الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد الاستصناع
ومدى أهميته في
الاستثمارات الإسلامية المعاصرة
إعداد
فضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا البحث يدور على محورين:
المحور الأول: عقد الاستصناع في ذاته: حقيقته ومشروعيته وضرورته، واختلاف المذاهب والآراء الفقهية فيه، وهل هو مستقل له خصائصه. أو ملحق بأحد العقود المعروفة التقليدية، وتعريفه وتكييفه، وآثاره وما إلى ذلك بصورة إجمالية تؤدي الغاية من بحث يقدم في دورة اجتماع البنوك الإسلامية، دون تغلغل في الأحكام الفرعية، وتفصيل في الآراء والأدلة مما محله الكتب.
المحور الثاني: هو مدى أهمية عقد الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة، وماذا يلبي من الاحتياجات الزمنية ويفتح من أبواب للاستثمارات الإسلامية كانت تضيق عنها العقود الأخرى غير عقد الاستصناع الذي تميز بخصائص عما يشابهه من العقود وهي: الإجارة، والسلم، والبيع المطلق (العادي) .
وسنتكلم في ما يلي في هذين المحورين بهذا الترتيب، متقيدين بهذا الإجمال الذي أشرنا إليه بحسب طبيعة المجال الذي يقدم فيه هذا البحث.
المحور الأول
عقد الاستصناع في ذاته
إيضاحات تمهيدية:
تطورت حاجة العصر الحاضر في أنواع التعامل والعقود تطورًا كبيرًا، لعوامل كثيرة تميز بها هذا العصر، منها الابتكارات المذهلة في وسائل الاتصال السريع بين أقطار العالم المتنائية، ومنها الابتكارات الصناعية لأنواع من السلع لا يمكن تصورها في الماضي القريب – بله البعيد - وتؤدي للإنسان منفعة لم يكن ليحلم بها، أو تسهل له خدمة ضرورية كانت شاقة عليه عملًا وكلفة ووقتًا، فإذا بها تصبح أيسر ما يكون.
ومن عوامل تطور حاجات العصر أيضًا نمو علم الاقتصاد وتوسع آفاقه وتعمقها، واكتشاف مؤثرات ومؤشرات فيه ذات دلالة كبيرة الأهمية لم تكن معروفة أو مؤصلة من قبل، مما جعل التعامل التجاري مرتبطًا بالزمن موعدًا ومددًا، ارتباطًا وثيقًا ودقيقًا عظيم التأثير.
كان من نتائج هذه الخصائص التي تميز بها عصرنا هذا عما سبقه ظهور عقود جديدة لوفاء حاجات لم تكن بارزة أو ملحة في عصور فقهائنا الأوائل، كعقود المقاولات في المباني والمصانع الكبرى والمشاريع والمنشآت الضخمة، كما أبرزت هذا العصر أهمية لبعض أنواع التعاقد كانت معروفة بصورة بدائية فأخذت صورة متطورة أخرى كالشركات الحديثة.
وكذلك ظهر في هذا العصر المتطور حاجة إلى أنواع من التعامل كانت الحاجة إليها ضئيلة محدودة في النطاق الشخصي، ولكنها اليوم في عصر المشاريع والصناعة والتمويلات الكبرى والائتمانات الضخمة نرى فيها قابلية لأن تلبي مطالب اقتصادية مهمة، وتحل بعض المشكلات في التعامل لمن يحرصون على التزام قواعد الشريعة الإسلامية وفقهها في معاملاتهم، كبيع السلم وشركة المضاربة. ولعل أهم ما ينطبق عليه ذلك في هذا المجال عقد الاستصناع.
لمحة عن نشأة عقد الاستصناع والحاجة إليه:
تعارف الناس عقد الاستصناع من القديم قبل الإسلام، وذلك لأن الحاجة إليه مرتبطة بأسباب طبيعية عامة، وإن الحاجة، كما يقال، هي أم الاختراع. وينطبق ذلك على العقود بوجه عام، فإن كل عقد إنما ولد وتعورف طريقًا لتحقيق غاية اشتدت حاجة المجتمع إليها. وقد ولد عقد الاستصناع من الحاجة إليه في حياة اجتماعية آخذة في التحضير كما ولد ونشأ غيره من العقود.
فحاجة الإنسان في حياته البدائية الأولى إلى سلعة ليست عنده، وهي موجودة عند غيره، لما اشتدت فتح لها باب (المقايضة) التي هي أقدم صور مبادلة المال بالمال عينًا، والتي هي أصل البيع والشراء بالتراضي.
ثم لما لم تعد المقايضة كافية لتلبية الحاجة المستمرة في الاتساع، بسبب ضيق النطاق المتاح في المقايضة بين السلع المتعادلة، ابتكرت النقود في صورتها البدائية، فأصبح التبادل المتعادل ممكنًا بين السلعة المطلوبة لراغبها ومقدار من النقود المتعارفة المقبولة معادل لها، فانحلت صعوبة المقايضة بفتح باب لبيع السلع وشرائها بالنقود. وهذا الفتح الجديد قد ولد حاجة جديدة إلى جعل قطع النقود متفاوتة حجمًا وقيمة بحسب حاجة المبادلة وحجمها، فنشأ من ذلك عقد الصرف، لمبادلة القطع الكبرى من النقود بقطع أصغر، وهكذا
…
ثم لما كثرت حاجة الأفراد الذين يحتاج أحدهم إلى ما عند غيره من السلع الاستعمالية الخادمة لكي يستعملها مدة قصيرة فقط، ورؤي أن شراء كل ما يحتاج إليه لمدة قصيرة هو أمر عسير جدًّا غير مستطاع، تولد من هذه الحاجة عقد يستطيع الإنسان فيه أن يدفع جزءًا يسيرًا من قيمة السلعة التي يريد استعمالها لمدة قصيرة يعادل المنفعة المحدودة الموقوتة التي يريدها من السلعة، فتولد وتعورف العقد الذي سمِّيَ فيما بعد بالإجارة التي لولاها لاضطر كل ذي حاجة إلى سلعة عند غيره لمدة موقوتة أن يشتريها بكامل ثمنها ثم يطرحها.
ثم لما اتسع نطاق التعامل في كل مجتمع، وظهرت التجارة لتوفير أنواع السلع لمحتاجيها، وأخذت طريقها في الاتساع، لجأ التجار إلى المداينة والائتمان عندما يكون المشتري ليس لديه حين الشراء كامل الثمن، فيمهله البائع طمعًا في توسيع دائرة زبائنه وأرباحه، ويستوفي منه فيما بعد، وظهر بذلك للمداينة مصلحة للطرفين يدور بها دولاب التجارة وتعظيم مردوداته.
لكن إبليس للإنسان بالمرصاد، فأخذ يلعب بعقول بعض الناس مستغلًّا ما عندهم من غريزة الطمع، فأصبح بعض المدينين لا يؤدي دينه في ميعاده، أو يحاول أكله بشتى الأساليب والوسائل وحرمان صاحبه الذي وثق به من حقه، فكثر فساد الذمم لدى بعض الناس من أمثال ذلك القائل:
إني وجدك لا أقضي الغريم وإن
حان القضاء وما رقت له كبدي
إلا عصا أرزن طارت برايتها
تنوء ضربتها بالكف والعضد
[روى هذين البيتين ابن منظور في لسان العرب، مادة (رزن) والأرزن شجر صلب العود تتخذ منه العصي] .
واشتدت الحاجة إلى وسيلة لضمان الوفاء، فتولد عقد الرهن لتوثيق الحقوق، وهلم جرا
…
وهكذا نرى أن العقود التي تعارفها الناس في مجتمعاتهم، وتكونت منها طرق التعامل المتشابكة والائتمانات والضمانات لم تنشأ دفعة واحدة، كما يدون نظام تعاملي اليوم في قانون مكتوب يصدر كاملًا، وإنما تولدت ونشأت على التوالي، وتطورت أحكامها الفرعية بحسب الحاجة.
وينطبق ذلك على عقد الاستصناع موضوع بحثنا هذا، فقد تولد وتعارفه الناس في مجتمعاتهم من القديم لظهور الحاجة الشديدة إليه في النطاق الشخصي، ذلك أن لأفراد الناس في كل مجتمع بعض حاجات تختلف بطبيعتها بين فرد لآخر، فما يصلح منها لواحد لا يصلح لغيره:
فالحذاء الذي يحتذيه الشخص في قدميه مثلًا لا يمكن أن يصلح فيه مقاس واحد حجمًا وشكلًا لأي كان، لا خلاف أقدام الناس رجالًا ونساء، ولا سيما أيضًا بسبب اختلاف الأعمار.
وكذلك الملابس، فالشخص الجسيم أو الطويل لا يصلح له ما يصلح للنحيف أو القصير، والخاتم الذي كانت تختم به الرسائل منقوشًا عليه اسم صاحبه، لا يصلح لغير صاحبه.
أضف إلى ذلك اختلاف الأذواق والرغبات بين الأشخاص: فالحلي التي تصنع من المعادن النفيسة وترصع بالأحجار الكريمة للتزين قد يريد محتاجها شكلًا أو لونًا غير ما يريده سواه ويهواه ذوقه.
لذا ظهرت الحاجة واشتدت من القديم إلى أن يوصي الإنسان على بعض أشيائه الخاصة وفق ما يلائم حاجته وذوقه من الأوصاف، لدى من يصنعها له من محترفي صناعتها، بمادة وعناصر من عند صانعها، وبثمن معين في مدة يتفق عليها، وذلك لصعوبة تجميع تلك العناصر، وبالمقادير التي تحتاج السلعة من قبل راغبها.
هذه هي الصورة الأصلية لعقد الاستصناع، والحاجة التي دعت إلى تعارفه، لأن عقد البيع بصورته العامة التي يتعاقد فيها الناس على البيع والشراء في سلع مهيأة جاهزة لم يكن ليلبي جميع احتياجات الناس المختلفة من وجوه عديدة، لاختلاف الحاجات ذاتها، واختلاف الأذواق والمشارب، والرغبات والمطالب.
ومن ثم شاع عقد الاستصناع في جميع المجتمعات البشرية المتحضرة التي تتكون فيها المهن والاحتراف الذي يهدف إلى أداء خدمات وأعمال إلى الغير نحتاج إلى اختصاص كصنع الأحذية، وحياكة الثياب، والنقش على المعادن، والنجارة، وصنع الأواني، وغير ذلك لقاء عوض يتفق عليه، وظل عقد الاستصناع في النطاق الفردي الشخصي.
ظهر في هذا العصر ولا سيما من أول هذا القرن العشرين الميلادي مزيد من الحاجة إلى بعض حالات بيع المعدوم، كشراء مصنوعات يوصى عليها لدى بعض المصانع لا تتوافر فيها جاهزة لضخامة كمياتها، أو لمواصفاتها الخاصة.
مثل هذا التوصيات الشرائية بين الشركات التجارية الكبرى العالمية، والمصانع المشهورة في البلاد الصناعية في العالم، أصبحت حاجة أساسية في الممارسات الاقتصادية، نظرًا للازدياد المستمر في عدد السكان، وازدياد الطلب – تبعًا لذلك – على السلع الصناعية الأصلية والمستجدة التي أوجدتها الاختراعات وفنون الصناعة، وحققت منافع جديدة، ويسرت من الوسائل، ووفرت كثيرًا من الزمن والمتاعب، وذللت من مصاعب الحياة حتى أصبحت لا يستغنى عنها في حياة مدنية حديثة. وقد شمل ذلك الأغذية والأدوية، والتدابير الصحية الخاصة والعامة، الوقائية والعلاجية، وتدبير المنزل والتربية والتعليم والنقل والمواصلات بوسائلها المختلفة، وتعبيد الطرق والاتصالات عن بعد، والملابس للرجال وللنساء والأطفال بمختلف أنواعها لمختلف الفصول، ووسائل الفلاحة والزراعة، ومكافحة الحشرات، والتعبئة (حتى أن هناك معامل خاصة بصناعة بعض أنواع علب التعبئة أو التعليب فقط لا غير) ، إلى أدوات الكتابة والطباعة، والتسلية والرياضة، أضف إلى ذلك وسائل الإنارة والتنظيف والتدفئة والتبريد والتثليج، وسوى ذلك مما لا يستطيع الفكر والنظر إحصاءه، وتعجز الأقلام والأرقام عن حصره.
كل هذه الشبكة الهائلة العظيمة المحيطة بحياة الإنسان اليوم، فردًا وجماعات، أصبحت هدفًا مشتركًا بين الصناعة والتجارة التي تغطي أقطار العالم بطريق الشركات العظمى الصناعية والتجارية. وكثير من إنتاج المصانع يتم بطريق التوصية والاستصناع، فهي قد تنتج مصنوعاتها من تلقاء أنفسها وتعرضها على الأسواق، ولكنها كثيرًا ما تتلقى التوصيات وتعقد الصفقات الكبرى بطريق الاستصناع للشركات التجارية، وكبار التجار المستوردين.
تطور الحاجة إلى توسيع نطاق الاستصناع:
إلى جانب هذه الحاجة العامة إلى الاستصناع في مختلف السلع الصغرى الاستهلاكية والاستعمالية قامت حاجة أعظم إلى السلع الكبرى من الآليات والمعدات، كالقطارات والطائرات والبواخر العملاقة من حمولة خمسمائة ألف طن فأكثر من حاملات النفط وسواه، حتى المصانع الآلية ذاتها بجميع أجهزتها يشتريها من يريد إنشاءها بطريق الاستصناع بحسب حاجته ضخامة وطاقة إنتاجية.
وقد ظهرت هذه الأهمية العظمي لعقد الاستصناع في القرن الماضي (التاسع عشر) ، قرن الثورة الصناعية في البلاد المتطورة (في الغرب) وهو أيضا القرن الذي أناخ فيه الاستعمار بكلكله على البلاد المتخلفة صناعيًّا (آسيا وأفريقيا بوجه عام) ، وفي بعض سواهما من القارات الأخرى، واتخذ منها مصادر للمواد الأولية التي تحتاج إليها صناعات المستعمرين، وأسواقًا لمنتوجات مصانع بلادهم.
فقد جاء في تقرير جمعية مجلة الأحكام العدلية الذي رفعت به المجلة بعد الفراغ من تدوينها وتحريرها إلى مقام الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) عالي باشا في الدولة العثمانية سنة 1286هـ إشارة إلى أهمية عقد الاستصناع مبينًا أن الجمعية أخذت بعدم خيار الرؤية للمشتري المستصنع في عقد الاستصناع وهو قول مرجوح في المذهب الحنفي، ولم تأخذ بالقول الراجح، وذلك منها بدافع المصلحة للأهمية الكبرى التي أصبحت لعقد الاستصناع وشموله لأنواع جديدة من المصنوعات المكلفة التي إذا أعطي فيها خيار الرؤية للمشتري المستصنع (ولو جاءت موافقة للمواصفات المطلوبة) تترتب عليه مشكلة وضرر لا يحتمل للصانع. فقالت جمعية المجلة حول هذا الموضوع ما نصه:
" وعند الإمام الأعظم للمستصنع الرجوع بعد عقد الاستصناع، وقال الإمام أبو يوسف رحمه الله: إنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي شرطت وقت العقد فليس له الرجوع. والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة. وبذلك صار الاستصناع من الأمور العظيمة التي جرى عليها الناس. فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة. ولما كان الاستصناع مستندًا إلى التعارف، ومقيسًا على السلم المشروع على خلاف القياس بناء على عرف الناس لزم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا، مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة ".
إن تلك الشبكة الهائلة من المصنوعات المشار إليها، والتي في أغلب الأحيان يحتاج إلى التعاقد عليها قبل وجودها، كان الطريق إليها في فقه الشريعة ينحصر في عقد السلم الذي أجيز في بيع المعدوم الذي يمكن وجوده أو إيجاده في المستقبل استثناء من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم لما يحفه من الغرر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم استثناء.
وهذا الاستثناء للسلم واضح الحكمة وعظيم الأهمية في الميزان الاقتصادي، فإن عنصري الإنتاج اللذين لا بد من اجتماعهما لتحققه، وهما رأس المال والعمل، قد يفترقان في كثير من الأحيان فيتعطلان، حيث يوجد المال في يد عاجزة عن استثماره ومداولته في طريق الإنتاج، وتوجد اليد القادرة على الإنتاج ولكنها محتاجة إلى رأس المال.
فإباحة بيع المعدوم الذي يمكن أن ينتجه المعدم المحتاج إلى رأس المال بقبض ثمنه مسبقًا للتمكن من إنتاجه تتيح اجتماع عنصري الإنتاج المفترقين، هذا إلى جانب فوائد أخرى اقتصادية معروفة لعقد السلم.
لكن هذا المشكل الاقتصادي الذي حله عقد السلم في الماضي لم يعد كافيًا لوفاء الحاجة الاقتصادية العامة في عصرنا الحاضر. ذلك لأن عقد السلم يشترط شرعًا لصحته تعجيل ثمن المبيع المعدوم، لأنه إنما استثنى من القاعدة بغية جمع عنصري الإنتاج المفترقين، كما أوضحنا، وذلك بنص الحديث النبوي الثابت، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، أي الدين المؤجل في الذمة، بدين مؤجل أيضًا في الذمة. والمبيع في السلم دين مؤجل ملتزم في الذمة، لأنه معدوم سوف يعمل البائع على إيجاده بمعونة الثمن (رأس المال) ، فإذا كان الثمن أيضًا مؤجلًا ملتزمًا في الذمة (غير مقبوض) ، فقد أصبح كالئًا بكالئ، وانتفت الحكمة من إباحة السلم استثناء من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم للحاجة الاقتصادية العامة، وضاعت الفرصة التي أتيحت لتيسير عملية الإنتاج، وانقلب الموضوع إلى مضاربة بالأسعار المستقبلة. فإذا ارتفعت الأسعار أو هبطت استفاد أحد الطرفين، دون أن يخدم عملية الإنتاج التي هي المصلحة الاقتصادية الحيوية الحقيقية للمجتمع، كما يجري اليوم في البورصات العالمية حيث يتعاقد فيها على كميات خيالية من السلع المؤجلة، بأسعار وأثمان مؤجلة، لا يقصد بها إنتاج ولا تسليم، بل مجرد مضاربة بالأسعار، ثم المحاسبة في الموعد على فرق السعر الذي يربحه أحد الطرفين في حالة ارتفاع السعر أو هبوطه، وهي عملية، كما يرى، أشبه بالمقامرة منها بالنشاط الاقتصادي. والإسلام إنما يهدف إلى تحقيق المصالح الصحيحة، فيفتح لها الأبواب التي تنتج نفعًا للمجتمع، ويغلق أبواب المضاربة بالحظوظ التي تغري بالكسل، وتقعد الفرد عن العمل، اعتمادًا على الحظ المحتمل.
فبسبب اشتراط تعجيل رأس المال لصحة عقد السلم يرى أنه في العصر الحاضر الذي اتسعت فيه شبكة السع الصناعية ذلك الاتساع الهائل، واتسع إلى جانبها نظام الائتمان (المداينة) الذي أصبح كالجملة العصبية المنبثة في الجسم، داخلة في كل جزء من أجزائه، ومسيطرة على حركته ونشاطه، في مثل هذا العصر المتطور. لم يعد عقد السلم، الذي لا يصح إلا بتعجيل رأس المال، كافيًا في وفاء حاجة التعامل المتطور. فلا بد أن يقوم إلى جانبه طريق آخر لا يشترط فيه هذا الشرط.
وبالفعل قد وجدنا في أساليب التعامل التي أقرتها الشريعة السمحة الغراء ذلك الطريق الآخر المنشود وهو عقد الاستصناع.
تعريف عقد الاستصناع:
اختلف أنظار الفقهاء في الاستصناع وطبيعته: هل هو مجرد وعد من شخص لآخر، أو هو عقد ذو طرفين ينشأ بإيجاب وقبول منهما. ومن يرى أنه عقد هل هو عنده عقد معاوضة ملزم لطرفيه بمجرد الانعقاد الصحيح، أو عقد غير ملزم كالوكالة مثلًا والإيداع والإعارة؟
إن غير الحنفية يذكرون الاستصناع في كلامهم على بيع السلم ولا يذكرون له تعريفًا مستقلًّا يبين له ماهية خاصة، وإنما يذكرونه في عقد السلم فيما إذا بيع شيء موصوف في الذمة مما يصنع، فيعتبرونه سلمًا في المصنوعات، (بينما السلم بوجه عام لا يختص بالمصنوعات) . لذا يشترطون لصحته أن تتوافر فيه شرائط السلم جميعًا، وفي طليعتها تعجيل الثمن. فليس له تعريف خاص عندهم يميزه بماهية عقدية وموضوع مستقلين، ويصرحون بعدم جوازه وصحته إذا لم تتوافر فيه شرائط السلم.
ومعنى ذلك أنه عندهم عقد من العقود الثنائية الطرف ويحتاج إلى إيجاب وقبول صحيحين لانعقاده، فليس مجرد وعد من طرف واحد لآخر لا يلزمه، ويبقى معه مختارًا في التنفيذ وعدمه، ولكنه ليس عقدًا مستقلًّا بل صورة من بيع السلم تخضع لشروطه، ويجري عليها حكمه.
أما الحنفية فيهم الذين اعتبروه عقدًا ونوعًا من البيع خاصًّا متميزًا بأحكامه كما تميز الصرف والسلم وهما من البيوع، وليس سلمًا، وإن يكن له به شبه. وهو أيضًا استثناء من عدم جواز بيع المعدوم للحاجة العامة إليه، بل هم يدعون الإجماع على جوازه. وهذا هو الرأي الراجح عند الحنفية، وإن كان منهم من يرى أنه مجرد وعد من شخص لآخر، مستدلًّا بأدلة ضعيفة لا تنهض حجة لنفي صف العقدية عنه.
وواضح أن من يرونه وعدًا محضًا لا تعريف له عنده يخرج به عن مفهوم الوعد بوجه عام، وهو: أن يعلن شخص لآخر ما سيفعله لأجله أو لمصلحته في المستقبل. وقد يكون الشيء الموعود به عملًا ما أو عقدًا من العقود. فإذا كان الأمر الموعود به عقدًا ما فلا بد لوجوده وانعقاده من أن ينشأ فيما بعد بالتراضي بصورة صحيحة، أي مستوفيًا ركنه وسائر شرائط انعقاده.
أما الذين يرون الاستصناع عقدًا، وهو الراجح في المذهب، لمتانة أدلته، وبه أخذت المجلة كما سنرى. فقد عرفوه بتعاريف عديدة متقاربة. فقال بعضهم: الاستصناع هو: " أن يطلب شخص من صانع أن يصنع له شيئًا بثمن معلوم "(العيني في شرح الكنز) .
وهذا التعريف قاصر لأن الطلب ليس عقدًا، فكأنما هو تفسير لكلمة الاستصناع، وليس تعريفًا لعقده.
وقال ابن عابدين في رد المحتار: " هو أن يطلب أحد من آخر العمل في شيء خاص على وجه مخصوص " وهذا قاصر أيضًا وغير سديد، وتدخل فيه الإجارة فهو غير مانع. وقد عرفته المجلة بأنه:" عقد مقاولة مع صاحب الصنعة على أن يعمل شيئًا ". وهناك من المعاصرين من عرفوه تعريفات أخرى متقاربة لا نراها دقيقة ولا وافية. لذلك نرى أن نعرفه بصورة أوضح وأوفى كما يلي:
" هو عقد يشترى به في الحال شيء مما يصنع صنعًا يلتزم البائع بتقديمه مصنوعًا بمواد من عنده، بأوصاف معينة، وبثمن محدد ".
هذا ويسمَّى المشتري: مستصنعًا، والبائع: صانعًا، والشيء محل العقد: مستصنعًا فيه، والعوض يسمى ثمنًا كما في البيع المطلق.
تحليل هذا التعريف:
أفاد هذا التعريف الأمور التالية:
1– أن عقد الاستصناع هو في طبيعته وحقيقته من قبيل البيع، فهو أحد أنواع البيع، وليس من قبيل الإجارة (إجارة الأشخاص) ، ولا مجرد وعد. ونتيجة كونه كذلك أنه يجب لنشوئه بين طرفين أن يتوافر فيه ركن التعاقد، وهو التراضي الذي يظهره الإيجاب والقبول، وكذلك جميع شرائط الانعقاد العامة في العقود.
2– أن المبيع فيه هو العين الموصى عليها، وليس عمل الصانع ذاته. وهذا هو الراجح في المذهب الحنفي، وسنرى نتيجة الفرق بين الاعتبارين في مناسبتها القادمة من هذا البحث.
3– أن المبيع في الاستصناع مفترض فيه اقتراضًا أنه معدوم عند العقد، وأن المقصود صنعه وإيجاده. وهذه تبرز فيه – كما هي في السلم – أنهما قد فتح فيهما باب معقول استثنائي لبيع المعدوم تدعو إليه الحاجة والمصلحة. ولكن ليس شرطًا فيه أن يكون معدومًا فعلًا عند العقد، وسوف يصنع أو يوجد فيما بعد. وسنرى نتيجة ذلك في مناسبته القادمة من هذا البحث وهذا مستفاد من عبارة (يلتزم البائع بتقديمه مصنوعًا) ولم نقل: يلتزم بأن يصنعه.
4– أن الاستصناع إنما يجري في السلع التي تصنع صنعًا (المصنوعات) ولا يجري في الأشياء الطبيعية التي لا تدخلها الصنعة كالثمار والبقول والحبوب ونحوها، بل هذه المنتوجات الطبيعية إذا أريد بيعها قبل وجودها فطريقها بيع السلم لا غير.
5– أنه لا بد في الاستصناع من تحديد الأوصاف للمبيع المطلوب صنعه بما يكفي لصيرورته معلومًا لا جهالة فيه، وكذا تحديد ثمنه. ويكفي للصحة بيان الأوصاف الأساسية في كل شيء بحسبه عرفًا. أما الأوصاف الفرعية التفصيلية فلا يشترط بيانها لصحته لأنها لا حدود لها. ولكن لو ذكر منها شيء في العقد يجب الالتزام به.
6– أن الثمن لا يجب تعجيله في الاستصناع، وإنما تجب معلوميته بتحديده نوعًا وقدرًا. فيمكن أن يكون الثمن في الاستصناع معجلًا كله، أو مؤجلًا كله، أو مقسطًا، وذلك كما في البيع العادي (البيع المطلق) ، وهذا فارق أساسي بين الاستصناع والسلم تظهر به مزية الاستصناع، وقابليته لتلبية حاجة التعامل المتطور في عصرنا هذا.
7– أن المادة أو المواد الأولية التي يصنع منها الشيء المستصنع فيه، وسائر ما يحتاج إليه صنعه من مواد أساسية أو كمالية، سواء منها ما يحتاج إلى اشتراط، أو كان مفهومًا عرفًا، كل ذلك إنما يقدمه الصانع البائع من عنده، ولا يقدم المستصنع المشتري شيئًا منه، لأنه محسوب حسابه في الثمن، وهو إنما يشتري الشيء مصنوعًا كاملًا.
وهذا ما يفرق الاستصناع عن الإجارة من ناحية ثانية إذا استؤجر أحد الأشخاص لعمل ما مما يحتاج إلى مواد، فإن الأجير الخاص لا يقوم بتقديمها من عنده، وإنما يقوم بالعمل فقط.
التكييف النهائي للاستصناع:
يتضح مما تقدم أن جمهور فقهاء المذاهب على أن الاستصناع عقد بكل معني الكلمة، وليس مجرد وعد حتى عند غير الحنفية من المذاهب الثلاثة التي لا تجوزه إلَّا على أنه سلم إذا توافرت فيه شروط السلم. ذلك أنه في نظر تلك المذاهب لو كان مجرد وعد لما صح أن يحكم فيه بعدم الصحة، لأن الوعد لا يوصف بالصحة أو عدمها، فهذا الوصف تختص به العقود التي لها انعقاد تترتب عليه أحكام إذا توافرت مقوماتها، ولها بطلان إذا فقد فيها بعض مقوماتها.
فمن يقرر من الفقهاء في أي مذهب كان عدم صحة الاستصناع لأن فيه بيع المعدوم المنهي عنه بغير طريقة السلم المستثناة شرعًا يلزم من حكمه هذا أنه يرى في الاستصناع عقدًا مخالفًا للنظام الشرعي في التعاقد. ولو أنه عنده مجرد وعد لما ساغ أن يقرر فيه عدم الصحة.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الأدلة التي يستند إليها من يقول أنه وعد وليس بعقد هي أدلة ضعيفة ومردود عليها بقوة، فلا تنهض حجة.
بقي أنه، بعد تقرير كونه عقدًا، وهو ما استقر عليه رأي المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي، واعتمدته مجلة الأحكام العدلية، قد اختلفوا في طبيعته بين العقود: هل هو من قبيل الإجارة، فتطبق فيه شروطها وأحكامها، أو هو من قبيل البيوع؟
وأقوى شبهة يستند إليها من يرون أنه من إجارة الأشخاص أن بعض الأجراء العامين (الأجير المشترك) أصحاب المهن تقتضي طبيعة عمله أن يضع من عنده المادة التي يستلزمها عمله المستأجر عليه كالصباغ، فإنه يدفع إليه الثوب أو الغزل ليصبغه باللون المطلوب بصبغ يضعه من عنده، ولا يقدمه له صاحب الثوب، كما يفعل الصانع في الاستصناع، ولم يخرجه هذا عن أن يكون أجيرًا، وعقد عمله إجارة.
وقد أجاب القائلون بأن الاستصناع من قبيل البيوع لا من الإجارة بما يوضح الفرق جليًّا بين الصانع في الاستصناع، والصباغ ونحوه، من الأجراء العامين. وخلاصته أن المستصنع يأتي إلى الصانع صفر اليدين ليشتري شيئًا يصنعه له كله كاملًا بخامة وعناصر من عنده، ولو أنه وجد عنده ما يوافق مطلوبه لاشتراه جاهزًا. أما الصباغ فيأتيه الثوب من صاحبه ليعمل على إحداث لون فيه أو تغيير لونه، وهذا عمل محض وليس عينًا تباع، وإذا كان عمله هذا يستلزم وضع صبغ من عنده (لأنه هو الذي يحسن اختياره ويعرف مقداره) فهو تبع للعمل الذي هو المحل الأصلي للعقد.
وقد استقر الرأي عند الحنفية أن الاستصناع نوع من البيوع مستقل لا يدخل في أحد الأنواع الأخرى كالصرف والسلم، وليس أيضًا من البيع العادي (المطلق) . فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيع وهما عقدان مستقلان، ولهما أحكام خاصة لا تجري في البيع المطلق العادي، فكذلك الاستصناع. وبهذا أخذت مجلة الأحكام العدلية، فعقدت للاستصناع فصلًا خاصًّا به في باب (أنواع البيع) من كتاب البيوع في المواد 388 – 392.
حكم عقد الاستصناع، وأثره بين طرفيه:
بعد ما تقدم لا حاجة بنا إلى الكلام عن حكم الاستصناع من حيث الجواز الشرعي وعدمه، أو بتعبير آخر: من حيث المشروعية، فقد وضح مما سبق أن الشك في مشروعيته وجوازه ليس له دليل شرعي خاص ولا سند قوي يدعمه سوى التطبيق لنص عام هو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. وهذا (الاستصناع) بيع شيء معدوم بغير طريق السلم واستيفاء شروطه.
لكن الذين قالوا بجوازه نوعًا من البيع خاصًّا بالمصنوعات متميزًا عن البيع العادي (المطلق) ودون تقيد بشروط السلم، وهم جمهور الحنفية لم يتجاهلوا الحديث النبوي المذكور، ولكنهم قالوا: كما جوز بيع السلم بالنص نفسه للحاجة وللمصلحة العامة فيه، (وهذا استحسان من الشارع نفسه، استثناءً من القاعدة التي أرساها وهي منع بيع المعدوم) استثنى كذلك الاستصناع بالإجماع استحسانًا للحاجة والمصلحة نفسهما. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اصطنع خاتمًا نقش عليه اسمه لختم رسائله به، وفسروه بأنه أوصى بصنعه فصنع له.
هذا، وقد أشرنا سابقًا إلى أن الحنفية يدعون الإجماع على جوازه للحاجة. ودعوى الإجماع مستقيضة في كتب المذهب الأساسية: المبسوط للسرخسي، والبدائع للكاساني، والهداية للمرغيناني، وسواها. وقد تبدو هذه الدعوى غريبة، فأي إجماع مع أن مذاهب عديدة منها الشافعي والحنبلي لا تجيزه إلَّا بشرائط السلم كاملة؟
ولكن الإجماع الذي يستند إليه الحنفية صحيح ولا يتنافي مع هذا الخلاف بين المذاهب في جواز الاستصناع، فإن الإجماع الذي يدعيه الحنفية هو الإجماع العملي. فهم يقولون إن العمل بالاستصناع فيما يحتاج إليه متعارف ومستمر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم دون نكير.
فقد قال الكاساني في (بدائعه) عن الاستصناع:
" ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تجتمع أمتي على ضلالة) .. والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجرة من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل
…
ولأن الحاجة تدعو إليه لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل من جنس مخصوص ونوع مخصوص على قدر مخصوص وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع. فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج ". [بدائع الصنائع للكاساني: 6 أوائل كتاب الاستصناع] .
ويلحظ في هذا المقام أن المشاهد في عصرنا أن فقهاء المذاهب الثلاثة التي لا تجيز الاستصناع إلا بطريق السلم يمارسونه عمليًّا في حاجاتهم الخاصة وحاجة أبنائهم من أحذية وملابس وسواها، ولا يجدون منه بدًّا.
وهذا يشبه موقف المخالفين في جواز البيع بالتعاطي، الذي يجيزه الحنفية على تقدير حلول التعاطي بين المتبايعين محل الإيجاب والقبول اللفظيين. فالشافعية كانوا على منعه بحجة عدم انعقاده دون إيجاب وقبول صريحين. ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يضطرون إلى ممارسته عمليًّا في المحقرات. فلم يكونوا يستطيعون أن يتطلبوا الصيغة التعاقدية في شراء حاجاتهم اليومية من البقول والفاكهة واللحم والخبز ونحو ذلك بينهم وبين باعتها. فاضطر المتأخرون من فقهاء المذهب أن يصرحوا بإباحته للحاجة في المحقرات من الأشياء.
والشيء الذي يجب أن لا ينساه الفقيه المفتي أبدًّا، وأن يكون نصب عينيه دائمًا، هو المقاصد العامة للشريعة مما هو مفصل في مواطنه من كتب الأصول والفقه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه:" إنَّ الدينَ يُسرٌ، ولن يُشَادَّ هذا الدينَ أحدٌ إلَّا غَلَبَهُ ".
هذا عن حكم الاستصناع بمعنى مشروعيته.
أما حكم الاستصناع بمعنى أثره الذي يترتب عليه بين العاقدين فهو أن يستحق المستصنع على الصانع أن يأتيه بالشيء المطلوب المعقود عليه موافقًا للأوصاف المبينة في العقد، وأن يستحق الصانع على المستصنع الثمن المتفق عليه متى جاء به مصنوعًا كذلك. وبتعبير آخر في اصطلاح علماء القانون الوضعي: أن يلتزم كل من الطرفين بما يتعلق به من محل العقد، باعتبار أن كلًّا من العوضين في عقود المعاوضة هو محل للعقد.
قال الإمام الكاساني في البدائع (كتاب الاستصناع) : " وأما حكم الاستصناع فهو ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكًا غير لازم على ما سنذكره ".
وهو يشير بقوله " ملكًا غير لازم على ما سنذكره " إلى ما هو مقرر في أصل المذهب الحنفي، (وقد بينه في لاحق كلامه) من أن عقد الاستصناع في رأي أبي حنيفة رحمه الله هو من العقود غير اللازمة. بمعني أن لكل من المستصنع والصانع الرجوع عنه قبل إتمام صنع الشيء المطلوب. أما بعد أن يأتي مصنوعًا وفقًا للمطلوب فيسقط خيار الصانع البائع، ويبقي الخيار للمستصنع باعتبار أنه مشترٍ لما لم يرَهُ.
ولأبي يوسف صاحب أبي حنيفة رأي آخر نقلته عنه كتب المذهب، وهو أنه إذا أتم الصانع صنع الشيء وأحضره للمستصنع موافقًا للأوصاف فليس لأحد منهما خيار، بل يلزم الصانع بتسليمه، ويلزم المستصنع بقوله. وتعليله عند أبي يوسف رحمه الله: أن الصانع لما أتي به موافقًا تعين حق المستصنع فيه بعينه بعد أن كان حقه متعلقًا بذمة الصانع، فلم يبق له خيار. وأما بالنسبة إلى المستصنع فإنه لو أعطي خيار رؤية بعد ما أتى به الصانع ضررًا قد يكون كبيرًا، لأنه إنما صنعه بحسب مطلوب المستصنع على أوصاف ومقاييس قد تكون تخالف المعتاد بين الناس، فبرفضه قد يتعذر على الصانع بيعه لغيره. وهذا إضرار بتغرير من المستصنع إذ لولا توصيته لما صنعه الصانع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:((لا ضرر ولا ضرار)) . فليس للمستصنع خيار بعد إحضاره إلَّا إذا كان مخالفًا في أوصافه للمشروط، فيكون له عندئذ خيار فوات الوصف لا خيار رؤية.
وتتضح في هذه الرواية الثانية عن أبي يوسف رحمه الله قوة الحجة ونصاعتها.
لكن أهل الترجيح في المذهب الحنفي وفي طليعتهم الإمام الكاساني رجحوا رأي أبي حنيفة في أن للمستصنع خيار الرؤية ولو جاء الصانع بالمصنوع موافقًا للأوصاف المطلوبة، عللوا ترجيحه بما لا ينهض حجة أمام رأي أبي يوسف.
لكن جمعية المجلة عندما وضعت نصوصها لاحظت أن رأي أبي حنيفة رحمه الله أصبح مشكلًا جدًّا بعد أن أصبح الاستصناع واسع النطاق إلى درجة لا حد لها بعد تطور الصناعة، وأصبحت البواخر والقطارات وأمثالها تستصنع استصناعًا. لذلك بينت جمعية المجلة في مقدمتها (التي نقلنا نصها أوائل هذا البحث) أنها وضعت المواد التي تكلمت عن الاستصناع في بابه المخصوص على أساس قول أبي يوسف في عدم الخيار للمستصنع إذا جاء المصنوع موافقًا للأوصاف المشروطة، تمشيًا مع الحاجة والمصلحة الزمنية.
لكن يلحظ في هذا المقام إن نص المادة: 392 من المجلة جاء بالصيغة التالية:
" إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه. وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا ".
وواضح من هذا أن جمعية المجلة اعتبرت أن الاستصناع إذا انعقد صحيحًا كان لازمًا منذ انعقاده، ملزمًا للطرفين دون خيار لأحدهما منذ البداية ولو قبل كان لازمًا منذ انعقاده، ملزمًا للطرفين دون خيار لأحدهما منذ البداية ولو قبل البدء بالصنع، كما لو كان بيعًا مطلقًا لسلعة موجودة معينة. وهذا توسع عن رأي أبي يوسف المنقول في كتب المذهب، حيث يتفق رأيه مع أبي حنيفة إمام المذهب في أنه قبل الصنع عقد غير لازم، فلكل من الطرفين الرجوع عنه، وأبو يوسف إنما انفرد بعد ذلك بالقول بعدم الخيار لأحد منهما بعد الصنع إذا أتى به الصانع موافقًا للأوصاف المبينة، فالصانع ملزم عندئذ بتسليمه، والمستصنع ملزم بقبوله.
ومعني هذا أن ما قررته المجلة بهذا الإطلاق في لزوم عقد الاستصناع على الطرفين منذ انعقاده حتى قبل بدء الصانع بالصنع ليس له سند في المذهب المستمد منه.
ومعلوم أن المجلة هي قانون مدني بالمعني الاصطلاحي مستمد كله من مذهب معين هو المذهب الحنفي، وصدرت بإرادة سنية رسمية من الخليفة صاحب السلطان، نظير ما يسمى اليوم بقانون الإصدار الذي تصدر به سائر القوانين فتصبح به نافذة منذ نشرها بحسب نصوصها دون نظر إلى مصادرها.
وهنا تثور نقطة مهمة عند علماء القانون الوضعي، أنه إذا ذكر في المذكرة الإيضاحية المرافقة للقانون إن مادة معينة من مواده قد أخذ فيها واضع القانون برأي أو نظرية مما عرض في المذكرة الإيضاحية ولكن جاء نص تلك المادة القانون الصادر مخالفًا من ناحية ما لذلك الرأي أو النظرية التي قالت المذكرة الإيضاحية أنها أخذت بها، فهل العبرة في هذه الحال لما في المذكرة الإيضاحية، أو لنص المادة التي جاءت مخالفة؟
المقرر في هذه الحالة عند علماء القانون الوضعي أن العبرة لنص المادة، لأنها هي النص المقنن وليس المذكرة الإيضاحية، لاحتمال أن المشرع القانوني قد عدل أخيرًا عن اختياره الأول. ولهذا المبدأ شواهد واقعية عديدة معروفة في التقنينات الوضعية لا محل لذكرها هنا.
فبناء على هذا المبدأ تكون العبرة في المادة: 392 من المجلة لإطلاق اللزوم في عقد الاستصناع منذ انعقاده، ولو أن أبا يوسف – الذي قالت مقدمة المجلة (وهي مذكرة إيضاحية مرافقة) أنها قد أخذت بقوله – لم يقل بهذا الإطلاق في لزوم العقد منذ انعقاده وإنما يقول به بعد أن يجيء الصانع بالمصنوع موافقًا للأوصاف المتفق عليها.
وصنيع المجلة بهذا الإطلاق في اللزوم يبرره أن واضعي المجلة، وهم من خيرة فقهاء عصرهم في القرن الثالث عشر الهجري قد لحظوا تطور الصناعة العظيم في ذلك الوقت، وتطور نطاق الاستصناع واتساع دائرته كما أشاروا إليه، فرأوا أن المصلحة الزمنية والاقتصادية والتعاقدية تقتضيه ولو لم يقل به الفقهاء السابقون في المذهب، إذ لو شاهدوا التطور الذي وصل إليه الاستصناع، والمداخل التي دخلها في حاجات الناس وتعاملهم، والضرر العظيم المهول الذي يلحق الصانع إذا رفض المستصنع المصنوع الذي صنع وأتى موافقًا لشروطه بحجة خيار الرؤية فيما لو كان المصنوع باخرة كبرى، أو معمل نسيج آلي عالي الكفاءة، أو قطار سكة حديدية. ونحو ذلك – نقول لو شاهدوا ذلك في العصر الحديث لما ترددوا في تقرير عدم خيار الرؤية، واعتبار عقد الاستصناع ملزمًا لطرفيه منذ انعقاده.
هذا في عصر المجلة قبل قرن وربع. فاليوم بعد أن أصبح نقل العملات النقدية وحساباتها من المشارق إلى المغارب يتم بفلكة زر، وأصبحت الصفقات الضخمة التجارية والصناعية تعقد على الملايين، وأصبح التاجر والمستصنع والصانع بالوسائل الآلية الهائلة يبني حساباته وحقوقه والتزاماته في ما لديه وما عليه وما إليه على توقيت زمني دقيق بحيث لو اختلت معه حلقة من ذلك لجرت سلسلة من المشكلات في ارتباطاته المتداخلة والمتشابكة – نقول في ظروف كهذه اليوم يجب أن يطمئن كل متعامل ومتعاقد إلى أن ما تعاقد عليه قد ثبت ويستطيع أن يبني عليه. وهذا يدعم أيضًا إن المصلحة العملية في استقرار المعاملات تقتضي اليوم اعتبار عقد الاستصناع لازمًا بحق الطرفين منذ انعقاده، إذ أن الاستصناع لم يبق محصورًا في الحاجات الشخصية البسيطة كالخف وإناء نحاسي وبساط، وسرج فرس، وثوب ولد أو حذائه، حتى يكون ضرر الصانع صاحب المهنة من عدول المستصنع أو رفضه المصنوع ضررًا خفيفًا، بل أصبح العدول من أحد الطرفين بعد التعاقد، كرفض المصنوع الموافق للأوصاف بحكم خيار الرؤية دون عيب أو مخالفة وصف، قد يترتب عليه أضرار جسيمة عظيمة للطرف الآخر مما يزعزع مبدأ استقرار المعاملات الذي هو من أهداف الفقه الإسلامي والقانون الوضعي معًا.
محل عقد الاستصناع:
المراد بمحل عقد الاستصناع ما يسميه فقهاؤنا بالمعقود عليه، فما هو هذا المحل المعقود عليه في عقد الاستصناع؟
من المعلوم – كما في تعريف الاستصناع – أنه ينصب على شراء شيء في الحال مما يصنع صنعًا لكي يصنعه البائع المحترف لمشتريه بأوصاف معينة وثمن محدد. وكل مصنوع يحتاج إلى مادة وعمل. فهل المبيع في هذا العقد هو العين المصنوعة أيًّا كان صانعها، أو العمل من الصانع البائع نفسه؟ هذه نقطة اختلف فيها أيضًا فقهاء الحنفية، وتترتب عليها نتيجة ألمحنا إليها في تحليل تعريف الاستصناع. وبما أن لها تأثيرًا مهمًّا في المحور الثاني من هذا البحث (مدى أهمية الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة)، فسنتكلم عنها وعن أثرها في المحور الثاني التالي:
المحور الثاني
مدى أهمية الاستصناع
في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة
فرضت السنة النبوية في بعض أنواع من التعامل قيودًا وبخاصة في عقدي المصارفة والسلم، لأن فيها قابلية كبيرة للانزلاق إلى المراباة لولا تلك القيود. ومن أهم تلك القيود التي ضبطت بها بعض العقود ولمنع ذلك الانزلاق فيها إلى المراباة المقنعة ثلاثة قيود:
- التقابض في عقد الصرف بمختلف صوره.
- تعجيل رأس المال في السلم لتحقيق مزيته الاقتصادية المهمة.
- عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه
وقد بيَّنَّا أوائل هذا البحث في الإيضاحات التمهيدية أن لزوم تعجيل رأس المال في عقد السلم كان حائلًا دون الاستفادة منه في عصرنا الذي اشتدت فيه الحاجة إلى المداينات الائتمانية. فكأن عقد الاستصناع الذي هو محرر من قيد تعجيل الثمن هو الحل المناسب. ففيه توسيع لنطاق إمكان بيع المعدوم في كل شيء يصنع صنعًا مما اشتدت الحاجة إلى إمكان بيعه قبل صنعه في عصر انفجرت فيه الصناعة وفنونها وابتكاراتها القائمة على الاكتشاف العلمي والتقنية إلى درجة تذهل العقول.
وهذا الانفجار الصناعي يخدم اليوم حقولًا عظيمة الأهمية في حياة البشر اليوم كالطب وما إليه، والزراعة وما إليها، والدفاع، والهندسة بمختلف فروعها التي بلغت العشرات، وبناء المباني المختلفة من المجمعات السكنية، والمستشفيات، والمدارس والجامعات، وصوامع حفظ الغلات الزراعية إلى غير ذلك مما لا يحصى، ومما يؤلف شبكة الحياة المعاصرة المتطورة. كل ذلك من الحقول الحيوية التي يخدمها ذلك الانفجار الصناعي اليوم يحتاج لكي يستفاد منه أن تقوم بموازاته تجارة واسعة ميسرة تنقل ثمراته من السلع التي لا تحصى إلى مختلف أقطار العالم. ومن هنا ظهرت أهمية تيسير التجارة وتنوعها بصورة لم تكن لها في الماضي، ووضعت لها في النظم التشريعية قوانين استثنائية من القواعد العامة في القوانين المدنية لتسهيل معاملاتها في التعامل، وقضاياها في القضاء، سميت بقوانين التجارة بغية تحقيق سرعة إنجازاتها، ودوران دولابها.
ومن ثم أيضًا في هذا الظرف الزمني الذي وصفناه، وخصائصه الصناعية والتجارية تبرز أيضًا أهمية الاستثمار التجاري بطريق عقد الاستصناع موضوع بحثنا هذا.
فاستثمار الأموال اليوم بغية تنميتها بالربح تنوعت سبله كثيرًا، وفيها الحلال والحرام في نظر الشريعة الإسلامية، وتزاحمت في طريق الاستثمار البنوك الإسلامية التي أُنشئت في هذا العصر في جذب مدخرات الناس وفائض أموالها، لدفعها ووضعها في طريق النماء والتنمية، وتسييلها في حقول النماء والربح.
لكن البنوك الإسلامية، رغم تقيدها باجتناب الربا وشبهاته، أمامها مجالات استثمارات ليست متاحة أمام البنوك الربوية. ذلك أن البنوك الإسلامية تقوم ترخيصاتها ونظمها على أساس الممارسات التجارية فعلًا في أسواق السلع المختلفة، بينما البنوك الربوية ينحصر نشاطها في التمويل فقط بطريق الإقراض والاقتراض بفوائد ربوية.
ومن هذا الأفق تبرز اليوم أمام البنوك الإسلامية، وأمام سائر التجار الإسلاميين في العالم الإسلامي الذين يحرصون على عدم تدنيس نشاطاتهم الاستثمارية بالربا ولا بشبهاته، أهمية عقد الاستصناع في ميدان التجارة وذلك من ناحيتين:
- الأولى: أن عقد الاستصناع لم يبق محصورًا، كما كان في الماضي، في نطاق الحاجات الفردية الشخصية التي كانت هي العامل الأساسي في وجوده وتعارفه حين يحتاج الشخص إلى شيء بمواصفات خاصة لا توجد عادة في المتداول العام من السلع، بل خرج اليوم المارد من القُمْقُمْ، وأصبح من الممكن أن ينطلق عقد الاستصناع إلى آفاق المصنوعات في نطاقها الواسع في عصر الانفجار الصناعي، وبالكميات الضخمة الهائلة من المصنوعات المثلية التي تنقلها التجارة إلى مختلف بلاد العالم، ولا سيما العالم المتنامي (الذي يسمى تلطيفًا اليوم بالعالم الثالث أو النامي) والذي أصبح لتخلفه، يحتاج في كل وسائل حياته، حتى في غذائه الضروري إلى منتوجات العالم الصناعي ومصنوعاته.
- الناحية الثانية: أن عقد الاستصناع قد جمع بين خاصيتين: خاصية بيع السلم في جواز وروده على مبيع معدوم حين العقد، سيصنع فيما بعد، وخاصية البيع المطلق العادي في جواز كون الثمن فيه ائتمانيًّا لا يجب تعجيله كما في السلم.
ومن هاتين الخاصيتين يتبين أن أهمية الاستصناع في طريق الاستثمار الإسلامي اليوم كبيرة جدًّا إذا مورس بخبرة تجارية وبصيرة في الأسواق، وإن مدى أهميته هذه واسع غير محدود، وفي طريق إسلامي سليم.
ونقول: (إذا مورس الاستصناع بخبرة تجارية وبصيرة في الأسواق) لأن البنوك الإسلامية اليوم التي هي مصب المدخرات لكثير من المسلمين الملتزمين لأجل استثمارها بواسطة هذه البنوك الإسلامية بطرق بعيدة عن الربا وشبهاته، قد أهملت الطريق الذي خلقت لأجله، وهو أن تكون تاجرة مضاربة تنطح الأسواق، وتتصيد الفرص المناسبة التي ترصدها بمنظار وعيون مفتحة في الأسواق على الأسعار والسلع، ويكون لها مخازن ومعارض ككل متاجر برأس ماله، ومضارب مشارك بعمله، فتجني أرباحًا مضاعفة عن سعر الفائدة الذي تربحه البنوك الربوية في قروضها. وهكذا تضرب المثل الصالح للنظام الإسلامي في طريق المشاركة الذي يباركه الله، بدلًا من طريق التمويل الربوي المشؤوم.
ولكن البنوك الإسلامية أو معظمها أهملت ذلك الطريق الذي خلقت لأجله لاحتياجه إلى جهد ويقظة، وانصرفت إلى طريق المرابحة للآمر بالشراء إيثارًا منها للكسل، لأن القائمين على إدارتها أو معظمهم ليسوا من التجار الخبراء، بل هم مصرفيون نشأوا في العمل بالأوراق والحسابات وهم على مناضدهم، ولم يعتادوا أن ينطحوا الأسواق ويكونوا تجارًا عمليين بمعنى الكلمة. فمع هؤلاء لا يعطي طريق الاستصناع الذي بينا مزاياه وخصائصه، النتائج العظمى التي هو مهيأ لإعطائها لو مارسته البنوك الإسلامية، بل يبقى طريقًا منتجًا كبير الفائدة للتجار الفرادى الذين يخوضون معترك السوق التجارية ليستثمروا أموالهم بأنفسهم، سواء أكانوا أفرادًا أو شركات، ولا ينتظرون البنوك الإسلامية أن تستثمر لهم مدخراتهم.
المحل المعقود عليه في الاستصناع:
قلنا قبلًا إننا سنرجئ الكلام على المحل المعقود عليه في الاستصناع والخلاف الفقهي فيه إلى هذا المحور الثاني من البحث لعلاقته بمدى أهمية الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية.
اختلف فقهاء الحنفية الذين اهتموا بعقد الاستصناع وتفصيل أحكامه، وتفردوا بإفراد باب خاص به في كتاب البيوع، اختلفوا في تحديد المعقود عليه فيه (كما اختلفوا في تكييف العقد نفسه وتشخيص ماهيته وطبيعته مما سبق بيانه في موضعه) .
فقال بعضهم بأن المعقود عليه في الاستصناع (المحل في الاصطلاح القانوني) هو عمل الصانع البائع في العين المطلوبة، أي صنعه لها بنفسه. وهذا مع التسليم بأن العقد ليس إجارة بل هو بيع. فمقصودهم أنه بيع لعين موصوفة سيصنعها البائع نفسه.
وقال آخرون إن المعقود عليه في الاستصناع هو العين الموصوفة المطلوبة وليس عمل الصانع البائع.
وثمرة هذا الخلاف أنه لو أحضر البائع للمستصنع المشتري عينًا مطابقة للأوصاف المتفق عليها، لكنها من صنع صانع غيره، هل يجبر المشتري على قبولها. وإذا أعطاه إياها ولم يذكر أنها من صنع غيره فهل يكون قد برئت ذمته، أو يكون قد غشه؟ فإذا عرف بعد أخذه هل يكون له خيار في أن يردها.
- فعلى الرأي الأول (المبيع هو عمله بعد العقد) لا يجبر المشتري على قبولها، ولا تبرأ ذمته إن أعطاه صنع غيره فأخذه ظانًّا أنه صنعه.
- وعلى الرأي الثاني (المبيع هو العين لا العمل) يجبر المشتري على قبولها، وتبرأ ذمة الصانع إن لم يذكر له ذلك، لأنه قد وفى بالتزامه وهو تقديمه له عينًا مصنوعة موافقة للأوصاف المشروطة.
وكذلك بطريق الأولوية لو أحضر له عينًا مطابقة للأوصاف كان قد صنعها هو نفسه قبل التعاقد مع المستصنع.
مما يدعم الرأي الأول في نظرنا أن الاستصناع فيه شيء من عنصر الثقة الشخصية، فالمستصنع قد يكون إنما اختار هذا الصانع بالذات لثقته بمهارته، فربما لا يريد صناعة غيره.
ومما يدعم الرأي الثاني أن العبرة للمواصفات المطلوبة للمستصنع، فإذا كانت متوافرة مادة وصنعًا كما شرط لم يبق لاختلاف الصانع أي فرق بالنسبة للمشتري المستصنع، لأن السلعة ومواصفاتها هي المقصود.
والمرجح في المذهب هو الرأي الثاني أن المبيع هو العين الموصوفة فيوفي الصانع ذمته إذا جاءه بعين مستكملة الأوصاف المطلوبة من صنع غيره أو من صنعه هو نفسه قبل العقد. ومجلة الأحكام العدلية في هذه الناحية ساكتة، فتبقى العبرة لما هو مرجح في المذهب.
أهمية هذا الرأي الثاني في الاستثمارات الإسلامية:
إن لهذا الرأي الثاني، وهو المرجح في الاستثمارات الإسلامية أن له أثرًا واضحًا في الوفاء بالالتزامات الصناعية، وذلك بتوسيع إمكانية الوفاء. ولا سيما في عصرنا الذي أصبحت فيه الصناعات جميعًا – حتى فيما اعتيد عمله يدويًّا من الأشياء البسيطة – تتم بواسطة المعامل الآلية التي تنتج منه الكميات الهائلة من السلع المتماثلة. حتى إن كثيرًا من السلع التي كانت في الماضي تعتبر من الأموال القيمية لاختلاف بين أفرادها التي تصنع بالأيدي، قد أصبحت أموالًا مثلية وأخذت أحكام المثليات لأنها تنتجها آلات في المعامل بالآلاف أو الملايين، وكلها متماثلة لا يلحظ فرق بين واحدة وأخرى.
فقد يكون أن المعمل البائع في عقد الاستصناع لديه من السلعة المطلوبة في العقد الجديد متراكمًا من صنع سابق، فيستطيع أن يفي بالتزام بما عنده منها دون أن يصنع غيرها ويتركها مركومة، كما أنه قد يكون لديه صفقة أخرى مستعجلة أهم لديه من الصفقة الجديدة، فيستطيع أن يشتري مما عند غيره ما هو موافق للمطلوب منه، ويوفي به التزامه.
وهكذا نجد أن الرأي الثاني أكثر عونًا على تحريك دولاب التجارة والصناعة في ظل الصناعة الآلية اليوم.
المجالات الجديدة اليوم لعقد الاستصناع:
سبق أن أشرنا إلى المجالات والآفاق الجديدة التي امتد إليها عقد الاستصناع.
والآن نختم هذا البحث بعرض لبعض هذه المجالات لمد البصر إلى المدى الواسع الذي يمكن أن يخدم فيه عقد الاستصناع الاستثمارات بطريق إسلامي سليم:
1 – عرفنا مما سبق أن عقد الاستصناع لا يجري في المنتوجات الطبيعية التي لا تدخلها الصنعة كالبقول والفواكه واللحوم الطازجة واللبن والقمح وسائر الحبوب
…
إلخ، فهذه السلع الطبيعية طريق بيع غير الموجود منها وقت العقد إنما هو السلم. فلا يجري الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة كالأمثلة السابقة البيان.
واليوم قد وجدت صناعة التعليب لهذه المنتوجات الطبيعية وصناعة تجميدها أيضًا لتحفظ معلبة أو مجمدة مثلجة في علب أو أكياس من البلاستيك. فهل تنتقل بذلك من زمرة المنتوجات الطبيعية إلى زمرة المصنعات، فيصح فيها عقد الاستصناع، ويجوز التعاقد مع معمل التعليب على أن يقوم بتعليب الكميات المطلوبة من كل نوع بمواصفات معينة؟
لا شك في الجواب إيجابيًّا، لأنها انتقلت بهذا العمل الصناعي إلى زمرة المصنعات. ويدخل في ذلك الأسماك واللحوم والخضروات وسواها.
2 – بطريق الاستصناع يمكن إقامة المباني على أرض مملوكة للمستصنع بعقد مقاولة: فإذا كان عقد المقاولة يقوم على أساس أن المقاول هو الذي يأتي بمواد البناء ويتحمل جميع تكاليفه يسلمه جاهزًا (على المفتاح) فهذا يمكن أن يعتبر استصناعًا. وأن المجلة في المادة 388 سمت استصناع السلاح مع معمل أسلحة: مقاولة.
ويشهد لما قلنا أن فقهاء الحنفية مجمعون على عد البناء وحده وهو قائم على أرضه من المنقولات وليس من العقار، فيأخذ حكم المنقولات إذا كان البناء لواحد والأرض لآخر. ففي هذه الحالة لا يجيزون وقف البناء وحده دون الأرض وإنما يجوزون وقفه مع الأرض تبعًا لها، إذ يشترط عندهم في المال الموقوف أن يكون عقارًا، فلا يصح عندهم وقف المنقولات إلا في حالات استثنائية كأدوات نقل الموتى والمصاحف والكتب.
وبطريق الأولوية يمكن اليوم استصناع المباني الجاهزة على أرض مملوكة للصانع المقاول نفسه كما يفعل اليوم تجار البناء إذ يشترون قطع الأراضي المناسبة وينشئون عليها بيوتًا للسكنى ويبيعونها جاهزة. فهذا بيع وشراء عادي للعقار المبني. فإذا عرضوا الأرض المقسمة إلى قطع مفرزة كل قطعة تصلح لأجل بيت لمن يختار منها قطعة ليبني صاحبها تاجر البناء له عليها البيت الذي يريد بالتقاسيم والأوصاف والكسوة التي يطلبها ويسلمه إياه جاهزًا بالثمن الذي يتفقان عليه، فذلك استصناع واضح.
وبطريق الأولوية يمكن اليوم استصناع البيوت المتنقلة الجاهزة التي يكن نقلها من أرض إلى أرض، مما لم يكن من الممكن تصوره في الماضي.
وهكذا نجد أن عقد الاستصناع قد دخل ويمكن أن يدخل في مجالات لا حدود لها في عصرنا الصناعي هذا، ويستفاد من استقلاله عن السلم والإجارة وشروطهما في الاستثمار الإسلامي على نطاق واسع.
ملاحظة ختامية:
بقيت نقطة ينبغي التعرض لها في ختام هذا البحوث قد ترد إلى الذهن، وهي أن الحنفية الذين انفردوا بإعطاء الاستصناع هذه المكانة بين العقود، واعتبروه نوعًا مستقلًّا من البيوع غير داخل في الإجارة ولا في السلم، يعتبرونه هم أنفسهم استثناءً من عدم جواز بيع المعدوم الذي هو الأصل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وسند هذا الاستثناء الاستحساني هو الإجماع العملي المستمر للحاجة إليه حيث تعارفه الناس في أشيائهم الخاصة التي يوصون بعض الصناع على صنعها لهم بالصورة التي تلائمهم، كما سلف بيانه.
ومن ثَمَّ كان من المقرر عند الحنفية بلا خلاف أن الاستصناع إنما يجوز في الأشياء التي تعورف فيها، لأن العرف دليل الحاجة التي هي سبب الاستثناء، كما في استصناع الخف والثوب وبعض الآنية، ونحو ذلك من الأشياء الشخصية أو المنزلية الخاصة. وفيما سوى هذه المتعارفات لا يصح الاستصناع تمسكًا بالأصل، وهو عدم جواز بيع المعدوم. فكيف يفتح أمام الاستصناع هذا الباب الواسع في كل ما تدخله الصنعة؟ فبهذا التوسيع مخالفة للمذاهب الأربعة جميعًا: للثلاثة التي لم تجزه من الأصل إلا إذا توافرت فيه شروط السلم، وفي طليعتها تعجيل الثمن، وللحنفية أنفسهم الذين أجازوه مستقلًّا عن السلم ودون شرط تعجيل الثمن، لكنهم قيدوه بالمتعارف.
هذه ملاحظة واردة بالنظر الفقهي وتحتاج إلى جواب.
ويبدو لنا في الجواب أن تنوع الحاجات، والصناعات، واختلاف الأشكال والأوصاف والخصائص في أصناف النوع الواحد إلى درجة كبيرة مما تَفَتَّقَتْ عنه أذهان المخترعين في عصر الانفجار الصناعي هذا، قد أدى إلى أن يصبح طريق الاستصناع متعارفًا عليه في كل ما يصنع بوجه عام.
- فلو أخذنا المثال الذي أوردته أول مادة من فصل الاستصناع في المجلة 388 بقولها: " كذلك لو تقاول مع صاحب معمل على أن يصنع له كذا بندقية كل واحدة بكذا قرشًا، وبين الطول والحجم وسائر أوصافها اللازمة وقبل صاحب المعمل انعقد الاستصناع ". وذلك منذ عام 1283هـ (تاريخ البدء بتأليف المجلة) أي قبل قرن كامل وربع القرن من الآن – لو أخذنا هذا المثال لرأينا أن البندقيات في ذلك التاريخ كانت تقريبًا على شكل واحد وبخصائص واحدة، وإنما تختلف بحسب الجهة التي ستستعمل فيها، فبندقية الصيد غير البندقية الحربية وهكذا.
فكم أصبح اليوم عدد أصناف البندقية، سواء بندقية الصيد أو البندقية الحربية، وكم تعددت خصائص كل نوع..؟!!
- ولو أخذنا المجهر الطبي مثلًا الذي كان في ذاك التاريخ شكلًا واحدًا وقوة تكبيرية واحدة أو متقاربة، فكم صنفًا أصبح اليوم بالابتكارات الجديدة فيه التي وصلت في المجهر الإلكتروني إلى قوة تكبير تبلغ أربعين ألف ضعف!! ويرى مثل هذا التطور في أصناف المصنوعات من النوع الواحد واختلاف خصائصها لدرجة مذهلة، حتى بيوت السكنى الحديثة وما دخلها من مرافق وتجهيزات بالنسبة للبيوت القديمة قبل قرن واحد.
- فمن ثم أصبح هناك بطريق التدرج حاجة عامة جعلت الناس يتعارفون الاستصناع في كل المصنوعات بوجه عام، فأصبح شرط العرف متوافرًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء