الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الوفاء
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلت وبه أستعين.
إن بيع الوفاء من العقود المستحدثة بعد استقرار المذاهب وهو من النوازل أو الواقعات في عرف الفقهاء، ومن العقود المسماة في عرف رجال القانون الوضعي، لذلك تعددت الأقوال في تعريفه كما اختلفت أقوال الفقهاء في تصنيفه.
ومما لا خلاف عليه أنه عقد مركب من عقدين يتنازعه كل من الرهن والبيع على خلاف في صحته أو فساده..
لذلك يدور الوفاء بينهما ويجمع بين بعض خصائصهما وأحكامهما.
والقاعدة الفقهية تقضي (بأن المعاملات طلق حتى يعلم المنع) لذلك بذل الفقهاء أقصى جهدهم وكما هو شأنهم لبيان حكم هذا العقد وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة تجنبًا للوقوع في الربا، لأن الصيغة بيع والحقيقة رهن.
فالقول بحل الانتفاع بالعين فحينئذ العقد يكون بيعًا، ومن حيث الالتزام أو إلزام المشتري برد العين إلى البائع إذا أعاد البائع الثمن يكون رهنًا.. وهنالك فروق واضحة بين أحكام البيع وأحكام الرهن.
ومن هذا المنطلق فقد عولج الموضوع مطولًا في كتب الفتاوي عند فقهاء الحنفية بالذات أكثر مما عولج في المتون وشروحها والتي وضعت لضبط المذهب.. كما كان القول فيها مستفيضًا لدى المتأخرين ومقتضبًا لدى المتقدمين.
كما عالج الموضوع بشيء من الإسهاب كل من فقهاء المالكية والشافعية.. أما فقهاء الحنابلة فكان كلامهم في هذا الشأن مختصرًا، سنعرض لكل ذلك بالتفصيل، والله المستعان ونسأله سبحانه السداد في القول والعمل.
* * *
المحور الأول
- تعريفه عند الحنفية.
- المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى.
- حكمه.
- الأصل المستند إليه في التحليل أو المنع.
- أثر فوت المبيع - ما يعتبر فوتًا وما لا يعتبر.
- حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء ببيع الوفاء.
* * *
تعريف بيع الوفاء
تعددت أقوال الفقهاء في تعريف بيع الوفاء ولكنها متقاربة من حيث المعنى.
عرفه الزيلعي بقوله:
(هو أن يقول البائع للمشتري بعت منك هذا العين بدين لك علىَّ على أنِّي متى قضيتُ الدين فهو لي)(1) .
فقد اختار عبارة (قضاء الدين) لاسترداد المبيع..
بينما عرفه قاضيخان وتبعه ابن نجيم بقوله:
(بعت منك هذا بكذا على أنِّي متى دفعت لك الثمن تدفع العين إليَّ)(2) .
وهنا استعملت عبارة (دفعت لك الثمن) وهنالك فرق بين عبارة (قضاء الدين) حيث يشعر بالتزام قائم.
وبين عبارة (دفع الثمن) بالتزام في المستقبل.
ونقل في هامش جامع الفصولين عن صاحب جواهر الفتاوي قوله:
بيع الوفاء أن يقول: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن (3) .
(1) الزيلعي، تبيين الحقائق 5/183؛ قاضي خان: 2/164
(2)
البزازية، هامش الفتاوي الهندية: 3/209.
(3)
ابن قاضي سماوة، جامع الفصولين: 1/234.
وهنا استعملت عبارة (تبيعه مني) .
أما ابن عابدين فقد قال في حاشيته:
أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين (1) وواضح أنه استعمل كلمة (رد) .
وجاء في المجلة: بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع (118) .
وبالجملة هنالك عبارات أربعة: (قضاء الدين) .. (دفع الثمن) .. (البيع) .. (والرد) عليه بالثمن..
وبالتأمل في هذه العبارات نجد أن صورة هذا العقد دائرة على لسان الفقهاء بين البيع والرهن.
وكذلك هو بيع الوفاء عند التأمل في أقوال فقهاء المذاهب لدى تخريجهم أحكام المسائل المندرجة تحت بيع الوفاء.
(1) ابن عابدين، الحاشية: 5/276.
* المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
كما تعددت أقوال الفقهاء في تعريفه كذلك تعددت أقوالهم في أسمائه.
فيسميه المالكية: بيع الثنيا (1) .
والشافعية: بيع العهدة (2) .
والحنابلة: بيع الأمانة، ويسمى أيضًا (بيع الطاعة) و (بيع الجائز)(3) .
أما عند فقهاء الحنفية.. فقد تعددت الأقوال في تسميته كما تعددت في تعريفه وتبعًا للأمصار التي جرى عمل فقهاء المذهب فيها ببيع الوفاء.
فهو بيع الوفاء:
وجه تسميته بيع الوفاء: أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن.
وهو البيع الجائز:
وبعض الفقهاء يسميه: البيع الجائز، ولعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه (4) .
وهو بيع المعاملة:
وبعضهم يسميه: بيع المعاملة: ووجهه، أن المعاملة ربح الدين، وهذا يشترى لدائن لينتفع به بمقابلة الدين (5) .
وهو بيع الأمانة:
ويسمى بمصر بيع الأمانة، والوجه في اعتباره بيع أمانة: أنه أمانة عند المشتري، بناء على أنه رهن أي كالأمانة.
وهو بيع الإطاعة أو الطاعة:
وبالشام يسمى بيع الإطاعة - أو الطاعة: وجهه: أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد.
(1) ابن رشد، البيان والتحصيل: 7/336.
(2)
ابن حجر الهيثمي، الفتاوي: 2/229.
(3)
الحطاب: 4/373؛ وبغية المسترشدين: ص132.
(4)
قاضيخان: 2/164؛ والفتاوى الغياثية: ص143.
(5)
ابن عابدين، الحاشية: 5/276.
* مناسبة ذكره في كتب الفقه:
كذلك الشأن اختلفت آراء العلماء في إلحاق هذا العقد تحت أي من أبواب الفقه يكون من المناسب ذكره.
فإذا تأملنا القيد الوارد على المشتري كان شرطًا داخلًا في نية العقد..
ولو تأملنا رضوخ وتسليم الفريق الآخر لهذا الشرط لاح لنا معنى التلجئة.
وإذا نظرنا إلى ضرورة إعادة العين إلى البائع وتسليم المشتري بذلك ظهر لنا معنى الرهن واضحًا في العقد
…
وهكذا نجد صنيع المصنفين في إيراد هذا المبحث في كتبهم.
1-
ذكره الحطاب في باب البيوع المنهي عنها، قال: ومن الشروط المناقضة بيع الثنيا، وهو من البيوع الفاسدة (1) .
2-
وذكره صاحب الملتقط في باب الرهن.
3-
وذكره البزازي وقاضيخان في مباحث البيع الفاسد (2) .
4-
وذكره ابن نجيم وغيره في خيار الشرط (3) .
5-
وذكره الزيلعي في كتاب الإكراه، حيث قال: ومن مشايخ بخارى من جعل بيع الوفاء كبيع المكره (4)
…
وجه المناسبة فجعلوه فاسدًا باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين يفيد الملك عند اتصال القبض به. وينقض بيع المشتري كبيع المكره أي وإن تداولته الأيدي إلا أن لا ينقطع به حق استرداد المبيع وإن تداولته الأيدي بخلاف سائر البياعات الفاسدة..
(1) مواهب الجليل: 4/373.
(2)
البزازية بهامش الهندية: 4/405؛ وقاضيخان: 2/165.
(3)
ابن نجيم، البحر الرائق: 6/8.
(4)
الزيلعي: 5/183.
ما ينعقد به البيع وفاء:
لو قال المشتري: اشتريت منك المبيع الفلاني بكذا على أن أرده لك أو أبيعه منك متى أرجعت إليَّ ثمنه، أو أديتني إياه.
فقال البائع: بعته منك على تلك الصورة انعقد البيع بالوفاء.
وإذا حصل الاتفاق بين الطرفين على أن يكون العقد الذي سيجري بينهما عقد بيع ووفاء ثم عقدا البيع ولم يصرحا فيه بأنه كذلك - فإذا تحقق أنه وقع بعد اتفاق سابق فهو بيع وفاء، وإلا فبيع لازم صحيح (1) .
لو باع إنسان داره المملوكة من آخر بغبن فاحش وقال له: متى رددت إليَّ الثمن أفسخ البيع فالبيع أيضًا بيع بالوفاء (2) .
* حكم بيع الوفاء والأصل المستند إليه في التحليل أو المنع:
اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء اختلافًا كثيرًا حتى فيما بين فقهاء المذهب الواحد وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة المتقدمين منهم والمتأخرين حتى بلغت أقوالهم تسعة نعرض لها بالتفصيل بعد حكاية مذاهب الأئمة الثلاثة الشافعية والمالكية والحنابلة.
وبالجملة: ذهب المالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى: أن بيع الوفاء فاسد.
والوجه فيه: أن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه.
وهو: ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطًا فاسدًا يفسد البيع باشتراطه فيه.
(1) البزازية في الرابع من البيوع: 4/405.
(2)
علي حيدر، المجلة مادة 396 والمادة 85.
* حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية:
استظهر صاحب الفتاوي البزازية تسعة أقوال لفقهاء المذهب في حكم بيع الوفاء.
القول الأول:
قال النسفي في فتاويه: البيع الذي يتعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع وفاء هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن المشتري ما أكل من ثمره وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، وللبائع استرداده عند قضاء الدين متى شاء.
وجه هذا القول: لأن المتعاقدين - وإن سمياه البيع - لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين.
إذ البائع يقول: رهنت ملكي، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والناس يسمونه الرهن، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، حتى جعلت الكفالة بشرط براءة الأصيل حواله
…
والاستصناع عند ضرب الأجل سلمًا وبذلك أفتى القاضي الإمام السفدي والحسن والإمام أبي شجاع بسمرقند، وكثير من الأئمة (1) .
قال في الخيرية: والذي عليه الأكثرون أنه رهن لا يفترق من الرهن في حكم من الأحكام.
وفيه: قلت للسيد الإمام أبي الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن.
- وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله (2) .
(1) البزازية بهامش الهندية: 4/405؛ والفتاوي الهندية: 3/209؛ والزيلعي، تبيين الحقائق: 5/183؛ وجامع الفصولين: 1/234؛ وقاضيخان: 2/165؛ والغياثية: ص143؛ وخلاصة الفتاوى: 3/49.
(2)
جامع الفصولين: 1/234؛ وابن عابدين: 5/276؛ وقاضيخان: 2/165؛ ومعين الحكام: ص143، الباب الأربعون.
حكم بيع الوفاء: في فصول عماد الدين:
فتوى أئمة زماننا أن حكم بيع الوفاء حكم الرهن.
وعليه: تسقط حصة النقصان من مال الوفاء، بأن يقسم مال الوفاء على قيمة الباقي والهالك فيسقط الهالك لا الباقي كما في الرهن.
- وكذا لو أتلف المشتري حصة نقصان نباته أو شجره يضمن قيمته كمرتهن (1) .
قال النسفي: هذا البيع باطل، وهو رهن، وحكمه حكم الرهن، هكذا ذكر وهو الصحيح.
وذكر الإمام محمد بن الفضل البخاري هكذا
…
- وقيل: بيع فاسد، يوجب الملك إذا اتصل به القبض والأول أصح.
وفي جواهر الفتاوي: لا فرق عندنا بين الرهن وبينه في حكم من الأحكام (2) .
القول الثاني:
عن علامة سمرقند صاحب المنظومة نجم الدين النسفي (710هـ) قال: اتفق مشايخ الزمان - وهو ما كان عليه بعض السلف - على صحته بيعًا وإفادته لبعض أحكامه وهي: الانتفاع به دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس، وجوز الاستصناع لذلك.
وقال صاحب النهاية: وعليه الفتوى.
وجه هذا القول:
إن العاقدين تلفظا بلفظ البيع بلا ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ دون المقصود، أو نقول: لا عبرة بمجرد النية بلا لفظ.
ونظيره: من تزوج امرأة على نية أن يطلقها إذا مضى سنة - أي بعدما جامعها - صح العقد ولا يكون متعة (3) .
القول الثالث:
في فتاوى قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر ((إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع)) ، وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزم الوفاء بالوعد (4) .
وجه هذا القول:
لأن المواعيد قد تكون لازمة، قال صلى الله عليه وسلم:((العدة دين)) فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس إليه.
(1) جامع الفصولين: 1/238؛ وقاضيخان: 2/165.
(2)
جامع الفصولين: 1/234، واللآلي الدرية بهامش الجامع.
(3)
جامع الفصولين: 1/235؛ والزيلعي، تبيين الحقائق: 5/184؛ والبزازية بهامش الهندية: 4/406؛ ومعين الحكام: ص144.
(4)
قاضيخان بهامش الفتاوي الهندية: 2/165 و 3/209.
وقال جلال الدين في حواشي الهداية: وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بألف على أني لو دفعت إليك ثمنه تدفع إلي، ثم قال: ويسمى هذا بيع الوفاء. ويمكن أن يكون هذا الآخر على الاختلاف الذي مضى ذكره وتفسيره.
وهذا البيع موجود في مصر وهم يسمونه (بيع الأمانة)(1) .
القول الرابع:
قاله في العدة واختاره الإمام ظهير الدين المرغيناني وغيره من مشايخ بخارى أنه بيع فاسد كبيع المكره، أي للبائع حق نقض المشتري، وجهه لأنه بيع بشرط فاسد. وبه قال الصدر الشهيد حسام الدين والصدر السعيد تاج الإسلام أحمد بن عبد العزيز. وإنما جعلوا بيع الوفاء فاسدًا: باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين، ويفيد الملك عند اتصال القبض به، وينقض بيع المشتري كبيع المكره (2) .
وجه هذا القول:
لأن الفساد باعتبار عدم الرضا، فكان حكمه حكم بيع المكره (3) .
وقال الإتقاني: والأصح عندي أن بيع الوفاء فاسد، يوجب الملك بعد القبض، كسائر البياعات الفاسدة، لأن بيع الوفاء بشرط لا يقتضيه العقد وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط (4) .
(1) الزيلعي، تبيين الحقائق: 5/184.
(2)
البزازية بهامش الهندية: 4/407.
(3)
الزيلعي، تبيين الحقائق: 5/183؛ والبزازية بهامش الهندية: 4/407؛ والغياثية: ص143.
(4)
الزيلعي، تبيين الحقائق 5/184؛ والغياثية: ص143.
القول الخامس:
ما اختاره أئمة خوارزم، أنه إذا أطلق البيع ولكن وكل المشتري وكيلاً يفسخ البيع إذا أحضر البائع الثمن، أو عهد على أنه إذا أوفاه فسخ البيع - والثمن لا يعادل المبيع وفيه غبن فاحش.
أو وضع المشتري على أصل المال ربحًا بأن وضع على مائة عشرين دينارًا فرهن.
وإن كان بلا وضع ربح بمثل الثمن، أو بغبن يسير فبات بشرط أن يعلم البائع بالغبن الفاحش.
أما إذا ظن أنه ثمن عدل لكنه بالغبن الفاحش في الواقع.
- فإذا ظن المعادلة وباع بالغبن الفاحش فبات لأنا إنما نجعله رهنًا بظاهر حله أنه لا يقصد البات عالمًا بالغبن وليس بمعهود وضع الربح على الثمن في البات.
واختار خاتم المجتهدين مولانا سيف الدين البعض أنه رهن (1) .
القول السادس:
ما اختاره البعض منهم الشيخ الإمام فخر الدين الزاهدي وبعض مشايخ سمرقند إذا كان الوفاء غير مشروط في البيع نجعله صحيحًا في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل بسائر أملاكه ولا ضمان عليه ونجعله رهنًا في حق البائع، حتى لا يتمكن المشتري من بيعه ولا يورث عنه ولا يملك المشتري تحويل يده وملكه إلى غيره وأجبر على الرد إذا أحضر الدين لأنه كالزرافة مركب من البيع والرهن.
وكثير من الأحكام له حكمان: كالهبة حال المرض، والهبة بشرط العوض.
وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلخ اعتادوا الدين والإجارة الطويلة ولا يمكن ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء.
وما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه.
وعقب على هذا الرأي بالقول: والفتوى في زماننا على جوازه من هذا الوجه (2) .
(1) البزازية بهامش الهندية: 2/407.
(2)
البزازية بهامش الهندية: 2/409؛ وجامع الفصولين: 1/236؛ ومعين الحكام: ص143.
وفي جامع الفصولين: تواضعا الوفاء قبل البيع ثم تبايعا بلا ذكر شرط الوفاء ثم شرطاه يكون بيع وفاء، ولا عبرة للمواضعة السابقة.
وجه هذا القول:
أن الشرط اللاحق يلتحق بأصل العقد عند أبي حنيفة (1) .
وفي فتاوى قاضيخان: إذا تبايعا من غير شرط ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع ويلزم الوفاء بالميعاد.
وجه هذا القول:
أن المواعيد قد تكون لازمة، قال صلى الله عليه وسلم:((العدة دين)) ، فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس إليه (2) .
وقال جلال الدين في حواشي الهداية: صورته: أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بألف على أني لو دفعت إليك ثمنك تدفع إلي، ثم قال: ويسمى هذا بيع الوفاء.
وهذا البيع موجود في مصر وهم يسمونه (بيع الأمانة)(3) .
وقال في البحر: وينبغي ألا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع وفي النهر والعمل في ديارنا على ما رجحه الزيلعي.
وقال في معين الحكام: مسألة:
يجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد عقد البيع أنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالبيع لازم له، ويُلزم ذلك المشتري متى جاء بالثمن في خلال الأجل وعند انقضائه أو بعده على القرب منه.
ولا يكون للبائع تفويته في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع ورد إليه.
وإن لم يأت بالثمن إلَّا على بعد من انقضاء الأجل فلا سبيل إليه.
وإن لم يضربا في ذلك أجلًا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع، فإن فاته فلا سبيل له إليه.
فإن قام عليه حين أراد التفويت فله منعه بالسلطان إذا كان ماله حاضرًا.
فإن باعه بعد منع السلطان له رد البيع وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه.
(1) ابن عابدين: 4/341، طبعة القاهرة 1257هـ.
(2)
قاضيخان بهامش الهندية: 3/209.
(3)
الزيلعي، تبيين الحقائق: 5/184، باب البيع الفاسد.
القول السابع:
أجاب علاء الدين بدر أنه لا يصح.
وعلى هذا اختيار صاحب الهداية وأولاده ومشايخ زماننا وعليه الفتوى.
أعني لا يملك المشتري البيع من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد القبض.
القول الثامن:
لما وقع التردد في إلحاقه بالفاسد أو الصحيح فإلحاقه بالصحيح أولى تقليلًا للفساد وترجيحًا لقول الإمام.
القول التاسع:
وهو الذي استقر عليه فتوى صاحب الهداية وأولاده ومشايخ العهد.
إن الملك يثبت للمشتري في زياداته، ولا يضمنه بالإتلاف (1) .
وزكاة مال الوفاء على البائع لأنه ملكه بالقبض، وعلى المشتري أيضًا لأنه يعد مالًا موضوعًا له عند البائع أو دينًا له عليه.
- وليس هذا إيجاب زكاة المال على رجلين لأن النقود لا تتعين في العقود والفسوخ، وعليه صاحب الهداية والإمام البزدوي (2) .
هذا وخرج صاحب البزازية على هذا الأصل فروعًا ومسائل عدة يرجع إليها لمزيد من التوضيح.
القول الراجح:
قال علي حيدر في شرح المجلة ما نصه:
والحاصل: أن بيع الوفاء وإن وجد فيه تسعة أقوال فأرجحها القول الذي اتبعته المجلة في قولها: (بيع الوفاء: في حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري) .
وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى كون كلٍّ من الفريقين مقتدرًا على الفسخ.
وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيعه إلى الغير.
وعلى كلٍّ فوجه الشبه بالرهن أَبْيَنُ وأرجح (3) .
* * *
(1) البزازية بهامش الهندية: 2/410.
(2)
جامع الفصولين: 1/239؛ والبزازية: 4/412.
(3)
شرح المجلة: 2/431.
مذهب المالكية
اختلف المالكية في حكم بيع الوفاء على قولين:
القول الأول: أنه بيع باطل، ذهب إلى ذلك ابن القاسم كما في المدونة وعليه أكثرهم.
القول الثاني: أنه رهن باطل، ذهب إلى ذلك سحنون وابن الماجشون وبعض المالكية.
لكن ابن رشد في البداية قال: لا يجوز عند مالك.
وهذه عبارته: وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع، فإنه لا يجوز عند مالك (1) .
وجهه: لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف - إن جاء بالثمن كان سلفًا - وإن لم يجىء كان بيعًا.
جاء في البيان والتحصيل ما نصه:
سئل مالك عمن باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن كان أحق بحائطه وكان إليه رد - فأقام في يد المشتري ست سنين يأكل ثمرته، ويزرع قصيبًا يأكل غلته - ثم أيسر البائع بعد ست سنين فجاءه بالثمن فرده عليه وأخذ حائطه - وقد أكل المشتري ثمرته ست سنين وغلة قصب كان يزرعه.
وطلب المشتري الحائط ما أنفق في الحائط.
وقال مالك: أصل هذا البيع لم يكن جائزًا ولا حسنًا، وأرى للمشتري ما أكل من الثمر واستغل من القصب بالضمان لأنه كان للحائط ضامنًا، وأرى له أيضًا على رب الحائط ما أنفق في بنيان جدار أو حفر بئر رد عليه، وقد بنى فيه وحفر فيه بئرًا.
- وأصل هذا البيع لم يكن جائزًا ولا حسنًا.
(1) ابن رشد، بداية المجتهد: 2/175، الباب الرابع في بيوع الشروط والثنيات.
وقال محمد بن رشد: البيع على هذا الوجه يسمونه (بيع الثنيا) وقد اختلف فيه.
فقيل: إنه بيع فاسد بما شرط على المبتاع من أنه أحق به متى ما جاءه بالثمن، لأنه يصير كأنه بيع وسلف، وهو قول مالك ههنا.
- وفي بيوع الآجال من المدونة: فإن وقع فسخ ما لم يفت بما يفوت به البيع الفاسد وكانت الغلة للمبتاع بالضمان - فإن فاتت صحح بالقيمة. والحائط لا يفوت في البيع الفاسد بالبناء اليسير.
فلذلك قال: أنه يكون على رب الحائط إذا رد إليه ما أنفق.
وقيل فيه: إنه ليس بيعًا وإنما هو سلف جر منفعة.
قال سحنون ذلك في المدونة - وهو قول ابن الماجشون وغيره - لأنه كان المبتاع أسلف البائع الثمن على أن يغتل حائطه حتى يرد إليه سلفه.
- فعلى هذا القول: ترد الغلة للبائع ولا تكون للمبتاع (المشتري) لأنها ثمن السلف فهي عليه حرام (1) .
وجاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى جاء بالثمن فهو أحق بالجارية أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا.
قلت: لِمَ؟
قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف (2) .
وجاء في الحطاب:
ومن الشروط المناقضة (بيع الثنيا) وهو من البيوع الفاسدة. وقال أبو الحسن: هذا الذي يسمى (بيع الثنيا) واختلف إذا نزل هل يتلاقى بالصحة كالبيع والسلف أم لا؟ على قولين: يعني إذا أسقط الشرط.
قال الرجراجي: واختلف إذا أسقط مشترط الثنيا شرطه، هل يجوز البيع أم لا؟ على قولين:
أحدهما: إن البيع باطل، وهو المشهور.
والثاني: إن البيع جائز إذا أسقط شرطه وهو قول مالك في كتاب محمد.
يريد إذا رضي المشتري، وقال الشيخ أبو محمد وقد فسخا الأول.
وقال أبو الحسن: معنى قوله في المدونة: بيع وسلف.
أنه تارةً يكون بيعًا، وتارةً يكون سلفًا، إلَّا أنه يكون له حكم البيع والسلف في الفوات، بل فيه القيمة ما بلغت إذا فاتت السلعة (3) .
(1) ابن رشد، البيان والتحصيل: 7/235 - 236.
(2)
المدونة: 4/22، في البيع والسلف.
(3)
الحطاب، مواهب الجليل: 4/373.
* حكم الغلة في بيع الثنيا:
اختلف في الغلة في هذا البيع:
هل هي للمشتري أو للبائع: قال الرجراجي: اختلف في بيع الثنيا هل هو بيع أو رهن على قولين: وفائدة الخلاف في الغلة.
فمن رأى أنه بيع قال: لا يرد الغلة (1) .
وقد قال مالك في العتبية: إن الغلة فيه للمشتري بالضمان فجعله بيعًا وإنه ضامن والغلة له.
- ومن رأى أنه رهن قال: يرد الغلة، وأنه في ضمان البائع في كل بيع ونقض يطرأ عليه من غير سبب المشتري، وما كان من سبب المشتري فهو ضامن له، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها فيما يغاب عليه، والراجح أنها للمشتري كما نقله ابن رشد في المسألة العاشرة من سماع الشهب من جامع البيوع ومن سماع أصبغ.
وعقب الحطاب على تلك النقول بقوله:
وهذا كله والله أعلم فيما إذا قبض المشتري المبيع واستغله.
- أما ما يقع في عصرنا (القرن العاشر) وهو مما عمت به البلوى من أن الشخص يشتري البيت مثلًا بألف دينار، ثم يؤجره بمائة دينار لبائعه قبل أن يقبضه المشتري وقبل أن يخيله البائع من أمتعته بل يستمر البائع على سكناه إياه، إن كان على سكناه أو على وضع يده عليه وإجازته ويأخذ المشتري منه كل سنة أجرة مسماة يتفقان عليها - فهذا لا يجوز بلا خلاف (2) .
وجه هذا القول:
لعدم انتقال الضمان إليه، والخراج بالضمان، وهنا لم ينتقل الضمان لبقاء المبيع تحت يد بائعه، فلا يحكم له بالغلة.
بل ولو قبض المشتري المبيع ثم أجره للبائع على الوجه المتقدم لم يجز.
وجه هذا القول:
لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال وآل الحال إلى صريح الربا، وهذا واضح لمن تدبره وأنصف والله أعلم.
وبالجملة: فإن ثمرة الخلاف بين قولين - أي في كونه رهنًا - أو بيعًا تظهر في الغلة.
فمن قال: أنه بيع قال: لا يرد الغلة، وتكون للمشتري بالضمان.
ومن قال: أنه رهن قال: يرد الغلة، وأنه في ضمان البائع، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها.
وهذا الخلاف عندهم فيما إذا لم يظهر بالبينة أو بالإقرار أنهما قصدا الرهن.
أما إذا ظهر ذلك فإنه يكون رهنًا باطلًا بالاتفاق لأنه حينئذ يكون سلفًا بمنفعة (3) .
* * *
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 4/272.
(2)
الحطاب على خليل: 4/274؛ وكذا في البزازية على الهندية: 4/405، وقال: كما لو استأجر الراهن الرهن.
(3)
المدونة في مذهب الإمام مالك، وبداية المجتهد، لابن رشد، ومنح الجليل: 2/569؛ والحطاب: 4/272 - 274؛ وفتاوى عليش: 1/242.
مذهب الحنابلة
ذهب الحنابلة إلى بيع الأمانة (الوفاء) الذي مضمونه اتفاق المتبايعين على أن البائع إذا جاءه المشتري بالثمن، أعاد عليه ملك المبيع.
وللمشتري أن ينتفع بالمبيع بالإجارة أو السكنى أو غيرها - عقد باطل بكل حال.
وجه هذا القول:
لأن مقصود المتبايعين إنما هو الربا بإعطاء الدراهم إلى أجل، ومنفعة الدار مثلاً - هي الربح.
والواجب فيه: رد المبيع إلى البائع، وأن يرد المشتري ما قبضه من الثمن (1) .
* * *
مذهب الشافعية
اختلفت أقوال فقهاء مذهب الإمام الشافعي في حكم بيع الوفاء.
من المتقدمين:
منهم من ذهب إلى القول بفساده إذا كان شرط الوفاء في صلب العقد مقترنًا بالإيجاب والقبول، أو في مجلس العقد، أو في زمانه خيار الشرط (2) .
- أما بعض المتأخرين من فقهاء المذهب قالوا: إن بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه.
وهو: انتفاع المشتري بالمبيع وهو البيع من الآخر.
وجه هذا القول:
أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس وتعاملوا به لحاجتهم إليه فرارًا من الربا، فيكون صحيحًا لا يفسد البيع باشتراطه فيه - وإن كان مخالفًا للقواعد!!! لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع (3) .
وقال صاحب بغية المسترشدين من متأخري الشافعية:
بيع العهدة صحيح جائز تثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به، وأضاف قائلًا: لم أرَ من صرَّح بكراهته وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من علماء الإسلام، مع أنه ليس من مذهب الإمام الشافعي، وإنما اختاره ولفقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه.
لكن المتقدمين من فقهاء المذهب قالوا بناء للبيع وللأسباب التي ذكرها القائلون بفساده (4) .
* * *
(1) كشف القناع: 3/149 - 150؛ والإقناع في فقه الحنابلة.
(2)
ابن حجر الهيتمي، الفتاوى: 2/230.
(3)
مغني المحتاج: 2/31؛ ونهاية المحتاج: 3/433.
(4)
بغية المسترشدين: ص133.
أثر فوت المبيع
ما يعتبر فوتًا وما لا يعتبر
إذا كانت قيمة المال المباع بالوفاء مساوية للدين وهلك المبيع في يد المشتري أو أتلفه - سقط من الدين بقدر قيمة المبيع الهالك أو المتلف، فإن لم يتلف المبيع بل طرأ عليه عيب أوجب نقصان قيمته - قسمت قيمة الباقي منه على قيمة ما هلك منه - فيسقط الدين الذي يصيب الحصة التي تلفت ويبقى ما يلحق الحصة الباقية منه.
أما إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء ناقصة عن الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي وأخذه من البائع وسواء أكان الهلاك بلا تعد ولا تقصير من المشتري، أم كان بتعدِّيه وإتلافه (1) .
وإذا كانت قيمة المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري - سقط من الدين قدر ما يقابل الدين وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي.
أما إذا كان بلا تعدٍّ فلا يلزم المشتري أداء تلك الزيادة.
أي إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء يوم القبض زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين سواء حصل التلف بتعدٍ أو لا، غير أنه إذا تلف بتعدي المشتري فعليه أن يضمن ما زاد عن مقدار الدين.
أما إذا تلف بدون تعدٍّ ولا تقصير فالزيادة في حكم الأمانة - فليس على المشتري أداؤها، لأن الأمانة غير مضمونة - فإذا هلكت أو ضاعت بلا صنع الأمين ولا تقصير منه لا يلزمه الضمان (2) .
* * *
(1) البزازية في الرابع من البيوع: 4/405؛ وجامع الفصولين: ط 239؛ والملتقى - ومجمع الأنهر في الرهن.
(2)
شرح المجلة لحيدر - وباز المواد: ص399 - 402.
حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري
للوفاء ببيع الوفاء
لمَّا كان بيع الوفاء يتراوح ما بين الرهن والبيع صحيحًا كان أو فاسدًا على خلاف بين العلماء
…
كما صحَّح بعضهم أن بيع الوفاء إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا.. ولو ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذ المواعيد تكون لازمة فيجعل لازمًا لحاجة الناس.
- كما ذكروا أن الشرط الفاسد إذا ألحق بالعقد يلتحق عند أبي حنيفة رحمه الله لا عند صاحبيه.
- بعد كل هذا صار التزام المشتري الوفاء ضمان رد المبيع إذا طلب إليه البائع هو التزام ديانة (أدبي) لا يرقى إلى مرتبة الالتزام المادي الملزم قضاء.. أي الوجوب قضاء.
لأن بيع الوفاء لم يتمحض بيعًا باتًّا من كل وجه حتى لو كان بيعًا لم يعد أي علاقة بين البائع والمشتري.. ولكن لمشابهة الرهن من وجه آخر
…
فلا يصح طلب الرهن مقابل الوفاء بالرهن.. لأن الرهن حبس مال وإمساكه في مقابل حق ممكن استيفاؤه منه كالأعيان المضمونة بمثلها أو بالقيمة
…
كما يشترط أن يكون مقابل الرهن مالًا مضمونًا.. وهذا ليس مضمونًا.. كما لا يصح أخذ الرهن لأجل مال الأمانة، هذا والله أعلم.
* * *
المحور الثاني
بيع الوفاء وعقد الرهن
* وجه التطابق فيما بين العقدين:
سبق وذكر في فتاوى النسفي أنه قال: إن بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة وخرج على هذا الأصل الفروع التالية:
1-
لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلَّا بإذن مالكه.
2-
المشتري وفاء ضامن لما أكل من ثمر المبيع أو أتلف من شجره.
3-
يسقط من الدين بهلاك المشتري تحت يده.
4-
لا يضمن الزيادة.
5-
للبائع استرداد المبيع وفاء إذا قضى دينه.
6-
لو بيع كرم بجنب هذا الكرم - الذي بيع بيع وفاء - فالشفعة للبائع لا للمشتري.
الوجه في المسألة: لأن بيع المعاملة وبيع التلجئة حكمهما حكم الرهن، وللرهن حق الشفعة وإن كان في يد المرتهن.
7-
فتاوى النسفي: سئل عمن باعه بيع وفاء فتقابضا فاستأجره - البائع - من المشتري هل يلزمه الأجر؟ قال: لا، لأنه رهن، والراهن لو استأجر الرهن من مرتهنه لم يلزمه الأجر.
8-
سئل: عمن باعه بيعًا وفاء، فباعه المشتري من آخر بيعًا باتًّا ولو سلم وغاب هل للبائع الأول أن يخاصم المشتري الثاني ليأخذه منه؟ قال: نعم، وإن كان حق الحبس للمرتهن لكن يد المشتري الثاني غير محقة، والبائع الأول مالك وله طلب ملكه ممن أخذ بغير حق.
ثم للمرتهن أن يأخذه منه ويحبسه متى حضر (1) .
(1) جامع الفصولين: 1/235؛ ومعين الحكام: ص143.
9-
وسئل أبو الحسن الماتريدي: عمن باع نصف كرمه من آخر وفاء، وخرج البائع في الصيف إلى كرمه بأهله. وأخرج المشتري أهله، وأدركت الغلات، فأخذ البائع نصفها والمشتري نصفها:
هل للبائع إذا تقايلا البيع وأعطاه - البائع للمشتري ما فاء - ثمن ما شراه - أن يطالبه بما حمل من الغلات؟
قال: لو أخذه بغير رضى البائع فللبائع أن يطالبه به أما لو أخذه برضاه فيكون ذلك هبة منه.
ثم قال: لا بد من التفصيل فيه: فإن رب الكرم هو الذي نقله - المشتري - إلى كرمه فيحتمل الأخذ برضاه وبغير رضاه.
فأما لو شرى الكرم كله وقبضه المشتري وأخذ غلاته والأخذ بغير رضا البائع وهو في الحقيقة رهن وليس للمرتهن أن يأكل غلة الرهن - فإذا أكلها ضمنها فأفتينا بالضمان على الاتفاق.
لذلك أقول: غرضهما من التبايع - وفاء - هو أخذ غلة الكرم المبيع والانتفاع به فيكون الأخذ برضى البائع سواء باع كل الكرم أو بعضه - فينبغي أن لا يضمن المشتري وفاء (1) .
10-
تسقط حصة النقصان من مال الوفاء بأن يُقيم مال الوفاء على قيمة الباقي والهالك. فيسقط الهالك لا الباقي - كما في الرهن (2) .
11-
لو أتلف المشتري حصة نقصان بنائه أو شجره يضمن قيمته كمرتهن.
ليس للبائع ولا للمشتري بيع مبيع الوفاء لشخص آخر لأن البيع بالوفاء في حكم الرهن في كل شأن من شؤونه.
وعليه: فليس لأحد من البائع والمشتري أن يبيع مبيع الوفاء من آخر بدون إذن الآخر حتى لو باعه البائع من آخر بيع وفاء أو بيعًا باتًّا وسلمه إياه فلا يكون صحيحًا - ولذلك للبائع أو ورثته استرداده من المشتري أو من وارثه، ويجبر المشتري أو وارثه على رده ولو لم يؤد البائع ثمنه إليه.
- ولكل واحد من الطرفين بيعه بإذن الآخر. فإذا باع إنسان ماله المباع بيع وفاء من آخر بيعًا باتًّا وأجازه المشتري وفاءً كان الوفاء جائزًا.
- وإذا باعه من آخر أيضًا نفذ منهما البيع الذي يجيزه المشتري وفاء.
وفي جامع الفصولين في بيع الوفاء لو باع ولم يقبض الثمن لا يمكنه من بيعه ثانيًا من غيره إلَّا بإجازة المشتري أو فسخ البيع (3) .
أما لو باع الكل وفاء وقبض ثمنه ثم أدى نصف الثمن إلى المشتري - يتمكن من بيع نصف المبيع بلا إجازة لما مر من أنه ينفسخ البيع في النصف بقبض نصف الثمن (4) .
* * *
(1) معين الحكام: ص 143.
(2)
جامع الفصولين: ط 238.
(3)
علي حيدر - المجلة ط 365؛ والبزازية في الرابع من البيوع؛ ودر المختار ورد المحتار.
(4)
جامع الفصولين: 1/240.
مبحث
هل يجوز انتفاع المرتهن بالعين المرهونة؟
اتفق الفقهاء على أن عين الرهن، ومنافعه ملك للراهن، وأن للمرتهن ليس إلَّا حق استيفاء دينه من ثمن المرهون إذا تعذر على الراهن وفاء الدين للمرتهن عند الأجل، مقدمًا به على سائر الغرماء.
كما اتفقوا على أن المرتهن لا يحل له الانتفاع بشيء من المرهون، إذا لم يأذن له الراهن، ولم يكن المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة.
واختلفوا في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أذن له الراهن مطلقًا سواء أكان المرهون مركوبًا، أم محلوبًا، أم صالحًا للخدمة أم كان غير ذلك، أو لم يأذن له الراهن، وكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة فالخلاف بين الفقهاء في موضعين:
الموضع الأول: انتفاع المرتهن بالمرهون، إذا أذن له الراهن في الانتفاع.
الموضع الثاني: انتفاع المرتهن بالمرهون، إذا لم يأذن له الراهن في الانتفاع، وكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة.
الموضع الأول
انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أذن له الراهن
اختلف الفقهاء في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أذن له الراهن، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الجواز مطلقًا سواء أكان الدين قرضًا أم غيره، وسواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد أم لا، ذهب إلى ذلك الحنفية (1) .
القول الثاني: عدم الجواز مطلقًا سواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد أم لا، وسواء أكان الدين قرضًا أم غيره، ذهب إلى ذلك الشافعي كما في الأم، وهو قول للحنفية.
القول الثالث: عدم الجواز إذا كان الرهن بدين القرض، والجواز إذا كان بدين غير القرض، كثمن مبيع، وأجرة دار، ذهب إلى ذلك المالكية والحنابلة، وهو المروي في التحفة عن الشافعي، غير أن المالكية والشافعية قيدوا الجواز بأمرين:
الأول: أن يكون شرط الانتفاع في طلب العقد.
الثاني: أن تكون المنفعة معلومة ببيان مدتها.
(1) ابن عابدين: 5/232.
الأدلة
استدل أصحاب القول الأول على جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا: بأن الراهن مالك لجميع منافع المرهون، فله أن يملكها غيره، فإذا أباحها للمرتهن صح ذلك، وحل للمرتهن الانتفاع بالمرهون، وكأن الراهن وهب المنفعة للمرتهن والهبة مشروعة.
ورد هذا الاستدلال بأن الهبة المشروعة هي ما أقدم عليها المالك بمحض اختياره، طيبة بها نفسه، والظاهر من حال الراهن أنه إنما أقدم على إباحة الانتفاع للمرتهن بالمرهون، تحت تأثير الحاجة، ولم يكن إذنه عن طيب من نفسه، وعلى ذلك فلا يحل مال امرىء إلَّا بطيب من نفسه.
واستدل أصحاب القول الثاني على عدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا:
بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه)) (1) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: ((له غنمه وعليه غرمه)) نص صريح في أن منافع الرهن ملك للراهن، ولا يباح منها للمرتهن شيء إلَّا ما يقوم على إباحته دليل صحيح.
وليس هناك دليل صحيح على إباحة الانتفاع، وإذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بملكه - وقد وضعته الحاجة هذا الوضع القاسي - لا ينبغي لمنصف أن يدعي أنه صدر منه عن كمال اختيار وطيب نفس، بل صدر منه تحت سلاح الحاجة القاسية، على أنه في بعض الحالات يكون الانتفاع ربا صريحًا فيما إذا كان الدين قرضًا لقوله صلى الله عليه وسلم:((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) وهو منهي عنه شرعًا، فانتفاع المرتهن بالمرهون منهي عنه شرعًا.
واستدل أصحاب القول الثالث: مالكية، حنابلة، شافعية.
أولاً: على عدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون إذا كان الرهن عن دين قرض:
بما رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) .
(1) له غنمه وعليه غرمه، معناه: للراهن زوائد المرهون ومنافعه، وعليه نقصانه وهلاكه. انظر: المنتقى وشرحه نيل الأوطار: 5/103؛ والأم: 3/147.
ولا شك أن انتفاع المرتهن بالمرهون إذا كان الرهن عن دين قرض، زيادة خالية عن عوض فيكون ربا وهو منهي عنه.
ورد هذا الاستدلال بأن هذا الحديث قد ضعفه علماء الجرح والتعديل من جهة السند فلا يصلح للاحتجاج به.
ودفع هذا الرد بأن هذا الحديث وإن لم يثبت مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت معناه في روايات كثيرة، وجرى عمل الصحابة والسلف الصالح على ذلك، وهذا كاف للعمل به.
وثانيًا: على جواز الانتفاع إذا كان الرهن عن دين غير قرض بمفهوم حديث: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) فإن مفهومه أن غير القرض إذا جر نفعًا لا يكون ربا، فلا يكون نفعه منهيًّا عنه.
وقد رد هذا الاستدلال بأن الحديث لا مفهوم له، لأنه خرج مخرج الغالب، حيث كان الواقع والكثير الغالب - وقت ورود الحديث - أنهم كانوا يأخذون الرهن في مقابلة القرض وينتفعون به، فنهي الشارع عنه بخصوصه لا ينفي الحكم عما عداه، ونظير ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
ولو سلمنا أنه له مفهومًا، فلا حجة فيه أيضًا، لأنه مفهوم لقب ومفهوم اللقب لا يحتج به على القول الراجح عند جمهور الفقهاء.
واستدل المالكية والشافعية على تقييدهم جواز الانتفاع فيما إذا كان الدين غير قرض بكونه مشروطًا في صلب العقد:
بأنه: إذا كان مشروطًا في صلب العقد كان بيعًا وإجارة وهو جائز. وبكون المدة معينة بأن تعيين المدة يخرج من الجهالة المفسدة للإجارة.
ورد على المالكية، والشافعة: أولًا بأن تقييدهم هذا لا يجنبهم المحظور الذي فروا منه، وهو فساد الإجارة، لأنها في هذه الحالة فاسدة لجهالة الأجرة، وكذلك البيع فاسد لجهالة الثمن، لأن الدين أصبح أجرة وثمنًا على الشيوع.
وثانيًا: بأن هذه الإجارة لا اختيار فيها فالظاهر من أمر المشتري أنه إنما قبل هذا الاشتراط تحت تأثير الحاجة، فهو تصرف لا اختيار فيه، وكل تصرف صدر لا عن اختيار فهو غير صحيح.
القول المختار
هذا والمختار من الأقوال الثلاثة هو القول بعدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا سواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد، أم كان غير مشروط وسواء أكان الرهن بدين قرض أم كان بغير دين قرض، لقوة أدلته وسلامتها مما ورد عليها، ولأنه يتفق وسماحة الدين ويسره ونبل مقصده حيث حث على التعاون وأكده، أما تَحَيُّن الفرص لأكل أموال الناس بالباطل فليس في شرائع الله تعالى ما يبيحه.
الموضع الثاني
انتفاع المرتهن بالمرهون إذا لم يأذن له الراهن بالانتفاع
وكان المرهون مركوبًا أو محلوبًا أو صالحًا للخدمة
اختلف الفقهاء في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا كان مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة، ولم يأذن الراهن للمرتهن بالانتفاع بالمرهون، على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يحل انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب، أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن له بالانتفاع، ركوبًا، أو حلبًا، أو خدمة مطلقًا، سواء أكان الانتفاع بقدر نفقة المرهون أو أزيد منها، وسواء أكان الإنفاق على المرهون لامتناع الراهن عن الإنفاق على المرهون أم كان لغيبته، ذهب إلى ذلك الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأحمد في رواية مرجوحة عنه.
القول الثاني: يحل الانتفاع بالركوب، أو الحلب خاصة بقدر النفقة متحريًّا العدل في ذلك مطلقًا، سواء أكان الإنفاق لامتناع الراهن عن الإنفاق أو لغيبته، أم كان مع عدم امتناعه وقدرته مع حضوره، ذهب إلى ذلك الحنابلة وإسحاق (1) .
القول الثالث: يحل الانتفاع بالمرهون ركوبًا أو حلبًا أو استخدامًا شرط امتناع الراهن من الإنفاق عليه، ويكون الانتفاع بقدر النفقة فقط، ذهب إلى ذلك أبو ثور، والليث، والأوزاعي (2) .
القول الرابع: يحل الانتفاع بالمرهون ركوبًا وحلبًا فقط، إذا امتنع الراهن من الإنفاق عليه، وتكون المنفعة بالغة ما بلغت في مقابلة النفقة، فلا يقيد حل الانتفاع بقدر ما ينفقه على المرهون (3) .
(1) مغني الحنابلة: 4/432؛ وتفسير القرطبي: 3/411.
(2)
مغني الحنابلة: 4/433؛ المنتقى وشرحه نيل الأوطار: 5/102.
(3)
المحلى لابن حزم: 8/89.
الأدلة
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول على عدم حل انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب، أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن للمرتهن بالانتفاع مطلقًا، بالسنة والقياس:
أما السنة: فما رواه الشافعي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه)) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغنم للراهن، والغرم عليه، ولا شك أن المنافع من غنمه، فلا يصح للمرتهن أن ينتفع بشيء منها بدون إذن مالكها بلا تفرقة بين مركوب ومحلوب وبين غيره.
ونوقش هذا الدليل من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث مختلف في وصله، وإرساله، ووقفه، ورفعه، وهو مع هذا الاختلاف لا يقوى على معارضة ما رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
ودفع هذا الوجه بأن الوصل والرفع زيادة من الثقة، وهي مقبولة، والاختلاف فيها لا يمنع من صحة الاحتجاج بالحديث.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث في سنده، عبد الله بن الأصم الأنطاكي، وله أحاديث منكرة، ذكرها ابن عدي في كتابه، ومنها هذا الحديث.
ودفع الوجه الثاني بأن هذا الحديث قد ورد من طرق أخرى ليس فيها هذا الراوي، وهذه الطرق حسنها علماء الحديث كما قال صاحب نصب الراية.
الوجه الثالث: أن قوله: ((له غنمه وعليه غرمه)) ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب، نقله عنه الزهري كما قال أبو داود في مراسيله.
ودفع الوجه الثالث بأن معمرًا ذكره عن ابن شهاب مرفوعًا، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب (1) .
وأما القياس: فإن المرهون ملك الراهن وليس للمرتهن فيه إلَّا حق الحبس، ولم يأذن الراهن للمرتهن بالانتفاع به، ولا الإنفاق عليه، فلم يكن له ذلك كغيره من الأموال، فكما أنه لا يجوز للمرتهن ولا لغيره الانتفاع بأموال الرهن غير المرهونة بغير إذنه فكذلك لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون بغير إذن الراهن، بجامع أن المرهون وغير المرهون من أموال الراهن ملك له.
ورد هذا القياس بأنه فاسد الاعتبار لأنه واقع في مقابلة نص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا)) ، فالقياس فاسد الاعتبار ولا يصلح للحجية.
(1) نصب الراية: 4/220، 221.
أدلة القول الثاني
استدل أصحاب القول الثاني على حل الانتفاع بالركوب والحلب خاصة بقدر النفقة مع تحري العدل في الانتفاع بقدر النفقة مطلقًا - بالسنة والقياس:
أما السنة: فما رواه البخاري وأبو داود والترمذي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل منفعة المرهون في مقابل نفقته، ولم يقيد ذلك بإذن الراهن ولا بامتناعه عن الإنفاق، كما لم يقيد الانتفاع بكونه بمقدار النفقة، ولكن ورد ما يقيد إطلاقه في هذه الناحية، وهو ما رواه حماد بن سلمة في جامعه بلفظ:(إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر علفها، فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)(1) .
ورد هذا الدليل بأربعة أوجه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث مجمل حيث لم يبين فيه من المنتفع، أهو الراهن أم المرتهن، وهو مع هذا الإجمال لا يصح به الاستدلال.
ودفع الوجه الأول: بأن هذا الحديث لا إجمال فيه، فإنه جعل الانتفاع عوضًا عن النفقة، وهذا إنما يصح في حق المرتهن، ولا يصح في حق الراهن لأن الراهن إنما ينفق على المرهون وينتفع به بحق الملك لا بطريق المعاوضة وعلى تسليم أنه مجمل في حد ذاته، فقد جاء في بعض رواياته ما يبين هذا الإجمال وهو:((إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب النفقة)) ، فهذه الرواية صريحة في أن المنفق هو المرتهن، فيكون هو المنتفع.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كان قبل تحريم الربا، ثم نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم:((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) (2) .
ودفع الوجه الثاني: بأن النسخ لا يثبت بمجرد ادعائه، بل هو متوقف على القطع بتقدم المنسوخ وتأخر الناسخ، وعدم إمكان الجمع بينهما، والتاريخ مجهول، فلا تصح دعوى النسخ.
الوجه الثالث: أن هذا الحديث معارض لحديث ابن عمر عند البخاري وغيره، ولفظه:(لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه) وهو حاظر وإذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر.
ودفع الوجه الثالث: بأن معارضة حديث ابن عمر لا تضر لأنها بين عام وخاص، فيحمل حديث ابن عمر العام على ما عدا ما دل عليه الخاص وهو حديث: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا
…
إلخ)) .
والجمع بين الدليلين أولى من إهدار أحدهما.
(1) مغني الحنابلة: 4/433.
(2)
المبسوط للسرخسي: 21/108.
الوجه الرابع: أن هذا الحديث مخالف للقياس من وجهين:
الأول: أنه جوز الانتفاع لغير المالك بغير إذنه وهو ممنوع، لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل مال امرىء إلَّا بطيب من نفسه)) .
الثاني: أنه جعل الضمان بالنفقة، والأصل في الضمان أن يكون بالمثل أو بالقيمة.
ودفع الوجه الرابع: بأن مخالفة الحديث للقياس غير قادحة في الاستدلال لأن الأئمة أثبتوا كثيرًا من الأحكام بالنصوص، وقالوا: إنها ثابتة على خلاف القياس كالإجارة، والسلم، وغيرهما.
وأما القياس: وهو الدليل الثاني من أدلة القول الثاني فقد قالوا في تقريره: إن نفقة الحيوان واجبة على الراهن، وللمرتهن فيه حق، وقد أمكنه استيفاء حقه من الرهن، والنيابة عن المالك فيما وجب عليه، واستيفاء ذلك من منافع المرهون، وهو جائز قياسًا على المرأة يجوز لها أخذ نفقتها من مال زوجها عند امتناعه - بغير إذنه، والنيابة عنه في الإنفاق على نفسها فالجامع بين المرتهن وبين المرأة هو مطلق الامتناع من كل من الراهن والزوج فيجوز للمرتهن أن ينفق على الحيوان المرهون، ويأخذ مقابلها من منفعته.
كما يجوز للمرأة أن تنفق على نفسها من مال زوجها عند امتناعه من الإنفاق عليها متى أمكنها ذلك.
أدلة القول الثالث
استدل أصحاب القول الثالث على حل انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا بالسنة، كما استدلوا على انتفاع المرتهن بالمرهون استخدامًا بالقياس.
أما السنة: فأولًا ما رواه الشافعي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه)) .
وثانيًا ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
ووجه الدلالة من الحديثين أن الحديث الأول دل على أن جميع منافع المرهون للراهن، والحديث الثاني دل على أن للمرتهن أن ينتفع بالمرهون ركوبًا وحلبًا في نظير إنفاقه عليه فجمعا بين الحديثين يحمل الأول على ما إذا قام الراهن بالإنفاق على المرهون، والثاني على ما إذا امتنع من الإنفاق عليه.
وأما القياس: فالاستخدام كالحلب والركوب، لأنه في معناهما، فكما جاز انتفاع المرتهن بالركوب والحلب، فكذلك يجوز انتفاعه بالاستخدام.
أدلة القول الرابع
استدل أصحاب القول الرابع على حل انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا فقط إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون في نظير الانتفاع بمنفعة المرهون ولو زادت على قدر النفقة بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرىء مسلم إلَّا بطيب من نفسه)) .
فهذه النصوص - من كتاب الله وسنة رسوله - تدل صراحة على أن انتفاع الشخص بمال غيره من غير إذنه حرام، ولا شك أن ملك الشيء المرهون باق لراهنه، فانتفاع المرتهن به لا يحل بدون إذن الراهن، وقد جاء الحديث:((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) وهو يفيد جواز انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا من غير إذن الراهن، ولم يقيد ذلك بقدر النفقة فيقتصر على مورد النص، ويبقى التحريم فيما عداه.
ورد هذا الدليل بأنه قد جاء في بعض الروايات التقييد بقدر النفقة، وهو ما رواه حماد بن سلمة في جامعه، بلفظ:((إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر علفها، فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) (1) .
وهذا صريح في أن الانتفاع بما زاد على قدر النفقة يكون حرامًا، فالواجب تقييد حديث الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا
…
إلخ، بهذا الحديث.
(1) نيل الأوطار للشوكاني: 5/102.
المختار
والقول المختار من الأقوال الأربعة في انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به.
هو القول الثالث وهو ما ذهب إليه أبو ثور، والليث، والأوزاعي من حل الانتفاع بقدر النفقة إذا امتنع الراهن عن الإنفاق على المرهون، لقوة أدلته ولموافقته لروح التشريع، ولما فيه من المحافظة على حقوق الراهنين والمرتهنين وعلى الأموال التي أمر الشارع بالمحافظة عليها ونهى عن إضاعتها وأكلها بالباطل.
فإن الناظر في أدلة المذاهب المختلفة، يرى أنه قد سلم منها حديث:((له غنمه، وعليه غرمه)) ، وحديث:((الظهر يركب بنفقته)) ، وحديث:((فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) ، وسبيل العمل بالأحاديث المتعارضة هو الجمع بينها، وأما الأخذ ببعضها وترك البعض الآخر لمجرد ما أثير حوله من أقاويل أو تعصب لرأي معين، فبعيد عن الصواب، والإنصاف يقضي:
أولًا: بحمل حديث: ((له غنمه، وعليه غرمه)) العام، على حديث:((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا)) الخاص، فيبقى العام مانعًا من انتفاع المرتهن بدون إذن الراهن فيما عدا المركوب والمحلوب.
ثانيًا: بتقييد حديث: ((الظهر يركب
…
)) المطلق، المفيد جواز انتفاع المرتهن بالمرهون، في نظير النفقة، سواء امتنع الراهن من الإنفاق أم لا، وسواء كانت المنفعة مساوية للنفقة أم لا - في موضعين -:
الأول: إذا امتنع الراهن من الإنفاق.
والثاني: إذا كانت المنفعة مساوية للنفقة.
أما الأول: فلأن الأصل أن نفقة المرهون على مالكه، كما أفاده حديث:((وله غنمه وعليه غرمه)) ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلَّا إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون.
ولما كان المرتهن صاحب حق في المرهون، وبترك النفقة عليه يفوت هذا الحق جعل الشارع النفقة عليه في مقابل انتفاعه ركوبًا، أو حلبًا، لئلا يتضرر من الإنفاق على ملك غيره بالمجان، وقياس الحنابلة تصرف المرتهن على تصرف المرأة في مال زوجها بالإنفاق على نفسها، يؤيد ذلك، لأن المقيس عليه خاص بحالة امتناع الزوج من الإنفاق، فيجب أن يكون المقيس كذلك مقيدًا بتلك الحالة، وإلَّا كان قياسًا مع الفارق.
وأما الثاني: فلأن حديث: ((فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) صريح في ذلك حيث كان الزائد عن النفقة ربا، وهو محرم شرعًا، وبذلك يظهر بوضوح رجحان ما ذهب إليه أبو ثور، والليث، والأوزاعي، من جواز انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا واستخدامًا بقدر ما ينفقه عليه لا غير، إذا امتنع الراهن عن الإنفاق على المرهون وفي حكمه إذا غاب، أو تعذر إنفاقه لعدم قدرته على الإنفاق، والله عنده علم الصواب.
والخلاصة أن التحريم متفق عليه في غير مسألة المركوب والمحلوب، أما فيها فقد قيل بالحل. ولكن الجمهور على خلافه ولا شك أن الأرض المرهونة ليست كالحيوان حتى تقاس عليه، فلا يجوز أن يكون القرض على رهنها سببًا في الانتفاع بها اتفاقًا فإن محل الخلاف بين الجمهور وغيرهم إنما هو الحيوان كما علمت.
* * *
المحور الثالث
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء:
1-
أن بيع الوفاء ليس برهن محض، وأن ثمن الوفاء ليس بدين محض في ذمة البائع.
2-
لو كان الثمن في بيع الوفاء دينًا لكان المبيع رهنًا ولما كان المبيع بيع الوفاء رهنًا فلا يملك المشتري منافعه.
3-
لو كان ثمن الوفاء دينًا لما جاز البيع وفاء قبل الثمن لأنه يصير رهنًا بلا دين، وهو لا يجوز.
4-
لو كفل بدين فشرى الطالب به عقار المديون وفاء تبطل الكفالة ثم لا تعود بفسخها بيع الوفاء.
5-
لو باعه ولم يقبض الثمن لا يتمكن من بيعه من آخر قبل فسخه، والرهن كذلك.
6-
أن زكاة مال الوفاء تجب على البائع ولو كان دينًا محضًا لما وجب عليه، وفي هذا الوجه لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام لأنه ملكه بقبضه، وعلى المشتري لأنه يعد مالًا موضوعًا له عند البائع أو دينًا له عليه (1) .
7-
البائع والمشتري في البيع بالوفاء مقتدران على الفسخ.
8-
كون المبيع في بيع الوفاء غير مشاع شرط.
9-
ليس للبائع أو المشتري بيع المبيع وفاء من آخر.
10-
يجوز أن يشترط في بيع الوفاء أن تكون منافع المبيع للمشتري.
11-
إذا تلف المبيع وفاء في يد المشتري سقط من الدين بمقداره ولو كان ذلك بدون تعد منه.
12-
إذا توفي أحد العاقدين للبيع بالوفاء قامت ورثته مقامه.
13-
يميز المشتري وفاء عن غيره في أخذ المبيع (2) .
14-
أن المشتري يملك زوائد المبيع وفاء ولا يضمنها بإتلافها (3) .
(1) جامع الفصولين: 1/247.
(2)
علي حيدر، شرح المجلة: 1/364.
(3)
جامع الفصولين: 1/237.
خاتمة البحث
هذا ما أعان الله عليه ووفقنا إليه من جهد المقل في بحث (بيع الوفاء) راجيًا المولى تعالى أن يكون قد حالفنا الصواب فيما وقع الاختيار عليه من أقوال فقهاء الإسلام.. ولما كانت المسألة خلافية فيما بينهم في العديد من المسائل والصور ليتوجه ما شاء من العلماء إلى من شاء من أقوال الفقهاء ما دام ترجح لديه قول إمامه أو من يقلد من الأئمة وفي النتيجة نحن أمام مقولتين.
إحداهما فيها السعة: المعاملات طلق حتى يعلم المنع.. وتقابل القاعدة: التقوى فوق الفتوى، والله من وراء القصد.
الشيخ خليل محيي الدين الميس
* * *