المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

‌أصول العلاقات الدولية

بين الإسلام والتشريعات الوضعية

إعداد

الدكتور محمد الدسوقي

أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة

جامعة قطر

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

يختلف الإسلام عن سائر الأديان السماوية بأنه دعوة عالمية، بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وقد وردت في الكتاب العزيز آيات كثيرة، ونقل الرواة الثقات أحاديث عدة، وكل هذه الأحاديث وتلك الآيات بيان صريح عن عالمية الإسلام، وأنه رسالة عامة خالدة، جاءت لتخاطب في الإنسان فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن ثَمَّ كانت صالحة للتطبيق الدائم إلى يوم الدين.

وفضلًا عما ورد في القرآن الكريم من آيات تتحدث عن عالمية الإسلام وأيضًا عما اشتملت عليه كتب السنة من أحاديث تبين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، فإن هناك مسألتين تؤكدان عموم رسالة الإسلام، وأنها آخر الرسالات الإلهية، وهما:

أولًا: طبيعة المعجزة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: تعاليم الإسلام.

أما المسألة الأولى فإن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها العرب هي القرآن الكريم، وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون لكل نبي معجزة تثبت أنه رسول الله صادق فيما يدعو إليه، وليس دَعِيًّا أو متنبئًا، وكانت معجزات الأنبياء الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم حسية مادية، كما أنها معجزات شخصية بمعنى أن وجودها وبقاءها مرتبطة بشخصية الرسول، فإذا توفاه الله أصبحت هذه المعجزة خبرًا يروى، وأثرًا ينقل كمعجزات عيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه، ولكن معجزة القرآن ليست كذلك، فهي عقلية غير حسية، وهي أيضًا غير شخصية ، فهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم يرون معجزته كمن شاهدوا محمدًا وخاطبوه. (1) فهي من ثم معجزة الدهر وصوت الحق إلى الخلق، حتى يقوم الناس لرب العالمين.

وتؤكد تعاليم الإسلام عالمية هذا الدين، فهذه التعاليم تخاطب الفترة الإنسانية، وتنظر إلى الإنسان نظرة واقعية، وتحترم العقل البشري، وتسوي بين الناس كافة في الحقوق والواجبات، لهذا لا تعرف الإقليمية أو العنصرية، فهي إنسانية عامة، تلبي حاجة كل المجتمعات على اختلاف الأزمان والبلدان.

(1) انظر القرآن المعجزة الكبرى، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 15، طبعة دار الفكر العربي، القاهرة

ص: 1695

إن بقاء معجزة الإسلام، وحفظها من التحريف والتبديل، واشتمالها على تلك التعاليم التي صلح عليها أمر الدنيا والآخرة، لدليل واضح على أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، وأنها خاتمة الرسالات الإلهية، ومهيمنة عليها ، ولا ينكر هذا أو يماري فيه إلى من ألغى عقله، أو سيطر التعصب عليه، وبغى علوًّا في الأرض وفسادًا.

وما دام الإسلام دعوة عالمية ورسالة الله الخاتمة إلى الناس جميعًا فإنه في أحكامه لا يعرف حدودًا مكانية أو زمانية، ولكن لأن هذا الدين القويم لا يعرف الإكراه في الإيمان به اقتضت الظروف أن يكون الإسلام إقليميًّا من حيث التطبيق، وإن كان في الأساس عالميًّا لا يخص قومًا دون قوم، ولا عصرًا دون عصر، فالعالم كله مخاطب به، وهكذا يصبح الإسلام رسالة عالمية إذا نظرنا إليه من الوجهة العلمية، وإقليميًّا إذا نظرنا إليه من الوجهة العملية (1) .

على أن إقليمية الإسلام من الوجهة العملية لا تأثير لها عليه من الوجهة العلمية؛ لأن لهذا الدين مبادئه العادلة التي تحكم علاقته بغير المؤمنين به سواء أكانوا مقيمين في دياره أم كانوا مقيمين في ديار خاصة بهم، وهذه المبادئ التي أصبحت تعرف في العصر الحديث بالقانون الدولي، تؤكد عالمية الإسلام، وأنه أقوم منهاج لحياة الإنسان في كل مكان، وأن الفكر البشري مهما يبدع من آراء ونظريات فإنه لن يبلغ مبادئ الإسلام وتعاليمه:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (2) .

وعن تلك المبادئ التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم تعرض هذه الدراسة في إيجاز مع الاهتمام بالأصول الكلية والقواعد العامة دون تشقيق القول في الفروع والجزئيات.

ويقوم منهج هذه الدراسة على ما يلي:

أولًا: أصول القانون الدولي في التشريعات الوضعية.

ثانيًا: أصول القانون الدولي في الإسلام.

ثالثًا: الموازنة بين الإسلام وتلك التشريعات حول هذه الأصول.

وأخيرًا خاتمة تحتوي على أهم نتائج الدراسة وبعض ما ترشد إليه من توصيات.

(1) انظر التشرع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، للأستاذ عبد القادر عودة: 1/ 275، طبعة دار التراث القاهرة

(2)

سورة البقرة: الآية 138

ص: 1696

أولًا:

أصول القانون الدولي في التشريعات الوضعية

يراد بالقانون الدولي في التشريعات التي تنظم علاقة الدول بعضها ببعض، كما تنظم علاقة الأفراد المختلفي الجنسية في دولة من الدول، ومن هنا ينقسم هذا القانون قسمين: القانون العام، والقانون الدولي الخاص، ولكل منهما عدة تعريفات تختلف من حيث الصياغة، بيد أنها لا تختلف غالبًا من حيث المضمون.

ومن التعريفات التي وضعت للقانون الدولي العام أنه "مجموعة من القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول، وتحدد حقوق كل منها وواجباتها في حالتي السلم والحرب"(1) .

وهذا التعريف وإن امتاز بعدم النص على مسائل هي محل جدل بين فقهاء القانون وشراحه، ومنها وصف تلك القواعد بأنها ملزمة للدول، وأنهاعرفية أو اتفاقية، وأن الدول التي تأخذ بها هي المتمدنة (2) دون غيرها، أغفل الإشارة إلى الهيئات الدولية التي تتولى الإشراف على تنفيذ مبادئه، ولذلك عرفه بعض فقهائه بأنه القانون الذي يحتوي من ناحية على القواعد والمبادئ التي تحكم التزامات الدول في علاقاتها المتبادلة، وهو يبين لنا من جهة أخرى القواعد الخاصة بالتنظيم الدولي؛ أي بنظام وكيفية سير الهيئات التي أنشئت لمصلحة الجماعة الدولية، وحدد سلطاتها واختصاصاتها، وذلك مثل هيئة الأمم ومكتب العمل الدولي. (3)

وأما القانون الدولي الخاص فمن التعريفات الجامعة لهذا القانون أنه "مجموع القواعد القانونية التي يطبقها القضاء بأمر صريح أو ضمني من المشروع لتحديد اختصاص محاكم الدولة إزاء محاكم الدول الأخرى بالحكم في القضايا المدنية ذات العنصر الأجنبي التي تقع بين الأفراد، وإسنادها إلى القانون الذي يجب أن يحكم فيها بمقتضاه". (4) .

(1) الشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، للأستاذ علي علي منصور: ص 80، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة

(2)

الشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، للأستاذ علي علي منصور: ص 80، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة

(3)

مبادئ القانون الدولي العام، للدكتور محمد حافظ غانم: ص 23، طبعة ثانية، القاهرة

(4)

انظر القانون الدولي الخاص، للدكتور علي الزيني: ص 44، طبعة الاعتماد، القاهرة

ص: 1697

من تاريخ القانون الدولي في التشريعات الوضعية:

يجدر بنا قبل الحديث عن أصول القانون الدولي بقسميه الإشارة إلى طرف من تاريخ هذا القانون، وكيف تطور عبر التاريخ حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحديث.

مما لا جدال فيه أن الدول تقوم بينها علاقات مختلفة منذ أقدم العصور وأن هذه العلاقات كانت تخضع لبعض القواعد والضوابط بصرف النظر عن مصدرها، أو عدم الأخذ بها في أغلب الأحيان.

وقد سجل التاريخ في عهد الفراعنة معاهدة صلح بين رمسيس الثاني فرعون مصر، وبين أمير الحيثيين في أسيا الصغرى بعد حرب طاحنة بين الدولتين، ويمكن أن تكون شروط هذه المعاهدة أقدم ما عرف من القواعد الدولية التي أخذت بها الدول في بعض علاقاتها (1) .

ولم تعرف أوروبا حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي قانونًا دوليًّا ينظم العلاقات بين الدول، وذلك أن الحاجة إلى هذا القانون لم تظهر إلا بعد انهيار الإمبراطورية الجرمانية الرومانية، وانتهائها بوفاة آخر أباطرتها فردريك الثالث سنة 1493م، فقد تفرقت أوروبا بعد انتهاء هذه الإمبراطورية التي ظلت زهاء خمسمائة عام إلى دول كثيرة مستقلة، وقامت بين هذه الدول الناشئة علاقات وخلافات متباينة بسبب الحدود والحروب، ومن ثم ظهرت الحاجة ملحة إلى قانون دولي ينظم هذه العلاقات.

واتجه العلماء نحو القانون الروماني يستوحونه، ونشأت حركة علمية ـ شجعتها ملابسات عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني ـ غرضها بيان ما يجب على الدول وعلى رؤسائها اتباعه من قواعد في شأن قيام العلاقات بينهم، وتزعم هذه الحركة الرعيل الأول من علماء القانون الدولي (2) ، ويذكر في مقدمة هؤلاء ميكافيلي الإيطالي، وجرتيوس الهولندي، لأثرهما الكبير في تطور القانون الدولي الوضعي.

(1) انظر نصوص المعاهدة في كتاب "مصر القديمة" للدكتور سليم حسن: ص 287، طبعة القاهرة

(2)

أصول القانون الدولي، للدكتور حامد سلطان، وعبد الله العريان: ص 23، طبعة القاهرة

ص: 1698

أما ميكافيلي فقد ظهر له كتاب "الأمير" في سنة 1513م، وجاءت فيه عبارته الشهيرة "لا محل للأخذ بقواعد الأخلاق في أمور الدول"، وهذه العبارة اتخذت قاعدة لدى الأمراء والقواد فاتسمت العلاقات بين الدول بالقسوة والهمجية في حالة الحرب، والخداع والوقيعة في حالة السلم.

ومع أن ميكافيلي توفي سنة 1527م فقد ظلت نظرياته وتعاليمه تحظى باهتمام من حكام أوروبا؛ استجابة لمآربهم الشخصية، وقد نجم من ذلك وقوع حروب كثيرة أثارت الفزع والفوضى بين الناس، بيد أنها مع هذه أثارت المفكرين والعلماء لمقاومة تلك التعاليم والنظريات، محاولين إخراج العلاقات الدولية من الفوضى التي كانت تحيط بها.

وتبلورت تلك النزعة المضادة لكتاب ميكافيلي في كتاب "في قانون الحرب والسلم" للعالم الهولندي جروتيوس، وقد ظهر هذا الكتاب في سنة 1625م وتضمن تنظيمًا يكاد يكون كاملًا لما قد يكون بين الدول من روابط وعلاقات وامتاز بالدراسة المنطقية المنظمة، وبالنظريات التي لاقت احترامًا وتقديرًا من المفكرين في ذلك العصر. وقد هاجم مؤلفه آراء ميكافيلي ونظرية الرئاسة العليا في الشؤون الدينية التي كانت للبابا.

ولأهمية هذا الكتاب وأثره في العلاقات الدولية التزمته الدول دستورًا لعلاقاتها الخارجية مدى قرنين من الزمان، واعتبر مؤلفه أبا القانون الدولي، وارتبط اسم جروتيوس بنشأة هذا العلم لدى فقهاء هذا القانون الغربيين.

وفي سنة 1648م وقعت معاهدة وستنغاليا التي يؤرخ الأوروبيون فيها بدء العصر الحديث للقانون الدولي؛ لأنها وضعت آراء جروتيوس موضع التنفيذ الفعلي بين الدول، ولكن ظروفًا شتى جدت بعد هذه المعاهدة ساعدت على نمو القانون الدولي، وانفساح مجاله، فذاعت مبادئه وتأكدت ضرورة وجوده، ورسخت في حكم علاقات الدول قواعده (1) ، ومن ذلك ظهور عدة دول جديدة بعد الثورة الفرنسية في سنة 1789م بسبب انتشار الحركات القومية، واستقلال كثير من الشعوب الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، وقد ترتب على ذلك أن أصبحت العائلة الدولية تنظم عددًا كثيرًا من الدول المستقلة المتساوية، لكل منها سيادتها وجيوشها وأساطيلها مما دعا إلى ازدياد الشعور بالحاجة إلى إيجاد قواعد خاصة بتنظيم علاقات الدول في وقت السلم والحرب.

وأدت كثرة استقلال الدول والحاجة إلى قانون ينظم علاقاتها إلى عقد مؤتمرات دولية من أجل تنظيم قواعد قانونية وتدوينها في اتفاقيات دولية كما حدث في مؤتمر جنيف في سنة 1864م الذي وضع قواعد الحرب البرية، وفي مؤتمر لاهاي المنعقد في سنتي 1889م، 1907م الذي توصل إلى وضع ست عشرة اتفاقية دولية في مختلف المسائل ومنها حقوق الأسرى، هذا بالإضافة إلى بعض المعاهدات التي نظمت حقوق المحايدين وواجباتهم مثل معاهدة باريس المنعقدة في سنة 1856م (2) .

(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي: ص 49، وانظر القانون الدولي العام، للدكتور سامي جنينة: ص 63، طبعة الاعتماد، القاهرة

(2)

القانون الدولي العام، للدكتور سامي جنينة: ص 68

ص: 1699

ولما كانت النهضة الصناعية في أوروبا قد أتاحت للدول ألوانًا جديدة من الأسلحة الحربية، وهيأت لبعضها فرصة احتلال الشعوب الضعيفة واستغلالها، ولما كانت الدول القوية قد حدث بينها صراع حول مناطق النفوذ والاحتكار، بحيث يمكن القول بأن الحروب العديدة التي عرفها العصر الحديث العالمية منها والمحلية تكمن أسبابها الجوهرية كلها وراء نزعات الاستعمار وبسط النفوذ، ونهب خيرات الشعوب وثرواتها وبخاصة المتخلفة منه في آسيا وأفريقيا، لما كان كل ذلك لجأت الدول القوية إلى عقد اتفاقات ومعاهدات دولية جديدة تتلاءم مع ظروف العصر، وأهمها معاهدة فرساي المنعقدة في سنة 1919م عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد تمخضت هذه المعاهدة عن إنشاء أول تجمع دولي أطلق عليه عصبة الأمم.

وحاولت الجمعية العامة لهذه العصبة تدوين القانون الدولي فشكلت لجنة لهذه الغاية، وقدمت اللجنة تقريرها إلى العصبة في سنة 1927م، وتضمن التقرير موضوعات مختلفة ذكرت اللجنة أنها صالحة للتدوين وهي: الجنسية، المياه الإقليمية، مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تلحق بأشخاص الأجانب وأموالهم في إقليمها، والامتيازات والحصانة الدبلوماسية، وإجراءات المؤتمرات الدولية، وإجراء عقد المعاهدات وصياغتها، واستغلال منتجات البحار (1) .

وقرر مجلس العصبة وجوب الدعوة إلى مؤتمر يعقد في لاهاي تكون مهمته تدوين الموضوعات الثلاثة الأولى الواردة في تقرير اللجنة، وعقد هذا المؤتمر في سنة 1930م، ولكنه لم يصل إلى اتفاق بشأن المياه الإقليمية ومسؤولية الدولة عن الأجانب في إقليمها.

وبعد الحرب العالمية الثانية عقدت اتفاقية سان فرنسيسكو في سنة 1945م وبمقتضاها أنشئت هيئة الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم، وقد نصت المادة: 13 في الفقرة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على ما يأتي: تنشئ الجمعية العامة دراسات وتشير بتوصيات بقصد إنماء التعاون الدولي في الميدان السياسي، وتشجيع التقدم المطرد للقانون الدولي وتدوينه، ولذلك عهدت الجمعية العامة إلى لجنة القانون الدولي ببحث موضوعات شتى تتعلق بالشؤون الدولية.

ويبدو أن اشتباك مصالح الدول وتعارضها في عصر الذرة والصواريخ العابرة للقارات، وما يسمى بحرب النجوم جعل الأحداث الدولية تتوالى بسرعة، وتتناقض تناقضًا بينًا متلاحقًا، بالإضافة إلى وجود قوتين عالميتين تتنازعان السيطرة على العالم فكرًا واقتصادًا ونفوذًا، وهذا كله جعل من العسير إن لم يكن من المستحيل وضع قانون دولي عام ملزم لجميع الدول قبل أن يكون هناك قوة دولية كوسيلة لإلزام من يخرق القانون باحترامه، وتنفيذ كل ما يصدر عن الهيئات الدولية من قرارات وأحكام (2) .

(1) أصول القانون الدولي: ص 25

(2)

أصول القانون الدولي ص: 25

ص: 1700

أصول القانون الدولي العام:

بعد هذه اللمحة التاريخية عن نشأة القانون الدولي في الفكر الإنساني وتطوره، ما هي أصوله التي انتهى إليها فقهاؤه، والتي يرون أنها تحمي الحقوق، وتمنع الاعتداء وتصون السلام؟

وقبل الإجابة عن هذا أود الإشارة إلى أن هؤلاء الفقهاء يختلفون من حيث الأسس التي تقوم عليها أصول هذا القانون، ولذلك جدت نظريات متباينة، فكل فقيه نظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فهناك نظرية قواعد الأخلاق، ونظرية المجاملات الدولية، ونظرية الرضا العام الفردي، والرضا العام الجماعي، ونظرية القانون الطبيعي، ومذهب القانون الوضعي الناشئ عن شروط المعاهدات المكتوبة، ونظرية القومية والجنسية التي تمخضت عن حق تقرير المصير، ونظرية الديانة المسيحية (1) .

ومع تباين آراء الفقهاء في هذا يكاد ينعقد الإجماع (2) بينهم على أن العرف والمعاهدات هما المصدران المهمان للقانون الدولي العام، وذلك لأن القاعدة القانونية تنشأ وليدة الحاجة، فإن ثبت وجودها عن طريق تكرر استعمالها أصبح العرف مصدرها، وإن ثبت وجودها عن طريق تدوينها في اتفاق أو معاهدة فإنه يكون مصدره في هذه الحالة.

وقد دعت لجنة القانون الدولي التابعة لهيئة الأمم المتحدة في 21 نوفمبر سنة 1947م إلى إعداد مشروع إعلان حقوق الدول وواجباتها؛ ليصبح القانون الذي تأخذ به الدول في علاقاتها في أوقات السلم والحرب.

وقدمت هذه اللجنة مشروعها إلى الجمعية العامة سنة 1948م فقررت صلاحيته، وأحالته إلى الدول الأعضاء لتبدي كل منها رأيها فيه، وضربت لذلك موعدًا غايته شهر يوليو سنة 1950م، ولكن الدول جميعها أمسكت عن الرد عليه.

ولأن هذا المشروع يمثل أحدث ما وصل إليه الفكر القانون الدولي في تنظيم العلاقات بين الدول، وتحديد حقوقها وواجباتها رأيت الاكتفاء به في بيان الأصول الوضعية للقانون الدولي العام.

لقد بين المشروع حقوق الدول في أربع مواد، على حين خصص عشر مواد للحديث عن واجبات الدول، وكأنه بهذا يؤكد أن السلام الدولي يفرض واجبات كثيرة، وأن على الدول أن تبذل وتضحي من أجل أمن المجتمع الدولي واستقراره.

(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي: ص 74

(2)

انظر أصول القوانين، لأحمد كامل مرسي وسيد مصطفى: ص 92، المطبعة الرحمانية، القاهرة

ص: 1701

والمواد التي تضمنت حقوق الدول هي:

مادة (1) : لكل دولة الحق في الاستقلال وفي ممارسة اختصاصاتها، ومنها اختيار شكل حكوماتها بمنتهى الحرية.

مادة (2) : لكل دولة الحق في ممارسة قضائها على كل ما على إقليمها من أشخاص وأشياء.

مادة (5) لكل دولة حق المساواة القانونية مع الدول الأخرى.

مادة (12) لكل دولة حق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي ضد كل اعتداء مسلح (1) .

فهذه المواد تقرر لكل دولة حق الاستقلال، وحق ولاية القضاء في إقليمها، وحق المساواة مع الدول الأخرى، وحق الدفاع الشرعي، حماية لاستقلالها وسيادتها، ودفعًا لكل اعتداء يقع عليها، وهذه الحقوق الأربعة هي المجمع عليها بين علماء القانون الدولي سواء أكانوا طبيعيين أم وضعيين (2) .

وأما المواد التي حددت واجبات الدول فهي:

مادة (3) : مراعاة الدولة لأحكام القانون الدولي في علاقاتها مع الدول الأخرى.

مادة (4) فض الخلاقات الدولية بالوسائل السلمية، وطبقًا لأحكام القانون الدولي.

مادة (6) الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية للدول الأخرى.

مادة (7) الامتناع عن مساعدة أية دولة تلجأ إلى الحرب، أو استخدام آخر غير مشروع للقوة، وكذلك أية دولة تتخذ الأمم المتحدة ضدها إجراءات القسر أو الإكراه.

مادة (8) : الامتناع عن الاعتراف بأية زيادات إقليمية قد تحصل عليها إحدى الدول، نتيجة للحرب، أو أي استخدام غير مشروع للقوة.

مادة (9) : الامتناع عن تشجيع الثورات الأهلية في أقاليم الدول الأخرى.

مادة (10) : ضمان أن تكون الأحوال في إقليمها على نحو لا يهدد السلام والنظام الدوليين.

مادة (11) : جميع الأشخاص الخاضعين لولايتها على أساس احترام حقوق الإنسان والحريات الرئيسية لهم جميعًا دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وبدون تفريق بين الرجال والنساء.

مادة (13) : تنفيذ الدولة بحسن نية لالتزاماتها الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي.

مادة (14) : عدم الالتجاء للحرب أو أي استخدام غير مشروع للقوة (3) .

ويلاحظ أن هذه المواد تركز على أمرين هما:

أولًا: رفض اتخاذ الحرب وسيلة للسيطرة أو التوسع، والدعوة إلى حل المشكلات الدولية بالطرق السلمية.

ثانيًا: احترام سيادة كل دولة، واحترام الإنسان دون نظر إلى جنسيته أو عقيدته.

(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي: ص 172

(2)

أصول القانون الدولي: ص 576

(3)

أصول القانون الدولي، ص: 575

ص: 1702

ولا مراء في أن تنفيذ هذه المبادئ بإخلاص وإيمان صادق بها يجنب البشرية كثيرًا من المشكلات والأخطار، ويقضي على كل ألوان الاستغلال والامتهان لكرامة الإنسان ، فلماذا مسكت الدول عن الإعراب عن رأيها فيه، وكأن هذا رفض منها له، وبخاصة أنها كانت حديثة العهد بحرب طاحنة كلفت البشرية الملايين من الأنفس والأموال؟

إن موقف الدول من هذا المشروع يدل على أن الرغبة الصادقة في السلام الدولي العادل لا تتوافر لدى بعض الدول، ولا سيما الدول الكبرى؛ لأنها لو شاءت قبوله لقادت الدول الصغرى إلى الموافقة عليه.

على أن ذلك المشروع في نصه على عدم استخدام القوة في المنازعات الدولية إنما يحاول وضع ميثاق الأمم المتحدة موضع التنفيذ، فقد جاء الميثاق بمبادئ جديدة كل الجدة في العلاقات الدولية، كمبدأ عدم استخدام القوة، ومبدأ الأمن الجماعي (1) .

وقد نصت الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي:

يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.

كذلك نصت الفقرة الأولى من المادة الأولى من هذا الميثاق على ما يلي:

والغرض الأول من مقاصد الأمم المتحدة هو: حفظ السلام والأمن الدوليين وتحقيقًا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة والفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها. (2) .

وهذا يعني أن الحرب التي كانت مشروعة في القانون قبل الحرب العالمية الثانية قد أصبحت محظورة بعد هذه الحرب من الناحية القانونية، ولكن البشرية ما زالت تصطلي بنار الحروب العدوانية في مختلف بقاع العالم، وما زال منطق القوة هو السائد في فض المنازعات بين الدول، وما زالت الدول الضعيفة أو الصغيرة تتعرض للإرهاب والضغط، وما زال الخوف من نشوب حرب عالمية ثالثة لا تدع حيوانًا ولا نباتًا إلا أتت عليه يسيطر على الجميع، ومرد هذا كله إلى الحضارة المادية المعاصرة التي جعلت الحياة صراعًا بين الدول من أجل الاستغلال والنفوذ ، وإلى أن القوانين الوضعية مبتوتة الصلة بضمائر الساسة والقادة ولا تلقى منهم احترامًا أو تقديرًا، ولا ينزلون على أحكامها إلا إذا اقتضت مصلحتهم ذلك.

(1) القانون الدولي العام، للدكتور حسن الجلبي: ص 165، طبعة بغداد

(2)

انظر النسخة العربية من ميثاق الأمم المتحدة

ص: 1703

القانون الدولي الخاص:

وأما القانون الدولي الخاص فهو كما أسلفت في تعريفه يتناول القضايا ذات العنصر الأجنبي، وهي التي يتصل أحد عناصرها بأي شكل من الأشكال ببلد أجنبي كأن يتخاصم مصريان مثلًا على مال موجود في إيطاليا، أو مصري وأجنبي أو أجنبيان من جنسية واحدة، أو من جنستين مختلفتين أمام محكمة مصرية (1) .

وهناك خلاف بين العلماء حول نوعية القضايا التي تخضع للقانون الدولي الخاص، فيرى البعض أنه خاص بالمسائل المدنية دون الجنائية، لأن هذه من اختصاص القانون الدولي العام، ويرى غيرهم أن هذه المسائل تدخل في نطاق القانون الدولي الخاص (2) .

وهناك خلاف أيضًا حول النظرة إلى هذا القانون واعتباره علمًا مستقلًا بذاته، فيذهب بعض الفقهاء إلى أن القانون الدولي الخاص علم مستقل بذاته، على حين يذهب آخرون إلى غير ذلك، فالإنجليز مثلًا لا يرون أنه يوجد قانون دولي خاص واحد مشترك لكل الدول، ولهذا فهو لديهم معتبر من القوانين الداخلية.

وهذا القانون حديث العهد، وإن كانت له جذور قديمة ترجع في رأي بعض فقهائه إلى العصر الروماني وإلى العصور الوسطى.

وقد ازدادت أهمية القانون الدولي الخاص في العصر الحديث، بسبب سهولة المواصلات، واتساع نطاق التجارة بين الأمم، وكذلك السياحة، وهجرة العقول والأيدي العاملة.

وكل قواعد أو أصول هذا القانون تدور في نطاق شخصية القوانين ومحليتها، بمعنى أن القانون في سريانه هل يطبق بالنسبة للأشخاص الخاضعين له دون سواهم كأن يطبق القانون المصري مثلًا على المصريين وليس على الأجانب الذين يقيمون في مصر، أو أن تطبيق القانون مرتبط أولًا بالمكان الذي ينتمي إليه القانون دون نظر إلى الأشخاص الذين يقيمون فيه، فالقانون المصري يطبق على جميع الموجودين في مصر سواء كانوا مصريين أو غير مصريين.

وهناك سوى نظرية شخصية القوانين ومحليتها مسائل يهتم بها هذا القانون مثل الجنسية وطرق الحصول عليها، والموطن وأنواعه، إلى غير ذلك مما لا مجال هنا لتفصيل القول فيه (3) .

ولكن قواعد هذا القانون وموضوعاته ما زالت حتى الآن موضع خلاف بين الفقهاء على العكس من قواعد القانون الدولي العام.

(1) انظر مقدمة القانون، للأستاذ أحمد صفوت: ص 95، طبعة القاهرة

(2)

انظر القانون الدولي الخاص: ص 72

(3)

انظر القانون الدولي الخاص: ص 72

ص: 1704

ثانيًا:

أصول القانون الدولي في الإسلام

أومأت في مستهل هذه الدراسة إلى عالمية الإسلام، وأن هذه العالمية تثبتها المعجزة القرآنية، والأحكام التي اشتملت عليها هذه المعجزة.

وقد أسلفت أيضًا أن الإسلام يقرر الحرية الدينية، وأنه يرفض مبدأ الإكراه في اعتناقه، وقد تمخض عن هذا إن كان الإسلام إقليميًّا في تطبيق أحكامه، وإن كان عالميًّا من حيث أصوله وتعاليمه، وذلك أن المسلمين الأوائل لإيمانهم الصادق بعموم دينهم ومسؤوليتهم عن تبليغه إلى الناس قاطبة حملوا أرواحهم على أكفهم وانساحوا في الأرض لا يخشون إلا الله، لقد جاهدوا في الله حق جهاده، فنصرهم الله نصرًاعزيزًا، وفتح عليهم بلادًا كثيرة، ولهذا انتشر الإسلام في فترة زمنية وجيزة في بقعة شاسعة من العالم، ومع هذا ظلت هناك شعوب وجماعات وأفراد لا ترتضي الإسلام دينًا.

وقد نجم عن هذا الانتشار السريع للإسلام، وبقاء أمم وأفراد أبت أن تؤمن به مشكلات مختلفة تتعلق بالعلاقة بين هؤلاء الذين رفضوا الإسلام دينًا وبين المؤمنين به.

وإذا كانت هذه المشكلات تختلف من حيث الزمان والمكان فإن أصول معالجتها كما قررها الإسلام واحدة. ويقتضي بيان هذه الأصول الحديث في إيجاز عما يلي:

(أ) الحرب في الإسلام.

(ب) أنواع الديار.

(ج) أصول العلاقات الدولية الإسلامية.

ص: 1705

الحرب في الإسلام:

إذا كانت الإسلام دعوة عالمية، وكان مع هذا ينهى عن الإكراه في الدين، فلماذا أباح الحرب، وحض على الجهاد، وأعد في سبيله الأجر الجزيل، والنعيم المقيم؟

إن الحرب في الإسلام ليست أصلًا من أصوله، ولا يمكن أن تكون وسيلة لحمل الناس على الإيمان به؛ لأن الإقناع الصادق القائم على الوجدان والبرهان عماد اليقين الراسخ، ولا يتسنى لأية قوة في الأرض أن تفرض على إنسان عقيدة يأباها قلبه وينفر منها عقله، فما هي الغاية إذن من الحرب في الإسلام؟

إن من رحمة الله بعباده أنه لا يسألهم عما كتبه عليهم إلا بعد الإنذار إليهم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) .

وقد بلغ محمد صلى الله عليه وسلم رسالة ربه إلى قومه، كما بلغها إلى الأمراء والملوك في عصره عن طريق رسله وكتبه، وفي هذا تأكيد لمبدأ عالمية الإسلام، وأنه رسالة الله الخاتمة إلى الناس كافة. وتوفي عليه الصلاة والسلام بعد أن ترك قومه على المحجة البيضاء، وكان على هؤلاء العرب الذين اصطفى الله منهم خاتم رسله أن يحملوا هذا الدين إلى غيرهم من الأمم، فالشرائع لا تلزم إلا بعد السماع (2) ، ومن ثم فإن غير العرب إذا لم تصل إليهم دعوة الإسلام فلا حجة عليهم، وإنما تقع الحجة على الذين بلغتهم هذه الدعوة، ثم قصروا في تبليغها إلى سواهم.

فمن أجل تبليغ الإسلام إلى الناس في كل زمان ومكان، وحماية الدعوة إليه من القاسطين والمفسدين فرض الجهاد، وكان ماضيًا إلى يوم القيامة، إنه جهاد من أجل حماية التبليغ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فقد برهنت أحداث التاريخ على أن الطغاة لا يتركون الناس أحرارًا فيما يدينون به، أو يسمعون له، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الحي على ذلك فقد دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام فآذوه واضطهدوه، وعذبوا من صدقه واتبعه، ثم أخرجوه وأصحابه من مكة.

إن مشركي مكة أرادوا الحجر على القلوب والعقول، وأبوا أن يدعوا للناس الحرية في التفكير والاختيار، فهم بهذا يحمون مبدأ الإكراه في الدين، فلو ترك هؤلاء الكفار وشأنهم لطغى الباطل على الحق، ولطمس النورَ الظلامُ، فكان الإذن بالقتال وإعداد القوة لدفع هذا الظلم الذي تعرض له المؤمنون لأنهم قالوا ربنا الله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) .

فغاية الحرب الأولى في الإسلام تنحصر في تحرير الناس من الطغاة، وحماية الضعفاء من الأقوياء، حتى لا يكون في الأرض سلطان غير سلطان الحق تبارك وتعالى، فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

ولأن غاية الحرب في الإسلام هي تحقيق الحرية الدينية، وإنقاذ المستضعفين من براثن المتجبرين فإن هذا الدين قد لطف من حدتها وجعل لها قانونًا عادلًا ونظامًا محكمًا وآدابًا لم تعرفها البشرية في تاريخها الطويل، وأكبر ما يسجل له من أمرها أنه لم يشرعها لنيل المغانم وفرض المغارم، ولكنه جعلها وسيلة عند الضرورة لتبليغ كلمة الله ونشرها بين الأمم، كما جعلها وسيلة لرد الاعتداء والدفاع عن عقيدة الأمة وحريتها وعزة المؤمنين واستقلال وسلامة أوطانهم.

(1) سورة الإسراء: الآية 15

(2)

انظر شرح السير الكبير، للسرخسي: 4/ 291، طبعة الهند

(3)

سورة الحج: الآيتان 39، 40

ص: 1706

وما دامت الحرب ليست أصلًا من أصول الإسلام، وليست غاية في ذاتها فإن أول ما يجب على المسلمين إذا ساروا إلى غيرهم هو البدء بالدعاء إلى الإسلام، وهذا الدعاء قد يكون (1) موجهًا لقوم لم تبلغهم الدعوة فيجب إعلامهم حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وقد يكون موجهًا لقوم بَلَغَتْهُم الدعوة، ودعاؤهم مرة ثانية أمر مطلوب، ففيه مبالغة في الإنذار بما ينفع، وإشارة إلى أن الإسلام يؤثر السلم على الحرب في تبليغ دعوته، فإذا استجاب هؤلاء طوعًا واختيارًا لما دعاهم إليه المسلمون فهم إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن أبوا ولم يستجيبوا فإن على المسلمين أن يدعوهم إلى الدخول معهم في عهد وميثاق؛ ليصبحوا أهل ذمة لا يتعرض لهم في عقائدهم الدينية، ويتمتعون بكل حقوق الحماية والرعاية في مقابل ضريبة مالية يسيرة لا تجب إلا على الرجال البالغين الأصحاء القادرين ماديًّا، وذلك لغاية واحدة، وهو أن يأمن المسلمون لهؤلاء، فلا يظاهروا غير المسلمين على المسلمين، فإن أبوا أن يدخلوا مع المسلمين في عهد وميثاق فقد جاهروا بهذا الرفض بالعداء، وأعلنوا وقوفهم ضد رسالة التبليغ، فكان قتالهم في هذه الحالة لتحرير الناس من التسلط والقهر، ولتأمين طريق الدعوة إلى الله، روي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم

فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم

)) (2) .

(1) انظر المبسوط، للسرخسي: 10 /6

(2)

رواه مسلم وابن ماجه والترمذي، وانظر نيل الأوطار، للشوكاني: 8/ 51، طبعة الدمشقي

ص: 1707

وجاء في شرح السير الكبير للإمام السرخسي: "إن الكفر وإن كان من أعظم الجنايات فهو بين العبد وربه جل وعلا، وجزاء مثل هذه الجناية يؤخر إلى دار الجزاء، فأما ما عجل في الدنيا ـ وهو قتال الكفار ـ فهو مشروع لمنفعة تعود إلى العباد". (1)

وما قاله الإمام السرخسي يشير إلى أن القتال في الإسلام ليس للإكراه في الدين، ولكن لتحقيق مصالح العباد بإنقاذهم من الطغاة المستبدين؛ حتى يكون الطريق أمام دعوة الله خاليًا من الأشواك والعقبات يسلكه من يشاء، ويعرض عنه من أبى.

وإذا كان القتال في الإسلام لدفع فتنة الكفر وشر الكفار فإنه لا يجوز قتال إلا هؤلاء الذين يمثلون الفتنة، ويمكنون للشر بالفعل أو بالقول، ولهذا لا ينبغي قتل النساء والأطفال والمجانين والذين لا يخالطون الناس وترهبوا في الأديرة وكذلك الشيوخ الفانين، لقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} .

وهؤلاء لا يقاتلون، فإذا شارك أحد منهم برأيه أو فعله في الحرب فقد أصبح مقاتلًا يجوز قتاله وقتله فيما عدا المعتوه ونحو فإن على المسلمين أخذه ومنعه من المشاركة في الحرب (2) .

وكما جاء النهي عن قتل غير المحاربين جاء النهي أيضًا عن الغدر والمثلة وحمل الرؤوس وقطع الأشجار وتخريب الديار، وذبح المواشي إلا لضرورة إطعام الجند.

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لجيش أسامة: "لا تمثلوا ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". (3)

إن وصية الخليفة الأول تعبير عن مبادئ الإسلام وآدابه في الحرب، الحرب الإنسانية الخالصة لله، الحرب التي لا تعرف ظلمًا ولا قسوة ولا دمارًا، ولا غدرًا ولا غلولًا، الحرب التي تكفل حرية العقيدة للناس جميعًا، وتحمي أماكن العبادة لكل الديانات، إنها حرب العدل والرحمة والوفاء (4) .

(1) شرح السير الكبير: 3/ 182

(2)

شرح السير الكبير: 3/ 194 ـ 197

(3)

انظر من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي، ص 98، طعبة المكتب الإسلامي

(4)

انظر من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي: ص 98، طبعة المكتب الإسلامي

ص: 1708

والحرب إذا وضعت أوزارها وانتهت فإنها تنتهي بأحد أمرين: إما الصلح (1) ، وإما النصر، أما الصلح فالعهود فيه محترمة، والوفاء بما تضمنته واجب {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (2)

وأما النصر فهو انتصار الجماعة التي غضبت للحق، واستشهدت في سبيله فلن تفعل حين انتصارها إلا ما يوطد أركان الحق في الأرض، ويمنع البغي والفساد بين الناس:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) .

إن الانتصار نعمة تقابل بالشكر عليها، وذلك بإقامة شرع الله في دنيا الناس، شرع الطاعة الموصولة، والتعاون على البر والخير، ومكافحة الفساد والشر، وكفالة العدالة للجميع.

ومن إقامة شرع الله في الأرض احترام آدمية الإنسان، ومن ثم لا يلقى المهزوم عنتًا وإهدارًا لكرامته، فالفار لا يتبع، والجريح لا يذفف عليه بل يعالج ولا تساء معاملته، والأسير لا يقتل، ولا يكره بوسائل غير مشروعة للاعتراف بما لديه من معلومات عن العدو، ويخير ولي الأمر فيه بما يراه أوفق لمصلحة المسلمين (4) ، وأكثر انسجامًا مع العرف الدولي في شأن الأسرى، ما دام هذا العرف لا يتعارض مع المقررات الإسلامية في رعاية المصلحة العامة، وحماية العزة والكرامة، وتحقيق الوئام والسلام بين الناس.

وبهذا يتضح أن الحرب في الإسلام ضرورة، وأنها تخضع لقانون العدل والإنصاف واحترام آدمية الإنسان، وليست لإكراه الناس على الإيمان، وما يذهب إليه جمهور المستشرقين ومن سلك سبيلهم من الباحثين من أن الإسلام دين انتشر بالسيف زعم باطل يرده انتشار الإسلام في بلاد كثيرة لم تدخلها الجيوش الإسلامية، ثم انتشاره في العصر الحاضر في كل دول العالم.

إن الحرب في الإسلام حرب تعمير لا تدمير، وهي في جوهرها ترسي دعائم السلم الدائم بين الناس؛ لأنها تنقذهم من تجار الحروب، والطامعين في خيرات الشعوب، وأولئك الذين يكرهون سواهم على ما لا يبتغون.

(1) قد يكون الصلح موادعة أو هدنة مؤقتة أو دائمة أو عقد ذمة

(2)

سورة النحل: الآية 91

(3)

سورة الحج: الآية 41

(4)

انظر الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبلي الزحيلي: 6/ 471، طبعة دار الفكر، دمشق

ص: 1709

(ب) أنواع الديار:

تواضع الفقهاء على تقسيم الديار ثلاثة أقسام (1) : دار الإسلام، ودار العهد، ودار الحرب، وهذا التقسيم هو بحكم الواقع لا بحكم الشرع؛ لأن الإسلام لم يقيد الدولة الإسلامية بحدود جغرافية أو مكانية، فهو كما ذكرت من قبل دعوة عالمية، ولكن تطبيق أحكامه مرتبط بسلطان المسلمين، فكلما اتسعت دار الإسلام اتسع تطبيق أحكام هذا الدين، ومن هنا اقتضت الظروف أن يكون الإسلام إقليميًا حتى تعم دار الإسلام العالم بأسره (2) .

والذي لا خلاف عليه بين الفقهاء أن الدار التي تحكم بسلطان المسلمين، وهم حماتها وأهل المنعة فيها هي دار الإسلام، وأن دار العهد هي غير دار المسلمين ارتبطوا مع المسلمين بعهد (3) .

وأما تعريف دار الحرب فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين: أحدهما أن دار الحرب هي الدار التي لا يكون فيها السلطان للحاكم المسلم، ولا تنفذ فيها أحكام الإسلام، وليس بين المسلمين وأهلها عهد، وهذا رأي الصاحبين وجمهور الفقهاء.

والرأي الثاني يذهب إلى أن كون السلطان لغير المسلمين لا يجعل الدار دار حرب، بل لا بد من تحقيق شروط ثلاثة مجتمعة لتصير الدار دار حرب وهي:

أولًا: ظهور الأحكام غير الإسلامية:

ثانيًا: أن يكون الإقليم متاخمًا للديار الإسلامية بحيث يتوقع منه الاعتداء على دار الإسلام (4) .

ثالثًا: ألا يأمن المسلم ولا الذمي فيها بحكم الإسلام، بل يأمن فيها بعهد يعقده، وهذا رأي أبي حنيفة والزيدية وبعض الفقهاء (5) .

(1) انظر نظرية الحرب في الإسلام للشيخ محمد أبو زهرة: ص 30، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، ويضيف بعض الفقهاء دارًا رابعة وهي دار البغي يكون الأمر فيها للبغاة، وهم الخارجون على الإمام الحق بغير الحق؛ وانظر تبيين الحقائق، للزيلعي: 3/ 293

(2)

انظر من الفقه الجنائي المقارن للمستشار أحمد موافي: ص 90، طبعة الجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة

(3)

نظرية الحرب في الإسلام: ص 30؛ والعلاقات الدولية في الإسلام، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 53، طبع بالقاهرة

(4)

إن اشتراط المتاخمة لتوقع الاعتداء أصبح في عصرنا غير ذي موضوع، فقد تطورت أسلحة الحروب، ولم يعد القتال في حاجة إلى متاخمة، وجاء تفسير المنار: 6/ 409، أن دار الحرب في بلاد غير المسلمين وإن لم يحاربوا، وكان القاعدة أن كل من لم يعاهدنا على السلم يعد محاربًا

(5)

انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 54

ص: 1710

ويرى بعض المعاصرين (1) أن رأي الإمام أبي حنيفة أرجح من رأي الصاحبين وجمهور الفقهاء؛ لأنه ناط الحكم على الدار بأنها دار حرب بزوال أمن المسلمين فيها ويتوقع الاعتداء عليهم منها، وهذا يوافق الأصل في فكرة الحرب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء، وحماية الضعفاء ونشر الأمن والسلام.

ويبدو ذلك من التقسيم أن الدار تكون دار إسلام بسيطرة المسلمين عليها وظهور أحكام دينهم فيها، فلا تحكم بغير ما شرعه الله، ولا يكون لغير المسلمين سبيل عليها، فإذا لم يتوافر لها الاستقلال والحكم بما أنزل الله فإنها لا تكون دار إسلام بالمعنى الصحيح.

ولا فرق بين دار العهد ودار الحرب إلا من حيث إن الأولى بينها وبين المسلمين معاهدة سلام، على حين لا يوجد هذا بالنسبة للثانية فكانت دار الحرب يتوقع منها الاعتداء في أي وقت، وهما عدا هذا دار واحدة تقابل دار الإسلام، فهما لا يعترفان بهذا الدين، ولا عبرة بما يكون من تفاوت في العقائد بين أهل دار العهد ودار الحرب، فهذا لا يؤثر في أنهما دار واحدة غير إسلامية.

وإذا كان الإسلام يحمي الحرية الدينية، ولا يكره أحدًا على الإيمان به فإن دار الإسلام قد تضم غير مسلمين، وهؤلاء قد يقيمون في هذه الدار إقامة دائمة، وقد يقيمون فيها إقامة مؤقتة.

والذين يقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام هم أهل الذمة، وهم يتمتعون بهذه الإقامة؛ طوعًا لعقد يتم بناءً على توافق إرادتي ولي الأمر، ومن يرغب في الإقامة مع المسلمين، وبمقتضاه يحصل الذمي على جنسية الدولة الإسلامية، ويصبح رعية إسلامية له كل حقوق المواطنة في هذه الدولة وعليه من مقابل ذلك بعض الالتزامات والواجبات، ويجمعها الشرطان التاليان:

أولهما: أن يلتزم الذميون إعطاء التكليفات المالية على القادرين؛ لكي يسهموا في بناء الدولة، ويشتركوا في تكوين ميزانها المالي.

ثانيهما: أن يلتزموا أحكام الإسلام في المعاملات المالية، وفي الخضوع للعقوبات الإسلامية، ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. (2)

قال السرخسي: "الذمي ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات". (3)، وجاء في مقدمة ابن رشد الجد:"ولا يجوز بين المسلم والذمي في التعامل إلا ما يجوز بين المسلمين". (4) .

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 54

(2)

العلاقات الدولية في الإسلام: ص 62

(3)

المبسوط: 10/ 84

(4)

مقدمات ابن رشد: 2/ 159، تحقيق سيد أحمد غراب، طبعة دار الغرب الإسلامي

ص: 1711

فأهل الذمة إذن يخضعون للأحكام الإسلامية في الحدود والمعاملات المالية، وما سوى هذا لا يسألون عنه مثل الشعائر الدينية الخاصة بهم وأحكام النكاح فيما بينهم. وما دام أهل الذمة رعية إسلامية، أو جزء من المجتمع الإسلامي (1) ، ولهم ما للمسلمين من حقوق الرعاية والحماية والإنصاف مع ضمان الحرية الدينية لهم، فإنهم لهذا خارجون عن نطاق المعاملات الدولية بمفهومها الخاص والعام.

أما الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة مؤقتة فهم المستأمنون الذين يدخلون البلاد الإسلامية على غير نية الإقامة المستمرة فيها، ويسمح لهم بذلك لمدة معلومة يجوز تجديدها، فالقاعدة هي عدم الإقامة الدائمة، وإلا تحول المستأمن إلى ذمي، وأصبح رعية إسلامية (2) .

والإسلام وهو دين الإخاء الإنساني، ودين العدل والحرية والسلام، عامل المستأمن الوافد على دياره معاملة كريمة لا تعرفها القوانين الوضعية، فهو ما دام محافظًا على عقد الأمان، أو شروط الإذن بالإقامة لمدة محددة في دار الإسلام له الحرية الكاملة في التنقل ومباشرة نشاطه الذي وفد من أجله كالتجارة أو السياحة أو الدراسة، وهو آمن على نفسه وماله حتى ولو كان ينتمي إلى دولة نشب القتال بينها وبين المسلمين.

ويذهب جمهور الفقهاء إلى أكثر من هذا فيرون أن مال المستأمن الذي اكتسبه في دار الإسلام يبقى على ملكه، ولا تزول عنه ملكيته، ولو عاد إلى دار الحرب وقاتل المسلمين (3) .

(1) الذمي وإن كان مواطنًا يحمل جنسية الدولة الإسلامية لا يطالب بالجهاد مع المسلمين، ولكنه ليس محظورًا عليه، أو ممنوعًا منه، فهو اختياري بالنسبة له، ولولي الأمر الحق في أن يشرك الذميين في صفوف الجيش إذا رأى في ذلك مصلحة للأمة

(2)

انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 68

(3)

انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 68

ص: 1712

قال ابن قدامة في المغني: "وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلمًا أو ذميًّا أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا فإن دخل تاجرًا أو رسولًا أو متنزهًا أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه في نفسه وماله؛ لأنه لم يخرج عن نية الإقامة في دار الإسلام فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل مستوطنًا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله؛ لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان في ماله الذي معه، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به"(1) .

وإذا كان هذا هو موقف الفقه الإسلامي من المستأمن وماله فإن التشريعات الدولية الوضعية كانت قبل القرن الثامن عشر تبيح للدول اعتقال رعايا العدو الموجودين في إقليمها بمجرد قيام الحرب، وتحجزهم كأسرى حرب، كما كانت تصادر أموالهم، ثم جنحت تلك التشريعات إلى منع أسر رعايا العدو، وكذلك إلى منع مصادرة أمولهم، ولكن ظل القانون الدولي يجيز طرد رعايا العدو من إقليم الدولة بمجرد نشوب الحرب، وإن لم تكن هناك جريرة منهم. (2) .

والمستأمن الذي يتمتع بحريته في التنقل في دار الإسلام، وممارسة نشاطه الذي وفد من أجله، كما يتمتع بحرمة ماله يخضع لأحكام الشريعة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، سواء جرت هذه المعاملات بينه وبين مسلم أو بينه وبين ذمي، أو مستأمن مثله، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء.

أما ما يتعلق بالحدود فقد اختلف فيه الفقهاء، فيرى بعضهم إقامة جميع الحدود عليه (3) . ويذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يقام من الحدود على المستأمن إلا ما فيه من حق العباد، وذلك لأنا ندبنا إلى معاملته معاملة تحمله على الدخول في دارنا ليرى محاسن الإسلام فيسلم، وهو بالأمان التزام حقوق العباد، فالتزم أن يُنْصِفَهم كما يُنْصَف وأن لا يُؤْذِيَ أحدًا كما لا يُؤْذَى.

وأما حقوق الله فلا تلزم؛ لأنه لم يلتزمها، ألا ترى أنه لم يضرب عليه الجزية، ولم يمنع من رجوعه إلى دار الحرب (4) .

والرأي الذي أخذ به جمهور الفقهاء هو عدم التفريق بين حقوق الله وحقوق العباد وأن المستأمن يخضع لأحكام الشريعة في جميع الحدود، وهذا الرأي أكثر اتساقًا مع المبادئ الإسلامية، لأنه يتفق مع ما ينبغي أن تكون أمور الدولة من منع الفساد وكمال السيادة على كل من يقيم في ربوعها. (5) .

على أن رأي أبي حنيفة في عدم تطبيق الحدود الشرعية على المستأمن والمستأمنة إلا حد القذف كان سندًا للامتيازات الخاصة للأجانب في عصر الاحتلال، وكم جرت هذه الامتيازات على المسلمين من نكبات (6) .

(1) المغني: 10/ 437، طبعة المنار

(2)

انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 507 ـ 510، طبعة دمشق

(3)

انظر الأم، للشافعي: 7/ 325، 326، طبعة مصورة عن طبعة بولاق

(4)

انظر تبيين الحقائق، للزيعلي: 3/ 182، طبعة القاهرة

(5)

انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 71

(6)

انظر التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، للأستاذ عبد القادر عودة: 1/ 285، طبعة التراث بالقاهرة

ص: 1713

ومن المستأمنين طائفة تتمتع ببعض المزايا الخاصة التي تكفل لها القيام بمهمتها التي وفدت من أجلها، وهي طائفة الممثلين السياسيين، أو ما كان يطلق عليهم قديمًا الرسل.

هذه الطائفة أعطاها القانون الدولي المعاصر حصانة في أمور ثلاثة:

أولها: الحصانة لشخص الممثل فلا يتعرض له، ولا يعتدى عليه، حتى يستطيع أداء عمله السياسي من غير حرج، ولا يتعرض لسكنه أو أمتعته الشخصية.

ثانيها: حصانة تتعلق بالمال فيعفى من الضرائب والرسوم في حدود معينة.

ثالثها: الحصانة القضائية، ومن شأنها حماية المبعوث من الملاحقات الجنائية ومن الملاحقات المدنية الخاصة بعمله الرسمي. (1) .

فهل هذه الأمور الثلاثة التي أعطاها القانون الدولي المعاصر للممثلين السياسيين يقبلها الإسلام أو يرفضها؟

إن تقرير العرف في الشرع في استنباط الأحكام يقضي بأن كل ما يتعارف عليه المجتمع الدولي من وسائل التعاون والتآلف لا يرفضها الفكر القانوني الإسلامي ما لم تعارض نصًّا أو قاعدة، فالحصانة الشخصية والمالية ما دامت تقوم على أساس المعاملة بالمثل ولا يوجد من أحكام الشريعة ما يعارضها فإن تطبيقها على الممثلين السياسيين لا حرج فيه.

ولكن الحصانة القضائية ليست كالحصانة الشخصية والمالية، فكل من يرتكب حدًّا في دار الإسلام ينبغي أن يعاقب، وفقًا للأحكام الشرعية، ولا يجوز أن يحاكم على أساس قانون آخر، ففي هذا تعطيل لأحكام الله في أرض الإسلام.

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 72

ص: 1714

أما الذين يرتكبون ما يوجب عقوبة تعزيرية، وهي العقوبة غير المقدرة في الكتاب والسنة، ويتولى ولي الأمر تقدير العقاب فيها، أو يترك تقديرها للقاضي المختص، فهذه العقوبة في نظر بعض المعاصرين يصح أن تدخل في ضمن حصانة الممثلين السياسيين، وحجته أن تقديرها من حق ولي الأمر، فيجوز له أن يدع العقاب عليها لدولة الممثل أو الرسول. ولكن ما الذي يضمن أن تطبق دولة المممثل هذه العقوبة، وهل تطبيقها سيكون وفقًا لأحكام الله؟

إن التفاوت بين القوانين وكذلك التفاوت في النظر إلى أنواع الجرائم والعقوبات يمكن أن يجعل ما هو جريمة في دار الإسلام ليس بجريمة في غير هذه الدار، وأن يكون العقاب مختلفًا في حالة وحدة الجريمة في الإسلام والقوانين الوضعية، ولهذا أرجح الرأي الذي يذهب إلى أن الحصانة القضائية لا ينبغي أن تكون على حساب شرع الله، وأن العرف الدولي لا ينبغي أن يكون حاكمًا على هذا الشرع، وإنما يجب أن يكون محكومًا به. (1)

ويبدو من الحديث عن غير المسلمين في دار الإسلام أنهم جميعًا سواء لا فرق بين ذمي ومستأمن في وجوب تطبيق أحكام الشريعة عليهم فيما يتعلق بالمعاملات المالية والحدود، والفرق بينهما أن الذمي أمانه مؤبد أو يحمل جنسية الدولة الإسلامية على حين أن المستأمن أمانه مؤقت وليس رعية إسلامية، وبديهي أن هذا كالذمي في التمتع بالحرية الكاملة فيما يدين به دون أن يكون في هذا فتنة للمسلمين.

هذا ما يتعلق بالعلاقات الإسلامية بالنسبة لغير المسلمين في دار الإسلام.

أما دار العهد أو الموادعة فإن أول فقيه إسلامي تحدث عنها هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189هـ) الذي كتب في العلاقات الدولية الإسلامية كتابة علمية جامعة لم يُسبق بها، وذلك أن كل من كتب قبله من الفقهاء في موضوع السير كانوا يتحدثون عن دار الإسلام ودار الحرب فقط، وكانت العهود تبرم إما بين المسلمين وأهل الذمة الخاضعين لهم، أو بينهم وبين الحربيين المستأمنين، ولكن الإمام الشيباني تحدث (2) عن دار لا تخضع لحكم المسلمين فأهلها إذن ليسوا بأهل ذمة، ثم هم دخلوا مع المسلمين في عهود موادعة ومسالمة فخرجوا بهذا عن أن يكونوا حربيين.

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 73

(2)

انظر المبسوط: 10/ 85؛ وشرح السير الكبير: 4/ 1، وما بعدها

ص: 1715

وإذا كان بين الفقهاء اختلاف حول الأسباب التي تدعوا إلى موادعة غير المسلمين فإنه مهما تكن الظروف التي تدفع بالمسلمين إلى مسالمة سواهم فإن العلاقة بينهم وبين أهل دار الموادعة تقوم على احترام العهود المكتوبة وغير المكتوبة إلى أقصى حد، وعدم الغدر والخيانة مطلقًا، والتعاون المتبادل في كل شيء إلا فيما يكون سببًا لتقوية غير المسلمين من السلاح ونحوه فإن على المسلمين ألا يمكنوا غيرهم موادعين أو حربيين من الحصول على ما يزيدهم قوة وبأسًا (1) .

والكلام في وجوب احترام العهود والتحرز عن الغدر مع الموادعين ذو شجون، وتكفي الإشارة إلى أن الفكر الإسلامي الدولي قد شقق القول في هذا الموضوع على نحو إنساني (2) بديع أبرز سمو النظرة الإسلامية في معاملة غير المسلمين، وأن هذه النظرة تفردت بقيم الأخوة والمساواة والعدالة والفضيلة.

وأما غير الموادعين الذين ليست بينهم وبين المسلمين حرب فعلية ولا تربطهم بالمسلمين رابطة ما فإنهم ما داموا لا يؤذون المسلمين ولا يحرضون على إيذائهم فإن العلاقة التي تربط المسلمين بهم تقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها العلاقة بين المسلمين والموادعين من الإحسان إليهم والبر بهم، وتبادل المنافع معهم إلا فيما يكسبهم قوة ومنعة، وإذا أردنا السير إليهم لتبليغهم دعوة الإسلام فلا بد من إعلامهم وعدم الاعتداء عليهم أو الغدر بهم وأخذهم على غرة (3) . وقد بينت في الكلام عن الحرب في الإسلام ما يجب على المسلمين من القيام به نحو هؤلاء الذين ساروا إليهم قبل أن يشهروا السلاح عليهم، ويدخلوا معهم في قتال وجهاد.

(1) انظر شرح السير الكبير: 3/ 75، 177، 276

(2)

انظر شرح السير الكبير: 4/ 7

(3)

انظر شرح السير الكبير: 3/ 109، و 4/ 16، 23

ص: 1716

(ج) أصول العلاقات الدولية الإسلامية:

يتضح بجلاء من الحديث عن الحرب في الإسلام وأنواع الديار أن نظرة الإسلام إلى غير المسلمين لا تعرف العداء والتعصب والاستعلاء، وإنما تقوم على التسامح والتعاون والإخاء واحترام العهود والوفاء بها مهما تكن الظروف والأسباب ، وصدق الله العظيم إذ يقول:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .

فهاتان الآيتان تلخصان الدستور الإسلامي في العلاقات الدولية. وهو دستور يقوم على السلم ويؤثر المودة على العداوة، حتى مع من عادوه ما ضمن كفهم من الاعتداء، استحياء للمودة الإنسانية، وتوثيقًا للروابط البشرية، فقبل الآيتين قوله تعالى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

والحاصل أن أصول العلاقات الدولية الإسلامية تقوم على ما يلي:

أولًا ـ المساواة بين الناس:

يقرر الإسلام أن الناس جميعًا أمة واحدة وأن المساواة بينهم في الكرامة الإنسانية وفي المسؤولية، مصدرها وحدة النشأة ووحدة المصير:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .

وما دامت المساواة حقيقة لا مراء فيها؛ لأنها ترجع إلى هذا المصدر الواحد، ((فكلكم لآدم وآدم من تراب)) .

فإن كل الأبحاث والدراسات التي يقوم بها علماء الاجتماع والأجناس وغيرهم ممن يصنفون الناس تصنيفًا عرقيًّا، وما يتمخض عن هذا التصنيف من أن يكون لبعض الناس من الامتيازات ما ليس لغيرهم، ليست عملًا علميًّا صحيحًا، لأنه غفل عن الأصل الذي يرجع إليه الجميع، وأن ما بينهم من تفاوت أيًّا كان لونه لا يعني على الإطلاق تقسيمًا عرقيًّا يجعل منهم طبقات يستعبد بعضها بعضًا.

إن النزاعات العرقية، أو ما يسمى بالتفرقة العنصرية قد جلبت على البشرية في الماضي والحاضر الويلات والمشكلات، والإسلام بمبادئه التي تقرر المساواة في الإنسانية بين الناس جاء لإنقاذ البشرية من تلك النزاعات الفاسدة، وبين أن التفاوت في الألوان والألسن والطاقات ليس سبيلًا لاستعلاء الأقوياء، وامتهان الضعفاء، فهذا التفاوت آية من آيات الله في خلقه، ومظهر من مظاهر حكمته في كونه، ووسيلة من وسائل الابتلاء لعباده، {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (3) .

ثانيًا ـ السلم أصل العلاقة بين الناس:

يتفرع على تقرير مبدأ المساواة، وأنه لا طائفية ولا عنصرية ولا مفاضلة بالألوان والأجناس والأوطان وإنما بتقوى الله والعمل الصالح، قيام العلاقة بين الناس على المحبة والمودة والسلام والوئام، لأن معنى المساواة يفقد مدلوله إذا لم يلغ كل أسباب الاستغلال والامتهان لكرامة الإنسانية.

إن خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل من أجل أن يتعارفوا ويتعاطفوا ويتعاونوا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (4) .

وبذلك كان السلم هو العلاقة الطبيعية بين الشعوب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (5) .

(1) سورة الممتحنة: الآيتان 8 و9

(2)

سورة النساء: الآية 1

(3)

سورة الروم: الآية 22

(4)

سورة الحجرات: الآية 13

(5)

سورة البقرة: الآية: 208

ص: 1717

ثالثًا ـ الحرب من أجل السلام:

إذا كان الإسلام قد قرر أن أصل العلاقة بين الناس السلم، فإن هذا لا يتعارض مع إذنه بالحرب وحضه على الجهاد، فالحرب التي أباحها أو التي شرعها هي في جوهرها حماية للسلم، وتمكين له في دنيا الناس، إنها حرب إنسانية لا تقر إذلال الشعوب، ولا تسعى لنهب الأموال؛ لأنها حرب في سبيل الله، حرب تدافع عن العقيدة والحرية والسلم.

وبون شاسع بين حرب تنصر الحق، وتقاوم الشر، وبين حرب تبغي الفساد في الأرض {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1) .

ولأن الحرب الإسلامية حرب حقٍّ وخيرٍ كانت لهما قيمها ومبادئها التي تلتقي مع مهمتها في تحقيق السلام والذود عنه.

رابعًا ـ العدالة:

يحرم الإسلام الظلم في كل صوره وأشكاله ويأمر بالعدل مع الأصدقاء والأعداء في كل الأحوال {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .

فالعدل في الإسلام حق لكل إنسان بوصفه إنسانًا دون تفرقه بين مؤمن وكافر وصديق وعدو وقريب وغير قريب {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (3) .

فالقرابة قد تضعف الإنسان حين يقف موقف الشاهد أو القاضي فلا يعدل في قوله أو حكمه، ولذا ينبه القرآن إلى هذا مؤكدًا دعوته إلى قول الحق والعدل ومراقبة الله وحده، فهو أقرب إلى المرء من حبل الوريد.

وإذا كان من العدل أن نرد الاعتداء بمثله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (4) .

فإن الإسلام كما تنص الآية الكريمة لا يجعل رد الاعتداء بمثله أمرًا مطلقًا، بل يقرن به تقوى الله، ومن هنا يكون العدل في الإسلام عدلًا إنسانيًّا رحيمًا لا يعرف التشفي، ولا يمتهن الكرامة والفضيلة، ولا ينزل إلى مستوى الهمجية والوحشية، ولو كان غيرنا قد هبط إلى هذا المستوى، ومن أجل ذلك كان الإسلام دين القوة، قوة الإيمان، والأبدان، والإنتاج، والإعداد للجهاد حتى نرهب أعداء الله، وأعداء الحياة، ونكون دائمًا أباة حماة، أذلة على أنفسنا أعزة على غيرنا.

(1) سورة النساء: الآية 76

(2)

سورة المائدة: الآية 8

(3)

سورة الأنعام: الآية 152

(4)

سورة البقرة: الآية 194

ص: 1718

خامسًا ـ احترام العهود والوفاء بها:

للعهود والمواثيق في الإسلام حرمة مقدسة، يجب احترامها، وعدم التفريط فيها، والنصوص في ذلك كثيرة يمكن الاجتزاء منها بقوله تعالى:{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) .

هذا النص القرآني الكريم يحتم الوفاء بالعهد وعدم نقضه، ويحذر من الخديعة والدخل في المواثيق، أي اتخاذها ذريعة للغش والغدر والمكر، ويشبه الذين يعقدون العهد ثم ينقضونه بالحمقاء التي تغزل غزلًا محكمًا وبعد ذلك تنقضه، وفي هذا إشارة إلى أن نقض العهد لا يفعله إلا الحمقى ويومئ النص إلى أن الرغبة في زيادة الأرض أو القوة لا يصح أن يكون شيء من هذا سببًا لنقض العهد، فالعدالة الإسلامية لا تجعل مصلحة الدولة سبيلًا لنقض العهد ما دامت شروطه مصونة من قبل الأعداء، ولذلك يحذر القرآن الكريم من نقض العهد حين يستنصر المسلمون إخوانهم ليجاهدوا معهم في الدين فإن عليهم أن يحترموا ما بينهم وبين غيرهم من مواثيق {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) .

ولم تكن هذه المبادئ القومية في رعاية العهود مُثلًا نظرية، وإنما كانت سلوكًا واقعيًا في حياة المسلمين وفي صِلاتهم الدولية، ومن ذلك ما جاء عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبو الحسيل، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا ما نريده وما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل مع محمد فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال:((انصرفا..نفي بعهودهم ونستعين بالله عليهم)) .

قال أبو رافع مولى رسول الله: ((بعثتني قريش إلى النبي، فلما رأيت النبي وقع في قلبي الإسلام فقلت، يا رسول الله لا أرجع إليهم، قال: إني لا أخيس العهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع)) (3) .

وبعد، فهذه في إجمال أصول العلاقات الدولية في الإسلام، وهي أصول لُحمتها وسداها الإخاء الإنساني، والسلام العالمي، والتعاون الدولي وهي وحدها التي تكفل للبشرية الحياة الآمنة المطمئنة، الحياة التي تجدر بالإنسان الذي كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، واسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.

(1) سورة النحل: الآيتان 91، 92

(2)

سورة الأنفال: الآية 72

(3)

انظر مجلة "المسلمون" شوال سنة 1372هـ: ص 23

ص: 1719

ثالثًا

بين الإسلام والتشريعات الوضعية

إن الموازنة العلمية بين أصول العلاقات الدولية في الإسلام والتشريعات الوضعية من خلال الحديث عنها فيما سبق يمكن أن تعطي النتائج التالية:

أولًا: إن أصول هذه العلاقات في الإسلام بعيدة كل البعد عن الطائفية والعنصرية وتحترم الإنسان لذاته لا لجنسه أو لغته أو عقيدته، فالناس جميعًا أمة واحدة، متساوون في الحقوق والواجبات، وواجب القوي نحو الضعيف المعاونة والمساعدة لا التحكم والإذلال، ومن ثَمَّ كانت أصولًا تحقق السلام العالمي بين البشر تحقيقًا عادلًا لا يعرف المحاباة وعدم الإنصاف.

أما قواعد القانون الدولي في صورته الراهنة ـ على الرغم من تطور الفكر القانوني، وتطلعه نحو أفق رحب من الإنسانية والعالمية ـ فإنها لا تستجيب لمبادئ المساواة بين مختلف البشر من غير تمييز بين أديانها وأجناسها وألوانها.

ويلاحظ أن انقسام العالم انقسامًا سياسيًّا بين المذاهب الرأسمالية والشيوعية والحيادية قد ساعد من جديد على ظهور الطائفية في نطاق القانون الدولي، وبدأت ظواهر هذه الطائفية في التكتلات الدولية الحديثة (1) .

ثانيًا: أصل العلاقة بين الناس هو الأخوة والسلم والألفة والمودة والتعاون على البر والتقوى، هذا ما قرره الإسلام ودعا إليه وحذر من التفريط فيه. وإذا كان هذا الدين قد أباح الحرب فإنه أباحها فقط لدفع الظلم ورد العدوان وتأمين البلاغ إلى الله، فهي لذلك حرب إنسانية لا تعرف الهمجية أو الوحشية ولا تقوم من أجل استغلال الشعوب وامتهان كرامتها.

أما قواعد القانون الدولي فقد انتهى أخيرًا إلى نبذ الحرب في فض المنازعات الدولية وقد كان هذا بسبب الدمار المروع الذي تعرضت له البشرية في الحرب العالمية الثانية، ومع هذا فإن ما انتهى إليه القانون لا يعبأ به ولا يلقى من الدول الرعاية والتقدير، وما زالت الحرب القانون الذي يلجأ إليه في المشكلات الدولية، وما زالت القاعدة التي تعيش عليها وهي: القوة، تخلق الحق وتحميه وتضع حدًّا لكل نزاع هي المُعَوِّل عليها في إنهاء الخلافات بين الأمم على الرغم من وجود المنظمة الدولية وجمعيتها العامة، وما تصدره من قرارات.

(1) انظر القانون الدولي في وقت السلم، للدكتور حامد سلطان: ص 42

ص: 1720

ثالثًا: ترتبط أصول العلاقات الدولية الإسلامية ارتباطًا وثيقًا، فهي جزء منها لا يكمل الإيمان إلا بها، ومن هنا تلقى من الدولة والأفراد في المجتمع الإسلامي كل الاحترام والإقناع الذاتي بها.

أما القوانين الوضعية ـ ومنها القانون الدولي ـ فإنها مبتوتة الصلة بعقائد الأفراد والدول، ولا تلقى الاحترام غالبًا بدافع ذاتي، ويزداد الأمر بالنسبة للقانون الدولي أنه غير ملزم في رأي بعض الفقهاء (1) ، وأنه يحول بين أطماع الدول السياسية والاقتصادية، وهي أطماع لا يردعها غير القوة الحربية، وليس ما يجري في العالم في العصر الحاضر من عدوان على الضعفاء إلا دليلًا ملموسًا على أن القانون الدولي لا يلقى ـ مع قصوره ـ الاحترام والصدق في تطبيق قواعده.

وإذا نظرنا إلى المعاهدات بين الدول فإننا نجد أن الإسلام يدعو إلى الوفاء بها ورعاية شروطها، ويحذر أبلغ الحذر من الغدر والدخل فيها، وينهى عن الأخذ بمبدأ مصلحة الدولة في نكث العهود، وذلك كله تحقيقًا لمبادئ العدالة ونشر السلام بين الناس.

ولكن الأمر بالنسبة للعرف الدولي يختلف كل الاختلاف، فالمعاهدات لدى هذا العرف وسيلة القوي ينال بها من الضعيف، وهي لا تعدو أن تكون قصاصة ورق يمكن نكثها قبل أن يجف مُداها، ففي مطلع القرن الميلادي الحالي اتفقت بعض الدول على حياد بلجيكا، وأرادت ألمانيا أن تمر بجيوشها من الأراضي البلجيكية حتى تحارب فرنسا، ورفضت بلجيكا ذلك، واحتجت إنجلترا على تصرف ألمانيا وأنذرتها بالحرب إذا لم تعدل عن خرق حياد بلجيكا، وقال المستشار الألماني في رده على إنجلترا:" إنه من الهول ما تنويه حكومة جلالة الملك البريطاني، ومما يعز علي أن أتصور جلالته قابلًا دخول حرب مراعاة لقصاصة ورق يسمونها معاهدة، واتفقا على حياد أرض". (2) .

فالمعاهدات قصاصات ورق لا قيمة لها إذا تعارضت مع مصلحة الدولة والمصلحة هنا تشمل الغزو والاحتلال، وهذا يؤكد أن قواعد القانون الدولي ـ وهي تحض على المحافظة على المعاهدات ـ مبتوتة الصلة بضمائر الأفراد والجماعات.

(1) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 10

(2)

انظر قيام الحرب في الإسلام، للأستاذ جمال الدين عياد: ص 37، طبعة القاهرة

ص: 1721

رابعًا: إن أصول العلاقات الدولية في الإسلام تعرف ما يسمى اليوم بشخصية القانون، فغير المسلم في دار الإسلام يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات والحدود دون غيرها مما يتصل بعقيدته الدينية فلا يخضع فيها لأحكام الإسلام وهذا باب الحرية الدينية التي كفلها الإسلام للجميع.

ويتحدث فقهاء القانون الدولي الخاص عن وجوب مراعاة شخصية القانون في بعض الحالات، ولكن الدول حتى الآن لم تتفق على وجوب هذا، وقد استغلت الدول الاستعمارية نظرية شخصية القانون فتحولت إلى امتيازات باسم القانون تسلب الدولة سيادتها وكرامتها كما حدث في عهد الاحتلال الإنجليزي بمصر.

خامسًا: سبق الإسلام القانون الدولي في تقريره لأصول العلاقات الدولية فما عرفت البشرية هذا القانون إلا حديثًا، وإن كانت له بعض الجذور القديمة، بيد أنها لا تمثل في الواقع تفكيرًا قانونيًّا صحيحًا.

لقد ظهر الإسلام والناس فوضى لا يحتكمون إلى قانون، وكانت في وقت ظهور الإسلام ـ وبقيت بعده فترة طويلة ـ تعيش في ظلمات الفكر والتشريعات والسياسة فكان الإسلام المنهج الإلهي الذي أعاد للبشرية كرامتها وحريتها وأمنها واستقرارها وسعادتها في الدارين.

ومن هذه الموازنة الموجزة يبدو الفارق جليًّا بين تشريع الله وقانون البشر، وأن هذا التشريع دون سواه هو الصراط المستقيم للناس في كل زمان ومكان، وأنهم إن حادوا عنه ضلوا طريق الحياة الإنسانية واكتنفتهم الأخطار من كل جانب، وعاشوا في صراع نفسي ومادي يسلبهم السلام والأمن:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .

(1) سورة الأنعام: الآية 153

ص: 1722

خاتمة

وأخيرًا ما أهم ما انتهت إليه هذه الدراسة الموجزة من نتائج، وماذا ترشد إليه من توجيهات؟

إن أهم هذه النتائج ما يلي:

1 ـ إذا الإنسان في تفكيره ما لم يكن محكومًا بتشريع إلهي يسدد خطاه فإنه يزل ويضل، ولا يكون لما يصل إليه من آراء ـ وإن جاءت صحيحة ـ جدوى في مجال التطبيق العملي.

2 ـ وهذا بيّن في مجال الفكر القانوني الدولي، فقد تعثر هذا الفكر عبر رحلته التاريخية الطويلة؛ لأنه فقد الغاية المقدسة، ولهذا لم ينته إلى تشريع يدرأ الظلم، ويحمي العدل، ويحقق الأمن والرخاء، وما زالت البشرية حتى الآن تعيش في دياجير القلق والاضطراب والأطماع الدولية المختلفة.

3 ـ إن الإسلام ـ وهو منهج إلهي متكامل ـ جاء بالتشريعات في كل المجالات، وهذه التشريعات دون سواها تصون الحياة من عبث الطغاة وترسي دعائم السلام على أسس من الأخوة والمساواة، وستظل البشرية تعاني مما تعاني منه ما لم تعتصم تلك التشريعات وتستجيب لحكم الله في كل شيء {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .

4 ـ إذا كان الأوروبيون يعدون جروتيوس الهولندي مؤسس القانون الدولي فإن هذا خطأ علمي تاريخي؛ لأن الإمام محمد بن الحسن الشيباني وقد سبق جروتيوس بأكثر من ثمانمائة عام قد كتب في القانون الدولي الإسلامي في تفصيل وشمول لم يسبق به، ومن ثم يعد هذا الإمام مؤسسًا للقانون الدولي في العالم كله.

على أن هناك من الباحثين (2) من يرى أن جيروتيوس قرأ ما كتبه الشيباني في كتابه "السير الصغير" و "السير الكبير" ونقل منهما ما عزاه إلى نفسه.

(1) سورة المائدة: الآية 50

(2)

انظر مجلة منبر الإسلام ربيع الآخر سنة 1386: ص 5

ص: 1723

5 ـ وليس فضل الشيباني في أنه أول من كتب في العلاقات الدولية فحسب وإنما يظهر فضله أيضًا في مجال الفكر القانوني أن القانون الدولي المعاصر لم يأت بجديد بالنسبة لما كتبه الإمام محمد.

6 ـ وقد تنبه إلى هذه الحقيقة العلمية والتاريخية فقهاء فرنسا، فأنشأوا في سنة 1932م، جمعية الشيباني للقانون الدولي، ثم حذا حذوهم فقهاء ألمانيا، فأسست في غوتنجن جمعية شيباني للقانون الدولي، وضمت هذه الجمعية علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف أنحاء العالم وانتخب رئيسًا لها الفقيه المصري، أحد أعلام القانون الدولي المعاصرين الأستاذ عبد الحميد بدوي (ت: 1965م) رحمه الله.

وأما ما ترشد إليه الدراسة من توجيهات فيتخلص في أن كل فكر مهما يكن صالحًا للحياة وأولى من سواه في التطبيق إذا لم يكن له حماة يؤمنون به ويذودون عنه فإنه يظل كصرخة في واد. والمسلمون أصحاب عقيدة وشريعة وفكر لا نظير له، ولكن يبقى ما لدى المسلمين من مبادئ وقيم وفكر بعيدًا عن التأثير الفعلي في واقع الحياة ما دام أهله لا يلتزمون به التزامًا كاملًا أولًا، وما داموا ثانيًا لا يملكون القدرة على التمكين له والدفاع عنه، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى إعداد القوة بمفهومها الشامل، فهذا الإعداد هو السبيل لأن يصبح الفكر النظري واقعًا مطبقًا. فقوة المسلمين عقيدة وإعدادًا هي مناط إرهاب أعداء الله وتطبيق شرعه وإعلاء كلمته، فالضعف دائمًا يقود إلى الهزيمة المعنوية والمادية.

الدكتور محمد الدسوقي

ص: 1724