الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الوفاء
إعداد
فضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني
رئيس الجامعة لدار العلوم كراتشي والمفتي بها
باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وشفيعنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
تقديم:
فقد أرسل الله تعالى الإنسان إلى الأرض، وخلق له ما في الأرض جميعًا، وأباح له تملك الأشياء بأسباب شتى شرعها الله تعالى من البيع والشراء والهبة والميراث والوصية وما إليها. وكان البيع والشراء من أهم أسباب التملك وأوسعها نطاقًا، وأكثرها وقوعًا، لا غنى للإنسان عنهما، فالحياة تدور بهما، وبهما تتم. ولذلك أباح الله تعالى البيع وأعلن بذلك في كتابه المبين، فقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
للبيع صور شتى، وأقسام متنوعة تسمى بأسماء مختلفة، تختلف أحكامها من الصحة والفساد، والإباحة والحرمة وما إليها في ضوء الشريعة الإسلامية.
ومن أقسام البيع، قسم حادث من البيوع يسمى ((بيع الوفاء)) وهو بيع استحدث بعد القرون الأربعة، لم يرد فيها نص صريح في القرآن والسنة بإباحته أو حرمته. ولذلك اختلفت فيه آراء الفقهاء رحمهم الله، وهو الذي نحن بصدد تحقيقه.
وقبل أن نخوض في بيان حكمه وآراء الفقهاء في ذلك نريد أن نبين أولًا تعريفه بما يوضح صورته، وأساميه المختلفة، ثم بيان حكمه واختلاف الفقهاء في ذلك.
وجدير بالذكر أن سادة الفقهاء الحنفية المتأخرين رحمهم الله أكثروا من ذكره في كتبهم وفتاواهم، بعنوان واضح، وعبارات طويلة، بينما لم نجد عند غير الحنفية ذكر بيع الوفاء بعنوان واضح، إلا أن المالكية رحمهم الله ذكروه باسم ((بيع الثنيا)) كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولذلك نبدأ بموقف الأحناف في ذلك ثم المالكية ثم الشافعية والحنابلة. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للسداد، ويرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه. إنه الموفق للحق والسداد.
تعريفه:
جاء في المجلة:
(بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع)(1) .
قال الشامي:
(لا فرق بين أن يقول البائع على أن ترده علي أو أن تبيعه مني)(2) .
من صور بيع الوفاء:
1-
أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين (3) .
2-
أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بما لك علي من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي (4) .
3-
أو يقول: بعت منك هذا العين بكذا على أني إن دفعت إليك الثمن تدفع العين إليَّ (5) .
4-
أن يقول: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن (6) .
أسماء أخرى لبيع الوفاء ووجوه التسمية:
1-
بيع الوفاء. قال الشامي:
(وجه تسميته بيع الوفاء أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن)(7) .
2-
البيع الجائز. قال الشامي:
(ولعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ المشتري أكل ريعه)(8) .
3-
بيع المعاملة. قال الشامي:
(وبعضهم يسمى بيع المعاملة، ووجهه أن المعاملة ربح الدين، وهذا يشتريه الدائن لينتفع به بمقابلة دينه)(9) .
4-
بيع الأمانة. قال الشامي:
(ووجهه أنه أمانة عند المشتري بناء على أنه رهن أي كالأمانة)(10) .
5-
بيع الإطاعة. وبيع الطاعة. قال ابن عابدين الشامي رحمه الله تعالى:
(وهو المشهور الآن في بلادنا، ووجهه حينئذ أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد)(11) .
(1) المجلة، مادة (118) .
(2)
ابن عابدين، رد المحتار: 5/276.
(3)
علاء الدين، الدر المختار: 5/276.
(4)
العناية على الهداية بهامش فتح القدير: 8/169.
(5)
الفتاوى الهندية: 3/209.
(6)
جامع الفصولين: 1/334.
(7)
رد المحتار: 5/276.
(8)
رد المحتار: 5/276.
(9)
رد المحتار: 5/276.
(10)
رد المحتار: 5/276.
(11)
رد المحتار: 5/276.
مظان ذكر بيع الوفاء:
فقهاء الحنفية يذكرون هذا البيع في موضع من ثلاثة، فمنهم من ذكره في البيع الفاسد، كالبزازي، ومنهم من ذكره عند الكلام على خيار النقد من كتاب البيوع كابن نجيم وقاضيخان، ومنهم من ذكره في كتاب الإكراه كالزيلعي والمرغيناني صاحب الهداية وأصحاب شروح الهداية.
الفرق بين عامة البيوع وبيع الوفاء:
يفترق بيع الوفاء عن عامة البيوع من ناحية خاصة، ولذلك سمي باسم خاص، ففي عامة البيوع حينما يتم البيع بين البائع والمشتري، ويقبض المشتري على المبيع والبائع على الثمن، ولم يكن لأحد خيار، يستبد كل واحد منهما بالتصرف في مملوكه كيف شاء. يستبد البائع بالتصرف في الثمن المملوك، والمشتري بالتصرف في المبيع الذي تملكه بالبيع، بخلاف بيع الوفاء، فإن المشتري يلتزم فيه أنه لا يبيع المشتري ولا يخرجه عن ملكه، بل يبقيه في ملكه إلى أن يجيء البائع، ويرد الثمن على المشتري، فيرد المشتري المبيع إلى البائع، ولذا يجتمع في بيع الوفاء ثلاثة محظورات:
1-
بيع الوفاء بيع شرط فيه شرط لا يقتضيه العقد، وهو شرط رد المبيع إلى البائع إذا رد الثمن، فيلزم أن يكون بيعًا فاسدًا. ويكون فسخه واجبًا عند الأحناف، وكأن البائع في بيع الوفاء يحجر على المشتري، فيمنعه عن بيع المبيع لآخر مع أنه ملكه بالاشتراء، فكان حجرًا على المالك من أجنبي، ولا عهد لنا به في الشرع.
2-
بيع الوفاء بيع شرط فيه إقالة، وكل بيع شرط فيه إقالة يكون فاسدًا (1) فلزم أن يكون بيع الوفاء فاسدًا.
(1) راجع الهداية، باب خيار الشرط، المسألة الأولى دليل الإمام زفر: 3/19، طبع ايج ايم سويد، كراتشي.
3-
حينما نتأمل في بيع الوفاء نجد أنه أشبه بالرهن من البيع، فكما أن في الرهن يأخذ الراهن الدين من المرتهن، ويعطيه المرهون، حتى إذا قضى دينه يأخذ المرهون من المرتهن كذلك البائع ههنا يأخذ المبلغ من المشتري ويعطيه المبيع حتى إذا رد عليه الثمن استرد منه المبيع. فكان بيع الوفاء رهنا في الحقيقة. ومن حكم الرهن حرمة الانتفاع بالمرهون للمرتهن عند جميع الفقهاء. وههنا ينتفع المشتري وهو المرتهن حقيقة بالمشتري الذي هو المرهون، فيلزم أن يكون حرامًا. ولكن تعارفه بعض الناس احتيالًا للربا كما ذكره ابن عابدين في رد المحتار وغيرهم من الحنفية في كتبهم.
متى حدث هذا البيع:
لا نجد ذكر بيع الوفاء في كتب المتقدمين من فقهاء الحنفية وأئمتهم في القرون الأربعة الأولى، ولذلك نرى أن هذا البيع حدث بعد القرن الرابع في أوائل القرن الخامس الهجري، فقد أظهر رأيه في هذا البيع الإمام القاضي الحسن الماتريدي والسيد الإمام أبو شجاع والإمام علي السغدي، وهم من فقهاء القرن الخامس.
لماذا حدث هذا البيع:
نقل القاضي ابن سماوة عن بعض الفقهاء:
(البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع الوفاء، وهو رهن في الحقيقة
…
لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه البيع، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين) (1) .
وقال ابن نجيم بعدما ذكر موقف قاضيخان في ذلك:
(جاز البيع ولزم الوفاء، وقد يلزم الوعد لحاجة الناس فرارًا من الربا، فبلخ (أي أهالي بلخ) اعتادوا الدين والإجارة، وهي لا تصح في الكروم، وبخارى (أي أهالي بخارى) الإجارة الطويلة ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه) (2) .
(1) جامع الفصولين: 1/224.
(2)
البحر الرائق: 6/8.
يظهر من كلام الفقهاء ومن العبارتين اللتين ذكرناهما آنفًا، أنه احتيج إلى بيع الوفاء لأمور:
الأول: كان الناس يريدون أن يأخذوا الديون لحاجتهم، ويرهنوا أراضيهم لذلك. وكان المرتهن الدائن يأبى عن مبرة الإقراض المستحب إلا بأن يأخذ عليه منفعة لنفسه، وبما أن الشرع حرم على الدائن أن يأخذ على الدين ربحًا، لأن كل قرض جر منفعة فهو ربا. وبما أن الشرع حرم على المرتهن أن ينتفع بالمرهون، لكونه ربا. احتال الناس إلى بيع الوفاء، لكي ينتفع المرتهن بالمرهون، فإن المرتهن يصير بهذه الحيلة مشتريًا وللمشتري أن ينتفع بمملوكه كيف يشاء، إلا أنه وعد أن يرد على المشتري المبيع إذا رد عليه الثمن.
الثاني: (كما فهمته من عبارة البحر الرائق) أن أهالي بلخ كانوا يأخذون القرض من أحد، وكانوا يجيرون في مقابلته إلى الدائن بستان الكروم على أن العنب للمستأجر، ولكن إجارة الكروم على هذا الشرط لا يجوز عند الفقهاء، فاحتالوا بيع الوفاء مكان الإجارة، لكي يكون هذا العقد تحت ضابط شرعي.
الثالث: أن أهالي بخارى كانوا يأخذون القرض ويدفعون في مقابلته أشجار البستان إجارة، على أن الثمرة للمستأجر، ولكن إجارة الأشجار (1) على هذا الشرط لا يجوز عند الفقهاء، فاحتالوا بيع الوفاء، ليكون هذا العقد تحت أصل كلي مباح.
(1) في الفتاوى الهندية: ولا تجوز إجارة الشجر على أن الثمر للمستأجر، وكذلك لو استأجر بقرة أو شاة، ليكون اللبن أو الولد له، كذا في محيط السرخسي. [الفتاوى الهندية: 4/442، كتاب الإجارة] . وقال ابن عابدين في باب المساقاة تحت قول الماتن:(وإذا انقضت المدة تترك بلا أجر، ويعمل بلا أجر، وفي المزارعة بأجر)(قوله تترك بلا أجرة) أي للعامل القيام عليها إلى انتهاء الثمرة، لكن بلا أجر عليه، لأن الشجر لا يجوز استئجاره (قوله وفي المزارعة بأجر) أي في الترك والعمل، لأن الأرض يجوز استئجارها. [رد المحتار: 6/286] .
حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية:
اضطربت آراء فقهاء الحنفية في حكم بيع الوفاء. وذكر ابن نجيم في البحر الرائق، وابن البزاز الكردي في الفتاوى البزازية أن لفقهاء الحنفية في بيع الوفاء ثمانية آراء. [راجع لتفصيل تلك الآراء: البحر الرائق: 6/8 و 9؛ والفتاوى البزازية على هامش الهندية: 4/405؛ وجامع الفصولين: 1/234] . لكن العمدة في بيع الوفاء أربعة أقوال.
الأول: قال بعض الفقهاء أنه رهن في الحقيقة، لا يملكه (أي المشتري) ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه (1) ، وللبائع استرداده إذا قضى دينه، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه البيع، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذا العاقد يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، فإن الحوالة بشرط أن لا يبرأ كفالة والكفالة بشرط البراءة حوالة. وهذا هو مذهب الإمام الحسن الماتريدي، والسيد أبي شجاع وابنه، والإمام علي السغدي (2) .
الثاني: أنه بيع غير صحيح، واختاره صاحب الهداية وأولاده أعني لا يملك المشتري عندهم بيعه من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد القبض (3) .
الثالث: ما اختاره قاضيخان وهو من طبقة المجتهدين في المسائل عند الأحناف، فقال:
(والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظة البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز، وعندهما هذا البيع عبارة عن عقد غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس)(4) .
الرابع: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام، حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في حق بعض الأحكام، كحل الإنزال ومنافع المبيع، ورهن في حق البعض، حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه، وسقط الدين بهلاكه، فهو مركب من العقود الثلاثة، جوز لحاجة الناس إليه، بشرط سلامة البدلين لصاحبهما. قال ابن نجيم:
(وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع)(5) .
والذي نراه أن القول الثالث والرابع لا يتنافيان، بل يجتمعان في أن القول الثالث يبين كيفية صحة هذا العقد، والقول الرابع يبين الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد.
(1) قلت: هكذا ذكره ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: 1/234؛ وابن عابدين في رد المحتار: 5/276 مطلقًا، ولكن المتأخرين من الحنفية لم يبيحوا انتفاع المرتهن بالمرهون، وإن كان بإذن الراهن، لأن العرف قد جرى بالانتفاع بالرهن، والمعروف كالمشروط. ولذلك ذكر ابن عابدين نفسه في رد المحتار في كتاب الرهن أنه لا يحل للمرتهن ذلك ولو بالإذن، لأنه ربا. [راجع رد المحتار: 6/482، 6/522] .
(2)
الفتاوى البزازية: 4/405؛ وجامع الفصولين: 1/234؛ ورد المحتار: 5/276.
(3)
راجع الهداية وشروحها من العناية والكفاية وفتح القدير، كتاب الإكراه.
(4)
الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 2/165.
(5)
البحر الرائق: 6/9؛ ورد المحتار: 5/277.
ما هو الراجح من تلك الأقوال:
قد تبين مما حررنا سابقًا أن المقصود من بيع الوفاء كان في الحقيقة رهنًا غيروه إلى بيع حتى ينتفع الدائن بمقبوضه. فلو نظرنا إلى المعنى والمقصود لوجب لنا أن نقول بما قاله أصحاب القول الأول، ونجري عليه أحكام الرهن، أما إذا نظرنا إلى الألفاظ والمباني نجد أن القول الثالث الذي اختاره قاضيخان هو الراجح، وبه أفتى مشائخ الحنفية من المتأخرين.
فالترجيح للقول الثالث كما يظهر مما يلي:
1-
ذكر ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: (قال النسفي: اتفق مشايخ زماننا على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف، لأنهما تلفظا بلفظ البيع بلا ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ دون المقصود، فإن من تزوج امرأة على نية أن يطلقها بعد ما جامعها، صح العقد. أقول أن الانتفاع به مقصود كما أن الاستيثاق به مقصود، فلا وجه لجعله رهنًا مع رضاه بالانتفاع، فعلى هذا لا يكون رهنًا لا لفظًا ولا غرضًا)(1) .
2-
قال علاء الدين الحصكفي في كتابه الدر المختار في شرح تنوير الأبصار: (وقيل إن بلفظ البيع لم يكن رهنًا، ثم إن ذكر الفسخ فيه أو قبله، أو زعماه غير لازم كان بيعًا فاسدًا، ولو بعده على وجه الميعاد جاز، ولزم الوفاء به، لأن المواعيد قد تكون لازمة لحاجة الناس، وهو الصحيح كما في الكافي والخانية، وأقره "خسرو" هنا والمصنف في باب الإكراه، وابن الملك في باب الإقالة)(2) .
3-
وفي مجلة الأحكام العدلية: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة أو خاصة، ومن هذا القبيل تجويز بيع الوفاء، فإنه لما كثرت الديون على أهالي بخارى مست الحاجة إلى ذلك، فصار مرعيًّا)(3) .
4-
وبه أفتى المشايخ من أهل الفتاوى في شبه القارة الهندية (باكستان والهند) منهم فضيلة الشيخ أشرف علي التهانوي (4) وفضيلة والدي الشيخ المفتي محمد شفيع (5) وغيرهم من العلماء والمفتين.
(1) جامع الفصولين: 1/235.
(2)
الدر المختار: 5/277.
(3)
مادة: 32.
(4)
إمداد الفتاوى: 3/106 - 109.
(5)
إمداد المفتين: 2/838.
الأصل المستند إليه في التحليل أو المنع:
ربما يتوهم ظاهرًا من تحليل بيع الوفاء أن هذه حيلة لأخذ ما كان ربا. ولكن حينما نتأمل نجد أن هذا الوهم ليس في محله، فإنه لو أخذ المرتهن من الراهن الشيء المرهون، وانتفع به لكان ربا وحرامًا داخلًا في قوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .لأن كل قرض جر منفعة فهو ربا. أما إذا اشترى رجل أو مرتهن ذلك الشيء من رجل أو راهن، وتملكه ببيع وانتفع به فهو بيع داخل في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
أما كون هذا من الحيل فليست كل حيلة ممنوعة شرعًا. فقد ذكر أخي العزيز الشيخ المفتي القاضي محمد تقي العثماني في كتابه ((تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم)) تحت حديث ((قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها)) ما نصه:
(والحق كما قال الآلوسي في تفسير روح المعاني: 23/209، تحت قوله تعالى:{فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
إن الحيلة كلما أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل، كحيلة سقوط الزكاة وسقوط الاستبراء. وأما إذا توصل بها الرجل إلى ما يجوز فعله، ودفع المكروه، بها عن نفسه وعن غيره فلا بأس بها. وقال السرخسي رحمه الله في كتاب الحيل من المبسوط: 30/210، (فالحاصل أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن، وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق الرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهة، فما كان على هذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولًا فلا بأس به) واستدل على جواز الحيلة المشروعة بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
فإن ذلك تعليم حيلة، وبقوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] .
فإنه حيلة. وجاء السرخسي رحمه الله تعالى بعدة أحاديث وآثار تدل على جوازها.
قال العبد الضعيف عفا الله عنه: ومن أقوى ما يدل على جواز الحيلة المشروعة ما أخرجه الشيخان والنسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاث، قال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا. الحديث.
هذا هو حيلة للتوصيل إلى طريق حلال، فما كان من هذا القبيل فهو جائز قطعًا، وأما حيلة اليهود في تحليل السبت وبيع الشحوم وأكل ثمنها، فكانت من قبيل إبطال الحكمة الشرعية، فإن الشريعة قصدت منعهم عن الصيد يوم السبت وعن أكل الشحوم وبيعها، ففعلوا ما حصل منه ذلك بعينه، وإنما غيروا الطريق أو التعبير، وقدمنا أن مجرد تغيير الاسم لا يؤثر في حل الشيء وحرمته حتى تتغير حقيقته) (1) .
وفي مسألتنا أي مسألة بيع الوفاء تغيرت حقيقة العقد، فإن حقيقة بيع الوفاء كانت رهنًا في الأصل، ثم غيروا الرهن إلى البيع. ولا شبهة في جواز البيع فكان جائزًا كما ذكرنا أولًا. والله سبحانه أعلم.
أحكام بيع الوفاء:
إذا ثبت أن القول الثالث والرابع من أقوال الفقهاء هو مختار الحنفية المتأخرين، نريد أن نذكر جملة من أحكامه، ونوزعها على قسمين:
1-
صحة هذا العقد.
2-
الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد.
صحة هذا العقد:
يمكن تصوير هذا العقد على أربع صور:
الصورة الأولى: تبايعا بيعًا بدون شرط، وأضمرا في القلب بأن البائع إذا جاء ورد الثمن يرد المشتري إليه المبيع ويأخذ الثمن، فلا نزاع في جوازه.
الصورة الثانية: تبايعا بيعًا، وذكرا شرط الفسخ في صلب البيع، أو ذكرا لفظة بيع الوفاء أو البيع الجائز، أرادا به عقدًا غير لازم يكون بيعًا فاسدًا. لأن هذا البيع شرطت فيه إقالة فاسدة، لجهالة المدة، ولو شرطت الإقالة الصحيحة في البيع يكون فاسدًا، فكان فساد هذا أولى.
الصورة الثالثة: تبايعا بيعًا بدون شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع ويلزمهما الوفاء بالعهد.
(1) تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم: 1/565.
التفصيل: يجب هنا (في الصورة الثالثة) أن نبحث عن أمرين لا بد من ذكرهما، وإيراد ما يرد عليهما.
الأول: جواز البيع، يرد عليه أنه كيف جاز هذا البيع عند الحنفية مع أن ذكر الشرط بعد العقد يلتحق بالعقد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولو بعد مجلس العقد، فيصير بيع الوفاء كأنه شرط في العقد، وإن ذكراه بعد انتهاء المجلس.
والجواب أن هذا مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد خالفه صاحباه (الإمام أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن) في ذلك، وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة أيضًا. فعندهما لا يلتحق الشرط بعد العقد، وهو الراجح عند الأحناف.
قال الشامي: قيل يلتحق عند أبي حنيفة، وقيل لا، وهو الأصح كما في جامع الفصولين في الفصل رقم 39، لكن في الأصل أنه يلتحق عند أبي حنيفة، وإن كان الإلحاق بعد الافتراق عن المجلس. وتمامه في البحر. قلت: هذه الرواية الأخرى عن أبي حنيفة، وقد علمت تصحيح مقابلها، وهي قولهما (1) .
الثاني: مسألة لزوم الوعد والوفاء بالعهد.
قال الطيبي: (واعلم أن الوعد أمر مأمور الوفاء به في جميع الأديان، حافظ عليه الرسل المتقدمون، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ومدح ابنه اسماعيل يعني جد نبينا عليهم السلام بقوله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] يقال: إنه وعد إنسانا في موضع، فلم يرجع إليه فأقام عليه حتى حال عليه الحول)(2) .
فكان إيفاء الوعد أمرًا مأمورًا به في جميع الشرائع، وقد قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . [الإسراء:34]
- وهذا كله ديانة، ولكن اختلف الفقهاء في أنه هل يجب على الواعد الوفاء بالوعد قضاءً أيضًا، فالمشهور أن الوعد عند فقهاء الحنفية لا يكون ملزمًا في القضاء، ولكن قد صرح كثير من متأخري فقهاء الحنفية أن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس. قال قاضيخان رحمه الله تعالى:
(وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع، ويلزم الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس)(3) .
وقال الشامي: (وفي جامع الفصولين أيضًا: لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العقد، جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة فيجعل لازمًا لحاجة الناس)(4) .
(1) شامي، رد المحتار: 5/84.
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لملا علي القاري، المكتبة الإمدادية، ملتان (باكستان) .
(3)
الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 2/165.
(4)
رد المحتار: 5/84.
وهناك فرق آخر ذكره فضيلة والدي الشيخ المفتي محمد شفيع في تفسيره المعروف ((بمعارف القرآن)) بين الوعد وبين العهد، أو بلفظ آخر بين الوعد وبين المواعدة، وملخص ما ذكره الشيخ أن هناك وعدًا يعد به إنسان لآخر من تلقاء نفسه، فهذا وعد يجب عليه الوفاء به ديانة (إلا لعذر شرعي) ولكن لا يجبر الواعد على الوفاء به قضاءً.
وهناك عهد، أو عقد، أو مواعدة يتفق عليه رجلان ويتعاهدان به، فهذا عهد وعقد يجب على الواعد الوفاء به ديانة وقضاء، فلو لم يف به الواعد يسمح لآخر أن يذهب إلى المحكمة، ويجبر الآخر على الوفاء بذلك (1) .
الصورة الرابعة: تواضع البائع والمشتري قبل العقد على بيع الوفاء، ثم تبايعا بيعًا خاليًا عن الشرط، جاز البيع، ويلزمهما الوفاء بالوعد.
التفصيل: اختلف فقهاء الحنفية في ذكر الشرط قبل العقد، هل يلغو الشرط؟ أم يكون هذا البيع فاسدًا؟ أم يكون البيع صحيحًا، ويلزم الوفاء بالعهد؟ قال البعض: يلغو الشرط، ولا عبرة بالمواضعة السابقة على العقد. قال ابن عابدين ناقلًا عن جامع الفصولين:
(وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع ثم عقدا بلا شرط الوفاء، فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة)(2) .
وذكر البعض أن البيع يكون فاسدًا في هذه الصورة، قال العلاء الحصكفي:
(ثم إن ذكر الفسخ فيه أو قبله أو زعماه غير لازم كان بيعًا فاسدًا، ولو بعده على وجه الميعاد جاز، ولزم الوفاء به)(3) .
(1) راجع تفسير معارف القرآن: 5/468.
(2)
رد المحتار: 5/276؛ وجامع الفصولين: 2/336.
(3)
الدر المختار: 5/277.
ورجح البعض أن في هذه الصورة الرابعة يكون البيع صحيحًا، ويلزمهما الوفاء بالعهد. وإليه مال حكيم الأمة فضيلة الشيخ أشرف علي التهانوي (1) ناقلًا عن ابن عابدين الشامي رحمه الله ما نصه:
(وقد سئل الخير الرملي عن رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده، وعقدا البيع خاليًا عن شرط، فأجاب بأنه صرح في الخلاصة والفيض والتتارخانية وغيرها بأنه يكون على ما تواضعا)(2) .
وناقلًا عن الدر ما نصه: (إنه صحيح لحاجة الناس، فرارًا من الربا، وقالوا: ما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه)(3) .
وقال القاضي ابن سماوة في جامع الفصولين:
(شرطا شرطًا فاسدًا قبل العقد، ثم عقدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تفارقا)(4) .
إزاحة الشبهة:
وربما تقع ههنا شبهة ذكرها أخي العزيز الشيخ القاضي محمد تقي العثماني - حفظه الله تعالى - وأجاب عنها بما يثلج الصدور في مقالته القيمة (الطرق المشروعة للتمويل العقاري) وننقل عبارته بلفظها:
(وربما يقع ههنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد، فالظاهر أنه ملحوظة عند العقد لدى الفريقين، ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وأنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق. فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة. وينبغي أن يكون الحكم دائرًا على حقيقة المعاملة دون صورته، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز.
(1) إمداد الفتاوى: 3/109.
(2)
رد المحتار: 5/84.
(3)
الدر المختار: 5/280.
(4)
جامع الفصولين: 2/237.
والجواب عن هذا الإشكال على ما ظهر لي - والله سبحانه أعلم - أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضًا، وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطًا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة لا يكون عقدًا باتًّا، وإنما يتوقف على عقد آخر، بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد المضاف إلى زمن مستقبل. فإذا قال البائع للمشتري: بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا فمعناه أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق خرج من حيز كونه باتًّا، وصار عقدًا معلقًا، والتعليق في عقود المعاوضة لا يجوز. ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيًا، لأنه كان مشروطًا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط. فالعقد إن شرط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: إن أجرتني الدار الفلانية بكذا، فداري بيع عليك بكذا. وهذا مما لا يجيزه أحد، لأن البيع لا يقبل التعليق.
وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقًا عن شرط فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعًا تامًّا، ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجار بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع البات شيئًا، فيبقى البيع تامًّا على حاله. وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده على القول بلزوم الوعد، لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية، وهذا شيء لا أثر له على البيع البات الذي حصل بدون أي شرط، فإنه يبقى تامًّا ولو لم يف المشتري بوعده.
وبهذا تبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر يبقى مترددًا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه يتم في كل حال، وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازمًا على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد) (1) .
(1) الطرق المشروعة للتمويل العقاري، للقاضي محمد تقي العثماني.
الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد:
منها ما ذكرته مجلة الأحكام العدلية:
(مادة: 118) بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع، وهو في حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري به، وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى اقتدار كل من العاقدين على الفسخ، وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيع المبيع من الغير.
(مادة: 396) كما أن البائع وفاء له أن يرد الثمن، ويأخذ المبيع كذلك للمشتري أن يرد المبيع، ويسترد الثمن.
(مادة: 397) ليس للبائع ولا للمشتري بيع مبيع الوفاء لشخص آخر.
(مادة: 398) إذا شرط في بيع الوفاء أن يكون قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك مثلًا لو تقاول البائع والمشتري وتراضيا على أن الكرم المبيع بيع الوفاء تكون غلته مناصفة بين البائع والمشتري صح ولزم الوفاء بذلك على الوجه المشروح.
قال الشارح خالد الأتاسي: (لما صرح به في البزازية وجامع الفصولين، وذكره في البحر ورد المحتار من أن القول الجامع لبعض المحققين أن بيع الوفاء فاسد في حق بعض الأحكام، حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في بعض الأحكام، كحل الإنزال، ومنافع المبيع رهن في حق البعض، حتى لا يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه
…
إلخ، وقد علمت أن المجلة اختارت هذا القول، فاتضح بما ذكرنا أن منافع المبيع ثابتة للمشتري وفاء بدون اشتراط، لكن بالنظر لكونه رهنًا في حق بعض الأحكام، صح اشتراط حصته من المنافع للمشتري، وباقيها للبائع، لأن منافع الرهن لا يملكها المرتهن بدون إذن الراهن) (1) .
(مادة: 399) إذا كانت قيمة المال المبيع بالوفاء مساوية للدين، وهلك المال في يد المشتري سقط الدين في مقابلته.
(مادة: 400) إذا كانت قيمة المال المبيع ناقصة عن الدين، وهلك المبيع في يد المشتري سقط من الدين بقدر قيمته، واسترد المشتري الباقي، وأخذه من البائع.
(مادة: 401) إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين، وهلك المبيع في يد المشتري، سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين، وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي. وأما إن كان بلا تعد، فلا يلزم المشتري أداء تلك الزيادة.
(مادة: 402) إذا مات أحد المتبايعين وفاء انتقل حق الفسخ للوارث.
(مادة: 403) ليس لسائر الغرماء التعرض للمبيع وفاء ما لم يستوف المشتري دينه.
(1) شرح المجلة: 2/421.
المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
عند المالكية: فقهاء المالكية رحمهم الله يسمون هذا البيع ببيع الثنايا. فقد قال الإمام الحطاب:
(بيع الثنايا، هو أن يقول: أبيعك هذا الملك أو هذه السلعة على أن آتيك بالثمن إلى مدة كذا، أو متى آتيك به، فالبيع مصروف عني)(1) .
ثم قال: (تنبيه: الأكثر على أن بيع الثنايا هو ما تقدم. وقال ابن رشد في المقدمات: إن بيوع الشروط كلها تسمى بيوع الثنايا. وقال ابن عرفة: عمم ابن رشد لفظ بيع الثنايا في بياعات الشروط، وخصصه الأكثر بمعنى قولها في بيوع الآجال من ابتاع سلعة على أن البائع متى رد الثمن فالسلعة له لم يجز)(2) .
وقال أحمد بن يحيى الونشريسي في المعيار المعرب تحت عنوان ((لمن تكون الغلة في بيع الثنيا)) :
(وسئل عن رجل باع أرضًا على أنه متى أتاه بالثمن، رد عليه أرضه، فبقي مدة، هل له غلة أم لا؟ فأجاب: الغلة للذي الأرض في يده على مذهب ابن القاسم في كتاب الآجال الذي هو عنده بيع فاسد، وبه جرت الفتيا. وعلى قول سحنون الذي يراه كالرهن الفاسد له الغلة)(3) .
وفي المدونة الكبرى: (قلت: أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى ما جاء بالثمن، فهو أحق بالجارية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا. قلت: لم؟ قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف)(4) .
وقال الخرشي على مختصر سيدي خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود كأن لا يبيع عمومًا، أو إلا من نفر قليل أو لا يهب أو لا يخرج به من البلد، أو على أن يتخذها أم ولد، أو يعزل عنها أو لا يجيزها البحر، أو على الخيار إلى أمد بعيد، أو على أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، ولا ينافي هذا جواز الإقالة التي وقع فيها شرط المبتاع على البائع أنه إن باعها من غيره كان أحق بها، لأنه يغتفر في الإقالة ما لم يغتفر في غيرها. تأمل) . وقال الشيخ علي العدوي في حاشيته (لعل المراد تأمل وجهه، ونقول: وجهه أنه باب معروف)(5) .
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام: ص233.
(2)
تحرير الكلام: ص236.
(3)
المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب: 7/116.
(4)
المدونة الكبرى: 9/133.
(5)
الخرشي على مختصر سيدي خليل: 5/180، دار صادر، بيروت، وبمثله في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/66، دار الفكر.
وقال الحطاب: (وقال الراجَراجي: اختلف في بيع الثنايا، هل هو بيع أو رهن، على قولين، وفائدة الخلاف في ذلك الغلة، فمن رأى أنه بيع، قال: لا يرد الغلة، وقد قال مالك في العُتبية: الغلة للمشتري بالضمان، فجعله بيعًا وأنه ضامن، والغلة له. ومن رأى أنه رهن قال: يرد الغلة، وأنه ضمان البائع في كل عيب ونقص يطرأ عليه من غير سبب المشتري، وما كان من سبب المشتري فهو ضامن له، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها فيما يعاب عليه. ونقله ابن سلمون، قال ابن عبد العزيز قد قيل: إن بيع الثنايا فاسد مردود أبدًا، فات أو لم يفت، لأنه حرام محرم، وهو باب من أبواب الربا، ترد فيه البياعات والصدقات والأحباس، فإن وقع إلى أجل كان فيه الكراء، لأنه كالرهن، وإن وقع إلى غير أجل فلا كراء فيه، والذي عليه أكثر العلماء، وهو مذهب مالك وابن القاسم أنه لا كراء فيه كان إلى أجل أو إلى غير أجل، لأنه بيع فاسد عندهم، وبذلك العمل) .
قال في المتيطية: (وإن علم أن أصل الشراء كان رهنًا، وإنما عقدا فيه البيع لتسقط الحيازة فيه، وثبت ذلك بإقرارهما عند الشهود حين الصفقة أو بعدها، وقبض المبتاع الملك وغلته ثم عثر على فساده، فإنه يفسخ، ويرد الأصل مع الغلة إلى صاحبه، ويسترجع المبتاع ثمنه) . اهـ. قلت: ومثله بل أحرى منه ما إذا علم أن قصد المتبايعين إنما هو السلف بزيادة وتحيلا ببيع الثنايا على ذلك من غير قصد إلى البيع، وثبت ذلك بإقرارهما كما قال حين الصفقة أو بعدها. وهذا ظاهر، وهذا كله إذا قبض المشتري المبيع واستغله إما بكراء أو بسكنى، وأما ما يقع في عصرنا هذا، وهو مما عمت به البلوى. وذلك أن الشخص يبيع الدار مثلًا بألف دينار، وهي تساوي أربعة آلاف أو خمسة، ويشترط للمشتري أنه متى جاء بالثمن ردها إليه، ثم يؤجرها المشتري لبائعها بمائة دينار في كل سنة قبل أن يقبضها المشتري وقبل أن يخليها البائع من أمتعته، بل يستمر البائع على سكناها إن كانت محل سكناه أو على وضع يده عليها وإجارتها، وأخذ منه المشتري الأجرة المسماة في كل سنة، فهذا لا يجوز بلا خلاف، لأن هذا صريح الربا. ولا عبرة بالعقد الذي عقداه في الظاهر، لأنه إنما حكم بالغلة للمشتري في البيع الفاسد لانتقال الضمان إليه، والخراج بالضمان. وهنا لم ينتقل الضمان، لبقاء المبيع تحت يد بائعه فلا يحكم له بالغلة، بل لو قبض المشتري المبيع، وتسلمه بعد أن أخلاه البائع، ثم أجره المشتري للبائع على الوجه المتقدم، لم يجز، لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو، كما هو مقرر في بيوع الآجال، وآل الحال إلى صريح الربا وهذا واضح لمن تدبره) (1) .
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام: ص338.
هذه العبارات فقهاء المالكية التي تدل على أن بيع الوفاء عندهم يسمى ببيع الثنايا، واختلفوا فيما إذا دخل الشرط في صلب العقد، هل هو بيع فاسد، أو رهن فاسد؟ وكأنهم اتفقوا على عدم جوازه، إذا كان الشرط مشروطًا في نفس العقد. أما إذا تبايع المتبايعان بيعًا بدون شرط الرد، ثم تواعدا على أن البائع متى جاء بالثمن رد المشتري إليه المبيع، فقد ذكر بعض فقهاء المالكية أن هذا البيع يجوز، ويكون هذا الوعد ملزمًا قضاء وديانة.
قال الحطاب: (إن العقد إذا سلم من الشرط وكان أمرًا طاع به بعده على غير رأي ولا مواطأة فذلك جائز، لأنه معروف أوجبه على نفسه، والمعروف عند مالك واجب لمن أوجبه على نفسه)(1) .
وذكر في المعيار المعرب: (سئل أبو الفضل عن رجل اشترى دارًا أو أرضًا بثمن معلوم، وانتقده البائع، ثم أتى البائع المشتري يستقيله فقال له المشتري: متى أتيتني بالثمن فقد أقلتك أو رددتها عليك، وشبه هذا من الألفاظ، ولايوقت وقتا أو يوقت وقتا بسنة أو بعشر سنين أوأكثر، فيقول: متى أتيتني بالثمن إلى أجل أو بعد أجل كذا على ما تقدم مما يدل على الإيجاب هل ترى ذلك لازما للمشتري بعد حصول شرطه، وهو نضوض الثمن أم لا؟
فأجاب أن ذلك جائز في جميع الأشياء، ما عدا الفروج التي تراد للوطء ما دامت السلعة قائمة بيده، ولم تخرج من يده ببيع أو هبة أو صدقة وشبه ذلك من وجوه الفوت، قال محمد بن رشد: إنما قال يلزم المشتري ذلك إذا جاءه البائع بالثمن، لأن ذلك معروف أوجبه على نفسه، والمعروف عند مالك لازم لموجبه على نفسه) (2) .
(1) تحرير الكلام: ص241.
(2)
المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب: 6/396.
وقال الشيخ محمد عليش المالكي: (فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوه القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة. ونقلها عنه غير واحد، فقيل يقضي بها مطلقا، وقيل لايقضى بها مطلقا، وقيل يقضي بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء، كقولك أريد أن أتزوج
…
فاسلفني كذا
…
والرابع يقضي بها إن كانت على سبب، ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور من الأقوال) (1) .
وقال القرافي رحمه الله تعالى: (قال سحنون: الذي يلزم من الوعد اهدم دارك، وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، وأما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق)(2) .
عند فقهاء الشافعية:
لم نجد نصًّا صريحًا عند سادتنا الشافعية إلا ما ذكره ابن حجر الهيتمي المكي في فتاواه، وننقل عبارته بلفظه:
(وسئل رضي الله عنه في ((بيع الناس)) الآن ما حقيقته على كل من المذاهب الأربعة، وهل يلزم ذلك؟ وهل يلزم بالنذر في مذهب السادة الشافعية؟ وهل يجوز للناذر أن ينقل المبيع ببيع أو غيره؟ وهل يلحقه النذر أم لا إذا نقله؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى الجنة.
(1) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 1/256، مسائل الالتزام.
(2)
الفروق، للقرافي: 4/25، الفرق الرابع عشر بعد المائتين.
فأجاب رضي الله عنه، إن أريد ببيع الناس ما اعتيد من أنهم يتفقون على بيع عين بدون ثمن مثلها، وإن البائع إذا جاء بالثمن رد إليه عينه من غير أن يقع بينهم شرط في صلب العقد يفسده فالبيع حينئذٍ صحيح عند الشافعي رضي الله عنه، وإذا جاء البائع بالثمن تخير المشتري بين أن يقيله وأن لا يقيله، لكن يبقى عليه إثم الغش والغرر، فإن البائع إن علم أنه لا يقيله لم يكن يبيعه له بذلك الثمن، ومتى نذر المشتري بعد لزوم البيع أنه متى جاءه البائع بقدر الثمن الذي اشترى به، فسخ عليه البيع، أو أن يقيله متى جاء طالبًا للإقالة لم ينعقد النذر على الأوجه من خلاف طويل وقع من جماعة متأخري اليمن، لأن ما التزمه ليس بقربة مطلقًا، أما الفسخ فواضح، وأما الإقالة فإنها لا تكون سنة إلا في النادم، ومن ثم لو علق النذر بالندم كأن قال: إن ندمت في البيع المذكور، وطلبت مني الإقالة فيه، فلله علي إقالتك فيه، فينعقد النذر حينئذٍ وكذا لو قال: إذا ندمت فيه وطلبت مني الفسخ فيه، فعلي فسخه، فينعقد النذر أيضًا، لأنه التزم به قربة، فلزمه، وبهذا يعلم الجمع بين من أطلق الإفتاء بانعقاد النذر نظرًا إلى أن إقالة النادم سنة، ومن أطلق عدم انعقاده محتجًّا بأن الناذر لا يستقل بالفسخ وإن طلب خصمه، إذ العبرة به، فإطلاق الانعقاد محمول على ما ذكرناه آخرًا، وإطلاق عدمه محمول على ما ذكرناه أولًا، ومتى علق النذر بصفة، ثم باع العين المنذور بها قبل وجود الصفة، صح البيع) (1) .
يتضح من فتوى ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن بيع الوفاء صحيح عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لو لم يقع شرط في صلب العقد، أما إيفاء الوعد برد المبيع فلازم ديانة، لا قضاء عنده.
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية، لابن حجر الهيثمي: 2/153، المكتبة الإسلامية، تركيا.
عند الحنابلة رحمهم الله تعالى:
أما فقهاء الحنابلة رحمهم الله تعالى فلم يلقبوا هذا البيع بلقب خاص، لا بلقب بيع الوفاء كما ذكره الحنفية رحمهم الله، ولا بلقب الثنيا، كما ذكره المالكية رحمهم الله تعالى، بل حينما يذكر الحنابلة بيع الثنيا فالمراد عندهم بيع مع الاستثناء (1) .
ولكن ذكروا هذه المسألة مسألة بيع الوفاء في كتبهم، واختلفوا أن البيع في هذه الصورة صحيح أم فاسد، والاختلاف عندهم مبني على أن البيع بشرط واحد صحيح عندهم، وأن البيع بشرطين فاسد عندهم، فاختلفوا في أن هذه الصورة من البيع (بيع الوفاء) تتضمن شرطًا واحدًا أم شرطين؟ فأولًا نذكر عبارات فقهاء الحنابلة رحمهم الله تعالى، ثم نذكر ما يستنبط منها.
قال ابن قدامة في المغني: (إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن، ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن، فلا خيار فيه، لأنه من الحيل، ولا يحل لأخذ الثمن الانتفاع به في مدة الخيار، ولا التصرف فيه. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يشتري من الرجل الشيء ويقول: لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار، قال: هو جائز إذا لم يكن حيلة أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار فيستغله، ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس. قيل لأبي عبد الله: فإن أراد إرفاقه أراد أن يقرضه ما لا يخاف أن يذهب، فاشترى منه شيئًا، وجعل له الخيار ولم يرد الحيلة. فقال أبو عبد الله: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته. وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه، أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار، لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة)(2) .
(1) راجع الشرح الكبير: 4/210.
(2)
المغني، لموفق الدين ابن قدامة: 3/592؛ والمغني مع الشرح الكبير: 4/116، 117، والروض الندي، لأحمد البعلي: ص312.
وفي الشرح الكبير: (وإن شرط البيع إن هو باع، فالبائع أحق به بالثمن، فروى المروزي عنه أنه قال في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شرطان في بيع)) يعني أنه فاسد، لأنه شرط أن يبيعه إياه. وأن يعطيه بالثمن الأول، فهما شرطان في بيع نهي عنهما، ولأنه ينافي مقتضى العقد، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما لو شرط أن لا يبيعه إلا من فلان، أو أن لا يبيعه أصلًا. وروى عنه إسماعيل بن سعيد البيع جائز، لما روي عن ابن مسعود أنه قال: ابتعت من امرأتي زينب الثقفية وشرطت لها إن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به. فذكرت ذلك لعمر، فقال: لا تقربها لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة، ولم يقل عمر في ذلك البيع فاسد. فحمل الحديث على ظاهره وأخذ به. وقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته، والقياس يقتضي فساده. ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية المروزي على فساد الشرط، وفي رواية إسماعيل بن سعيد على جواز البيع، فيكون البيع صحيحًا والشرط فاسدًا، كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها، وقول أحمد (لا تقربها) قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة أن لا يبيعها ولا يهبها، أو شرط عليه ولاءها، ولا يقربها والبيع جائز، واحتج بحديث عمر (لا تقربها) ولأحد فيها مثنوية. قال القاضي: وهذا على الكراهة لا على التحريم، قال ابن عقيل: عندي أنه إنما منع من الوطء لمكان الخلاف في العقد، لكونه يفسد بفساد الشرط في بعض المذاهب) (1) .
وفي شرح منتهى الإرادات: (ويصح تعليق فسخ غير خلع بشرط كقوله: (بعتك على أن تنقدني الثمن إلى كذا) أو (بعتك على أن ترهنينه أي المبيع بثمنه وإلا تفعل ذلك، فلا بيع بيننا، فينعقد البيع بالقبول، وينفسخ إن لم يفعل، أي ينقده الثمن إلى الوقت المعين أو يرهنه المبيع بثمنه لوجود شرطه، ومثله لو باعه بثمن وأقبضه له وشرط إن رده بائع إلى وقت كذا فلا بيع بينهما، ولم يكن حيلة ليربح في قرض)(2) .
(1) الشرح الكبير مع المغني، لشمس الدين ابن قدامة: 4/212، طبع بيروت.
(2)
شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى بشرح المنتهى للفقيه منصور بن يونس البهوتي: 2/163، طبع دار الفكر.
وفي كشاف القناع للبهوتي: (وإن شرطه أي الخيار بائع حيلة ليربح فيما أقرضه حرم نصًّا، لأنه يتوصل به إلى قرض يجر نفعًا، ولم يصح البيع لئلا يتخذ ذريعة للربا. فإن أراد أن يقرضه شيئًا وهو يخاف أن يذهب بما أقرضه له فاشترى منه شيئًا بما أراد أن يقرضه له، وجعل له الخيار مدة معلومة، ولم يرد الحيلة على الربح في القرض، فقال الإمام أحمد جائز، فإذا مات فلا خيار لورثته، يعني إذا لم يطالب به قبل موته، وقوله أي الإمام جائز محمول على مبيع لا ينتفع به إلا بإتلافه كنقد وبر ونحوهما، أو محمول على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع مدة الخيار، لكونه بيد البائع مدته، فلا يجر قرضه نفعًا، فلا حيلة يتوصل بها إلى محرم، ولا يصح الخيار مجهولًا مثل أن يشترطاه أبدًا أو مدة مجهولة
…
كقوله بعتك ولك الخيار متى شئت أو شاء زيد أو قدم
…
فيلغو الشرط، ويصح البيع مع فساد الشرط) (1) .
وفي الكافي: (فإن شرط في البيع إن باعه فهو أحق به بالثمن، ففيه روايتان: إحداهما لا يصح، لأنه شرطان في بيع، لأنه شرط أن يبيعه وأن يعطيه إياه بالثمن، لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره. والثانية يصح، لأنه يروى عن ابن مسعود أنه اشترى أمة بهذا الشرط، وإن قلنا بفساده فهل يفسد البيع؟ فيه وجهان)(2) .
وفي الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل: (وعنه فيمن باع جارية، وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن، أن البيع جائز، ومعناه - والله أعلم - أنه جائز مع فساد الشرط)(3) .
وقال ابن مفلح في كتاب الفروع: (وقد نقل علي بن سعيد فيمن باع شيئًا، وشرط إن باعه فهو أحق به بالثمن، جواز البيع والشرطين، وأطلق ابن عقيل وغيره في صحة هذا الشرط ولزومه روايتين، قال شيخنا عنه نحو عشرين نصًّا على صحة هذا الشرط، وأنه يحرم الوطء لنقص الملك)(4) .
وملخص ما فهمنا من هذه العبارات أن بيع الوفاء بصورته كان فاسدًا عند الحنابلة في أصل المذهب، لكونه حيلة لجلب الربح في القرض، ولكونه يتضمن شرطين في البيع، ولكن الراجح عندهم جواز البيع مع فساد الشرط، أي يكون البيع جائزًا، ويفسد هذا الشرط، أي شرط رد المبيع.
(1) كشاف القناع، للبهوتي: 3/190، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1394هـ.
(2)
الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد ابن حنبل، لموفق الدين ابن قدامة: 2/39، بيروت.
(3)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين المرداوي: 4/353، وذكر مثله القاضي أبو يعلي في المسائل الفقهية: 1/353، الرياض.
(4)
كتاب الفروع، لشمس الدين المقدسي ابن مفلح: 4/62، طبع عالم الكتب.
الملخص من المذاهب الأربعة:
إذا نظرنا إلى ما ذكره أجلة الفقهاء من المذاهب الأربعة، وجدناهم متفقين على أن بيع الوفاء لو كان خاليًا عن شرط الرد في صلب العقد يكون جائزًا، أما إذا شرط رد المبيع في صلب العقد يكون البيع فاسدًا عند الأحناف والمالكية والشافعية. أما الحنابلة فيرون البيع صحيحًا والشرط فاسدًا، فإذا كان البيع خاليًا عن ذكر شرط الرد فالراجح في المذاهب الأربعة أنه جائز، وذلك لكونه بيعًا خاليًا عن شرط، وهل يجب الرد على أحد المتعاقدين إذا اتفقا على رد المبيع عند رد الثمن، وكان ذلك الاتفاق قبل عقد البيع أو بعده بصورة المواعدة، فنرى الراجح أنه يجب عليهما الرد إذا تواعدا على ذلك، ويكون الوعد ملزمًا ديانة وقضاء. أما وجوب لزوم الوعد ديانة فظاهر بقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . [الإسراء: 34]
وبالنصوص التي تدل على إيفاء الوعد. وأما لزومه قضاء، فالأمر عند الإمام مالك ظاهر، كما تقدم، وفقهاء الحنفية أيضًا اختاروا في هذه المسألة لزوم الوعد قضاء لحاجة الناس. فهو الراجح عند الإمامين الجليلين، ويفهم من مذهب الإمام الشافعي لزوم الوعد ديانة لا قضاء، كما هو الظاهر من فتوى الشيخ ابن حجر الهيثمي. فلا مانع لدينا من أن نفتي بجواز بيع الوفاء إذا كان خاليًا عن الشرط في صلب العقد وجوب رد المبيع على المشتري إذا وعد به البائع بعد انعقاد البيع أو قبله بصفة مستقلة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشيخ محمد رفيع العثماني
المراجع (بترتيب حروف الهجاء)
1-
إمداد الفتاوى، (ست مجلدات)، لفضيلة الشيخ حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى (م: 1362هـ) طبع مكتبة دار العلوم كراتشي، 1395هـ.
2-
إمداد المفتين، لفضيلة الشيخ مولانا المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى، المفتي الأكبر في ديار باكستان (م: 1396هـ) طبع دار الإشاعة، كراتشي، باكستان.
3-
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للفقيه علاء الدين المرادوي (م: 885هـ) .
4-
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، للعلامة زين الدين ابن نجيم الحنفي (م: 970هـ) مطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
5-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للعلامة علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (م: 587هـ) طبع ايج ايم سعيد كراتشي، الموافق بطبع محمد أسعد باشا، سنة 1328هـ 1910م.
6-
البيان والتحصيل، لابن رشد المالكي (م: 520هـ) طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت.
7-
تحرير الكلام في مسائل الالتزام، الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد الحطاب المالكي (م: 954هـ) طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت.
8-
تفسير معارف القرآن، للشيخ المفتي محمد شفيع، المفتي الأكبر في ديار باكستان (م: 1396هـ) طبع إدارة المعارف، كراتشي، باكستان.
9-
تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم، للشيخ القاضي المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله تعالى، طبع مكتبة دار العلوم كراتشي، 1405هـ.
10-
جامع الفصولين، للشيخ بدر الدين محمود بن إسماعيل الشهير بابن قاضي سماوة الحنفي (م: 822هـ) طبع إسلامي كتب خانة كراتشي، باكستان.
11-
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للعلامة شمس الدين محمد عرفة الدسوقي المالكي (م: 1230هـ) .
12-
الخرشي على مختصر سيدي خليل، أبو عبد الله محمد بن علي الخرشي المالكي (م: 1101هـ) طبع دار صادر، بيروت.
13-
الدر المختار شرح تنوير الأبصار، للعلامة محمد علاء الدين الحصكفي الحنفي (م: 1088هـ) طبع شركة مصطفى البابي وأولاده، مصر. 1386هـ 1966م.
14-
رد المحتار على الدر المختار، العلامة محمد أمين ابن عابدين الشامي (م: 1252هـ) طبع شركة مصطفى البابي وأولاده، مصر. 1386هـ 1966م.
15-
الروض الندي، أحمد بن عبد الله بن أحمد البعلي الحنبلي (م: 1189هـ) طبع مطبعة سلفية، قطر.
16-
شرح المجلة، للعلامة محمد خالد الأتاسي مفتي حمص. طبع مطبعة حمص 1349هـ 1930م.
17-
شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى بشرح المنتهى، للفقيه منصور بن يونس البهوتي الحنبلي (م: 1051هـ) طبع دار الفكر، بيروت.
18-
الطرق المشروعة للتمويل العقاري، للشيخ القاضي المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله (مخطوط) .
19-
العناية شرح الهداية، للشيخ أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي الحنفي (م: 786هـ) طبع المكتبة الرشيدية، كوئتة، باكستان.
20-
الفتاوى البزازية، الشيخ محمد بن محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الحنفي (م: 827هـ) طبع المكتبة الإسلامية محمد أزدمير، تركيا.
21-
الفتاوى الخانية، للإمام القاضي فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني الحنفي (م: 529هـ) طبع المكتبة الإسلامية محمد أزدمير، تركيا.
22-
الفتاوى الكبرى الفقهية، للعلامة ابن حجر الهيثمي الشافعي. طبع المكتبة الإسلامية أزدمير، تركيا.
23-
الفتاوى الهندية، لجماعة من علماء الهند الأعلام. طبع المكتبة الإسلامية محمد أزدمير، تركيا، بطبع بولاق 1310هـ.
24-
فتح القدير شرح الهداية، للشيخ كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (م: 681هـ) طبع المكتبة الرشيدية، كوئتة، باكستان.
25-
الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد ابن حنبل، لموفق الدين ابن قدامة الحنبلي (م: 620هـ) طبع المكتبة الإسلامي، بيروت.
26-
كتاب الفروع، للفقيه شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح القدسي (م: 763هـ) طبع عالم الكتب، بيروت.
27-
كشاف القناع عن متن الإقناع، للشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي (م: 1051هـ) طبع عالم الكتب، بيروت.
28-
المدونة الكبرى، للشيخ ابن القاسم العتقي المالكي. طبع مطبعة السعادة، مصر 1323هـ.
29-
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للشيخ ملَاّ علي القاري الحنفي (م: 1014هـ) طبع المكتبة الإمدادية، ملتان، باكستان.
30-
المسائل الفقهية، للقاضي أبي يعلى الحنبلي (م: 458هـ) .
31-
المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب، للشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي (م: 914هـ) .
32-
المغني، للعلامة موفق الدين ابن قدامة (م: 620هـ) طبع مكتبة الرياض، الرياض.
33-
المغني مع الشرح الكبير، للعلامة شمس الدين ابن قدامة (م: 682هـ) طبع دار الكتب العربي، بيروت.
34-
الهداية مع حاشية النانوتوي، للشيخ أبي الحسن علي بن أبي بكر الفرغاني المرغيناني (م: 593هـ) طبع ايج ايم سعيد، كراتشي، باكستان.