المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

‌الحقوق الدولية في الإسلام

إعداد

فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

عضو مجمع الفقه الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

أحكام الحرب والأسرى في الإسلام

بين الرحمة والمصلحة

مقدمة:

الإسلام دين واقعي، بالمعنى الإيجابي للواقعية، ذلك أنها قد تعني التسليم الكامل للواقع، والرضوخ لمقتضياته دونما فاعلية، وهذا معنى سلبي.

وقد تعني الاعتراف بالواقع، وأخذه بعين الاعتبار، مع الطموح للارتفاع به إلى المثل الأعلى، وهو ما كنا نعنيه عندما أطلقنا هذه الصفة على الإسلام.

بل يمكننا أن ندعي ـ بكل اطمئنان ـ أن هذه الصفة هي أعم الصفات التي يتصف بها الإسلام، وربما كانت باقي الصفات مظاهر لها: كالشمولية والإيجابية، والخلود، والمرونة، والترابط، وغير ذلك.

بل هي تعبير آخر عن فطرية الإسلام بمعنى أنه جاء منسجمًا ـ تمامًا ـ مع إمكانات الفطرة وأهدافها، عاملًا على إثارة دفائنها وطاقاتها، وهدايتها ـ على أفضل سبيل ـ لأفضل الأهداف الممكنة.

ولسنا نحاول ـ هنا ـ شرح أبعاد هذه الصفة، بقدر ما نريد أن ننفذ من خلالها إلى تجلي هذه الصفة، في التخطيط التشريعي الإسلامي للحياة، فأنت تجد هذه الصفة في كل نظام، سواء في المجال الحقوقي، أو الاقتصادي أو المجال السياسي، أو المجال المعرفي، أو أي مجال آخر.

ص: 1648

ومن مظاهر الواقعية والمرونة الإسلامية؛ أنها عالجت الجانب المتأثر بمتغيرات الحياة علاجًا مرنًا إلى حد كبير.

(ومن الجدير بالذكر أننا نفرق ـ تمامًا ـ بين المرونة والميوعة، فإن هذه ـ أي الميوعة ـ تعني تقريبًا عدم وجود أي نظام يوضح المعالم. في حين أن المرونة تعني وجود نظم مركزية وأضواء هادية. إلا أن هذه النظم لها القابلية المناسبة على الامتداد والتقلص، بمقتضى مقتضيات الواقع والمثل التي يجب أن يسمو إليها) .

ونحن نعتبر أن كل الموارد التي يتم تسليم الأمر فيها إلى (ولي الأمر الشرعي) إنما هي من هذا القبيل. فعندما يتم إيكال أمر تنظيم التوازن الاقتصادي إلى وليّ الأمر، وعندما تتم إيكال بعض العقوبات إلى ولاة الأمر، وعندما يوكل أمر المباحثات ـ عمومًا ـ إلى ولي الأمر لينطلق فيها من منطلق المصالح الإسلامية العليا؛ فإن ذلك يقوم ـ أساسًا ـ على هذا المبنى الواقعي.

وإذا أردنا أن نركز على مثال هو من صميم موضوعنا، أمكننا ملاحظة موضوع (الرق وموقف الإسلام منه) لنكتشف هذه المرونة وضروراتها، بشكل واضح، وسنجد في هذا أن الإسلام راعى التوازن المطلوب بين (الرحمة) وهي النزعة الإنسانية الأصلية، و (المصلحة) وهي ما يحقق المثل التي يطمح إليها الإسلام، ويحافظ على عنصر تحقيقها، من قبيل السلطة الإسلامية، ووجود الأمة الإسلامية، وهيبة القانون الإسلامي.

ص: 1649

الموقف من قضية الرق:

كان الاستعباد سنة عالمية تعمل بها البشرية كلها، وتقرها كل المبادئ والأديان السائدة، بما فيها المسيحية واليهودية.

وكان العبيد يشكلون العصب الحساس للمجتمع، وطبقة لها نفوذ لا بأس به في المجالات الحيوية، وكانت الطرق التي يتكون منها أفراد هذه الطبقة كثيرة، أهمها ما يلي:

1 ـ استرقاق العدو المحارب ومن ثم الأولاد.

2 ـ استرقاق الولي الظالم لمن هم تحت ولايته، ومثله استرقاق كل متغلب على من هم تحت سيطرته.

3 ـ تبعية الطفل للأم الرقيقة ولو كان الأب حرًّا.

4 ـ الهروب من الجيش والامتناع عن دفع الضرائب.

5 ـ الأشخاص الذين يعملون ضد الدولة، ويهربون إلى دولة أخرى فتسلمهم لدولهم.

6 ـ ارتكاب جرائم القتل.

7 ـ الغش في المعاملة.

8 ـ الفقر الذي يدعو الإنسان لبيع نفسه.

هذه بعض أسباب الرق:

وجاء الإسلام، ونظر إلى الأمر نظرة واقعية غير متسرعة، واستهدف أن يحقق الحرية ويلغي نظام الرق ـ كما يبدو من تصرفاته طبعًا - مع عدم الإخلال بالنظام الاجتماعي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعبيد ـ أولًا ـ وعدم الإخلال بالقانون العسكري الذي كان يقوم على استرقاق الطرف الآخر ـ ثانيًا ـ وهكذا نظر للأمر نظرة واقعية.

ص: 1650

أما الأمور التي اتبعها الإسلام من أجل المعالجة الواقعية لهذه الظاهرة فهي:

أولًا: ـ انفتاح طريق التكامل المعنوي للجميع على حد سواء:

وهذه الفكرة إسلامية واضحة، وضحتها الآية القرآنية الشريفة:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .

فالتقوى هي تقدير السمو والمنزلة في الإسلام، والعمل الصالح يؤثر في رفع درجات الإنسان، أيًّا كان لونه ومقامه وجنسه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] .

ولقد رأينا أن المجتمع الإسلامي قدر أشخاصًا كانوا عبيدًا، وجعلهم قادة، واقتدى بالكثير من سلوكهم وحكمهم. وبتعبير مختصر، فقد أمات الإسلام تلك النظرة السخيفة إلى العبد كمخلوق حقير، وكحيوان لا أكثر، بعد أن كانت شائعة بين الناس، وركز على أن لا فضل لأبيضكم على أسودكم، كما لا فضل لعربي على عجمي.

ثانيًا ـ الدعوة إلى جعل الخول كالإخوان، والمعاملة الحسنة:

فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:

((إخوانكم خولكم)) (1)

وهو تعبير جميل عن الأخوة الإسلامية، وأسلوب المعاملة التي يجب أن يتبعها الناس تجاه العبيد، ولا يترفعوا عليهم، وقد جاءت بعض الروايات التي تبين حسن الاستيعاب من العبد، وأن المال المعطى ـ في قبال ذلك ـ يجب أن يبقى في ملكه.

ففي الخبر عن الصادق (ع) كما رواه الصدوق عن إسحاق بن عمار:

" قلت لأبي عبد الله (ع) : ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر، فيقول: حللني من ضربي إياك من كل ما كان مني إليك. . . ثم إن المولى بعد أن أصاب الدراهم التي أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد فأخذها المولى، أحلال هي؟ فقال (ع) : لا، فقلت له: أليس العبد وماله لمولاه؟ فقال (ع) : ليس هذا ذاك، ثم قال (ع) : قل له فليردها عليه، فإنه لا يحل له، فإنه افتدى بها نفسه من العبد مخافة العقوبة والقصاص يوم القيامة". (2)

والكتب التاريخية طافحة بما كان يعامل به القادة عبيدهم، فقد روى الكليني في (الكافي) عن رجل من أهل بلخ قال:(كنت مع الرضا (ع) في سفره إلى خرسان فدعا يومًا بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت له: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال:"مه إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال") . (3) .

وقال نادر الخادم: كان أبو الحسن (ع) إذا أكل أحدنا لا يستخدمه حتى يفرغ من طعامه. (4) .

(1) نهج الفصاحة: ص 20، ح 113

(2)

وسائل الشيعة: 13/ 35، 36

(3)

البحار: 49/ 101

(4)

البحار: 49/ 102

ص: 1651

ثالثًا ـ إغلاق كل المنافذ إلا منفذ الحرب بشروط معينة:

فقد رأينا أن العبيد كانوا يكثرون عن طرق عديدة، ولكن الإسلام أغلق كل الطرق إلا طريق الحرب. فالأسير في الغنيمة يقبل تطبيق أحد الأحكام التالية: إما العفو، وإما الإطلاق بفدية، وإما الاسترقاق، ولا معنى للاعتراض على الاسترقاق إذا عرفنا الحقائق التالية:

1 ـ إن ولي الأمر مسؤول عن تطبيق أفضل الحالات على الأسير، وأرفقها بالمصلحة العامة، كما صرح بذلك الفاضل والشهيد الثاني وغيرهما.

2 ـ إن الحرب في سبيل حمل الدعوة إلى بلاد الكفر لم يسمح بها الإسلام سماحًا عامًّا، وإنما سمح بها في ظرف وجود قائد عادل واشترط البعض العصمة. (1) .

3 ـ إن العدو ـ آنذاك ـ كان يتبع هذه الطريقة نفسها مع المسلمين فلا اعتراض أو نقد في معاملته بالمثل.

4 ـ إن البديل عن الاسترقاق ـ في حالة لزومه ـ ليس إلا القتل أو السجن. والأول لا نتصور من يفضله على حياة الرق على الشكل الإسلامي، كما لا نتصور أن الإسلام يهدر دم الإنسان هكذا بمجرد وجود بارقة من الأمل في نجاته.

أما السجين فيعني إهدار الكثير من الطاقات التي يتمتع بها الأسرى، بل وصرف الكثير من الأموال في سبيل الحفاظ على مثل هذه الطاقات المهدورة.

أما والمجتمع حاضر لأن يتكفل بهذه المهمة فإن الاسترقاق سيبقى هو الطريقة الأنجح في علاج هؤلاء، لضمان مراقبتهم أولًا، وللاستفادة من طاقاتهم الاجتماعية ثانيًا، ولكي يختلطوا مع المجتمع المسلم، فيتشبعوا شيئًا فشيئًا بالتعاليم الإسلامية، مما يمهد لهم طريق الهداية، وعلى أي حال فقد كانت هناك ضرورة لهذا المنبع ولذلك المقدار من العبيد.

(1) اقتصادنا: ص 275، 276

ص: 1652

رابعًا ـ التصرف الواسع للعبيد والتحرير السريع لهم:

وفي قبال هذا الباب فتح الإسلام الأبواب على مصراعيها للتحرير.

التحرير المستحب:

وقد جعل الإسلام هذا من أعظم المستحبات، فتحرير رقبة يعني رفعًا للعقبة في طريق الجنة، وما أكثر الروايات الواردة في هذا السبيل، ونحن نذكر بعضها:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((من أعتق مسلمًا أعتق الله العزيز الجبار بكل عضو منه عضوًا من النار)) (1) .

وفي الخبر الصحيح الذي رواه الشيخ عن الإمام الصادق (ع) أنه قال في الرجل يعتق المملوك:

"يعتق الله عز وجل بكل عضو منه عضوًا من النار". (2) .

وفي خبر آخر عن الصادق (ع) :

"ولقد أعتق علي (ع) ألف مملوك لوجه الله عز وجل دبرت فيهم يداه". (3)

والأخبار كثيرة في شراء العبيد وإعتاقهم.

وقد جعلت بعض الروايات لتأكد استحباب العتق أوقاتًا خاصة.

ففي الخبر الصحيح عن الصادق (ع) : (يستحب للرجل أن يتقرب إلى الله عشية عرفة ويوم عرفة بالعتق والصدقة) . (4)

كما يستحب عتق العبد إن خدم سبع سنين، ويستحب إعطاؤه ما يكتسب به. (5)

التحرير الواجب:

فلم يكتف الإسلام بالدعوة إلى تحرير العبيد، وخصوصًا الذين اعتنقوا المبدأ الإسلامي، وأصبحوا من المؤمنين.

فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((من أعتق رقبة مؤمنة كان له بكل عضو فكاك عضو منه من النار)) . (6)

لم يكتف الإسلام بذلك، وإنما أدخل ذلك في صميم النظام، كواجب يترتب على الإنسان أن يقوم به في ظروف خاصة، وهذه بعض المنافذ التي فتحها الإسلام للتحرير، وهي:

1 ـ عتق الكفارة: فقد ورد لزوم تحرير العبد في الموارد التالية: الظهار والإيلاء (أي الحلف على عدم وطء الزوجة الدائمة أبدًا، أو أكثر من أربعة أشهر) ، والإفطار، وخلف النذر، والعهد، واليمين، والجزع المحرم في المصاب، والقتل.

2 ـ عتق المرضى: لحالات الإقعاد، العمى، والجذام، قال الصادق (ع) :"إذا عمي المملوك فقد عتق". (7)

3 ـ عتق الاستيلاد: فإن أم الولد تتحرر بموت المولى ولا يجوز له بيعها.

4 ـ عتق السراية: فلو عتق بعضه سرى العتق إلى الكل.

5 ـ إسلام المملوك في دار الحرب قبل مولاه.

6 ـ عتق التنكيل.

7 ـ العتق لتملك الذكر أحد العمودين أو المحارم من النساء.

8 ـ العتق لتملك الأنثى أحد العمودين.

9 ـ تبعية أشرف الأبوين.

10 ـ عتق التدبير: وهو تعليق عتق بعض عبده أو كله بوفاته.

11 ـ عتق المكاتبة: المشروط والمطلقة.

12 ـ وهناك قوانين أخرى لشراء العبيد وإعتاقهم. فالزكاة يشترى بها الأرقاء وهو قوله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] وغير ذلك.

(1) وسائل الشيعة: 16 /3

(2)

ن. م: ص 3

(3)

ن. م: ص 3

(4)

ن. م: ص 5

(5)

ن. م: ص 36

(6)

ن. م: ص 4

(7)

الكافي: 6/ 189

ص: 1653

التوازن بين الرحمة والمصلحة:

الإسلام دين التوازن الحكيم (1) في مختلف المجالات، ولكننا نستطيع القول ـ كما أسلفنا ـ بأن التوازن بين (الواقع) و (المثال) هو من أشملها جميعًا.

و (الواقع) في موضوعنا يتمثل في توفير كل المظاهر الإنسانية، والحقوق البشرية، من (الكرامة، والحرية، والحياة المستقلة) لا بل يتجاوز ذلك إلى مجالات الإيثار واللطف العميم. إلا أن (المثال) ـ هنا ـ يتطلب تحقيق المصلحة الإسلامية العليا، لكي نضمن للمنطلق الإسلامي وجوده القوي المتكامل الفاعل، على طريق تغيير الحياة الإنسانية كلها إلى حياة عابدة، مخلصة، تعبد ربها لا تشرك به شيئًا، آمنة مطمئنة، ويعني ذلك أن تقتلع كل الأشواك، وتحذف كل العقبات، وتصادر كل الموانع التي تقف عثرة أمام تحقق هذا الهدف الكبير.

وأين يتم التعارض بين هذا الواقع، الذي نعبر عنه فيما يلي بـ (الرحمة) ، وهذا المثال الذي نعبر عنه بـ (المصلحة) ؟

إنه يتم عندما يدفع الجهل، والتعصب، والطاغوت؛ أناسًا لمحاربة النبتة الإسلامية، والمسيرة الصاعدة، للقضاء عليها، ومصادرة الأمل الكبير، ربما دون وعي لما يفعلون، ويحدق الخطر بالوجود، وبالتالي يحدق الخطر بالمثال كله، أمام واقع مرير، جاهل طاغ، فماذا العمل؟

هنا ندعي أن الإسلام ـ رغم اهتمامه الكبير بـ (المصلحة) ـ لم ينس مطلقًا الواقع الإنساني، والحقوق البشرية (الرحمة) ، وإنما حاول ـ بكل ما في وسعه ـ أن يحقق التوازن بينهما، وإن كان الأهم هو المقدم بلا ريب، وهذا هو حكم منطق الوجدان.

والآن:

لنعد إلى أحكام الحرب والأسرى لنجد تطبيق هذا التوازن: التطبيق الذي لم تشهد البشرية له من سابقة، وحتى إنها لم تستطع أن تصل إليه في عصورنا الحاضرة التي تدعي التمدن.

(1) راجع الكتاب (التوازن في الإسلام) للمؤلف، لملاحظة معنى التوازن، وضرورة قيد الحكمة فيه.

ص: 1654

وهذا ما يمكن أن نلحظه في كثير من أحكامه ونصوصه، ونحن نقتطف منها ما يلي كأمثلة فقط على ما نقوله:

1 ـ التعليمات الحربية المسبقة:

فقد كانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم والقادة المسلمين أنهم إذا بعثوا سرية أو كتيبة حربية خصوها بالتعليمات اللازمة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه، وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال:

(سيروا باسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا صبيًّا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرًا إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله عليه)(1) .

وكان أمير المؤمنين علي (ع) يوصي أصحابه إذا صافوا العدو قائلًا:

"عباد الله! اتقوا الله، وغضوا الأبصار، وأخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام؛ ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة، والمبارزة والمنابذة، والمعانقة والمكارمة، وأنيبوا إلى ربكم، واذكروا الله لعكم تفلحون.

إن الله ـ تعالى ـ دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتسعى بكم إلى الخير، الإيمان بالله والجهاد في سبيله، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فسووا صفوفكم كالبنيان، وقدموا الدرّاع، وأخروا الحاسر، وعضوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف، والتووا على أطراف الرماح، فإنه أمرأ للأسنة، وغضوا الأبصار، فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات؛ فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، ولا تميلوا براياتكم، ولا تجعلوها إلا مع شجعانكم، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترًا، ولا تكشفوا عورة، ولا تدخلوا دارًا، ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم، إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول.

رحم الله امرءًا واسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، فيكتسب بذلك اللائمة، ويأتي بدناءة. . ." (2) .

(1) انظر تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: 6/ 139؛ والكافي للكليني: 5/ 27، ومحاسن البرقي: ص 455؛ وكنز العمال: 4/ 233 ـ 304؛ والكافي لأبي الصلاح: ص 36؛ ونيل الأوطار للشوكاني: 8 /72 و74

(2)

الكافي في الفقه، لأبي الصلاح الحلبي، فصل في سيرة الجهاد

ص: 1655

2 ـ الدعوى والتوعية أولًا، وعدم الهجوم المباغت دونما تثبت:

ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بانتظار المجموعات التي يحاربها، فإذا سمع الأذان منها امتنع، وإلا حمل عليها.

وكان يحمل عند صلاة الصبح، ليعرف هل يصلونها أم لا، وإذا حاصر انتظر حتى الصباح. (1)

ـ وقال علي (ع) :

(( ((بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: يا علي! لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام، وايم الله، لأن يهدي الله عز وجل على يديك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)) .)) (2)

ـ وقد روي أن عليًّا (ع) كان يقول في كل موطن يتم فيه لقاء العدو:

"لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل"(3)

وهذا وقد تضافرت الروايات التي تؤكد هذه الحقيقة (4) . وقد جيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الأسرى، وعلم إنهم أسروا قبل الدعوة فأمر بإطلاق سراحهم (5) .

كما أن كتب الفقه كلها ـ تقريبًا ـ تشير إلى ضرورة الدعوة والتوعية والانتظار حتى تتم الحجة، نذكر مثلًا:

ـ قول الحلبي في (الكافي) :

"ولا تبدأ العدو بالحرب بعد الإعذار، حتى يكونوا هم الذين يبدؤون به، لتحق الحجة، ويتقلدوا البغي"(6) .

ـ ويقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :

"ولا يجوز قتال أحد من الكفار، إلا بعد دعائهم إلى الإسلام، وإظهار الشهادتين، والإقرار بالتوحيد والعدل، والتزام جميع شرائع الإسلام، فمتى دُعوا إلى ذلك فلم يجيبوا حل قتالهم، ومتى لم يُدعوا لم يجز قتالهم، والداعي يجب أن يكون الإمام أو من يأمره الإمام". (7)

ـ ويقول الصهرشتي في (إصباح الشريعة) :

"وكيفيته: أن يؤخر لقاء العدو، إلى أن تزول الشمس وتصلى الصلاتان، وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار، والاجتهاد وفي الدعاء إلى الحق، وأن يمسك عن الحرب ـ بعد ذلك ـ حتى يبدأ بها العدو، لتحق الحجة عليه ويتقلد بذلك البغي". (8)

ـ ويقول القاضي الطرابلسي في (المهذب) :

"ومن لم تبلغه الدعوة فلا يجوز له قتاله، إلا بعد الإنذار والتعريف بما تتضمنه الدعوة". (9)

ـ ويقول الرواندي في (فقه القرآن) :

"وإذا قوتل البغاة فلا يبتدؤون بالقتال، إلا بعد أن يُدعوا إلى ما ينكرون من أركان الإسلام"(10) .

ـ ويقول حمزة بن علي الحلبي في (غنيمة النزوع) :

"وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار والاجتهاد في الدعاء إلى الحق"(11) .

ولا نستطيع أن نستقصي الآراء، فالإجماع قائم على ذلك، وهي صفة حميدة تجعل الطرفين على بينة، وتتم الحجة والمنطقية في البين، وعلى هذا الأساس منعوا من التبييت (وهو الهجوم ليلًا) ولما فيه من فزع.

(1) سنن الدارمي: 2/ 217؛ والسنن الكبرى: 9/ 108، ونيل الأوطار: 8/ 69

(2)

وسائل الشيعة: 11/ 30

(3)

الوسائل: 11/ 69

(4)

يراجع مثلًا: مصابيح السنة: 2/ 149؛ ومسند ابن أبي شيبة: 14/ 264، والسنن الكبرى: 8/ 179

(5)

البداية والنهاية: 4/ 315، وكنز العمال: 4/ 271

(6)

الينابيع الفقهية: نقلًا عنه: ص 36

(7)

ن. م: ص 51

(8)

ن. م: ص 71

(9)

ن. م: ص 91

(10)

ن. م: ص 143

(11)

ن. م: ص 159

ص: 1656

3 ـ وسائل الحرب وأساليبها:

ويختار من بين هذه الوسائل والأساليب ما يحقق الغرض، ويتجنب إصابة الأبرياء والضعفاء ـ مهما أمكن ـ.

فقد جاء المنع عن استعمال المواد الكيميائية السامة، إلى حد يتصور معه المرء أنها ممنوعة مطلقًا، أي حتى في حالات الاضطرار، وحينئذ فإذا أضيفت لها معاهدات دولية تمنع منها على أي حال فإن المنع سوف يكون أشد وأقوى.

ـ عن الصادق (ع) عن الباقر (ع) عن علي (ع) :

((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلقى السم في بلاد المشركين)) (1) .

وهكذا نهى الفقهاء عن اللجوء إلى وسائل من قبيل: الغارة، وفتح الماء لإغراق العدو، ما دامت هناك وسائل أخرى:

ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :

"ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه، إلا السم؛ فإنه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السم، ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم كان لهم أن يرموهم بالمنجنيق والنيران، وغير ذلك مما يكون فيه فتح لهم"(2) .

ـ ويقول ابن أبي المجد الحلبي في (إشارة السبق) :

"وكل ما يرجى به فتح يجوز قتال الأعداء به إلا إلقاء السم في ديارهم"(3) .

ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :

"ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل، إلا تغريق المساكن، ورميهم بالنيران، وإلقاء السم في بلادهم؛ فإنه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السم"(4) .

والنصوص في هذا الباب كثيرة:

وربما منعوا ـ على هذا الأساس ـ من التبييت، وهو الغارة الليلية:

ـ يقول ابن البراج:

"وإذا كان المسلمون مستظهرين على المشركين كره تبييتهم ليلًا والإغارة عليهم"(5) .

ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :

"وروى أصحابنا كراهية تبييت العدو حتى يصبح"(6) .

ـ ويقول العلامة الحلبي في القواعد:

"ويكره التبييت والقتال قبل الزوال لغير حاجة"(7) .

وهناك نصوص أخرى تنهى عن مثل هذه الأساليب:

فعن أبي هريرة أنه قال:

((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا فأحرقوهما بالنار. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)) (8) .

بل روي أن إحراق جسد الحيوان غير جائز:

ففي حديث المناهي:

((ونهى ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق شيء من الحيوان بالنار)) (9) .

(1) جامع الأحاديث: 38/ 153، نقلًا عن الكافي؛ والتهذيب: 6/143، والجعفريات: ص 88

(2)

ن. م: ص 51

(3)

ن. م: ص 186

(4)

ن. م: ص 168

(5)

الينابيع الفقهية: ص 143

(6)

ن. م: ص 168

(7)

ن. م ص 247

(8)

صحيح البخاري: 4/ 75؛ والسنن الكبرى: 9/ 71؛ وسنن سعيد بن منصور: 2/ 243

(9)

وسائل الشيعة12/ 220

ص: 1657

ـ وذكر ابن قدامة في (المغني) ما يدل على منع إحراق العدو بالنار بعد النصر، بل وقبل النصر، إن كانت هناك وسيلة أخرى؛ لأنها قد تحرق النساء والأطفال (1) .

ومما منعت منه النصوص، وتابعها الفقهاء؛ مسألة (التخريب) وقد ذكرنا بعض النصوص فيما يخص ذلك:

ـ يقول أبو الصلاح الحلبي في (الكافي) :

"ولا يجوز قتل الشيخ الفاني، إلا أن يكون من أهل الرأي كدريد بن الصمة، ولا المرأة، ولا الصبي، ولا المريض المدنف، ولا الزَمِن، ولا الأعمى، ولا المؤوف العقل، ولا المتبتل في شاهق؛ إلا أن يُقاتِلوا فيحل قتلهم. . ولا يجوز حرق الزرع، ولا قطع شجرة الثمر، ولا قتل البهائم، ولا خراب المنازل، ولا التهتك بالقتلى"(2) .

كل هذا مع الإمكان ـ طبعًا ـ وإذا توقف الفتح على ذلك فللضرورات أحكامها ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.

وكما رأينا، فإن قتل الضعفاء ـ ومنهم النساء ـ منهي عنه، بل حتى لو قاتلن فإنه يمسك عنهن، ما لم يحدث خلل.

فقد روي عن الإمام الصادق قوله في رواية:

((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء الولدان في دار الحرب، إلا أن يقاتلن، وإن قاتلت ـ أيضًا ـ فأمسك عنها ما أمكنك ولم تَخَفْ خللًا)) (3) .

وقد استثنى الفقهاء ـ على خلاف كثير ـ من ذلك:

ـ ما لو أقدمت امرأة على قتل مسلم.

ـ ما لو اشتركن في الحرب وأعن على المسلمين.

وربما أفتى بعض العلماء بعدم جواز القتل مطلقًا، بل حرم المنجنيق لأن فيه ذلك (4) .

ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :

"ولا يجوز قتال النساء، فإن قاتلن المسلمين، وعاون أزواجهن ورجالهن أمسك عنهن، فإن اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ قتلهن، ولم يكن به بأس"(5) .

ـ ويقول العلامة الحلي في (القواعد) :

"لا يجوز قتل المجانين، ولا الصبيان، ولا النساء منهم، وإن أعن إلا مع الحاجة"(6) .

(1) المغني، لابن قدامة: 10 /211

(2)

الينابيع الفقهية: ص 37

(3)

تهذيب الأحكام: 6/ 156

(4)

أحكام الأسرى في الإسلام، مخطوط للعلامة الأحمدي

(5)

الينابيع الفقهية: ص 51

(6)

ن. م: ص 247

ص: 1658

4 ـ أحكام الأسرى وحقوقهم:

وهو باب واسع الأبعاد، إلا أننا نختار منه بعض اللقطات، بما يحقق لنا الغرض من هذا البحث، ونركز على الجوانب التالية:

(أ) الموارد التي يجوز فيها التأسير.

(ب) كيفية الاستئسار.

(ج) إطلاق سراح الأسرى.

(د) حقوق الأسرى.

(أ) الموارد التي يجوز فيها الاستئسار:

ويذكر فيها الفقهاء ـ عادة نوعين من المحاربين: الكافرين، والبغاة.

الكافرون:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 67 ـ 69] .

ويقول تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] .

والآيتان واضحتان في حكم واقعي هو التفريق بين حالتين:

الحالة الأولى: فيما لو لم يتم الإثخان والتمكن في الأرض فإنه تقتضي المصلحة؛ القضاء على كل عنصر يمكنه أن يقلب الموازين لصالح العدو، ولا معنى ـ حينئذ ـ للتأسير، وإذا كانت الآية الكريمة تلوم المسلمين على تأسير بعض الكفار في هذه الحالة فهي تشير إلى المصلحة الآنفة، والتي لا يعدلها رجاء الفدية التي تتوقع بعد الأسر، وهي عرض دنيوي لا قيمة له في قبال النصر.

الحالة الثانية: وهي ما لو تم التمكن، وبدرت بوادر النصر، (حتى قبل انتهاء الحرب) فحينئذ يجوز الأسر بشد الوثاق، لئلا يهربوا. وحينئذ يختلف الفقهاء في موضوع الأسير بعد أسره والحرب قائمة فيرجح بعضهم أن الإمام مخير فيهم بين الفداء أو المن فقط، في حين يجيز بعضهم الآخر له القتل ـ أيضًا ـ إذا رأى المصلحة في ذلك، استنادًا للآيات الآمرة بقتل المشركين. (1) .

والحقيقة؛ أن الأمر في ذلك يتبع الخطر المحدق بالجيش الإسلامي، وليس هناك ما يمنع من قتله إذا كان فيه الخطر على المسلمين.

أما إذا تم الأسر بعد الحرب (فإن الإمام مخير في المن عليه، أو أخذ الفداء، أو الاستفادة من عمله. ولا يجوز ـ في هذه الحالة ـ قتل الأسير)(2) .

وفي الرواية عن الصادق (ع) :

"كان أبي يقول:. . . إذا وضعت الحرب أوزارها، وأثخن أهلها، فكل أسير أُخذ على تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار؛ إن شاء مَنَّ عليهم، وإن شاء فاداهم بأنفسهم، وإن استعبدهم فصاروا عبيد"(3) .

(1) تراجع الكتب التالية:التذكرة: 1/ 425، والمنتهى: ص 927؛ والميزان: 18/ 242؛ومسالك الأفهام: 2/ 335؛ وكنز العرفان: 1 /365؛ وأحكام القرآن، للجصاص: 5/ 524، والتبيان في تفسير القرآن: 1/ 291

(2)

يراجع: المبسوط: 2 /12 ـ 20؛ والتذكرة: 1/ 424؛والنهاية: ص 53؛ والجمل والعقود: 5/ 62؛ والإصباح: ص 73؛ والمهذب: ص 100؛ والسرائر: ص 171؛ وإشارة السبق: ص 187؛ والشرائع: ص 207؛ والمختصر النافع: ص 228؛ والجامع لابن سعيد: ص 236؛ والقواعد: ص 248، واللمعة الدمشقية: ص 274؛ والمسالك: 1/ 152؛ والمنتهى: 2/ 927؛ والتحرير: 1/ 140، والخلاف: 2/ 332؛ والمختلف: 1/ 331؛ والغنية: ص 158، و160؛ وفقه القرآن: ص 131

(3)

تهذيب الأحكام: 6 /143

ص: 1659

البُغاة:

والملاحظ هنا أن الأحكام تختلف ـ تمامًا ـ مع البغاة، باعتبارهم مسلمين خارجين على الإمام، فرغم أنهم يهددون كيان الدولة الإسلامية كله، إلا أن قبولهم (ولو لفظًا) للإسلام بغير الحكم عليهم، وخصوصًا في مجال الأسر. فهؤلاء البغاة لا يمكن قتالهم إلا بشروط:

منها: أن يعتصموا بقلعة وأمثالها، مما لا يتيسر معه تفريقهم، إلا بإرسال قطعات حربية إليهم.

وقد أشار صاحب الجواهر إلى هذا الشرط ـ بعد ذكر بعض النصوص ـ قائلًا: "ولعله لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابنا إدريس وحمزة ـ فيما حكي عنهم ـ: أنه يعتبر في جريان الحكم كونهم في منعة، وكثرة، لا يمكن كفهم، وتفريق جمعهم، إلا بالاتفاق، وتجهيز الجيوش والقتال. فأما إن كانوا نفرًا يسيرًا ـ كالواحد والاثنين والعشرة ـ وكيدهم ضعيف، لم يجر عليهم حكم أهل البغي، وهو المحكي عن الشافعي، مستدلين بأن ابن ملجم لما جرح عليًّا ـ (ع) ـ وقبض عليه، أوصى أمير المؤمنين ـ (ع) ـ بالإحسان إليه، وقال: "إن برئت فأنا أولى بأمري، وإن مت فلا تمثلوا به". ولكن عن بعض الجمهور جريان حكم البغاة حتى على الواحد، إذا خرج بالسيف، بل في المنتهى والتذكرة أنه قوي، بل قيل إنه مقتضى إطلاق المتن (شرائع الإسلام والقواعد والإرشاد) وغيرها. وإن كان قد يناقش بانسياق غير ذلك من الإطلاق المذكور، خصوصًا بعد ذكرهم الفئة ونحوها، مما يظهر منه الاجتماع المعتد به، ولا أقل من الشك، فيبقى الأصل ـ حينئذ ـ بحاله. نعم يجري عليه حكم المحارب لو فرض إشهاره للسلاح أو غيره مما يندرج فيه". (1)

ومن هذا النص يظهر أنه يرى فعلية هذا الشرط، رغم ما نسب إلى الآخرين من الخلاف فيه.

ومنها: أن لا يكونوا تحت سيطرة الإمام، وإلا لم يعودوا من البغاة، واستند في ذلك إلى رواية جاء فيها:

"إن عليًّا (ع) كان يخطب، فقال رجل بباب المسجد: لا حكم إلا لله، ـ تعريضًا بعلي (ع) أنه حكم في دين الله الرجال ـ فقال علي (ع) : كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث:

ـ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا اسم الله فيها،

ـ ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا،

ـ ولا نبدأكم بقتال". (2)

ورغم تشكيك صاحب جواهر الكلام في حجية هذه الرواية، إلا أنه يقول:"قد يقال: إن حكم البغاة لم يعلم إلا من فعله (ع) كما اعترف به الشافعي وغيره، ولم يثبت لنا شيء من فعله، فيما عدا الفرق الثلاث وقد كانوا كذلك"(3) .

ومنها: أن يكونوا ينطلقون ـ في انفصالهم عن السلطة الإسلامية ـ من معتقد يعتقدونه:

وربما استند في هذا إلى نصوص منها قول علي ـ (ع) ـ في نهج البلاغة:

"لا تقتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه". (4) .

(1) جواهر الكلام: 21/ 331، 332

(2)

، أحكام القرآن للجصاص: 5/ 282، وجامع أحاديث الشيعة: 13/ 87، والسنن الكبرى: 8/ 148؛ والمبسوط، للسرخسي: 10/ 125؛ وابن أبي شيبة في المسند: 15/ 327؛ ومجمع الزوائد: 6/ 242، وأنساب الأشراف: 2/ 352؛ والمبسوط، للشيخ الطوسي: 7/ 265؛ وتاريخ بغداد: 14/ 365

(3)

جواهر الكلام: 21/ 333

(4)

نهج البلاغة، د. صبحي الصالح: 61/ 94

ص: 1660

وعلى أي حال، فإن البغاة إن رجعوا إلى طاعة الإمام، ووضعوا أسلحتهم، أو هزموا، ولم ينحازوا إلى فئة مناوئة أخرى، لم يجز قتالهم، ولم يتعقب الفار منهم، ولا يقتل أسيرهم، ويداوى الجرحى منهم، والعلماء يجمعون على ذلك. وبدون ذلك، فالأمر يعود للإمام ليقوم فيهم بما يراه مصلحة للمسلمين.

وهنا ننبه إلى أن أحكام البغاة مأخوذة من سيرة علِيّ في الباغين، وها نحن نذكر طرفًا من ذلك:

ـ يقول عبد الرحمن بن الحجاج سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:

"كان في قتال علي (ع) أهل قبلة بركة، ولو لم يقاتلهم علي (ع) لم يدر أحد بعده كيف يسير فيهم". (1)

ـ روى أبو أمامة أنه شهد صفين، فلم ير جريحًا يقتل، ولا مولى يقتل، ولا قتيلًا يسلب (2) .

ـ سأل أحد أصحاب أمير المؤمنين (ع) الإمام عما هو فاعل بأهل الجمل ، فقال (ع) : بالمن كما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل مكة (3) .

ـ وأتي علي بأسير يوم صفين، فبايعه، فقال علي:"لا أقتلك إني أخاف الله رب العالمين". فخلى سبيله، وأعطاه سلبه الذي جاء به (4) .

ـ وعن أبي حمزة الثمالي قال: قلت لعلي بن الحسين (ع) : إن عليًّا (ع) سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الشرك، قال: فغضب، ثم جلس، ثم قال:"سار والله فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح؛ إن عليًّا (ع) كتب إلى مالك ـ وهو على مقدمته في يوم البصرة ـ بأن لا يطعن في غير مقبل، ولا يقتل مدبرًا، ولا يجيز (يجهز) على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن"(5) .

والروايات هنا مفصلة.

والواقع أن سيرة علي ـ (ع) ـ رسمت أروع صورة للحاكم المسلم الذي يقيم ذلك التوازن المشار إليه في بحثنا بين الرحمة والمصلحة العليا.

وربما أمكنا ـ بالاستناد إلى الرواية التي ذكرناها للتو ـ القول إن الإمام يتعامل في حربه مع الكفار والبغاة على ضوء هذا التوازن، إلا أن الحرب مع الكفار فيها الخطر الكامن لإفناء الوجود الإسلامي كله، فتعصب الإجراءات، ولكن حينما ينتفي الخطر ـ كما في فتح مكة ـ يأتي المن العظيم. ولكن إذا كان البغاة يفرون إلى تجمع آخر لهم فخطرهم كبير، لذلك فهم يتابَعون بكل شدة.

(1) وسائل الشيعة: 11/ 60

(2)

السنن الكبرى: 8/ 182؛ ومسند ابن أبي شيبة: 12/ 424، والطبقات الكبرى: 7/ 411

(3)

وسائل الشيعة: 11 /58

(4)

ن. م: 11/54، نقلا عن التهذيب؛ والجامع: 13/ 176

(5)

وسائل الشيعة: 11/ 55، نقلا عن الكافي والتهذيب؛ وبحار الأنوار: 32/ 210، نقلًا عن الكافي

ص: 1661

(ب) كيفية الاستئسار:

تشير الآية الكريمة إلى شد الوثاق، وليس المراد إلا التأكد منه، لئلا يفر، وقد كانت هناك أساليب أخرى تستخدم لضمان عدم فرار الأسير؛ كأن يقسموا بين المسلمين، أو يوثقوا إلى أسطوانات المسجد، وما إلى ذلك.

ومع ذلك نجد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم أحيانًا ـ يتألم، لأن أحد أسراه ـ وهو عمه العباس ـ موثق يئن (1) .

(ج) إطلاق سراح الأسرى:

وتتفق كتب الأحاديث، والتاريخ، والمغازي، على أنه صلى الله عليه وسلم كان يمن على الأسرى، فيطلقهم دونما فدية، أو مع فدية، ويبادلهم بأسرى المسلمين:

ـ فمن المشهورات قولته صلى الله عليه وسلم لأهل مكة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) (2) .

ـ وهبط ثمانون من أهل مكة، من جبال التنعيم ـ صباحًا ـ على النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، ولكنه أسرهم دون حرب، ثم أطلق سراحهم (3) .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلق كل الأسرى عند حلول شهر رمضان (4) .

ـ وقد أرسل رجالًا إلى نجد، وعادوا إليه بأسير من بني حذيفة، يدعى ثمامة بن أثال، وأوثقوه إلى المسجد فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .

ـ وقد أطلق سراح مجموعة من أسرى بدر، شريطة أن يعلم كل منهم مسلمًا القراءة والكتابة (6) .

ـ ومنّ على أسرى هوازن في حنين ـ بعد القسمة ـ وطلب من المسلمين أن يطلقوا سراح أسراهم (7) .

والنصوص في هذا الباب كثيرة جدًّا.

هذا بالنسبة لأسرى الكفار. أما بالنسبة لأسرى البغاة فالأمر فيهم أكثر حنانا، ولطفًا.

وقد قال أصحاب علي (ع) له بعد معركة الجمل: اقسم بيننا أهل البصرة فنجعلهم رقيقًا، فقال: لا، فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم؟ فقال (ع) : " كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام، أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شيء منه ". (8) .

وهذا من أروع النصوص الدالة على رحمة الإسلام.

(د) حقوق الأسرى (9) :

يمكننا أن نلخص أهم هذه الحقوق بالنقاط التالية:

أولًا ـ العطف والرحمة بالأسير:

ـ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى من بدر فرقهم بين أصحابه، وقال صلى الله عليه وسلم:((استوصوا بهم خيرًا)) .

ـ وكان أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه، في الأسارى، قال أبو عزيز:"مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديك. قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها فيردها عَلَيَّ ما يمسها". (10) .

وقال أبو العاص بن الربيع: كنت مستأسرًا مع رهط من الأنصار ـ جزاهم الله خيرًا ـ كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثرونا بالخبز وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل، والتمر زادهم حتى أن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد، قال: وكانوا يحملوننا ويمشون (11) .

ـ وقد روي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا، وليقام بحقهم)) (12) .

وقد عاتب رسول الله بلالًا؛ لأنه مر بأسيرات يهوديات على أجساد أعزائهن، قائلًا له:((أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهن)) (13) .

ثانيًا ـ إطعام الأسير وسقيه:

ـ فعن أبي بصير قال: سألت الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} فقال (ع) : هو الأسير. وقال: الأسير يطعم، وإن كان يقدم للقتل. وقال: إن عليًّا كان يطعم من خلد في السجن من بيت مال المسلمين (14) .

(1) البداية والنهاية: 3/ 298

(2)

الطبري: 3/ 61

(3)

نيل الأوطار: 8/ 140، 141؛ ومشكاة المصابيح: ص 245 فما بعدها؛ ومناقب ابن شهر أشوب: 1/ 73؛ وحياة الصحابة: 2/ 37

(4)

وسائل الشيعة: 7/ 229

(5)

السنن الكبرى: 9/ 88؛ وصحيح البخاري: 1/ 125؛ ومشكاة المصابيح: ص 342؛ ومسند أبي عوانة: 4/ 157

(6)

المستدرك، للحاكم: 3/ 23؛ ونيل الأوطار: 8/ 144؛ ومصنف عبد الرزاق: 5/ 352

(7)

نصب الراية: 3/ 406؛ ومشكاة المصابيح: ص 345؛ والطبري: 3/ 87 ـ 89؛ وصحيح البخاري: 3/ 193، و9/ 89 منه

(8)

شرح ابن أبي الحديد: 1/ 250

(9)

حقوق الأسرى مفصلة، ونحن هنا نعتمد ـ إجمالًا ـ على تحقيق مخطوط لسماحة العلامة الشيخ الأحمد الميانجي ـ حفظه الله ـ.

(10)

البداية والنهاية: 3/ 306؛ والطبري: 4/ 460؛ وآثار الحرب: ص 405

(11)

شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 13/ 189

(12)

الإمام الرازي في تفسيره: 30/ 245

(13)

بحار الأنوار: 1/ 5؛ والكامل: 2/ 221: والطبري: 3/ 14؛ وسيرة ابن هشام: 3/ 351؛ والبداية والنهاية: 4/ 197

(14)

وسائل الشيعة: 11/ 69

ص: 1662

ثالثًا ـ وجوب تأمين الظل للأسير:

ـ روى زرارة عن الصادق (ع) قوله: إطعام الأسير حق على من أسره، وإن كان يريد من الغد قتله فإنه ينبغي أن يطعم، ويسقى، (ويظل) ، ويرفق به كافرًا كان أو غيره (1) .

ويستفيد الشيخ الأحمدي من ذلك تأمين كل ضروريات الحياة.

ـ وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه عندما رأى أسرى بني قريظة في يوم حار أمر برشهم بالماء، لئلا يجتمع عليهم حر السلاح وحر الصيف (2) .

رابعًا ـ توفير اللباس اللائق بالأسير:

وهو ما يستفاد من عموم الإحسان بهم وما طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعباس، حيث جلب الأصحاب له ثوب عبد الله بن أبي (3) .

خامسًا ـ احترام الأسير ذي المرتبة ومراعاة كرامته ومنزلته:

وهذا ما نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعله مع ابنة حاتم طيء (4) . وكما تعامل المسلمون مع نساء يزدجرد ملك فارس (5) .

سادسًا ـ توفير الدواء والعلاج اللازم:

وذلك بمقتضى عموم الإحسان:

وقد نُقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالمن على جرحى الكفار وإطلاق سراحهم (6) . كما ذُكر أن عليًّا أمر بمعالجة أربعين رجلًا من جرحى النهروان في الكوفة، ثم فسح لهم المجال ليذهبوا أينما يشاءون أو سلمهم إلى قبائلهم (7) .

سابعًا ـ هدايته إلى الحق:

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] .

(1) وسائل الشيعة: 11/ 68، إلا أنه ليس فيها (ويظل)

(2)

آثار الحرب: ص 405، نقلًا عن شرح السيد الكبير: 2/ 264

(3)

جامع الأحاديث: 8/ 511 ـ 516؛ وأبو داود: 3/ 179؛ وأعيان الشيعة: 1/ 629

(4)

الطبري: 3/ 112، 113: البداية والنهاية: 5/ 64

(5)

بحار الأنوار: 32/ 357، نقلًا عن نصر بن مزاحمم في صفين

(6)

كشف الأستار: 2/ 288

(7)

أنساب الأشراف، للبلاذري: 2/ 486؛ وكشف الأستار: 2/ 288

ص: 1663

ثامنًا ـ تحريم قتل النساء والأطفال:

وقد مر بنا تحريم قتل النساء والأطفال والضعفاء:

تاسعًا ـ عدم قتل الأسير من البغاة:

كما مر بنا أنه لا يجوز قتل الأسير الباغي عند انكساره، وعدم عودته إلى فئة، بل يمكن للإمام أن يعفو عمن له فئة.

عاشرًا ـ أخذ البيعة من الأسير القوي:

وإن كان الأسير الباغي قويًّا جلدًا، وأهلًا للقتال تُطلب منه البيعة، فإن بايع قبل انتهاء الحرب أطلق سراحه (1) .

وإن لم يبايع يسجن، فإن انتهت الحرب وتاب العدو وألقى سلاحه، أو لم يلجأ هو إلى فئة يطلق سراحه.

حادي عشر ـ عدم معاملة أسرى البغاة بالمثل:

لا معنى للمعاملة بالمثل بالنسبة لأسرى البغاة، فلو أنهم قتلوا أسرى المسلمين؛ لأنه لا يجوز قتل أسراهم.

ثاني عشر ـ عدم قتل الأسير إن أسلم قبل النصر:

إذا أسلم الأسير قبل النصر لم يجز قتله بالإجماع، بلا فرق بين كون إسلامه عن خوف أو رغبة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم:

((أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)) (2) .

(1) المبسوط: 7/ 271؛ والمنتهى: 2/ 987؛ والمغني: 10/ 61

(2)

انظر: السنن الكبرى: للبيهقي: 9/ 49 ،7/ 403؛ وكنز العمال: 1/ 76ـ 77؛ وسنن الدارمي: 3/ 218؛ وسنن ابن ماجه: 2/ 1295؛ وصحيح مسلم: 1/ 53؛ والأموال، لأبي عبيد: ص 27، 28؛ ومسند أحمد: 2/ 435 و439 و475 و482 و502. . .؛ وصحيح البخاري: 1/ 120 و109؛ وبحار الأنوار: 6/ 243

ص: 1664

الخاتمة

وفي ختام هذا البحث، لا بد من الإشارة لبعض النقاط، لكي يمكن أن تكتمل الصورة ـ إلى حدٍّ ما ـ في الأذهان:

النقطة الأولى:

إننا نلاحظ أن الموقف ـ في النهاية ـ يعود إلى قائد الأمة الإسلامية، والمفروض به أنه يمتلك أسمى درجات الالتزام بالشريعة الإسلامية، وهي شريعة الرحمة واليسر، لكي يقرر أفضل الحالات المطروحة أمامه، موازنًا بين عنصري الرحمة والمصلحة العليا، فيرفض أي تعذيب أو تخريب، أو تفريق بين الأم وولدها، أو تبييت للإغارة وأمثال ذلك، وليغتنم كل الفرص لتقوية الجبهة الإسلامية، ويسد كل ثغرات الضعف فيها، محققًا الهدف الكبير وهو خدمة مصالح الأمة الإسلامية العليا، والحفاظ على وجودها، محترمًا للعهود والمواثيق، وملاحظًا مدى تطبيقها، مائلًا إلى السلام والصلح ـ مهما أمكن ـ وإلى الاحتفاظ بالطاقات النافعة لمستقبل الإسلام، متجنبًا أي تفريط بها، مهتمًا بالإسلام، وهداية الآخرين، بل ويكفيه الإسلام الظاهري؛ لأنه لا سبيل للتعرف على حقيقته، وأخيرًا مهتمًا بتعميق أهداف الحرب في قلب الجندي المسلم ـ كما رأينا في مطلع البحث ـ.

ص: 1665

النقطة الثانية:

الملاحظ: أن الفقهاء ـ على اختلاف مشاربهم ـ حاولوا أن يستنبطوا كثيرًا من الأحكام، على ضوء تقرير أو تعامل خاص قام به الرسول أو أحد القادة الإسلاميين، تجاه موقف معين، والحقيقة هي: أن هناك خطرًا يسميه المرحوم الإمام الصدر (خطر التجريد في دليل التقرير) ويتلخص في تجريد السلوك المعاصر لعهد التشريع عن خصائصه وقرائنه، واستنباط موقف إسلامي عام (مع أن من الضروري ـ لكي يكون الاستدلال بدليل التقرير موضوعيًّا ـ أن ندخل في حسابنا كل حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك، فحين تتغير بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيمًا، فإذا قيل لك مثلًا: إن شرب الفقاع في الإسلام جائز، بدليل أن فلانًا ـ حين مرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شرب الفقاع، ولم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كان لك أن تقول: إن دليل التقرير هذا ـ وحده ـ لا يكفي دليلًا على سماح الإسلام بشرب الفقاع لكل فرد، ولو كان سليمًا؛ لأن من الممكن أن تكون بعض الأمراض مجوزة لشربه بصورة استثنائية، فمن الخطأ أن نعزل السلوك المعاصر لعهد التشريع عن ظروفه وخصائصه" (1) .

والحقيقة أننا نستطيع أن نعبر بهذه الحقيقة: عن مجال دليل التقرير إلى مجال الأوامر الإدارية والعسكرية بكل وضوح، بل ربما أمكننا القول بأن العبور هنا أولى؛ باعتبار أن الأوامر الولائية موقتة تمامًا، يلاحظ فيها ولي الأمر المصلحة المطلوبة، اللهم إلا أن يصرح بقاعدة عامة يكنها أن تشكل قانونًا عامًا، وللبحث هذا تفاصيله.

ومن هنا نرى أن الكثير من الموارد التي استند إليها الفقهاء لا يمكنها أن تشكل بنفسها أدلة مقنعة، إلا أن هناك حقيقة أخرى هي: أننا نستطيع من خلال استقراء المواقف المتنوعة (حتى ولو كانت ولائية) ، أن نستنبط حكمًا يقينًا؛ أو ـ على الأقل ـ نكتشف (مورد إضاءة) وحكمًا يقدم إلى ولي الأمر ليلاحظه، ويأخذه بعين الاعتبار، في تعامله مع المواقف المشابهة.

فالأمر ـ إذن ـ يتوقف على تعدد الحالات ووضوحها، ليكشف لنا ـ يقينًا ـ عن موقف عام تتبناه الشريعة، بعد إلغاء الخصوصيات التي نطمئن بعدم دخلها في الموضوع.

والذي نريد أن نخلص إليه هو أننا نعتقد أن منطق التوازن بين النزعة الإنسانية والمصلحة العليا والروح السائدة التي يمكن أن نستنبطها من مجمل ما مر من نصوص وأحكام، وهي التي يجب أن يلحظها الإمام في تعامله مع المواقف المتنوعة، ومنها المواقف التي تنتجها الحرب.

(1) اقتصادنا: 2/ 374

ص: 1666

النقطة الثالثة:

إنه كثيرًا ما يبدو التزاحم بين النزعتين آنفتي الذكر، وحينئذ فالذي تشير إليه النصوص هو ترجيح النزعة الإنسانية مهما أمكن، إلا أن يتوجه خطر كبير للمصلحة العليا، وحينئذٍ فهي المقدمة.

فمن الأحكام المشهورة والمسلم بها، أن الأسير إذا عجز عن المشي ولم تكن هناك وسيلة لحمله أطلق سراحه؛ لأنه لا يعلم رأي الإمام فيه.

وقد روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد قوله:

"وإذا أخذت أسيرًا فعجز عن المشي، ولم يك معك محمل، فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه، والأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئًا "(1) .

وقد صرح به الكثير من الفقهاء؛ كالطوسي في (المبسوط) و (النهاية) ، والحلي في (السرائر) و (المختصر النافع) ، وابن قدامة في (المغني)(2) .

والملاحظ هنا أن هناك تزاحمًا بين الجانب الإنساني (الرحمة) ، والجانب المصلحي (وهو الاحتفاظ بالأسير) ، بعد أن لم يمكن الجمع بينهما، وتم تغليب جانب الرحمة وإطلاق الأسير، وعلى هذا الغرار نلاحظ مسألة الامتناع عن قتل النساء، حتى ولو عاونَّ أزواجهن، إلا أننا نجد ـ في قبال ذلك ـ أحكامًا أخرى:

منها: أنه لا يقبل الاستئسار قبل أن تتم السيطرة الإسلامية على الموقف، خوفًا من تغير الموقف لصالح العدو.

ومنها: أنه لو تترس الكفار بالمسلمين الأسرى، أو حتى لو تترسوا بالنساء والأطفال، وتوقف الفتح النهائي ـ تمامًا ـ على اقتحام هذه العقبة، وجب الإقدام ـ مهما كانت النتائج ـ إذعانًا للمصلحة العليا:

ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :

"ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم؛ كان لهم أن يرموهم بالمناجيق، والنيران، وغير ذلك مما يكون فيه فتح لهم، وإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النازلين عليهم، ومتى هلك المسلمون فيما بينهم، أو هلك لهم من أموالهم شيء لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامتهم من الدية والأرش، وكان ضائعًا "(3) .

ـ ويقول القاضي عبد الجبار بن البراج في (المهذب) :

"وإذا تترس المشركون بأسارى المسلمين، وكانت الحرب ملتحمة لم يقصد الأسرى بالرمي، فإن أصيب لم يكن على من رماه شيء، وإن لم تكن الحرب ملتحمة لا يجوز رميه، فإن رماه ـ ولم يقصده ـ فإن أصابه كان ذلك خطأ وعليه ديته"(4) .

ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :

"وإذا تترس المشركون بأطفالهم، فإن كان ذلك حال التحام القتال جاز رميهم، ولا يقصد الطفل، بل يقصد من خلفه؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد، وكذلك الحكم إذا تترسوا بأسارى المسلمين، وكذلك إذا تترسوا بالنساء. . ."(5) .

والملحوظ هنا تقديم المصلحة العليا على النزعة الإنسانية ولكن هذه نظرة ابتدائية.

ذلك أن المصلحة العليا للمسلمين هي مصلحة الإنسانية جمعاء ـ كما يراها الإسلام ـ وإن الإسلام هو صوت العدالة الإنسانية كلها، وبه يمكن إنقاذها من براثين الوثنية، والضياع، والكفر. فكل عمل لصالح الإسلام هو لصالح الإنسانية ـ في الحقيقة ـ فلا يمكن التفريط بهذه المصلحة الإنسانية العليا لصالح رحمة موقتة.

(1) الكافي: 5/ 35؛ وتهذيب الأحكام: 6/ 153

(2)

التذكرة: 1/ 425، والمغني: 10/ 299، وغيرهما

(3)

الينابيع الفقهية: ص:51

(4)

ن. م: ص 90

(5)

الينابيع الفقهية: ص 168

ص: 1667

النقطة الرابعة:

ونقصد هنا أن ننبه إلى أن اختلاف بعض الأحكام في مجال الحرب ضد الكفر، عنها في مجال مكافحة البغي، ربما أمكن تعليله بأن حاكمية الكفر أشد خطرًا ـ بلا ريب ـ من حاكمية البغي، رغم ما فيه من انحراف وأخطار جسيمة.

النقطة الخامسة:

من الطبيعي أن نشير هنا ـ أيضًا ـ إلى تركيز الإسلام على عنصر العقد والعهد، كمنبع أساسي للالتزام.

فإذا افترضنا أن الدولة الإسلامية دخلت مع المجتمع الدولي ـ أو مع دولة أخرى ـ في معاهدة دولية أو ثنائية، أو وقّعت بروتوكولًا معينًا فهي ـ في الواقع ـ تضيف إلى تعهداتها الأصلية تعهدات قانونية، عليها الالتزام بها، على أي وجه كان، حتى أنه يمكن القول بأن للمعاهدة نفسها موضوعيتها، دون النظر إلى مقتضيات المصلحة العامة.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 1668

الخلاصة

وخلاصة ما قلناه حول أحكام الحرب والأسرى في الإسلام هي:

أننا تحدثنا في المقدمة عن واقعية الإسلام ومرونته وضربنا لذلك مثلًا موقفه من قضية (الرقيق) ، واستعرضنا بإجمال خطواته لإلغائها، ولكن دون الإخلال بالنظام الاجتماعي والقانون العسكري.

ثم انتقلنا إلى صميم الموضوع لنجد أن عملية التوازن بين خطي (الرحمة) و (المصلحة) يمكنها أن تؤطر كل أحكام الإسلام في قضية الحرب والأسرى بل إننا نستطيع أن نمتد بهذا الأصل ليشمل مجمل الأحكام الإسلامية وللتدليل على هذا الأصل استعرضنا ما يلي:

1 ـ التعليمات الحربية المسبقة للرسول الأكرم والقادة الإسلاميين وكلها تؤكد هذه الحقيقة.

2 ـ التأكيد على عنصر الدعوة والتوعية أولًا وعدم الهجوم المباغت دون تثبت.

3 ـ ملاحظة وسائل الحرب وأساليبها الإنسانية كما يجيزها الإسلام حيث نهى الفقهاء ـ مثلًا ـ عن اللجوء إلى وسائل من قبيل: الغارة وفتح الماء لإغراق العدو ما دامت هناك وسائل أخرى.

4 ـ ملاحظة أحكام الأسرى وحقوقهم وقد شملت هذه الملاحظة بيان:

(أ) الموارد التي يجوز فيها الأسر.

(ب) كيفية الأسر.

(ج) أساليب إطلاق سراح الأسرى.

(د) حقوق الأسرى.

وهذه الحقوق يمكن تلخيصها بما يلي:

1 ـ العطف والرحمة بالأسير.

2 ـ إطعام الأسير وسقيه.

3 ـ تأمين الظل للأسير.

4 ـ توفير اللباس اللائق به.

5 ـ احترام الأسير ذي المرتبة ومراعاة كرامته ومنزلته.

6 ـ توفير الدواء والعلاج اللازم.

7 ـ هدايته إلى الحق.

8 ـ تحريم قتل النساء والأطفال.

9 ـ عدم قتل الأسير من السفلة.

10 ـ أخذ البيعة من الأسير القوي.

11 ـ عدم معاملة البغاة بالمثل.

12 ـ عدم قتل الأسير إن أسلم قبل النصر.

ص: 1669

وفي خاتمة البحث لاحظنا النقاط التالية:

الأولى: أن الموقف يعود في النهاية إلى قائد الزحف الإسلامي والمفروض أنه يمتلك أسمى درجات الالتزام بالشريعة الرحيمة الميسرة لكي يقرر أفضل الحالات المطروحة أمامه.

الثانية: أن الكثير من الموارد التي استند إليها الفقهاء لا يمكنها أن تشكل بنفسها أدلة مقعنة؛ لأنها اعتمدت على دليل التقرير مع فقدان بعض شرائطه.

الثالثة: عند التعارض بين حالتي المصلحة والرحمة نجد الإسلام يرجح الجانب الإنساني مهما أمكن كما إذا عجز الأسير عن المشي ولم تكن هناك وسيلة لحمله فإنه يطلق سراحه؛ لأنه لا يعلم رأي الإمام فيه.

الرابعة: ملاحظة اختلاف بعض الأحكام في مجال الحرب ضد الكفار عنها في مجال محاربة البغاة.

الخامسة: ملاحظة أن الإسلام ركز تمامًا على عنصر العهد كأساس للالتزام فإذا دخلت الدولة الإسلامية مع المجتمع الدولي أو مع دولة أخرى في عقد كان عليها الالتزام على أي وجه كان.

الشيخ محمد علي التسخيري

ص: 1670