الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد الاستصناع
إعداد
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
لم يكن الإسلام في ماضيه وحاضره ومستقبله قيدًا ثقيلًا على الناس في ممارسة حرياتهم الاقتصادية ومعاملاتهم وعقودهم، وإنما كان دائمًا متجاوبًا مع مصالح الناس في تشريعه وتجويزه كل ما كان محققًا لحاجاتهم، ومصالحهم المشروعة القائمة على الحق والعدل والتعادل في الأداءات المتقابلة في المبادلات أو المعاوضات، ومظهر هذا التجاوب واضح في أصول الاستنباط ومصادر الاجتهاد، وفي التطبيق الفعلي وواقع الاجتهاد الذي يمارسه المجتهدون في نطاق ما يسمى بالفقه وهو استنباط أحكام الحوادث والقضايا العملية من الأدلة التفصيلية، كلًّا على حدة.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه الواقعي: مشروعية بعض العقود المتكررة في الحياة العملية على سبيل الاستثناء من النصوص أو القواعد العامة، كعقد السلم أو السلف، وعقد الاستصناع، تيسيرًا على الناس في تحقيق حوائجهم، وتلبية لمطالبهم المشروعة دون حرج ولا إعنات ولا إرهاق، لأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة والمشقة تجلب التيسير والإسلام دين اليسر لا العسر.
وإذا كان الاستصناع في الماضي وليد الحاجة الخاصة والصناعة اليدوية في مجال الجلود والأحذية والنجارة والأثاث المنزلي، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح من العقود المحققة للحاجات العامة والمصالح الكبرى، في بناء السفن في أحواض واسعة، والطائرات والآلات المختلفة في مصانع ضخمة ومعقدة ودقيقة دقة تامة بالغة الأهمية، مما أدى إلى وجود قفزة رائعة لهذا العقد بين العقود التجارية.
خطة البحث:
يتناول البحث محاور ثلاثة هي ما يأتي:
* المحور الأول:
- تعريف الاستصناع.
- معناه، هل هو مواعدة أم بيع؟
- دليل مشروعيته.
- الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه.
- حكمه.
* المحور الثاني:
- الاستصناع والسلم.
- العلاقة بين العقدين – وجه التطابق فيما بين العقدين.
- شروط كل من الاستصناع والسلم.
* المحور الثالث:
- أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية.
المحور الأول
تعريف الاستصناع
الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة، والصنعة: عمل الصانع في صنعته أي حرفته، كما جاء في المصباح المنير ومختار الصحاح والقاموس المحيط.
وهو في اصطلاح الفقهاء: طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص على وجه مخصوص (1) ، أو هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة (2) ؛ أي العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين أو مادة الصنعة والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعًا وبعض الفقهاء يقول: إن المعقود عليه هو العمل فقط؛ لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل.
مثاله: أن يطلب المستصنع (وهو المشتري أو المستأجر) أحد أفراد الناس من الصانع (وهو البائع أو الأجير) كنجار وحداد وحذاء ونحوهم من أصحاب الحرف أو المهن أن يصنع له شيئًا معينًا بأوصاف محددة، كأثاث منزل أو مكتبة أو كرسي أو حلي وغيرها، على ثمن معلوم، إذا جرى فيه التعامل كالقلنسوة والخف والآنية ونحوها عملًا بالعرف (3) .
وينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللشيء: مصنوع، كاتفاق شخصين على صنع أحذية أو آنية أو ثياب أو أثاث منزلي ونحو ذلك (4) .
وهو عقد يشبه السلم (بيع آجل بعاجل) لأنه بيع لمعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن (رأس المال) ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق.
ويشبه الإجارة أيضا، لكنه يفترق عنها من حيث إن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله.
(1) رد المحتار، لابن عابدين: 4/221.
(2)
المجلة: م124.
(3)
البدائع: 5/209 وما بعدها.
(4)
البدائع: 5/2؛ وفتح القدير: 5/355؛ والفتاوى الهندية: 4/504.
معنى الاستصناع، هل هو مواعدة أم بيع؟
اختلف مشايخ أو فقهاء الحنفية في تخريج الاستصناع، أهو بيع أو وعد بالبيع، أو إجارة، وإذا كان بيعًا هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟
فقال الحاكم الشهيد المروزي والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور: الاستصناع مواعدة، وإنما ينعقد بيعًا بالتعاطي عند الفراغ من العمل، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يؤتى به، ويرجع عنه، ولا تلزم المعاملة.
والصحيح الراجح في المذهب الحنفي: أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا لعمل الصانع، فهو ليس وعدًا ببيع ولا إجارة على العمل، فلو أتى الصانع بما لم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة، جاز ذلك والدليل أن محمد بن الحسن رحمه الله ذكر في الاستصناع القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل، ولو كان مواعدة جاز في الكل، وسماه شراء فقال: إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان العقد مواعدة لم يملكها، وإثبات الخيار لكل من العاقدين لا يدل على أنه غير بيع، بدليل أنه في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر أي مبيعه، كان لكل منهما الخيار وثبوت خيار الرؤية للمستصنع من خصائص البيوع، فدل على أن جوازه جواز البياعات، لا جواز العدات، ويترتب على كونه بيعًا أنه يجبر الصانع على عمله، ولا يرجع الآمر المستصنع عنه، ولو كان عدة لما لزم.
وقال أبو سعيد البرادعي: المعقود عليه هو العمل أو الصنع، لأن الاستصناع: طلب الصنع، وهو العمل والراجح في الاجتهاد الحنفي أن المعقود عليه هو العين المستصنعة دون العمل، فلو جاء الصانع بالمطلوب بما يوافق الأوصاف المشروطة ورضي به المستصنع، جاز العقد، سواء أكان من صنعة غيره أم من صنعته قبل العقد، ولو كان المبيع العمل نفسه لما صح ذلك قال الكاساني: ولو كان شرط العمل من نفس العقد، لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح القول بأن المعقود عليه هو المبيع الذي شرط فيه العمل، لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل، لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمَّى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (1) .
(1) فتح القدير مع العناية: 5/355؛ والبدائع: 5/2، 209؛ والدر المختار ورد المحتار: 4/222 وما بعدها.
دليل مشروعية الاستصناع:
يرى الفقهاء أن مقتضى القياس أو القواعد العامة ألا يجوز الاستصناع، لأنه بيع المعدوم كالسلم، وبيع المعدوم لا يجوز، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، فلا يصح بيعًا لأنه بيع معدوم، ولا يمكن جعله إجارة، لأنه استجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال رجل لآخر: أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا، بكذا، أو أصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح وهذا قول زفر ومالك والشافعي وأحمد، لكن يصح الاستصناع عندهم على أساس عقد السلم، ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن أهم شروطه تسليم جميع الثمن في مجلس العقد.
ويصح عند الشافعية حينئذٍ، سواء حدد فيه الأجل لتسليم الشيء المصنوع أم لا، بأن كان سلمًا حالًّا، والسلم الحال جائز عندهم (1) .
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز الاستصناع استحسانًا، لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير، فكان إجماعًا من غير إنكار من أحد، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تجتمع أمتي على ضلالة "(2) وقال ابن مسعود: " ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن "(3) .
وقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا، واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد مرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد، ومثله شرب الماء من السقاء، وسمع صلى الله عليه وسلم بوجود الحمام فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطًا، وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه المعمول به الآن، وهو ألا يذكر مقدار الماء المستهلك ولا مدة المكث في الحمام، والمعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا (4) .
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص89؛ والعرف والعادة، للأستاذ الشيخ أحمد فهمي أبي سنة: ص131 وما بعدها.
(2)
رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري مرفوعًا بلفظ: " سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها "، ورواه ابن ماجه عن أنس مرفوعًا بلفظ:" إن أمتي لا تجتمع على ضلالة " وله روايات كثيرة (مجمع الزوائد: 1/177، 5/218، المقاصد الحسنة، للسخاوي: ص460
(3)
حديث موقوف على ابن مسعود، وله طرق، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، ورواه أيضا أبو داود والبيهقي، ورواه كذلك ابن عباس (نصب الراية: 4/133؛ ومجمع الزوائد: 4/177؛ والمقاصد الحسنة: ص367.
(4)
المبسوط، للسرخسي: 12/138 وما بعدها، والبدائع: 5/2، 209؛ وفتح القدير: 5/355.
الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه:
اشترط الحنفية لجواز الاستصناع شروطًا ثلاثة إذا فاتت أو فات واحد منها فسد العقد، وكان له حكم البيع الفاسد الذي ينقل الملكية بالقبض ملكًا خبيثًا لا يجيز الانتفاع به ولا الاستعمال ويجب إزالة سبب الفساد احترامًا لنظام الشرع، وهذه الشروط هي ما يلى (1) :
1-
بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته: لأنه مبيع، فلابد من أن يكون معلومًا، والعلم يحصل بذلك؛ فإذا كان أحد هذه العناصر مجهولًا، فسد العقد، لأن الجهالة المفضية للمنازعة تفسد العقد، وبناء عليه، إذا استصنع شخص إناءً أو سيارة بين في الإناء نوع المعدن وجنسه ومقاسه وحجمه وأوصافه وعدد الآنية المطلوبة إذا كانت متعددة، فإذا أخفى ذلك كله أو شيئا منه، فسد العقد للجهالة وكذلك في صنع السيارة تبين جميع المواصفات المطلوبة، منعًا من الجهالة والنزاع المنتظر عند تعارض المصنوع مع ما قد يترقبه المستصنع.
2-
أن يكون المصنوع مما يجري فيه تعامل الناس كالمصوغات والأحذية والأواني وأمتعة الدواب ووسائل النقل الأخرى، فلا يجوز الاستصناع في الثياب أو في سلعة لم يجر العرف باستصناعها كالدبس (ما يخرج من العنب) لعدم تعامل الناس به، ويجوز ذلك على أساس عقد السلم إذا استوفى شروط السلم، فإذا توافرت فيه فسد استصناعًا وصح سلمًا، لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني ويصح السلم في غير المثلى كالثياب والبسط والحصر ونحوها، ويصح في عصرنا الحاضر الاستصناع في الثياب لجريان التعامل فيه، والتعامل يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة.
(1) المبسوط: 12/139؛ والبدائع: 5/3، 209 وما بعدها؛ وفتح القدير: 5/355؛ والدر المختار ورد المحتار: 4/222 وما بعدها.
3-
ألا يذكر فيه أجل محدد: فإذا ذكر المتعاقدان أجلًا معينًا لتسليم المصنوع، فسد العقد وانقلب سلمًا عند أبي حنيفة، فتشترط فيه حينئذ شروط السلم، مثل قبض جميع الثمن في مجلس العقد، وأنه لا خيار لأحد العاقدين إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في العقد ودليله أن العاقد إذا حدد أجلًا فقد أتى بمعنى السلم، والعبرة في العقود بمعانيها، لا لصور الألفاظ. ولهذا إذا حُدِّدَ أجلٌ فيما لا يجوز الاستصناع فيه، كأن يستصنع حائكًا للنسج بغزل نفسه أو خياطًا للخياطة بقماش من عنده، انقلب العقد سلمًا.
والمراد بالأجل: شهر فما فوقه، فإن كان أقل من شهر، كان استصناعًا إن جرى فيه تعامل، أو كان القصد من الأجل الاستعجال بلا إمهال، كأن قال: على أن تفرغ منه غدًا أو بعد غد، فإن قصد من الأجل الاستمهال والتأجيل، لم يصح استصناعًا، ولا يصح سلمًا إذا كان الأجل دون شهر والخلاصة: أن المؤجل بشهر فأكثر سلم، والمؤجل بدونه إن لم يجر فيه تعامل فهو استصناع إلا إذا ذكر الأجل للاستعجال فصحيح.
وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال، حدد فيه أجل أو لم يحدد، لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، فيكون شرطًا صحيحًا لذلك وهذا القول هو المتفق مع ظروف الحياة العملية، وحاجات الناس، فيكون هو الأولى بالأخذ به.
نصت المادة (389) من المجلة على ما يلي: كل شيء تعومل استصناعه، يصح فيه الاستصناع على الإطلاق وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة، صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة، كان من قبيل الاستصناع أيضا " وإذا حددت مدة لتقديم المصنوع، فانقضت دون أن يفرغ الصانع منه ويسلمه، فالظاهر أن يتخير المستصنع بين الانتظار والفسخ، كما هو المقرر في عقد السلم (1) .
(1) عقد البيع، للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص123 ف145
الشروط اللاحقة:
اتفق الحنفية على أن الشرط اللاحق للعقد مثل الشرط الداخل في العقد عند تكوينه في الحكم، إن كان شرطًا صحيحًا، فإن كان شرطًا فاسدًا التحق بالعقد وأفسده كالشرط الداخل في العقد تمامًا في رأي أبي حنيفة وقال الصاحبان: لا يلتحق الشرط الفاسد بالعقد، بل يبقى العقد صحيحًا، ويلغى الشرط، حرصًا على سلامة العقد الذي وجد.
حكم الاستصناع:
حكم الاستصناع هنا: هو الأثر المترتب عليه، وللاستصناع الأحكام التالية (1) :
1-
حكم الاستصناع بمعنى الأثر النوعي أو الجوهري المترتب عليه، هو ثبوت الملك للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في البدل المتفق عليه.
2-
صفة هذا الحكم أو صفة عقد الاستصناع: أنه عقد غير لازم قبل الصنع، وبعد الفراغ من الصنع، في حق الصانع والمستصنع معًا، فيكون لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع، فلو باع الصانع الشيء المصنوع قبل أن يراه المستصنع، جاز؛ لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة.
3-
إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط خياره، لأنه رضي بكونه للمستصنع، حيث جاء به إليه، فيكون حكم الاستصناع في حق الصانع ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع، ورضي به، ولا خيار له، وهذا في ظاهر الرواية.
وأما المستصنع فحكم العقد بالنسبة إليه إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصفة المشروطة: هو ثبوت الملك غير لازم في حقه، فإذا رآه فله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وفسخ العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئا لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع ما لم يره، فلا خيار له.
(1) المبسوط: 12/139؛ وفتح القدير: 5/356؛ والبدائع: 5/3، 210؛ ورد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين: 4/223.
وقال أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع ولا خيار له، إذا جاء موافقا للصفة أو الطلب والشروط، لأنه مبيع بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية، لدفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقًا لطلب المستصنع، وربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة ونوقش هذا الرأي بأن ضرر المستصنع بإبطال الخيار له أكثر من ضرر الصانع، إذ لا يتعذر على الصانع بيع المصنوع على أية حال، لأنه إذا لم يرض به المستصنع، يبيعه من غيره بمثل قيمته، وذلك ميسر عليه لكثرة ممارسته ويجاب عنه بأن احتمال البيع الجديد مجرد أمل، ويغلب الضرر بالصانع، فيجب القول بلزوم البيع دفعًا للضرر عنه.
لذا أخذت المجلة برأي أبي يوسف، فقررت في المادة (392) : أن عقد الاستصناع ينعقد لازما، فليس لأحد الطرفين الرجوع، ولو قَبْلَ الصنع، إلا أنه إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المشروطة، يتخير المستصنع بفوات الوصف (1) .
وفي تقديري: أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد جدًّا، منعًا من وقوع المنازعات بين المتعاقدين، ودفعًا للضرر عن الصانع، إذ إن أغراض الناس تختلف باختلاف الشيء المصنوع حجمًا ونوعًا وكيفية، ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن كالسفن والطائرات، فلا يعقل والحالة هذه أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم.
4-
لا يتعلق حق المستصنع في الشيء المصنوع إلا بعرضه عليه من قِبَلِ الصانع، وعلى هذا فإن للصانع أن يبيع المصنوع من غير المستصنع قبل عرضه عليه، كما تقدم بيانه.
(1) نص المادة المذكورة هو: " إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة، كان المستصنع مخيرًا.
المحور الثاني
الاستصناع والسلم
الاستصناع كما عرفناه: عقد مع ذي صنعة على عمل شيء معين وتكون مادة الصنع من الصانع، كاستصناع أحذية أو آنية بشرط وصف المصنوع في العقد بما يزيل الجهالة.
والسلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة، أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المبيع (المثمن) لأجل، أو هو أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، كأن يشتري تاجر من فلاح أو مزارع عشرة أطنان حنطة من ولاية كذا أو محافظة كذا تسلم عند الحصاد بمبلغ معين من المال يدفع كله نقدًا في مجلس العقد، ويتأجل تسليم المبيع غير الموجود عند العقد إلى وقت معين في المستقبل.
العلاقة بين العقدين – وجه التطابق فيما بين العقدين:
يشترك الاستصناع والسلم في أن كلًّا منهما بيع لشيء معدوم، أجيز للحاجة إليه، وتعامل الناس به، إلا أن الباعث على عقد السلم شدة حاجة البائع إلى نقود ينفقها على نفسه وأهله أو على إنتاجه الزراعي، وهو لا يملك ذلك آنيا، لذا سمي "بيع المفاليس" وأما الاستصناع فهو عقد تجاري يحقق الربح للبائع الصانع، ويلبي حاجة المستصنع، فيكون الباعث الدافع عليه حاجة المستصنع.
وهناك فروق بين العقدين أوجزها فيما يلي:
أولا – إن المبيع في السلم دين (هو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل أو موزون أو مذروع أو عددي متقارب كالجوز والبيض، أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعين الشخص بذاته) لا دين، كاستصناع أثاث (مفروشات منزلية) أو حذاء، أو إناء.
ثانيا – يشترط في السلم وجود أجل، فهو لا يصح عند الجمهور (غير الشافعية) إلا لأجل كشهر فما فوقه، على عكس الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله، فإن حدد فيه أجل انقلب سلمًا، ولا خيار شرط في السلم، وقال الصاحبان: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل، لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما بينا وأجاز الشافعية السلم الحال خلافا لغيرهم.
ثالثًا – عقد السلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معًا على الفسخ، وأما الاستصناع فقد عرفنا أنه عقد غير لازم يجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار.
رابعا – يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث مثلًا، عملًا بمذهب الحنابلة، ويعد هذا الفرق من الناحية العملية أهم الفروق.
شروط كل من الاستصناع والسلم:
لابد في كل من العقدين من العلم بالثمن جنسًا ونوعًا وقدرًا وصفة، وإلا كان العقد فاسدًا بسبب الجهالة، وينفرد السلم عند الجمهور باشتراط تعجيل رأس المال (الثمن) وقبضه فعلًا في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين أنفسهما، وأجاز الإمام مالك تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل؛ لأن ذلك التأخير لهذه المدة القريبة في حكم المعجل، لأن ما قارب الشيء يعطي حكمه ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل رأس المال أو الثمن، وإنما يدفع عادة عند التعاقد ولو في غير مجلس العقد جزء من الثمن، ويؤخر الباقي لحين تسليم الشيء المصنوع.
أما المعقود عليه (المبيع المسلم فيه في عقد السلم، والمصنوع في عقد الاستصناع) فلابد في كلا العقدين من العلم بجنسه ونوعه وقدره وصفته، لأن كلا منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلومًا غير مجهول.
ولا يجوز اشتمال كلا العقدين على الربا، كأن اتحد الثمن والمبيع في الجنس كبر ببر، أو شعير بشعير طبيعي أو مصنع مع التفاضل في ربا الفضل، أو نسيئة مؤجلًا من غير تفاضل مع تأخير التقابض في الأموال الربوية (الأصناف الستة المعروفة في الحديث النبوي وما في معناها)(1) .
ولا يثبت خيار الشرط في السلم، وإنما لابد من أن يكون العقد باتًّا لا خيار فيه، أما الاستصناع فهو عقد غير لازم يثبت الخيار فيه قبل العمل أو الصنع، وكذا عند أبي حنيفة ومحمد بعد الفراغ من الصنع، وذهب أبو يوسف إلى لزوم العقد بعد الصنع والرضا به كما تقدم.
أما خيار الرؤية وخيار العيب فيثبت كل منهما في رأس مال السلم إذا كان عينًا قيمية أو مثلية، وأما في المسلم فيه فلا يثبت خيار الرؤية فيه باتفاق الحنفية حتى لا يعود دينًا كما كان، ويصح ثبوت خيار العيب في المسلم فيه، لأنه لا يمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة.
ولابد في كلا العقدين من بيان مكان الإيفاء إذا كان المبيع كلفة ومؤونة في رأي أبي حنيفة، ويتعين مكان العقد مكانًا للإيفاء في رأي الصاحبين.
(1) وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.
ويشترط في عقد السلم عند الحنفية كون جنس المسلم فيه (المبيع) موجودًا في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب، ولا يشترط ذلك في عقد الاستصناع ولم يشترط باقي المذاهب أو الجمهور هذا الشرط في السلم ويكفي وجود جنس المسلم فيه عند حلول أجل التسليم.
ويشترط الحنفية والشافعية والحنابلة إمكان ضبط المسلم فيه بالصفات بأن يكون من المثليات (المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو العدديات المتقاربة) كالأقمشة والمعادن والرياحين اليابسة والجذوع إذا بين طولًا وعرضًا وغلظًا، ولا يصح السلم فيما لا يمكن ضبطه بالوصف كالدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب، لتفاوت آحادها تفاوتًا فاحشًا في المالية، أما الاستصناع فيصح في الأمرين إذا تعامل الناس به وصحح المالكية السلم فيما ينضبط وما لا ينضبط بالوصف وأجاز الحنفية استحسانًا السلم في بعض الأشياء غير المثلية أيضا كالثياب والبسط والحصر ونحوها كما تقدم.
ولا بأس بالسلم في اللبن والآجُرِّ إذا اشترط فيه المشتري (رب السلم) ملبنًا معلومًا، لأنه إذا سمي الملبن، صار التفاوت بين لبن ولبن يسيرًا، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعددي المتقارب.
ويصح السلم فيما جرى به التعامل أو لم يجر فيه التعامل، أما الاستصناع فضابطه أنه يصح في كل ما يجري فيه التعامل فقط، ولا يجوز فيما لا تعامل لهم فيه، كما إذا أمر حائكًا أن يحوك له ثوبًا بغزل نفسه، ونحو ذلك مما لم تجر عادات الناس بالتعامل فيه؛ لأن جوازه، مع أن القياس يأباه ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيما وراء ذلك متروكًا إلى القياس، لكن جرى التعامل في عصرنا باستصناع الثياب، فيكون جائزًا، لأن جريان التعامل يختلف باختلاف البلدان والأزمنة.
المحور الثالث
أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية
لقد أدى الاستصناع في الماضي دورًا مهمًّا في الحياة العملية، فأفاد الصانع الذي قدم في صنعته خبرة معينة ومهارة فائقة، وأضفى على مادة الصنعة التي يقدمها من نفسه فنًّا خاصًّا وإبداعًا جديدًا، واستطاع بذلك إدخال تطوير وتعديل على صنعته، وأفاد المستصنع الذي استطاع من خلال الاستصناع الحصول على ما يرغب فيه وإرضاء ذوقه وتحقيق مصلحته على وفق المقاييس المناسبة له والفنون التي يتصورها ويتأمل توافرها لديه.
ثم انتشر الاستصناع انتشارًا واسعًا في العصر الحديث، فلم يعد مقصورًا على صناعة الأحذية والجلود والنجارة والمعادن والأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها من الخزائن والمقاعد والمساند والصناديق، وإنما شمل صناعات متطورة ومهمة جدًّا في الحياة المعاصرة كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات وغيرها، مما أدى إلى تنشيط الحركة الصناعية ونمو حركة المصانع والمعامل اليدوية والآلية، وقد أسهم كل ذلك بنحو واضح في رفاه الأفراد والمجتمعات وتوفير حاجات الدول ومصالحها.
ولم يقتصر الأمر على الصناعات المختلفة ما دام يمكن ضبطها بالمقاييس والمواصفات المتنوعة، وإنما شمل أيضًا إقامة المباني وتوفير المساكن المرغوبة، وقد ساعد كل ذلك في التغلب على أزمة المساكن ومن أبرز الأمثلة والتطبيقات لعقد الاستصناع بيع الدور والمنازل والبيوت السكنية على الخريطة ضمن أوصاف محددة، فإن بيع هذه الأشياء في الواقع القائم لا يمكن تسويغه إلا على أساس عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحًا إذا ذكرت في شروط العقد مواصفات البناء، بحيث لا تبقى جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وقد أصبح من السهل ضبط الأوصاف ومعرفة المقادير، وبيان نوع البناء، سواء بيع البناء على الهيكل، أم مكسيًّا كامل الكسوة، مع الاتفاق على شروط الكسوة، وأوصافها، من النوع الجيد أو الوسط أو العادي ويتم تسديد الثمن عادة على أقساط ذات مواعيد محددة أما مدة التسليم فيكون ذكرها عادة على سبيل الاستعجال والتقريب الزمني والحث على الإنجاز في وقت معقول؛ لأن المتعاقدين يقدران تمامًا مدى المشكلات والعوائق التي تعترض التنفيذ في وقت محدد.
وأما في مجال المقاولات التي يتم فيها عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامات معينة عند التأخير، فهو أي التغريم أمر جائز أيضا وداخل تحت مفهوم ما يسمى قانونًا بالشرط الجزائي، وقد أقره القاضي شريح، وأيده قرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394هـ، قال شريح:" من شرط على نفسه طائعًا غير مكره، فهو عليه "(1) .
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
(1) أعلام الموقعين: 3/400؛ طبعة محيي الدين عبد الحميد.