(الظاهر) وهو أن المجلة اتخذت نظرية الإمام أبي يوسف أساسًا وتوسعت فيه بالتعديل في بعض نواحيها بحسب المصلحة الزمنية، وقد اقترنت بالإرادة السلطانية فأصبحت قانونًا من ولي الأمر، فالعبرة لنصها لا للنصوص التي استُمِدَّت منها (2) .

والذي يتوجه اليوم ترجيح قول الإمام أبي يوسف أولًا، ثم الوصول إلى ترجيح رأي المجلة ثانيًا بالإلزام في حق الطرفين حفظًا لحقوق الناس من الضياع.

(1) انظر البدائع ورد المحتار في مبحث الاستصناع؛ والمدخل الفقهي العام: 1/456، ف 202 وحاشيتها، للأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء.

(2)

انظر المدخل الفقهي: 1/456، الحاشية.

ص: 943

2-

المعضلة الثانية، الشرط الجزائي في عقد الاستصناع:

كان الاجتهاد الحنفي الذي جاء بنظرية الفساد من الاجتهادات التي ضيقت من حرية سلطات الإرادة في الشروط العقدية، وإن كان يعد متوسطًا بالنسبة إلى غيره، فكان الشرط الذي لا يجوز اشتراطه في العقد يعد مفسدًا للعقد. ولما كانت هذه الشروط كثيرة أصبحت حوادث الفساد في العقود كثيرة كذلك (1) .

وفي أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أخيرًا أساليب العقود في التجارة الداخلية والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة كالحق المسمى بحق الابتكار أو الحق الأدنى، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها أو التنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها. واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء مع المعامل والمصانع، وكذا عقود التعهد بتقديم الأرزاق وغيرها إلى الهيئات الاعتبارية، مما سمي (عقود التوريد) وكل ذلك يعتمد المشارطات في شتى صورها، وازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية حتى أصبح تأخر أحد المتعاقدين، أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرًّا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما كان قبل، ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي، لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه، ولا يجبر ضرر التعطل أو الخسارة الذي يلحقه جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونًا منه أو امتناعًا.

وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الآخر الذي يتأخر في تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح علماء القانون الوضعي الحديث (الشرط الجزائي) وهو يتخرج على مذهب القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار، وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال:(قال رجل لكريه: أرحل بركابك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح، (من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه)(2) ، وابن شبرمة قال في حديث جابر بن عبد الله في قصة البعير (البيع جائز والشرط جائز)(3) فهذا وأمثاله يدل دلالة قاطعة على أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود تعويضًا عن ضرر محقق هو شرط صحيح معتبر يضاف إليه ما لم يكن هنالك عذر شرعي في الإخلال بالالتزام به.

وقد تأيد ذلك بقرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394هـ.

(1) انظر المدخل الفقهي: 1/713، ف 386 وما بعدها.

(2)

أعلام الموقعين، طبعة المنيرية: 3/339؛ والمدخل الفقهي، للأستاذ الجليل الزرقاء: 1/343، وف 386 وما بعدها، وانظر صحيح البخاري مع فتح الباري: 5/262.

(3)

أخرجه الطبراني في الأوسط.

ص: 944

المبحث الثاني

مدى أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية

أدى الاستصناع في العُصُر الخوالي وظيفته في الحياة العملية، فأفاد كلا من الصانع والمستصنع والصنعة والفرد والجماعة، ثم تطورت الحياة الاجتماعية في العصور الحديثة فانتشر الاستصناع انتشارًا بين الناس واسعًا، فشمل صناعات متطورة ومهمة في حياة الناس اليوم، كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات والمعامل، فأدى إلى تنشيط الحركة الصناعية وأسهم في سعادة الفرد والمجتمع.

والشيء الملفت للنظر ما وصل إليه الاستصناع في هذه الأيام من بناء المساكن الحديثة وغيرها من المباني والمؤسسات.

وإني أستطيع أن أضرب عددًا من الأمثلة على هذا الأثر ومداه في تنشيط الحركة الصناعية في العصور الحديثة، وذلكم في كل من عقد التوريد وعقد المقاولة، ثم في التمويل للمشاريع الكبرى، وبيع الدور السكنية على الخريطة.

1-

فأما عقد المقاولة؛ فهو عقد عرفه علماء القانون، وليس هو في الواقع عقد الاستصناع، ولا يجوز الخلط بينهما، ولو أن بينهما نسبًا ووليجة، لكن عقد المقاولة يمكن التصرف فيه ببعض التحوير الفقهي، فيصبح حينئذ عقد استصناع شرعيًّا لا غبار عليه، وهو يتم فيه عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامة معينة عند التأخير، فالتغريم كما مر أمر جائز بالشرط المسمى بالشرط الجزائي الذي أقره الاجتهاد الحنبلي من الفقه الإسلامي كما مر آنفًا.

2-

وكذلك عقد التوريد؛ فهو غير عقد الاستصناع بل هو تعهد والتزام من إنسان يجلب أشياء لإنسان آخر أو لجهة أخرى، فهذا هو فحواه، ومع ذلك فإنه عقد يمكن أن يبتني على عقد الاستصناع بوجه من الوجوه.

3-

وكذلك التمويل للمشاريع الكبرى في هذا العصر يمكن أن يبتني على عقد الاستصناع في كثير من الوجوه، كل ذلك بشرط وضوح التعاقد في كل هذه الأمور مع بيان شروطه، وأوصافه بيانًا وافيًا كافيًا مزيلًا لكل جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وذلك كتمويل المعامل الكبرى، والصناعات الثقيلة كالطائرات والسيارات وما شاكل ذلك.

4-

ومن التطبيقات الجديدة على عقد الاستصناع بيع الدور السكنية وما شاكلها على الخريطة، ضمن أوصاف محددة، فهذا الأمر لا يصح إلا بتخريجه على عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحًا إذا ذكرت في شروط العقد كل المواصفات التي تمنع الجهالة المفضية إلى النزاع وتزيلها، وأصبح اليوم من السهل الميسور بيان كل ذلك بشكل مكتوب واضح متفق عليه مع بيان تسديد الثمر وآماده، ومدة التسليم بشكل تقريبي مستعجل، مع توثيق ذلك كله (1) .

(1) قلت: ولقد انعقدت في الخرطوم العاصمة السودانية في تشرين الثاني عام 1991م ندوة دولية لشؤون الإسكان من المتخصصين بالاقتصاد المعاصر، وبحثت فيها الموضوعات المهمة من مسائل الإسكان ولا سيما على ضوء عقد الاستصناع وغيره من العقود الفقهية الصحيحة وخرج المشاركون بالندوة بتوصيات مهمة جدًّا في هذا المضمار، وكان لعقد الاستصناع دور بارز في هذه الندوة التي أسهمت بتطويره من الناحية الفنية، وكان كاتب السطور أحد المشاركين في هذه الندوة الدولية مع لفيف من الزملاء العلماء الأجلاء من شتى بلاد العالم الإسلامي.

ص: 945

خاتمة البحث

والآن أضع القلم بعد أن تحدثت عن عقد الاستصناع وأثره في تنشيط الحركة الصناعية المعاصرة، بحيث بات اليوم من الضروري توسيع بحث الاستصناع وتطويره من ناحية الصياغة الفقهية الحديثة، وذلك بالأخذ بكل الاجتهادات الفقهية الإسلامية ضمن المذاهب الفقهية الكبرى لفقهاء الأمصار، دون تحرج من ذلك، فإن المعاملات المالية اليوم لا يتسع لها مذهب واحد من مذاهب الشريعة، وهي دائمًا في توسع وازدياد وتطور، والرأي أن نخضعها للفقه الإسلامي بمذاهبه كلها، فنجد فيها جميعًا العلاجات العجيبة لمشكلات التعامل المالي الحديث، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو ينبوع الشريعة، والمذاهب الفقهية بجداولها، وهو بعث بها كلها فكأنه بعث بشرائع متعددة، وما هي إلا شريعة واحدة ذات كنوز متعددة متنوعة.

وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:

[هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل](1) .

الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

(1) أعلام الموقعين، طبعة المنيرية: 3/؟؟؟.

ص: 946

مصادر البحث ومراجعه

1-

الأتاسي (خالد) ، شرح المجلة، طبعة حمد.

2-

الكاساني (علاء الدين) ، البدائع في ترتيب الشرائع.

3-

ابن الهمام (كمال الدين) ، فتح القدير شرح الهداية.

4-

ابن عابدين (محمد أمين) ، رد المحتار على الدر، طبعة بولاق سنة 1272هـ مع التكملة.

5-

السرخسي (شمس الأئمة) ، المبسوط شرح الكافي.

6-

ابن القيم (الزرعي) أعلام الموقعين عن رب العالمين، طبعة المنيرية.

7-

العسقلاني (الحافظ أحمد ابن حجر) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري.

8-

الزرقاء (مصطفى أحمد) ، المدخل الفقهي العام، الطبعة الثانية، مطبعة الجامعة السورية.

9-

الزحيلي (وهبة) ، الفقه الإسلامي وأدلته، مطبعة دار الفكر، الطبعة الأولى.

10-

قدري باشا (محمد) ، مرشد الحيران إلى أحوال الإنسان.

11-

أبو سنة (أحمد فهمي) العرف والعادة عند الفقهاء.

12-

الفرفور (محمد عبد اللطيف) ، نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، طبعة دار دمشق.

ص: 947